اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

أبو موسى

الأعضاء
  • Posts

    12
  • تاريخ الانضمام

  • تاريخ اخر زياره

  • Days Won

    5

كل منشورات العضو أبو موسى

  1. ثالثًا: ما يترتب على الفعل من ثواب أو عقاب: وَأَمَّا بِالنِّسبَةِ لِلثَّوَابِ وَالعِقَابِ عَلَى الفِعْلِ مِنَ اللهِ, أَيِ المَدْحُ وَالذَّمُّ عَلَى الفِعْلِ فِي الدًّنيَا, وَالثَّوَابُ وَالعِقَابُ عَلَيهِ فِي الآخِرَةِ, فَلا يَكُونُ إلاَّ للهِ تَعَالَى؛ لأَنَّ العَقْلَ عَاجِزٌ عَنْ إِدرَاكِ ذَاتِ اللهِ, وَإِدرَاكِ مَا يُرضِيهِ وَمَا يُسخِطُهُ, وَمَا يُثِيبُ عَلَيهِ وَمَا يُعَاقِبُ, إِلاَّ بِالإِخبَارِ مِنهُ سُبحَانَهُ, أَي بِالوَحْيِ وَلَيسَ مِنْ جِهَةِ العَقْلِ. وَمِنْ هُنَا كَانَ الحُكْمُ عَلَى الأَشيَاءِ وَالأَفعَالِ بِالحُسْنِ وَالقُبحِ, وَالثَّوَابِ وَالعِقَابِ لِلشَّرعِ وَحْدَهُ, وَلَيسَ لِلعَقْلِ, وَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الحُكْمُ عَلَى الشَّيءِ أَوِ الفِعْلِ لِلمُيُولِ الفِطرِيَّةِ, فَالحَسَنُ مَا حَسَّنهُ الشَّرعُ, وَالقَبِيحُ مَا قَبَّحَهُ الشَّرعُ, وَالخَيرُ مَا كَانَ امتِثَالاً لأَمرِ اللهِ وَحُكْمِهِ, وَالشَّرُ مَا كَانَ مُخَالِفًا لأَمرِ اللهِ وَنَهْيِهِ.
  2. ثانيًا: ما ينال الإنسان من الفعل من نفع أو ضرر: وَأَمَّا بِالنِّسبَةِ لِمَا يَنَالُ الإِنسَانَ مِنَ الفِعْلِ مِنْ نَفْعٍ أَو ضَرَرٍ, فَإِنَّ أَحكَامَ العَقلِ بَيِّنةُ الفَسَادِ؛ لأَنَّ مَا يَكُونُ نَافِعًا لَكَ, قَدْ يَكُونُ ضَارًا بِغَيرِكَ, وَمَا تَرَاهُ أَنتَ خَيرًا, قَدْ يَرَاهُ غَيرُكَ شَرًا خَالِصًا, وَقَدْ تَرَاهُ أَنتَ نَفسُكَ فِي ظَرْف آخَرَ شَرًا. قَالَ تَعَالَى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). (البقرة 216) وَكُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَوا فِي صُلْحِ الحُدَيبِيَةِ خَيرًا, بَلْ رَأَوهُ شَرًا. وَيَرى أقَوَامٌ أَنَّ "التَّأمِيمَ" وَهُوَ تَحوِيلُ المِلكِيَّةِ الخَاصَّةِ إِلَى مِلكِيَّةٍ عَامَّةٍ, يَرَونَ فِيهِ خَيرًا لِلأَفرَادِ وَالمُجتَمَعِ, بَينَمَا يَرَى آخَرُونَ عَكْسَ ذَلِكَ تَمَامًا, يَرَونَ الخَيرَ وَالنَّفعَ فِي "الخَصْخَصَةِ" وَهِيَ تَحْوِيلُ المِلكِيَّةِ العَامَّةِ إِلَى مِلْكِيَّةٍ خَاصَّةٍ, وَأَنَّ فِي المِلكِيَّةِ العَامَّةِ ضَرَرًا فَادِحًا! وَبِنَاءً عَلَيهِ يُمكِنُ لِلعَقلِ أَنْ يَحْكُمَ بِنَفعِ شَيءٍ أَو ضَرَرِهِ, وَلَكِنَّ أَحكَامَ العَقْلِ قَدْ تَكُونُ خَاطِئَةً, وَسَتَكُونُ قَطْعًا مُخْتَلِفَةً وَمُتَنَاقِضَةً, لا تَجْلِبُ لِلمُجتَمَعَاتِ إِلاَّ الصِّرَاعَ وَالشَّقَاءَ!
  3. أولا: موافقة الفعل للفطرة أو مخالفته له: وَعِندَ النَّظَرِ فِي دَورِ العَقْلِ فِي الحُكْمِ عَلَى الأَفعَالِ مِنَ الجَوَانِبِ الثَّلاثِ المَذكُورَةِ نَجِدُ أَنَّ العَقْلَ يُرجَعُ لَهُ فِي مُوَافَقَةِ الفِطْرَةِ, فَيَقُولُ: إِنَّ العَدْلَ مُوَافِقٌ لِلفِطرَةِ. وَالظُّلْمُ قَبِيحٌ, وَالعِلمُ حَسَنٌ, وَالجَهْلُ قَبِيحٌ, وَإِنَّ فِي الفِطْرَةِ مَيلٌ مِنَ الرَّجُلِ لِلمَرأَةِ, وَمَيلٌ مِنَ المَرأَةِ لِلرَّجُلِ, وَالإِشبَاعُ الجِنسِيُّ مُوَافِقٌ لِلْفِطْرَةِ, وَعَدَمُ الإِشبَاعِ يُخَالِفُهَا, وَكُلُّ الشَّهَوَاتِ كَذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ). (آل عمران 14) فَالفِطرَةُ تَرَى كُلَّ مَا خَالَفَهَا قَبِيحٌ. وَكُلُّ التَّكَالِيفِ تُخَالِفُ الفِطرَةَ؛ لأَنَّ الإِنسَانَ مَفطُورٌ عَلَى الدَّعَةِ وَحُبِّ الرَّاحَةِ, وَالعَقلُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُصدِرَ الأَحكَامَ عَلَى الأَفعَالِ بِأَنَّهَا تُوَافِقُ الفِطرَةَ, وَلَكِنَّهَا أَحكَامٌ بِالهَوَى. وَالمُدَقِّقُ فِي كُلِّ القَوَانِينِ الوَضعِيَّةِ يَجِدُ أَنَّهَا اتِّبَاعٌ لِلهَوَى, فَهَذَا قَانُونٌ لِصَالِحِ شَرِكَاتِ النِّفطِ, وَآخَرُ لِصَالِحِ شَرِكَاتِ صِنَاعَةِ السِّلاحِ, وَثَالِثٌ لِلمُستَثمِرِينَ وَأَصحَابِ رُؤُوسِ الأَموَالِ, وَهَكَذَا سَائِرُ التَّشرِيعَاتِ العَقلِيَّةِ, فَكُلُّ تَشرِيعٍ لِلبَشَرِ هُوَ اتِّبَاعٌ لِلهَوَى, وَتَشرِيعُ اللهِ تَعَالَى هُوَ إِخرَاجٌ لِلمُكَلَّفِ مِنْ كُلِّ دَوَاعِي هَوَاهُ. وَعِندَ تَرْكِ التَّشرِيعِ لِلعَقلِ وَلِلمُيُولِ الفِطرِيَّةِ سَتَكُونُ الأَحكَامُ مُختَلِفَةً مُتَنَاقِضَةً تُسَبِّبُ شَقَاءَ الإِنسَانِ.
