اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

أبو الحسن

الأعضاء
  • Posts

    35
  • تاريخ الانضمام

  • تاريخ اخر زياره

  • Days Won

    10

كل منشورات العضو أبو الحسن

  1. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربه إلى يوم الدين، أما بعد، معـاذ بن جـبل رضي الله عنه اسمه معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري، وكنيته أبو عبد الرحمن. أسلم وعمره ثماني عشرة سنـة وحضر المشاهـد كلها وروى عن النبـي -صلى الله عليه وسلم- الشيء الكثير من الأحاديث النبوية. لما أشرَقتْ جزيرة العرَبِ بنور الهُدى والحقِّ، كان الغلامُ اليثربيُّ مُعاذ ابنُ جبلٍ فتىً يافعاً، كان يَمتاز عن أقرانه بحِدَّة الذكاءِ، وقوةِ البديهة وروعةِ البيانِ، وعُلوِّ الهمةِ، وكان إلى ذلك، بهي الطلعة جميلُ الملامحِ أكحلَ العينِ جعدَ الشعرِ براقَ الثنايا، يَملأ عين الناظر إليه ويملكُ عليه فؤاده. أسلمَ على يدي الداعيةِ المكيِّ مصعبِ بن عُميرٍ، وفي ليلة العقبة امتدت يدهُ الفتية فصافحتْ يدَ النبي الكريم وبايعته. فقد كانَ مُعاذ مع الرهط ِالاثنينِ والسبعين الذين قصدوا مكةَ، لِيسعدوا بلقاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَتشرفوا ببيعتهِ، ولِيخطّوا في سِفر التاريخِ أروع صفحةٍ وأزهاها. وما إن عاد الفتى من مكة إلى المدينةِ حتى كوّنَ هو ونفرٌ صغيرٌ من أصحابه جماعةً لكسرِ الأوثانِ، وانتزاعها من بُيوت المشركين في يثربَ في السرِّ أو في العلنِ. وكان من أثرِ حركةِ هؤلاء الفتيانِ الصّغار أن أسلمَ رجلٌ كبيرٌ من رجالاتِ يثرب، وهو عمرُو بنُ الجموح. ولما قدِم الرسولُ الكريم على المدينةِ مهاجراً، لزِمَه الفتى معاذ بن جبلٍ مُلازمة الظلِّ لصاحبه، فأخَذ عنه القرآنَ، وتلقى منه شرائِع الإسلام، حتى غدا من أقرأ الصحابة لكتاب الله، وأعلمِهم بشرعِه، فقد حدّثَ "يزيدُ بنُ قطيبٍ" قال: "دخلتُ مسجد حمصَ فإذا أنا بفتىً جعد الشعرِ، قد اجتمعَ حوله الناس، فإذا تكلم كأنما يَخرجُ من فيه (أي فمه) نورٌ ولؤلؤ، فقلت: من هذا؟ فقالوا: معاذ بنُ جبل". ودخل "عائذ الله بن عبد الله" المسجد يوماً مع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول خلافة عمر فيحدثنا ويقول: "جلست مجلساً فيه بضعٌ وثلاثون كلهم يَذْكرون حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي الحلقة شاب حلو المنطق وضيء، وهو أشَبُّ القوم سِنّا، فإذا اشتبـه عليهم من الحديـث شيء رَدّوه إليه فَأفْتاهم، ولا يحدثهم إلا حين يسألونه، ولما قُضيَ مجلسهم دَنَـوْتُ منه وسَألْتُه: من أنت يا عبد الله ؟ قال: أنا معاذ بن جبل". ويقول أبو مسلم الخولاني: "دخلت مسجد حمص فإذا جماعة من الكهول يتوسّطهم شاب برّاق الثنايا صامت لا يتكلم، فإذا امْتَرَى (شك) القوم في شيء تَوَجَّهوا إليه يسألونه، فقلت لجليس لي: من هذا؟ قال: معاذ بن جبل، فوقع في نفسي حُبُّه". كما قال شهر بن حَوْشَب: "كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل، نظروا إليه هيبة له". وحسبُ معاذٍ شهادةً أن يقولَ عنه الرسول صلوات الله عليه: «أعلمُ أمّتي بالحلالِ والحرام مُعاذ بن جبلٍ»، وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم ايضاً: «استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل». وحسبُه فضلاً على أمة محمدٍ أنه كان أحَدَ النفر الستةِ الذين جمعُوا القرآن على عهدِ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. وذات مرة قابل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل فقال له: «يا معاذ، إني لأحبك في الله»، قال معاذ: "وأنا والله يا رسول الله، أحبك في الله"، فقال صلى الله عليه وسلم: «أفلا أعلمك كلمات تقولهن دبر كل صلاة: رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك». وذات صباح لقيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسأله: «كيف أصبحت يا معاذ؟»