  4. الواقع الذي يراد إصدار الحكم عليه عِندَ دِرَاسَتِنَا لِحُكْمِ العَقلِ مِنْ حَيثُ الوَاقِعُ المُرَادُ إِصدَارُ الحُكْمِ عَلَيهِ, نَجِدُ أَنَّ المَطلُوبَ مِنهُ إِصدَارُ الحُكْمِ عَلَى الأَشيَاءِ وَالأَفعَالِ بِالحُسْنِ وَالقُبْحِ؛ لِتَحدِيدِ المَوَاقِفِ مِنهَا, وَهَذَا الحُكْمُ إِمَّا أَنْ يَرجِعَ لِذَاتِ الأَشيَاءِ وَالأَفعَالِ, وَإِمَّا لأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنهَا, فَيَكُونُ الأَمرُ عَلَى النَّحْوِ الآتِي: القسم الأول: إصدار الحكم على واقع الشيء: عِندَ النَّظَرِ إِلَى الأَشيَاءِ نَجِدُ أَنَّ الأَشيَاءَ يُمكِنُ أَنْ يَقَعَ الحِسُّ عَلَى جَانِبِ الحُسنِ وَالقُبحِ فِيهَا, فَعِندَمَا يَتَنَاوَلُ المَرءُ طَعَامًا أو شَرَابًا, أَو يَنظُرُ إِلَى مَشْهَدٍ طَبِيعِيٍّ أَو بِنَايَةٍ أَو امرَأَةٍ, أو يَشُمُّ رَائِحَةً أو يَسمَعُ صَوتًا, فَإِنَّ حَوَاسَّهُ تَقَعُ عَلَى جَانِبِ الحُسنِ وَالقُبحِ فِيهَا, وَلِذَلِكَ يُمكِنُ الرُّجُوعُ إِلَى العَقلِ فِي إِصدَارِ الأَحكَامِ عَلَيهَا, وَلا يَعنِي ذَلِكَ أَنَّ العُقُولَ سَتُعطِي حُكْمًا وَاحِدًا عَلَيهَا, بَلْ سَتَجِدُ الاختِلافَ قَطْعًا؛ لأَنَّ مَقَايِيسَ الأَفرَادِ نِسبِيَّةٌ, فَمَا تَرَاهُ جَمِيلاً قَدْ يَرَاهُ غَيرُكَ لَيسَ عَلَى قَدْرٍ مِنَ الجَمَالِ الذِي تَرَاهُ أَنتَ, وَسَتَكُونُ الأَحكَامُ حَتْمًا مُضطَرِبَةً. القسم الثاني: إصدار الحكم على الفعل لاعتبارات خارجة عنه: وَأَمَّا الأَفعَالُ فَلا يُوجَدُ فِيهَا مَا يَقَعُ الحِسُّ عَلَيهِ مِنْ حُسْنٍ وَقُبْحٍ, فَيَعجَزُ العَقْلُ عَنِ وَصْفِ الفِعْلِ بِالحُسْنِ وَالقُبحِ, أو الخَيرِ وَالشَّرِ لِذَاتِ الفِعْلِ. فَالعَقلُ عَاجِزٌ تَمَامًا عَنْ إِصدَارِ الحُكْمِ عَلَى الأَفعَالِ بِالتَّحسِينِ أَو التَّقبِيحِ! وَذَلِكَ كَاتِّصَالِ الرَّجُلِ بِالمَرأَةِ تَحْتَ مَظَلَّةِ الزَّوَاجِ المَشرُوعِ, أَو تَحْتَ مَظَلَّةِ الزَّوَاجِ المَدَنِيِّ أَو تَحْتَ مَظَلَّةِ الحُرِّيةِ الجِنْسِيَّةِ "الزنا". فَالفِعلُ هُوَ الفِعْلُ نَفسُهُ لا يَختَلِفُ فِي جَمِيعِ حَالاتِهِ التِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا, وَمَعَ ذَلِكَ تَختَلِفُ الأَحكَامُ الصَّادِرَةُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ مِنهَا. وَكَذَلِكَ قَتْلُ الكَافِرِ فِي المَعرَكَةِ, وَقَتْلُ الكَافِرِ المُعَاهِدِ, أو الذِّمِيِّ, وَقَتْلُ المُسلِمِ مَعْصُومِ الدَّمِ عُدْوَانًا, وَقَتْلُ المُسلِمِ حَدًا بِالرِّدةِ أَوِ القَصَاصِ. كُلُّهَا أَعمَالُ قَتْلٍ, فَالقَتْلُ هُوَ القَتْلُ لا يَختَلِفُ. هَذِهِ الأَفعَالُ وَسَائِرُ الأَفعَالِ الأُخرَى أَينَ جَانِبُ الحُسْنِ وَالقُبْحِ فِيهَا لِذَاتِهَا؟ إِذًا فَالأَحكَامُ الصَّادِرَةُ عَلَى هَذِهِ الأَفعَالِ لَيسَ لِذَاتِهَا, وَإِنَّمَا لاعتِبَارَاتٍ خَارِجَةٍ عَنهَا, حَسَبَ مَا لَدَى الإِنسَانِ مِنْ مَعَايِيرَ يُطَبقُهَا عَلَى الفِعْلِ, وَإِنِ اختَلَفَتِ المَعَايِيرُ اختَلَفَتِ الأَحكَامُ عِندَ الشَّخْصِ الوَاحِدِ, فَمَنْ كَانَ كَافِرًا فِي الصَّبَاحِ, وَأَسْلَمَ فِي المَسَاءِ تَغَيَّرَتْ لَدَيهِ أَحكَامُ الأَفعَالِ. وَلَو رَأَيْتَ رَجُلاً ضَخْمًا يَضْرِبُ شَخْصًا نَحِيلاً ضَعِيفًا لا يَمْلِكُ الدِّفَاعَ عَنْ نَفسِهِ لَصَرَخْتَ فِي وَجْهِهِ: هَذِهِ وَحْشِيَّةٌ! هَذِهِ جَرِيمَةٌ! هَذَا ظُلْمٌ! فَيَتَوَقَّفُ الرَّجُلُ القَوِيُّ, وَيَعرِضُ أَسْبَابًا مُقنِعَةً لِفِعْلِهِ, وَيُبَيِّنُ بَشَاعَةَ مَا قَامَ بِهِ هَذَا الضَّعِيفُ, عِندَئِذٍ يَتَغَيَّرُ الحُكْمُ فَورًا؛ لأَنَّ الحُكْمَ لا يَرجِعُ إِلََى ذَاتِ الفِعْلِ, وَإِنَّمَا لاعتِبَارَاتٍ خَارِجَةٍ عَنهُ وَهِيَ: 1. مُوَافَقَةُ الفِعْلِ لِلفِطْرَةِ أَو مُخَالَفَتُهُ لَهَا. 2. مَا يَنَالُ الإِنسَانَ مِنَ الفِعْلِ مِنْ نَفْعٍ أَو ضَرَرٍ. 3. مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الفِعْلِ مِنْ ثَوَابٍ أَو عِقَابٍ.
  5. العقل بِدَايَةً نَطرَحُ التَّسَاؤُلاتِ الآتِيَةَ, ثُمَّ نُحَاوِلُ الوُصُولَ إِلَى الإِجَابَاتِ الصَّحِيحَةَ: مَا حَقِيقَةُ العَقلِ الذِي يُسنَدُ إِلَيهِ التَّشرِيعُ؟ وَمَتَى يَكُونُ حُكمُهُ قَطْعِيًا؟ وَمَتَى يَكُونُ ظَنيًا؟ وَمَتَى يَكُونُ خَيَاليًا لا يَجُوزُ الالتِفَاتُ إِلَيهِ؟ وَهَلْ هُنَاكَ عَقْلٌ مِثَالِيٌّ يُرجَعُ إِلَيهِ فِي إِصدَارِ الأَحكَامِ, فَيُعطِيَ أَحكَامًا ثَابِتَةً, وَغَيرَ مُتَنَاقِضَةٍ وَلا مُتَفَاوِتَةٍ وَلا مُختَلِفَةٍ؟ وَهَلْ هُوَ عَقْلُ زَيدٍ أَم عَمْرٍو؟ وَعِندَ اختِلافِ الأَحكَامِ لاختِلافِ العُقُولِ, فَأَينَ هُوَ الحَقُّ؟ وَهَلْ صَاحِبُ الحَقِّ يَتَّصِفُ بِصِفَاتِ الكَمَالِ؟ أَمْ يَتَّصِفُ بِصِفَاتِ العَجْزِ والنَّقصِ وَالاحتِيَاجِ, وَاتِّباعِ الهَوَى, وَبِالتَّالِي يَنعَكِسُ ذَلِكَ عَلَى تَشرِيعِهِ؟ وَلِلوُصُولِ إِلَى الإِجَابَاتِ الصَّحِيحَةَ نَقُومُ بِعَرضٍ لِوَاقِعِ العَقلِ فَنَقُولُ: العَقْلُ وَالإِدرَاكُ: مَعنَاهُمَا وَاحِدٌ هُوَ الكَيفِيَّةُ التِي يَجرِي وَفْقَهَا مُحَاكَمَةُ الوَاقِعِ وَإِصدَارُ الحُكْمِ عَلَيهِ, فَالعَقْلُ هُوَ آلِيَّةُ التَّفكِيرِ, ثَمَرَتُهَا الفِكْرُ, وَهُوَ إِصدَارُ حُكْمٍ عَلَى وَاقِعٍ يَتِمُّ عَلَى النَّحْوِ الآتِي: 1. الوُقُوفُ عَلَى الوَاقِعِ المُرَادِ إِعمَالُ الفِكْرِ فِيهِ, وَإِصدَارُ الحُكْمِ عَلَيهِ, وَتَسلِيطُ الحَوَاسِّ مِنْ سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَغَيرِهِمَا عَلَيهِ. 2. نقَلُ الإِحْسَاسِ بِالوَاقِعِ إِلَى الدِّمَاغِ. 3. وُجُودُ الدِّمَاغِ الصَّالِحِ وَالقَادِرِ عَلَى الرَّبطِ وَالتَّحلِيلِ وَإِعمَالِ الفِكْرِ فِيمَا نُقِلَ إِلَيهِ عَبْرَ الحَوَاسِّ, كِدِمَاغِ الإِنسَانِ الرَّاشِدِ, فَلا يَصلُحُ دِمَاغُ الطِّفلِ قَبلَ البُلُوغِ, وَلا دِمَاغُ الحَيوَانِ أَوِ المَجنُونِ. 4. وُجُودُ مَعلُومَاتٍ سَابِقَةٍ مُخَزَّنةٍ فِي هَذَا الدِّمَاغِ عَنِ الوَاقِعِ الذِي جَرَى الإِحسَاسُ بِهِ لِيُفَسَّرَ هَذَا الوَاقِعُ بِحَسَبِهَا. وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ الإِدرَاكَ عِندَ الإِنسَانِ لَهُ أَركَانٌ أَربَعَةٌ مُحَدَّدَةٌ هِيَ: وَاقِعٌ مَحْسُوسٌ, وَنَقْلُ الإِحسَاسِ بِالوَاقِعِ إِلَى الدِّمَاغِ, وَدِمَاغٌ صَالِحٌ لِلرَّبطِ, وَمَعلُومَاتٌ سَابِقَةٌ عَنِ الوَاقِعِ. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ نَستَطِيعُ أَنْ نَقطَعَ بِأَنَّ العَقْلَ مَجَالُهُ الوَاقِعُ المَحْسُوسُ, وَهُوَ الأَفعَالُ وَالأَشيَاءُ, وَإِنْ كَانَ الوَاقِعُ غَيبِيًا غَيرَ مَحْسُوسٍ لا يَقَعُ عَلَيهِ الحِسُّ فَسَيَقِفُ العَقْلُ عَاجِزًا عَنْ إِدرَاكِهِ وَإِصدَارِ الأَحكَامِ عَلَيهِ. وَمِثَالُهُ البَحْثُ فِي الغَيبِيَّاتِ, وَمَا يُسَمَّى "بالميتافيزيقا" أَيْ مَا وَرَاءَ الطَّبِيعَةِ فَالعَقلُ عَاجِزٌ عَنْ إِدرَاكِ مَا وَرَاءَ المَحسُوسِ, وَكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ إِلَيهِ مِنْ أَحكَامٍ عِندَ الفَلاسِفَةِ وَالمُفَكِّرِينَ هُوَ فِكْرٌ خَيَالِيٌّ لا يَرتَقِي إِلَى أَنْ يُسَمَّى فِكرًا, وَمِنْ جَانِبٍ آخَرَ لا بُدَّ مِنْ مَعلُومَاتٍ سَابِقَةٍ, فَالعَقلُ يَعجَزُ عَنْ إِدرَاكِ أَيِّ وَاقِعٍ لا يُوجَدُ لَدَيهِ مَعلُومَاتٍ سَابِقَةٍ عَنهُ. وَعَلَى سَبِيلِ المِثَالِ لَو عَرَضنَا كِتَابًا بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ عَلَى شَخصٍ مِنْ أَهلِ الصِّينِ لا يَعرِفُ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ, وَلَيسَ لَدَيهِ مَعلُومَاتٌ سَابِقَةٌ عَنْهَا, فَلا يَستَطِيعُ أَنْ يُدرِكَ شَيئًا مِنَ الكِتَابِ العَرَبِيِّ. وَعَكْسُ المِثَالِ صَحِيحٌ, فَلَو عَرَضنَا كِتَابًا بِاللُّغَةِ الصِّينِيَّةِ عَلَى شَخْصٍ عَرَبِيٍّ لا يَعرِفُ اللُّغَةَ الصِّينِيَّةَ, وَلَيسَ لَدَيهِ مَعلُومَاتٌ سَابِقَةٌ عَنهَا, فَلا يَستَطِيعُ أَنْ يُدرِكَ شَيئًا مِنَ الكِتَابِ الصِّينِيِّ. هَذِهِ هِيَ حَقِيقَةُ العَقلِ, فَكَانَ لا بُدَّ مِنْ مَعرِفَةِ حَقِيقَتِهِ؛ لِنَعرِفَ مَتَى يَجُوزُ الرجُوعُ إِلَيهِ فِي الحُكْمِ عَلَى الوَاقِعِ, وَمَتَى لا يَجُوزُ. فَالحُكْمُ عَلَى الوَاقِعِ المَحسُوسِ يُمكِنُ الرُّجُوعُ إِلَى العَقْلِ فِيهِ, وَلا يَعنِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ حُكمُهُ صَحِيحًا صَادِقًا مَقطُوعًا بِهِ. وَأَمَّا الحُكْمُ عَلَى مَا لا يَقَعُ عَلَيهِ الحِسُّ, فَلا يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَى العَقلِ فِيهِ وَلا بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ, كَالحُكْمِ عَلَى ذَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَصِفَاتِهِ, وَسَائِرِ الغَيبِيَّاتِ. وَعِندَ النَّظَرِ إِلَى العُقُولِ عُمُومًا لا نَجِدُ عَقْلاً مِثَاليًا يُرْجَعُ إِلَيهِ. بَلِ المَوجُودُ عَقْلُ زَيدٍ وَعَمْرٍو وَغَيرِهِمَا, وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي القُدْرَاتِ العَقلِيَّةِ وَالحِسِيَّةِ, وَمُتَفَاوِتُونَ فِي المَعلُومَاتِ وَالمُيُولِ الفِطرِيَّةِ, فَعِندَ الرُّجُوعِ إِلَى هَذِهِ العُقُولِ سَنَجِدُ الاختِلافَ الشَّدِيدَ فِي الأَحكَامِ وَسَنَجِدُ التَّنَاقُضَ, فَقَدْ يَرَى أَحَدُهُمُ التَّدَخُّلَ فِي شُؤُونِ الآخَرِينَ بَاطِلاً, وَيَرَاهُ آخَرُ أَنهُ عَمَلٌ عَظِيمٌ لإِنكَارِ مُنكَرِهِمْ, وَلِغَرسِ القِيَمِ الكَرِيمَةِ فِيهِمْ, وَلِنَقدِ أَعمَالِهِمْ وَتَوجِيهِهِمْ لِمَا يَرَاهُ صَوَابًا, وَقَد يَرَى قَومٌ الْمِثلِيَّةَ حَقًا لِلنَّاسِ, وَيَرَاهَا آخَرُونَ جَرِيمَةً. وَقَد يَرَى قَومٌ أَنَّ عُقُوبَةَ الإِعدَامِ عُقُوبَةً رَادِعَةً فِيهَا حَيَاةٌ لِلنَّاسِ, وَيَراهَا آخَرُونَ شَنِيعَةً بَشِعَةً وَهَكَذَا. وَعِندَ النَّظَرِ فِي الأَحكَامِ الصَّادِرَةِ عَنِ العَقلِ عَلَى الوَاقِعِ المُدرَكِ المَحسُوسِ نَجِدُهَا نَوعَينِ اثنَينِ: النوع الأول: أَحْكَامٌ قَطعِيَّةٌ, وَهِيَ الأَحكَامُ عَلَى الوَاقِعِ مِنْ حَيثُ الوُجُودِ, فَإِذَا وَقَعَ الحِسُّ عَلَى الوَاقِعِ يَكُونُ الحُكْمُ بِوُجُودِهِ يَقِينيًا صَادِقًا. كَمَنْ يَرى الشَّمسَ بِعَينَيهِ فَهُوَ يُوقِنُ بِوُجُودِهَا. النوع الثاني: أَحكَامٌ ظَنيَّةٌ عِندَمَا يَتَعَلَّقُ الأَمرُ بِحَقِيقَةِ الوَاقِعِ وَتَفسِيرِهِ, وَتعتَبَرُ هَذِهِ الأَحكَامُ صَحِيحَةً حَتَّى يَثبُتَ خِلافُ ذَلِكَ. كَمَنْ رَأى بِعَقلِهِ أنَّ الشَّمْسَ تَدُورُ حَولَ الأَرضِ, وَمَنْ رَأى أنَّ المَادَّةَ هِيَ مَا يَشْغَلُ حَيِّزًا وَلَهُ ثِقَلٌ.
  6. الإنسان نَبدَأُ مِنْ دِرَاسَةِ وَاقِعِ الإِنسَانِ الذِي نُرِيدُ أَنْ نُشَرِّعَ لَهُ تَشرِيعًا يُسعِدُهُ. الإِنسَانُ هَذَا الكَائِنُ الذِي يَقَعُ تَحْتَ الحِسِّ وَالإِدرَاكِ يَقُولُ لَنَا: إِنَّ وَاقِعَهُ كَيَانٌ مَادِّيٌّ لَهُ خَصَائِصُ مَحْسُوسَةٌ مَلْمُوسَةٌ, هِيَ الحَاجَاتُ العُضوِيَّةُ, وَلَهُ خَصَائِصُ مَحْسُوسَةٌ وَغَيرُ مَلْمُوسَةٍ وَهِيَ الغَرَائِزُ. أولاً: الحاجات العضوية: وَهِيَ كُلُّ مَا يَتَطَلَّـبُهُ الجَسَدُ المَادِّيُّ لاستِمرَارِ بَقَائِهِ, وَالقِيَامِ بِأَعمَالِهِ, وَتَأدِيَةِ أَعضَائِهِ لِوَظَائِفِهَا. وَهَذِهِ الحَاجَاتُ العُضوِيَّةُ مِثلُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَإِخرَاجِ الفَضْلاتِ وَالمُحَافَظَةِ عَلَى اتِّزَانِ العَنَاصِرِ المَادِّيةِ فِي جِسْمِهِ, حَسَبَ النِّظَامِ الذِي يَتَحَكَّمُ فِيهِ مِنْ نِسبَةِ سُكَّرٍ وَأَملاحٍ, وَحَدِيدٍ وَفِيتَامِينٍ, وَهِرمُونٍ وَغَيرِهَا. وَبَعدَ دِرَاسَةِ وَاقِعِ الحَاجَاتِ العُضْوِيَّةِ نَجِدُ أَنَّ لَهَا ثَلاثَ صِفَاتٍ هِيَ: 1. حتمية الإشباع: يَتَوَقَّفُ عَلَى إِشبَاعِهَا أو عَدَمِ إِشبَاعِهَا الحيَاةُ أوِ المَوتُ. 2. حدية الإشباع: بِحَيثُ لا تَتَجَاوَزُ هَذَا الحَدَّ فِي الوَضعِ الطَّبِيعِيِّ, وَإِنَّ أَيَّ تَجَاوُزٍ زِيَادَةً أو نَقْصًا يُشَكِّلُ خَطَرًا عَلَى الإِنسَانِ. 3. مثيرها داخلي: بِحَيثُ يَدفَعُ الإِنسَانَ لِلإِشبَاعِ دَافِعٌ مِنَ الدَّاخِلِ كَفَرَاغِ المَعِدَةِ مِنَ الطَّعَامِ فَيَشعُرُ بِالجُوعِ أَوْ بِالعَطَشِ أَو بِأَيِّ نَقْصٍ فِي حَاجَاتِ الجِسْمِ. ثانيًا: الغرائز وهي: 1. غريزة التدين: وَهِيَ فِطْرِيَّةٌ نَاتِجَةٌ عَنْ صِفَاتِ العَجْزِ وَالنَّقصِ والاحتِيَاجِ عِندَ الإِنسَانِ, وَالشُّعُورُ بِذَلِكَ شُعُورٌ أَصِيلٌ فِي فِطرَتِهِ يَدفَعُهُ لِلبَحثِ عَنِ الجِهَةِ المُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِ الكَمَالِ المُطلَقِ فَيُقَدِّسُهَا, وَهَذِهِ هِيَ غَرِيزَةُ التَّدَيُّنِ. وَهِيَ مَوجُودَةٌ فِي كُلِّ إِنسَانٍ, فَمَنْ لَمْ يُقَدِّسِ الخَالِقَ قَدَّسَ المَخلُوقَ, وَمَنْ لَمْ يُعَظِّمْ كَلامَ اللهِ عَظَّمَ كَلامَ البَشَرِ! 2. غريزة النوع: وَهِيَ نَاتِجَةٌ عَنْ مَحْدُودِيَّةِ الإِنسَانِ فَتَدفَعُهُ لِلقِيَامِ بِأَعمَالٍ يَرَى فِيهَا التَّغُلُّبَ عَلَى المَحدُودِيَّةِ بِالإِنجَابِ, وَمِنْ مَظَاهِرِهَا المَيلُ الجِنْسِيُّ, فَمَنْ يُشبِعُ مَيلَهُ الجِنْسِيُّ وَلَمْ يُنجِبْ لا تُحَلُّ مُشكِلَتُهُ, فَكَانَ لا بُدَّ مِنَ التَّفرِيقُ بَينَ الغَرِيزَةِ وَمَظهَرَهَا عِندَ البَحْثِ فِي التَّشرِيعِ؛ حَتَّى لا يُعَالَجَ المَظهَرُ وَيُترَكَ الجَوهَرُ! 3. غريزة البقاء: وَهِيَ نَاتِجَةٌ أَيضًا عَنْ مَحْدُودِيَّةِ الإِنسَانِ وَعَجْزِهِ مِمَّا يَجعَلُ الإِنسَانَ يَشعُرُ بِأَنَّ هُنَاكَ أَخطَارًا تُهَدِّدُ بَقَاءَهُ؛ فَيندَفِعُ لِلعَيشِ فِي مُجتَمَعٍ, وَيَسعَى لِلتَّمَلُّكِ, وَيَمِيلُ لِلزَّعَامَةِ, وَتَظهَرُ العَصَبِيَّةُ القَبَلِيَّةُ, وَغَيرُهَا مِنْ مَظَاهِرِ غَرِيزَةِ البَقَاءِ. فَغَرَائِزُ الإِنسَانِ ثَلاثٌ هِيَ: التَّدَيُّنُ, وَالنَّوعُ, وَالبَقَاءُ. وَلِكُلِّ غَرِيزَةٍ مَظَاهِرُ عِدَّةٌ, فَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنبَرِيَ لِلتَّشرِيعِ يَجِبُ أَنْ يُدرِكَ هَذَا الوَاقِعَ لِلإِنسَانِ إِدرَاكًا تَامًا, فَيُفَرِّقَ بَينَ الحَاجَاتِ العُضوِيَّةِ وَالغَرَائِزِ, فَالتَّشرِيعُ الذِي يُتَظِّمُ الحَاجَاتِ العُضوِيَّةَ لا يَصلُحُ لِتَنظِيمِ الغَرَائِزِ؛ لأَنَّ وَاقِعَ كُلٍّ مِنهُمَا مُختَلِفٌ تَمَامًا, وَإِلَيكُمُ البَيَانُ: اختلاف الغرائز عن الحاجات العضوية: الغَرَائِزُ عَلَى النَّقِيضِ مِنَ الحَاجَاتِ العُضْوِيَّةِ فَهِيَ: 1. غير حتمية الإشباع: الغَرَائِزُ لا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِشبَاعِهَا أَو عَدَمِ إِشبَاعِهَا الحيَاةُ أَوِ المَوتُ, وَلَكِنْ إِنْ لَمْ تُشبَعْ يَشعُرُ الإِنسَانُ بِالقَلَقِ, وَلِذَلِكَ تُعتَبَرُ الحَاجَاتُ العُضوِيَّةُ مِنَ الحَاجَاتِ الأَسَاسِيَّةِ التِي يَجِبُ إِشبَاعُهَا إِشبَاعًا تَامًا لِكُلِّ إِنسَانٍ بِعَينِهِ, وَلا عُذْرَ لِمُشَرِّعٍ إِنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ تَحْتَ أَيِّ تَفسِيرٍ كَارتِفَاعِ أَسعَارِ الغِذَاءِ فِي الأَسوَاقِ, أو لِعَجْزٍ طَبِيعِيٍّ عَنْ تَحصِيلِهَا عِندَ بَعضِ الأَفرَادِ, أو لِعَجْزٍ طَارِئٍ بِسَبَبِ كَثرَةِ الإِنجَابِ أَوِ البَطَالَةِ أَو الرُّكُودِ الاقتِصَادِيِّ, وَإلاَّ سَيَكُونُ مَنْ يَملِكُ الإِشبَاعَ يَستَحِقُ الحَيَاةَ, وَمَنْ لا يَملِكُ لا يَستَحِقُّ, فَتُصبِحُ المُجتَمَعَاتُ مُتَوَحِّشَةً تَفقِدُ إِنسَانِيَّتَهَا. 2. غير حدية الإشباع: الغَرَائِزُ غَيرُ حَدِّيةِ الإِشبَاعِ, وَهِيَ عَلَى النَّقِيضِ مِنَ الحَاجَاتِ العُضوِيَّةِ التِي لَهَا حَدٌّ تَقِفُ عِندَهُ وَلا تَتَجَاوَزُهُ, فَحَاجَةُ المَعِدَةِ إِلَى الطَّعَامِ مُحْدُودَةٌ بِالكَمِّيةِ التِي تَملَؤُهَا إِلَى حَدِّ الشَّبَعِ. بِخِلافِ غَرِيزَةِ التَّمَلُّكِ مَثَلاً, فَلَو أُطلِقَ إِشبَاعُ التَّمَلُّكِ كَمَا هِيَ الحَالُ فِي حُرِّيةِ الاقتِصَادِ فَلَنْ تَقِفَ عِنْدَ حَدٍّ مُعَيَّنٍ, فَمَنْ مَلَكَ الأَلفَ يَتَطَلَّعُ إِلَى المِليُونِ, وَإِذَا مَلَكَ المِليُونَ يَتَطَلَّعُ إِلَى المَزِيدِ وَهَكَذَا. وَلِذَلِكَ مِنَ الجَهْلِ المُطبِقِ أَنْ يُجعَلَ الطَّعَامُ فِي التَّشرِيعِ مِثلُ التَّمَلُّكِ أَو مِثلُ الجِنْسِ, وَإِلاَّ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ شَقَاءُ الإِنسَانِ الذِي نَرَاهُ فِي الرَّأسمَالِيَّةِ, وَمَا سَبَّبتْهُ مِنْ كَوَارِثَ عَلَى شُعُوبِهَا وَشُعُوبِ العَالَمِ. 3. مثيرها خارجي: الغَرَائِزُ مُثِيرُهَا خَارِجِيٌّ وَالمُشكِلَةُ الكُبرَى فِي إِثَارَتِهَا وَعَدَمِ إِشبَاعِهَا, عِندَئِذٍ يَشعُرُ الإِنسَانُ بِالأَلَمِ, وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى إِثَارَتِهَا وَعَدَمِ إِشْبَاعِهَا اندِفَاعُ الإِنسَانِ لإِشبَاعِهَا بِطَرِيقَةٍ تَرجِعُ عَلَيهِ وَعَلَى مُجتَمَعِهِ بِالأَخطَارِ, وَانتِشَارِ الأَمرَاضِ المُجتَمَعِيَّةِ. لِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى المُشَرِّعِ أَنْ يُحِيطَ إِحَاطَةً تَامَّةً بِحَقِيقَةِ الإِنسَانِ, وَأَنْ يُفَرِّقَ بَينَ غَرَائِزِهِ وَحَاجَاتِهِ العُضوِيَّةِ؛ حَتَّى يُحَقِّقَ التَّشرِيعُ غَايَتَهُ السَّامِيَةَ فِي إِسعَادِ البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ.
  7. الحاكم "من له السيادة" إِنَّ مِنْ أَهَمِّ الأَبحَاثِ المُتَعَلِّقَةِ بِالحُكمِ وَأَلزَمِهَا بَيَانًا, هُوَ بَحثُ الحَاكِمِ, الذِي يُعتَبَرُ أَسَاسًا لِلأَبحَاثِ التِي تَأتِي بَعدَهُ فِي أُصُولِ الفِقْهِ, حَيثُ يَجرِي تَقرِيرُ جَمِيعِ القَوَاعِدِ بِنَاءً عَلَيهِ, وَهُوَ البَحثُ الذِي يُحَدِّدُ مَنْ هِيَ الجِهَةُ التِي يُرجَعُ إِلَيهَا لإِصدَارِ الأَحكَامِ عَلَى الأَشيَاءِ وَالأَفعَالِ, وَمُحَاكَمَةِ التَّشرِيعَاتِ وَالأَفكَارِ, وَضَبطِ المَفَاهِيمِ. إِنَّ تَحدِيدَ هَذِهِ الجِهَةِ هُوَ بِمَثَابَةِ الإِيمَانِ بِاللهِ فِي بَحْثِ العَقِيدَةِ, الذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ الإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَسَائِلِ العَقِيدَةِ. وَلَقَدِ اختَرتُ عُنوَانَ: "مَنْ لَهُ السِّيَادَةُ" عَلَى غَيرِ مَا جَرَتْ عَلَيهِ كُتُبُ الأُصُولِ؛ لأَنَّ الوَاقِعَ العَمَلِيَّ الذِي يُوَاجِهُ حَمَلَةَ الدَّعوَةِ فِي الآوِنَةِ الأَخِيرَةِ هُوَ قَضِيَّةُ التَّشرِيعِ المُتَرَتِّبةُ عَلَى تَحدِيدِ مَنْ تَكُونُ لَهُ السِّيَادَةُ فِي إِصدَارِ وَتَشرِيعُ الأَحكَامِ؟ هَلْ هَذِهِ السِّيَادَةُ هِيَ للهِ أَمْ لِلإِنسَانِ؟ هَلْ هِيَ لِلشَّرعِ أَمْ لِلعَقْلِ؟ هَلْ هِيَ لِلشَّرعِ أَمْ لِلشَّعْبِ؟ وَهَذَا مَوضُوعٌ قَدِيمٌ جَدِيدٌ, تَنَازَعَ فِيهِ فَرِيقَانِ: الفريق الأول: يَرَى أَنَّ الحَاكِمَ عَلَى الأَشيَاءِ وَالأَفعَالِ إِنَّمَا هُوَ اللهُ تَعَالَى, وَهَذِهِ مَسأَلَةٌ مِنَ المُسَلَّمَاتِ عِندَ المُسلِمِينَ, فَهِيَ مَسأَلَةٌ عَقَائِدِيَّةٌ مَحْسُومَةٌ, آتيةٌ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ المُتَّصِفِ بِصِفَاتِ الكَمَالِ المُطلَقِ, وَمِنَ الإِيمَانِ بِالشَّرِيعَةِ وَكَمَالِهَا, وَأَنَّ الحَاكِمِيَّةَ للهِ, وَمُنَازَعَتَهُ فِيهَا كُفْرٌ, فَالتَّشرِيعُ عِندَ المُسلِمِينَ مِنَ اللهِ تَعَالَى, وَهُوَ المَصدَرُ المَقطُوعُ بِصِدقِهِ, وَهَذِهِ هِيَ عَقِيدَةُ المُسلِمِينَ. والفريق الثاني: يَرَى أَنَّ الحَاكِمَ عَلَى الأَشيَاءِ وَالأفعَالِ هُوَ الإِنسَانُ مُمَثَّلاً فِي الشَّعبِ, وَيَعنِي بِذَلِكَ العَقْلَ وَلَيسَ للهِ وَلا لِلشَّرعِ وَلا لِلدِّينِ! وَقَبلَ مُنَاقَشَةِ رَأْيِ الفَرِيقِ الثَّانِي لا بُدَّ مِنْ دِرَاسَةِ المَسَائِلِ الآتِيَةِ لِمَعْرِفَةِ وَاقِعِهَا, ثُمَّ بَيَانِ مَدَى صِدْقِ أَو كَذِبِ, وَصِحَّةِ أو بُطْلانِ القَولِ القَائِلِ بِأَنَّ التَّشرِيعَ لِلنَّاسِ مِنْ دُونِ اللهِ! وَهَذِهِ المَسَائِلُ هِيَ: 1. الإنسَانُ: وَاقِعُهُ: حَاجَاتُهُ وَغَرَائِزُهُ. 2. العَقلُ: حَقِيقَتُهُ, وَالأَحكَامُ الصَّادِرَةُ عَنهُ. 3. الوَاقِعُ الذِي يُرَادُ إِصدَارُ الأَحكَامِ عَلَيهِ, وَهُوَ الأَشيَاءُ وَالأَفعَالُ. 4. الغَايَةُ مِنَ التَّشرِيعِ.
  8. التعريف بأصول الفقه أولاً: تعريف الفقه: الفِقْهُ: هُوَ عِلْمٌ بِالمَسَائِلِ الشَّرعِيَّةِ العَمَلِيَّةِ المُستَنبَطَةِ مِنَ الأَدِلَّةِ التَّفصِيلِيَّةِ. وَمِنْ هَذَا التَّعرِيفِ يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ الفِقْهَ مَوضُوعُهُ الأَحكَامُ الشَّرعِيَّةُ العَمَلِيَّةُ الفُرُوعِيَّةُ, وَأَنَّ أدِلَّةَ هَذِهِ الأَحكَامِ هِيَ الأَدِلَّةُ التَّفصِيلِيَّةُ, وَلَيسَتِ الأَدِلَّةَ الإِجمَالِيَّةَ, فَلا يُقَالُ: إِنَّ دَلِيلَ حُكْمَ المَسأَلَةِ الفُرُعِيَّةِ هُوَ القُرآنُ أوِ السُّنةُ أو أيُّ دَلِيلٍ إِجمَالِيٍّ, بَلِ الدَّلِيلُ عَلَى المَسأَلَةِ الآيَةُ مِنَ القُرآنِ, أوِ الحَدِيثُ الذِي استُنبِطَ مِنهُ الحُكْمُ, وَهَكَذَا. وَلِذَلِكَ لا يَكُونُ مَجَالُ الأَدِلَّةِ الإِجْمَالِيَّةِ وَالقَواعِدِ الفِقهِيَّةِ هُوَ الاستِدلالُ بِهَا عَلَى الأَحكَامِ الفُرُوعِيَّةِ, فَالقَاعِدَةُ الفِقهِيَّةُ لَيسَتْ دَلِيلاً عَلَى المَسأَلَةِ الفَرعِيَّةِ, بَلِ النَّصُّ المُتَمَثِّلُ فِي الآيَةِ أَوِ الحَدِيثِ أوْ وَاقِعَةِ الإِجْمَاعِ هِيَ الأَدِلَّةُ. فَالقَوَاعِدُ الفِقهِيَّةُ وَالأَدِلَّةُ الإِجْمَالِيَّةُ هِيَ ضَوَابِطُ لِلاجتِهَادِ وَفَهْمِ النُّصُوصِ, وَمَجَالُهَا أُصُولُ الفِقْهِ كَمَا سَيَظهَرُ بِوُضُوحٍ فِي تَعرِيفِ الأُصُولِ. وكَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ لَنَا مِنْ تَعرِيفِ الفِقْهِ أَنَّ الأَحكَامَ العَقَائِدِيَّةَ لَيسَتْ فِي بَابِ الفِقْهِ؛ لأَنَّ العَقَائِدَ مَحَلُّهَا التَّصدِيقُ, وَلَيسَ العَمَلُ. ثانياً: تعريف الأصول: أَمَّا الأَصلُ, فَهُو الأَسَاسُ الذِي يُبتَنَى عَلَيهِ. وَعَلَيهِ يَكُونُ تَعرِيفُ أُصُولُ الفِقْةِ هُوَ: القَوَاعِدُ التِي يُبنَى عَلَيهَا استِنبَاطُ الأَحْكَامِ الشَّرعِيَّةِ مِنَ الأَدِلَّةِ التَّفصِيلِيَّةِ. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ الأَسَاسُ الذِي يُبنَى عَلَيهِ الفِقْهُ أَمرًا مَقطُوعًا بِهِ, وَلا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ظَنيًا. وَعَلَيهِ فَأُصُولُ الفِقْهِ كَالعَقَائِدِ لا بُدَّ مِنَ القَطْعِ فِيهَا, وَكُلُّ أصْلٍ لا يَثبُتُ بِالدَّلِيلِ القَطعِيِّ لا يُعتَبَرُ مِنَ الأُصُولِ, مِثلُ: "المَصَالِحُ المُرْسَلَةُ" وَ "شَرْعُ مَنْ قَبلَنَا" وَ "الاستِحْسَانُ" وَ "مَذهَبُ الصَّحَابِيِّ" وَغَيرُهَا, فَكُلُّهَا لَيسَتْ أَدِلَّةً عِندَنَا, وَمَنِ اعتَبَرَهَا مِنَ الأَدِلَّةِ يَكُنْ رَأيُهُ رَأْيـًا شَرْعيًا, وَإِنْ كُنَّا نَرَاهُ مَرجُوحًا لِوُجُودِ شُبْهَةِ دَلِيلٍ عَلَى هَذِهِ المَسَائِلِ. وَهُنَاكَ قَوَاعِدُ كَثِيرَةٌ اعتُبِرَتْ أَدِلَّةً, وَهِيَ عَقلِيَّةٌ لا يُوجَدُ عَلَيهَا شُبهَةُ دَلِيلٍ, وَهِيَ مَردُودَةٌ, وَلا تُعتَبَرُ مِنَ الأَدِلَّةِ, وَالآرَاءُ المُستَنبَطَةُ عَلَى أَسَاسِهَا لَيسَتْ آرَاءَ شَرْعِيَّةً. هَذِهِ القَوَاعِدُ مِثلُ: "الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المَحظُورَاتِ" وَ "لا يُنكَرُ تَغَيُّرُ الأَحكَامِ بِتَغَيُّرِ الأَزمَانِ" وَ "مَا لا يُؤخَذُ كُلُّهُ لا يُترَكُ جُلُّهُ" وَغَيرُهَا. وَسَنَتَعَرَّضُ لِهَذِهِ القَوَاعِدِ فِي مَوضِعِهَا بِشَيءٍ مِنَ التَّفصِيلِ وَبِالبَيَانِ المُفِيدِ لِحَامِلِ الدَّعوَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. مِمَّا سَبَقَ نَستَطِيعُ القَولَ: إِنَّ أُصُولَ الفِقْهِ: هِيَ جُملَةُ الأَدِلَّةِ وَالقَوَاعِدِ القَطعِيَّةِ التِي يُبنَى عَلَيهَا استِنْبَاطُ الأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ مِنَ الأَدِلَّةِ التَّفصِيلِيَّةِ.
  9. أهمية دراسة علم أصول الفقه وَهُنَا يَبرُزُ سُؤَالٌ هُوَ: لِمَاذَا نَدرُسُ عِلْمَ أُصُولِ الفِقْهِ؟ أو مَا أهمِيَّةُ دِرَاسَةِ عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ؟ للإِجَابَةِ نَقُولُ: إِنَّ أهمِيَّةَ هَذَا العِلْمِ تَكمُنُ فِي الأُمُورِ الآتِيَةِ: أولاً: عَلَى صَعِيدِ الاجتِهَادِ وَالفِقْهِ, فَلا يَكُونُ الفَقِيهُ فَقِيهًا, وَلَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ استِنبَاطِ حُكْمٍ شَرعِيٍّ بِغَيرِ الوَعيِ التَّامِّ عَلَى هَذَا العِلْمِ الجَلِيلِ, فَبِهِ تُفهَمُ النُّصُوصُ, وَيُضبَطُ الاجتِهَادُ. ثانيًا: عَلَى صَعِيدِ الحَركَاتِ الإِسلامِيَّةِ العَامِلَةِ لإِنهَاضِ الأُمَّةِ بِالإِسلامِ وَالذِي يَفرِضُ عَلَيهَا أَنْ تُحَدِّدَ أُصُولَ الفِقهِ المُعتَمَدَةِ فِي فَهمِهَا لِلنُّصُوصِ وَاستِنبَاطِهَا لِلأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ المُتَبنَّاةِ لَدَيهَا, وَالتِي تُحَدِّدُ لَهَا الهَدَفَ تَحدِيدًا دَقِيقًا وَالمُتَمَثِّلَ فِي استِئنَافِ الحَيَاةِ الإِسلامِيَّةِ بِإِقَامَةِ دَولَةِ الخِلافَةِ, وَتُحَدِّدُ لَهَا أَيضًا جَمِيعَ السِّيَاسَاتِ التِي سَتُطَّبقُ فِيهَا دَاخِليًا وَفِي العَلاقَاتِ الخَارِجِيَّةِ, وَتُحَدِّدُ طَرِيقَ السَّيرِ المُوصِلَةَ لِهَذَا الهَدَفِ العَظِيمِ. كُلُّ ذَلِكَ بِاجتِهَادٍ صَحِيحٍ مِنَ الشَّرعِ, بِحَيثُ لا تَخرُجُ أيَّةُ جُزئِيَّةٍ, وَلا أَيُّ عَمَلٍ عَنِ الإِسلامِ. هَذَا وَإِنَّ أَيَّ حِزبٍ أو جَمَاعَةٍ لا أُصُولَ عِندَهَا تُحَدِّدُ لَهَا مَعَالِمَ الطَّرِيقِ, وَمَشرُوعَهَا النَّهضَوِيَّ لَهِيَ ضَائِعَةٌ تَسِيرُ عَلَى غَيرِ هُدىً, وَدُونَ ضَوَابِطَ شَرعِيَّة. ثالثًا: عَلَى صَعِيدِ حَاجَةِ حَامِلِ الدَّعوَةِ إِلَى أُمُورٍ أَربَعَةٍ لازِمَةٍ لَهُ لُزُومَ الرُّوحِ لِلحَيَاِة مِنهَا: اللوازم الأربعة لحامل الدعوة الأول: حَاجَةُ حَامِلِ الدَّعوَةِ إِلَى بِنَاءِ العَقلِيَّةِ الإِسلامِيَّةِ القَادِرَةِ عَلَى مُحَاكَمَةِ الأَفكَارِ وَالأَعمَالِ, وَكُلِّ مَا يَعتَرِضُهُ أثنَاءَ سَيرِهِ فِي حَيَاتِهِ الخَاصَّةِ وَالدَّعَوِيَّةِ. الثاني: حَاجَتُهُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الدَّعْوَاتِ الفَاسِدَةِ وَتَفنِيدِها, وَبَيَانِ بُطلانِهَا, وَآثارِهَا السَّيئَةِ عَلَى مُجتَمَعِهِ. الثالث: حَاجَةُ حَامِلِ الدَّعوَةِ إِلَى أَنْ يُحَصِّنَ نَفسَهُ مِنَ الزَّلَلِ وَالانحِرَافِ, وَأَنْ لا يَقَعَ فِي فَخِّ التَّضلِيلِ, فَقَوَاعِدُهُ تُمَكِّنُهُ مِنْ مَعرِفَةِ الغَثِّ مِنَ السَّمِينِ, وَالحَقِّ مِنَ البَاطِلِ فِي مُجتَمَعٍ مَلِيءٍ بِالأفكَارِ الفَاسِدَةِ الآتِيَةِ عَنْ طَرِيقِ الغَزْوِ الفِكرِيِّ. الرابع: حَاجَةُ حَامِلِ الدَّعوَةِ لِلوُقُوفِ عَلَى أحكَامِ المُستَجِدَّاتِ بِعَرضِهَا عَلَى الشَّرعِ, وَعَرضِ أَعمَالِ الحُكَّامِ وَالسَّاسَةِ عَلَى قَوَاعِدَ وَمَقَايِيسَ شَرعِيَّةٍ حَتَّى يَتأَتى لَهُ خَوضُ الصِّرَاعِ الفِكْرِيِّ وَالكِفَاحِ السِّيَاسِيِّ عَلَى بَصِيرَةٍ, امتِثَالاً لِقَولِهِ تَعَالَى: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي). رابعًا: عَلَى صَعِيدِ الدَّولَةِ التِي يُرَادُ إِقَامَتُهَا, وَالتِي أَنَاطَ الشَّرعُ بِهَا تَطبِيقَ الإِسلامِ فِي الدَّاخِلِ, وَحَمْلَ رِسَالَتِهِ إِلَى العَالَمِ فِي الخَارِجِ عَنْ طَرِيقِ الدَّعوَةِ وَالجِهَادِ, حَيثُ لا يَتَسَنَّى لَهَا ذَلِكَ إِلاَّ بِاجتِهَادٍ صَحِيحٍ وَفْقَ أُصُولٍ قَطْعِيَّةٍ يَجْرِي استِنبَاطُ الأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ عَلَى أَسَاسِهَا, لِكُلِّ أعمَالِهَا, وَمَا يَستَجِدُّ أثنَاءَ التَّطبِيقِ, حَيثُ لا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَأخُذَ مِنْ غَيرِ الإِسلامِ. خامسًا: عَلَى صَعِيدِ القِيَادَةِ فِي الأُمَّةِ التِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ قِيَادَةً فِكرِيَّةً مَبدَئِيَّةً, فَلا يَجُوزُ أنْ تَبقَى القِيَادَةُ فِي الأُمَّةِ قِيَادَةً شَخصِيَّةً, وَلا مَرجِعِيَّاتٍ, وَلا مَشَايِخَ وَمُرِيدِينَ. فَهَذَا أبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَقُولُ فِي أَوَّلِ خُطبَةٍ لَهُ بَعدَ تَوَلِّيهِ الخِلافَةَ: "أمَّا بَعدُ، أَيُّها النَّاسُ فَإِني قَد وُلِّيتُ عَلَيكُمْ وَلَسْتُ بِخَيرِكُمْ فإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي, وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني. أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ ورسولَه فإِذا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلا طَاعةَ لِي عَلَيكُمْ". وَدَولَةُ الإِسلامِ دَولَةُ مَبدَأ, وَرِجَالُهَا مِنَ البَشَرِ, وَالانقِيَادُ فِيهَا للهِ وَحْدَهُ. وَلَمَّا كَانَ الفِقْهُ هُوَ العِلْمُ بِالأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ العَمَلِيَّةَ المُستَنبَطَةَ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفصِيلِيَّةِ عَزَمْتُ عَلَى أَنْ أكتُبَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ, فَكَتَبْتُ كِتَابِي هَذَا الذِي سَمَّيتُهُ: "أصُولُ الفِقْهِ المُيَسَّرَةُ" وَأرَدْتُ أَنْ أَجعَلَهُ مَبَاحِثَ صَغِيرَةً مُتَعَلِّقَةً بِالنَّوَاحِي العَمَلِيَّةِ التِي تَلزَمُ حَامِلَ الدَّعوَةِ, وَأَنْ أكتُبَهُ بِلُغَةٍ عَصرِيَّةٍ سَهْلَةٍ مُيَسَّرَةٍ, وَبَعِيدَةٍ كُلَّ البُعدِ عَنْ أُسلُوبِ الأَكَادِيمِيِّينَ الذِي يُعنَى وَيَهتَمُّ بِالنَّاحِيَةِ التَّنظِيرِيَّةِ, وَيَنأى عَنِ النَّاحِيَةِ العَمَلِيَّةِ, مَعَ عِلْمِي بِأَنَّنِي لَنْ آتِيَ بِشَيءٍ جَدِيدٍ فِي مَضمُونِ أُصُولِ الفِقْهِ, وَكَمَا ذَكَرْتُ سَتَكُونُ كِتَابَتِي سِلْسِلَةً مِنَ البُحُوثِ المُختَصَرَةِ فِي مَوَاضِيعَ مُخْتَارَةٍ مِنْ أُصُولِ الفِقهِ, حَيثُ أقُومُ بِعَرْضِ كُلِّ بَحْثٍ, وَكُلِّ مَوضُوعٍ بِشَكلٍ مُيَسَّرٍ فِي صِيَاغَتِهِ, وَلَهُ مَسَاسٌ بِالدَّعْوَةِ, وَالقَضَايَا المُعَاصِرَةِ المُثَارَةِ فِي السَّاحَةِ الإِسلامِيَّةِ؛ كَي يَتَشَجَّعَ حَمَلَةُ الدَّعوَةِ عَلَى دِرَاسَتِهَا, وَيَتَسَنَّى لِلرَّاغِبِينَ فِي الاطِّلاعِ عَلَى أُصُولِ الفِقْهِ مِنْ قِرَاءَتِهَا وَاستِيعَابِ مُصطَلَحَاتِهَا بِيُسْرٍ وَسُهُولَةٍ. وَأَسأَلُ اللهَ العَلِيَّ القَدِيرَ أَنْ يَجعَلَ هَذَا العَمَلَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الكَرِيمِ, وَأَنْ يَتَقَبَّلَهُ مِنَّا, وَأنْ يَنفَعَ حَمَلَةَ الدَّعوَةِ بِمَا فِيهِ, وَأنْ يُوَفِّقَنَا بِأَنْ نَجمَعَ فِيهِ جَمِيعَ المَسَائِلِ ذَاتِ الصِّلَةِ بِالمَوضُوعِ, إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ, وَمَا تَوفِيقِي وَثِقَتِي واعتِصَامِي واعتِزَازِي إِلاَّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ, عَلَيهِ تَوَكَّلتُ, وَإِلَيهِ أنِيبُ. سعيد رضوان أبو عواد 23/11/2013م
  10. أصول الفقه الميسرة الجزء الأول: الحاكم: من له السيادة الشرع أم العقل بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة لقَد كَانَ مَبحَثُ أصُولِ الفِقْهِ مَحَلَ عِنَايَةٍ فَائِقَةٍ عِندَ فُقَهَاءِ المُسلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمُ المُتقَدِّمِينَ مِنهُمْ والمُتأخِّرِينَ؛ لِمَا لَهُ مِنْ عَظِيمِ الأثَرِ فِي ضَبطِ الاجتِهَادِ واستِنبَاطِ الأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ, لِمُعَالَجَةِ قَضَايَا المُسلِمِينَ وَالمُستَجَدَّاتِ, وَمِنَ الطَّبِيعِيِّ أن يكُونَ هَذَا المَبحَثُ مَحَلَّ اهتِمَامٍ كَبِيرٍ فِي أَيامِنَا هَذِهِ مِنْ قِبَلِ فَرِيقَينِ: الفريق الأول: هُوَ ذَلِكَ الفَرِيقُ الذِي كَرَّسَ عِلمَهُ وَجُهدَهُ لِخِدْمَةِ أعَدَاءِ المُسلِمِينَ الذِينَ يَعمَلُونَ لِتَروِيجِ أفكَارِ الغَربِ وَمَفَاهِيمِهِ وَتَسوِيقِهَا فِي بِلادِ المُسلِمِينَ, تَحْتَ غِطَاءٍ مِنَ القَوَاعِدِ الفِقْهِيَّةِ التِي يَكثُرُ ذِكرُهَا عِندَ تَبرِيرِ عَدَمِ تَطبِيقِ الإِسلامِ, وَتَبرِيرِ عَدَمِ الالتِزَامِ بِمَا هُوَ مَقطُوعٌ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ وَاجِبَاتٍ وَمُحَرَّمَاتٍ, وَتَبرِيرِ السَّيرِ مَعَ الغَربِ المُعَادِي للإِسلامِ, وَأَخَذُوا يُرَدِّدُونَ عَلَى مَسَامِعِ النَّاسِ قَوَاعِدَ دَسُّوهَا فِي أصُولِ الفِقْهِ لِلتأثِيرِ فِي الرَّأيِ العَامِّ. وَمِنْ هَذِهِ القَوَاعِدِ: المَصَالِحُ المُرسَلَةُ, وَالتَّدَرُّجُ فِي تَطبِيقِ الإِسلامِ وَمَا لا يُؤخَذُ كُلُّهُ لا يُترَكُ جُلُّهُ, وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المحظُورَاتِ, وَلا يُنكَرُ تَغَيُّرُ الأَحكَامِ بِتَغَيُّرِ الأَزمَانِ, وكَذَلِكَ الرُّخَصُ المأخُوذَةُ مِنَ الفَهمِ المَغلُوطِ لِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ, كَأَخَفِّ الضَّرَرَينِ وَأهوَنِ الشَّرينِ. كُلُّ ذَلِكَ لِلحَيلُولَةِ دُونَ وُصُولِ الإِسلامِ إِلَى الحُكْمِ وَحدَهُ دُونَ سِوَاهُ, وَلِتَبرِيرِ التَّنازُلاتِ لِلتَّعَايُشِ مَعَ الكُفرِ, حَتَّى أَصبَحَ مَبحَثُ أُصُولِ الفِقْهِ مِنَ المَبَاحِثِ التِي تُطَوِّعُ النَّاسَ لِلغَرْبِ الكَافِرِ وَتَجعَلُ الحَركَاتِ الإِسلامِيَّةَ مَطِيَّةً لِتَحقِيقِ أَهدَافِ الكُفَّارِ, إِلَى أَنْ أَصبَحَ فِي المُسلِمِينَ مَنْ يَدعُو إِلَى الدِّيمُقرَاطِيَّةِ, وَالدَّولَةِ المَدَنِيَّةِ, وَيُفتِي بِإِبَاحَةِ الرِّبا وَالمُشَارَكَةِ فِي حُكُومَاتٍ لا تَحكُمُ بِالإِسلامِ بَلْ تُعَادِيهِ, وَيُوجِبُونَ عَلَى المُسلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا أَعضَاءَ فِي الكِنِيسِتِ الإِسرَائِيليِّ, وَأنْ يَكُونُوا أعضَاءَ فِي مَجَالِسِ تَشرِيعِيَّةٍ فِي بِلادِ المُسلِمِينَ أو فِي بِلادٍ غَربِيَّةٍ مُعَادِيَةٍ للإِسلامِ, كُلُّ ذَلِكَ بِحُجَّةِ المَصلَحَةِ. وَكَانَ هَذَا الفَرِيقُ بِحَقٍّ عَقَبَةً كَأدَاءَ فِي وَجْهِ دَعوَةِ الإِسلامِ, وَسَهْمًا مَسْمُومًا فِي صَدْرِ الإِسلامِ, وَاستُخدِمَتْ فَتَاوَاهُمْ أَدَاةً فِي قَتلِ المُسلِمِينَ تَحْتَ مُسَمَّيَاتِ التَّطَرُّفِ وَالإِرهَابِ! الفريق الثاني: أمَّا الفَرِيقُ الثَّانِي فَهُوَ ذَلِكَ الفَرِيقُ مِنَ المُخلِصِينَ الذِينَ نَذَرُوا حَيَاتَهُمْ لِخِدْمَةِ الإِسلامِ وَدَعوَتِهِ, وَعَودَتِهِ فِي دَولَتِهِ, فَأَخَذُوا عَلَى عَاتِقِهِمْ تَنقِيَةَ هَذَا العِلْمِ الجَلِيلِ مِنْ كُلِّ دَخِيلٍ عَلَيهِ.
  11. ★ أهمية العلم : °°°°°°°°°°° وهنا لا يخفى ما للعلم والعلماء من كبير أثر في بيان أفكار المعروف وأفكار المنكر الموجودة في زمانهم ومن حثهم الناس على إلتزام المعروف وترك المنكر . والعلماء هم الذين حَصّلوا بالإضافة إلى علمهم الذي يتصل بعملهم ، وهو فرض عين عليهم مثلهم مثل سائر أفراد الأمة ، العِلْمَ الذي يحتاج إليه الآخرون ، وهو فرض كفاية على الأمة وقد قاموا به فلهم أجرهم على ذلك . وهم بعلمهم هذا لا يُعفون من أي فرض عليهم ، فمطلوب منهم ما هو مطلوب من أي فرد من أفراد الأمة سواء بسواء . ومنه العمل لإقامة الخلافة . فإذا رأيت عالماً بأحكام المواريث ، وآخر يتصدر في التفسير ، وثالث هو قاضٍ شرعي في مسائل الأحكام الشرعية من زواج وطلاق فهؤلاء وأمثالهم لا يُعفون من القيام بإلتزاماتهم الفردية التي تعلقت بأعيانهم ولا من الفروض الكفائية التي تعلقت بالأمة جميعها، وهم منها يطالهم ما يطال أي فرد منهم . وما نراه اليوم من قعود العلماء عن القيام بهذه الفريضة تحت أية حجة واهية فهو أمر غير مقبول شرعاً، ويحاسبون على التقصير أمام الله، ويجب أن يحاسبوا كذلك أمام الأمة. فالعلم للطاعة والعبادة. والعلم هو الذي يؤدي إلى التزام التقوى. والتقوى خشية. يقول تعالى : ﴿ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ ﴾. ومن هنا ينشأ العلماء المجاهدون الذين تراهم في أول الصفوف دائماً سواء في صلاتهم أو في جهادهم أو في حمل الدعوة، أو في مناصحة الحكام، أو في مواجهة أفكار الكفر ومفاهيم الإلحاد. تراهم في أول الصفوف يهدون الناس إلى العلم الصحيح وإلى العمل بموجبه. فلا يتصور أن للعلماء منصباً رسمياً في الإسلام أو مرتبة دنيوية، أو شكلاً مميزاً؛ أو أنهم يأمرون بعلمهم والباقون هم الذين ينفذون، بل هم مأمورون مثلما هو مأمور أي فرد من أفراد المسلمين، والخطاب من الله يشملهم كما كان يشمل الرسول ﷺ وصحابته. والشرع قد أوجب وجود العلم والعلماء حتى يعرف بهم الحق ويقام به ، فهم وسائطه ، وبهم يعرف المسلم حق ربه . ووجودهم أو إيجادهم هو فرض كفائي، فإن لم يوجدوا فالأمة كلها تأثم، لأنها ستقع في جهل معرفة أحكام الله سبحانه في زمانها؛ ومن هنا كان الإجتهاد فرضاً على الكفاية ويجب أن لايخلو أي عصر من الأعصار من وجود المجتهدين، وإلا فإن الأمة تقع في الإثم. ومن حيث دافع الناس فإنهم بطبعهم يميلون إلى العالم ويحبون الأخذ منه. ومن هنا فإن على العالم أن لايقع في فتنة علمه فيطلب المنصب والمكسب، ويفتي الناس بغير علم تبعاً لأهوائهم. أو يُزَوِّر حقائق الشرع إرضاء للحاكم؛ فإذا كان العلم بالشرع معروفاً فإن مُنكَرَهُ هو الرياء، وحب الرئاسة، وطلب الأجر الرخيص به، ومن هنا كان استغلالُ الحكام وخاصة في زماننا للعلماء واستخدامُهم لأغراضهم السياسية وجعلُهم عملاء لهم فتراهم يغدقون عليهم الأموال، ويظهرونهم أمام الناس بمظهر العلماء الأجلاء، وتقوم الدعاية القوية لهم. حتى يصبحوا للناس مراجع ومفتين يرجعون إليهم في الأمور الكبيرة. فيفتونهم بما يرضي الحكام، ويغضب الله، ويُخْضِعون النصوص لرغباتهم، ويطوعون الشرع تطويع البنان لإرادة صاحبه، فتراهم : إن أحلَّ الحكام الربا أحلّوه، وذهبوا إلى النصوص يلوونها ويسوقونها سوق الشهود على صحة ما يريدون، وإن أحلَّوا الاستعانة بالدول الكافرة وافقوهم، وإن أحلّوا الصلح مع اليهود أوجبوه. فهؤلاء هم العلماء العملاء، وهم أهل سوء يجب النصح لهم. ويجب على الأمة أن تقسوا عليهم في عملهم هذا بأن تنفضّ عنهم، وأن لاتكون تبعيتها لهم على حساب الشرع. فهؤلاء وأمثالهم ممن يمدون أيديهم للحكام على حساب الشرع ينطبق عليهم قول الرسول ﷺ : «إنّ أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان» [ رواه أحمد بن حنبل ] . فهؤلاء وأمثالهم يجب أن يُشهَّر بهم حتى لايقع الآخرون في حبائل فتاواهم، وأولئك هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فما أصبرهم على النار. نعم انه إذا قام المسلمون والتزموا بهذه الفريضة من ائتمار بالمعروف، وأمر به، وانتهاء عن المنكر، ونهي عنه، فقد صلح أمر حياتهم الفردية. فالمسلم حين يلتزم في بيته ويلزم غيره، وحين يلتزم في متجره، وفي علاقاته مع الناس من حوله، يكون جانب مهم من الدين قد إستقام؛ ولكن كما قلنا سابقاً إن الغاية من الدين هي الطاعة، وأن يمتثل المجتمع بكليته بالمعروف وترك المنكر، وأن لاتخرج أية جزئية ولا أي جانب عن حكم الله، سواء في الجانب الفردي أو الجماعي، فالمجتمع ليس مكوناً من أفراد فحسب، بل هو مكون من أفراد جمعتهم عقيدةٌ إنبثق عنها نظام لكافة شؤون الحياة. فإذا تَأَمَّنَ فيه الجانب الفردي فقد تَأَمَّنَ فيه جانب واحد، وبقيت جوانب كثيرة لا بد من تحكيم حكم الله فيها. فهؤلاء الأفراد أُمِروا أن يُؤَمِّروا عليهم خليفة يقيم الإسلام في واقعهم، والذي لايوجد في واقع المسلمين بدافع تقوى الله أوجده الخليفة بقوة السيف . « إن الله ليزعبالسُـلطان ما لا يزع بالقرآن » . فهذه العقيدة أَمَـرَ الشرع بإيجادها والمحافظة عليها، وحَمْلِها للناس (كل الناس)، وجعل طريقة ذلك الدولة الإسلامية. وهذا النظام بيَّنَه الشرع، وبيَّنَ كيفية تنفيذه، وجعل مهمة ذلك على الدولة الإسلامية لتسهر على تنفيذه. وهذا الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام جعل الشرع الدولة هي التي تقوم به، وتنشر الدعوة عن طريقه. وما أبلغ قول الإمام الغزالي حين قال : « ألا إن القرآن والسلطان توأمان، فالقرآن أُسّ والسلطان حارس؛ فما لا أُسَّ له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع» . •••••••••••••••••••••• من كتاب «الدعوة إلى الإسلام»
  12. ★ تجربة الأحكام الشرعية ؟! °°°°°°°°°°°°°°°°°°°°° وفي شأن السؤال الثاني: هناك من يصف العمل لإقامة الدولة الإسلامية بالتجربة، ويصف الطريق بأنها الخط التجريبي الذي تمر به الدعوة؛ فهل يصح هذا الإطلاق؟ إن وصف الطريق بالتجربة هو في غير محله، ويعطي مدلولاً غير مطابق لمدلول كلمة (الطريق الشرعية). إن طريق العمل في الإسلام هي أحكام شرعية تعتمد على قوة الدليل، ويجب على الجماعة الإلتزام بها إلتزامها بالشرع، ولا يجوز الحيد عنها طالما رأتها بحقها أحكاماً شرعية؛ فلا تكون موضع تجربة وإختبار (إن هي حققت الهدف تكن تجربة ناجحة وإلا فهي فاشلة ويجب تغييرها) حتى تجد الطريق التجربة التي من شأنها تحقيق الهدف. بل إن الطريق الشرعية هي مجموعة من الأحكام الشرعية – كما أسلفنا – من شأنها أن تحقق غايتها والتي هي إستئناف الحياة الإسلامية؛ وهذه الأحكام تعتمد على قوة الدليل، و يُتَعَبَّدَ الله سبحانه بالتقيد بها والصبر عليها طالما أنها أحكام شرعية بحق من يقوم بها، ولا يغيرها إلا إذا تبين له أن هناك دليلاً أقوى في العمل. والطريق الشرعية يجب أن يظهر فيها التأسي واضحاً بعمل الرسول ﷺ ، وهي بهذا المعيار تختلف عنها عند الذين يعملون بحسب الأنظمة الوضعية؛ حيث يُجَرِّبَ الناس أفهامهم ويختبرون العمل ويربطون الصحة والخطأ بالنجاح والفشل وبتحقيق الهدف أو عدم تحقيقه. إن طبيعة الأنظمة الوضعية أنها غير نهائية عند أصحابها، وتحتاج دائماً إلى التغيير والتطوير؛ فأي عمل يقومون به يصح أن يُطلق عليه أنه تجربة، وإن قوانين الغرب كلها تجارب، ومعيار صحة الفعل عندهم هو تحقيق الغاية منه فقط؛ فإن حقق النتيجة كان صحيحاً وإلا فـلا. وهذا يختلف عن المسلم لـإختلاف طبيعة الإسلام الذي هو منهج ربانيّ من العليم الخبير، فهو صحيح ومكتمل طالما أنه إعتمد على الدليل الشرعي. وصحته آتية من صحة الدليل الشرعي، وصحة الإستدلال، وليس من ربطه بالنتيجة. لذلك كان التقيد هو الأساس، ومنه يُنطَّلَق بالتقويم. وفيما يتعلق بأعمال الطريق فإن النتيجة أي الإستخلاف والتمكين هو تحصيل يجب حصوله لقوله تعالى : ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ الآية(55) من سورة النور ] ولقوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [ الآية (7) من سورة محمد ] ؛ وإن لم تحصل النتيجة لا يُلغى الطريق ولا يُستبدل، ولا يعلن عن فشله، بل يُراجع ويُعاد النظر في أحكام الطريق؛ ولا يترك أي حكم شرعي إلا إذا تأكدت الجماعة من خطأ فهمها فيه؛ وإذا لم يتبين للجماعة خطأٍ فما عليها إلا الإلتزام بما عندها، والصبر عليه حتى يأتي الله بأمره. وقد يكون الأمر متعلقاً بسنة تأخير النصر التي لم ينج منها الرسل من قبل؛ قال تعالى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [ من الآية (110) من سورة يوسف ]. نعم إن العمل شاق ويحتاج إلى جهود ضخمة؛ ووسائل الجماعة هي أقل بكثير من وسائل الأنظمة التي تواجهها؛ وإن نجاح العمل ليس مربوطاً بمدة زمنية محددة، حتى إذا انقضت ولم يُؤتِ العمل ثماره حُكم عليه بالفشل، بل هو مربوط بصحة الفكرة وقوة الإلتزام من قبل القائمين بها، والتقبل للفكرة بشكل عام من قبل الناس. ومتى إكتملت هذه الأمور يُسأل عن النصر الذي يتوصل إليه عن طريق طلب النصرة. كل ذلك كما فعل الرسول ﷺ ؛ وتقدير إكتمال هذه الأمور القطعي متروك لله. وتقدير الجماعة في هذا المجال يكون على غلبة الظن. فإذا تحققت عوامل النصر جاء، وإلا فهو يتأخر؛ وتأخره لايعني وجود خطأٍ ما بالضرورة؛ بل قد يعني أن نسبة الإعداد والتهيئة غير كافية، ويجب أن تزاد. والتأخير قد يكون من باب الإبتلاء لشباب الكتلة أو الجماعة؛ أتسقط بعد يأسٍ، أم تبقى على العهد، أو يسقط أفراد منها. على كل حال تجب المراجعة. وفي حال لم تجد الجماعة ما يدعو إلى تغيير طريقها فلا يجوز التغيير تحت حجة التأخير. وعليها أن تَفَتِّش في أساليب عملِها ووسائلِها التي هي في الأصل مباحة وتختار منها الأنسب. وعليه فإن التأخير قد لا يعني فشلاً، وليس هناك أدلة شرعية على بلوغ الهدف في مدة زمنية معينة. نعم يجب أن ينصبّ النظر على صحة الأفكار والأحكام المتعلقة بالطريق، وبها يُعَـدُّ الشباب، وبها تُهيـأُ الأمة. فإن صحت هذه الأفكار وهذه الأحكام بنظر الجماعة، وتم إختيـار الأساليب والوسائل الناجحة لها، فيجب الصبر عليها ولا يجوز تغييرها مهما تأخر قِطـاف ثمرها. إن أمر التغيير يتعلق بأُمَّةٍ، وليس بتغيير فرد أو أفراد. ودولاب تغيير المجتمع أكبر بكثير من دولاب تغيير الأفراد. لذلك فحركته أبطأ بكثير. حتى لا يكاد يراها إلا من أوتي بصيرة نافذة وتوجهاً صحيحاً. وهذا لا يعني أن الفرد عندما يعمل يجب أن يعمل وفي ذهنه أن هذا الأمر لن يقوم على يديه، وأنه سيقوم على أيدي الأجيال القادمة، بل ينطلق الفرد أو أفراد الجماعة وفي ذهنهم أنه سيقوم على أيديهم، وسيشهدونه ان شاء الله تعالى، كما قام على أيدي الرسول ﷺ وصحبه. بل المقصود أن عُمرَ الفرد الزمني قد يقصر وقد يطول والوعد لم يأت لفرد أو لأفراد بل للجماعة؛ فهذه الجماعة المؤمنة هي التي وعدها الله سبحانه بالإستخلاف؛ وحين العمل قد يموت الفرد وقد يموت الأمير، وقد يسقط الكثير ويبقى الوعـد قائماً ما دامت الجماعة قائمة على أمر الله، وسيتحقق النصر على يديها طال أمده أم قصر. فهذا علمه عند الله ولا يُسأل عنه سبحانه؛ والجماعة مسؤولة عن الإلتزام فقط. لذلك لا يقال عن الحكم الشرعي إنه تجربة، بحيث لو تأخر تحقق هدفها حكمنا عليها بالفشل وتخلينا عنها، لمصلحة عمل آخر تجريبي. لا يقال ذلك مادُمنَا متأكدين أنه حكم شرعي بحسب الدليل؛ أما الأساليب والوسائل فيصح إخضاعها للتجربة. ••••••••••••••••••••••• من كتاب «الدعوة إلى الإسلام»
×
×
  • اضف...