، قال: (أصبحت مؤمنا حقّا يا رسول الله). قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟»، قال معاذ: (ما أصبحت صباحاً قط إلا ظننت أني لا أمْسي، ولا أمْسَيت مساءً إلا ظننت أني لا أُصْبح، ولا خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتْبِعُها غيرها، وكأني أنظر إلى كل أمّة جاثية تُدْعى إلى كتابها، وكأني أرى أهل الجنة في الجنة يُنَعَّمون، وأهل النار في النار يُعَذّبون)، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «عرفتَ فالزم». فهذا هُو النبيُّ عليه الصلاة والسلام يرى جُموع قريشٍ تدخُل في دين الله أفواجاً، بعد فتح مكة، ويشعرُ بحاجة المُسلمين الجُدد إلى مُعلمٍ كبير يُعلمهمُ الإسلام، ويفقهُهم بشرائعهِ، فيعهدُ بخلافتهِ على مكة لِعتاب بن أسيدٍ، ويستبقي معهُ معاذ بن جبلٍ ليعلم الناس القرآن ويفقههُم في دينِ الله. كان آخـر لقـاء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبـل لما جاءَت رسلُ ملوك اليمنِ إلى رسول الله صلوات الله عليه، تعلنُ إسلامها وإسلامَ من ورائها، وتسأله أن يبعثَ معها من يُعلمُ الناس دينهم، فانتدَب لهذه المُهمة نفراً من الدُّعاة الهداة من أصحابه وأمّرَ عليهم معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه، وقد خرجَ النبي الكريمُ صلوات الله وسلامه عليه يودعُ بَعثة الهدى والنور هذه، وطفِق يمشي تحتَ راحلةِ معاذٍ، ومُعاذ راكبٌ، وأطالَ الرسول الكريم مشيَه معه؛ حتى لكأنه كان يريدُ أن يتملى من معاذٍ، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم أمة محمد كيف يكون القضاء في الإسلام فسأل معاذاً: «بما تحكم يا معاذ؟». قال معاذ: (بكتاب الله)، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «فإن لم تجد؟»، قال معاذ: (بسنة رسول الله)، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «فإن لم تجد؟»، قال معاذ: (أجتهد رأي ولا آلو)، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله». ثم أوصاه وقال له: «يا مُعاذ إنك عسى ألا تلقاني بعدَ عامي هذا... ولعلكَ أن تمُرَّ بمسجدي وقبري»، فبكى معاذ جزعاً لفراقِ نبيِّه وحبيبه محمدٍ صلوات الله عليه، وبكى معه المسلمون. وصَدقت نُبوءُة الرسولِ الكريم فما اكتحلتْ عينا معاذٍ رضي الله عنه برؤيةِ النبي عليه الصلاة والسلام بعد تلك الساعة...فقد فارقَ الرسولُ الكريمُ الحياة قبل أن يعودَ مُعاذ من اليمن، ولا ريبَ في أن مُعاذاً بكى لمَّا عاد إلى المدينة فوجدها قد أقفرَت من أنْسِ حبيبه رسول الله. ولقد أجاد ابـن مسعـود وصفه حيـن قال: "إنّ معاذ بن جبل كان أمةً قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين"، فقيل له إنّ إبراهيم كان أمةً قانتًا لله حنيفًا، فقال: "هل تدري ما الأمة وما القانت؟" فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: "الأمة الذي يعلم الخير ويؤتم به، والقانت المطيع لله عز وجل وللرسول، وكان معاذ بن جبل يعلم الناس الخير وكان مطيعًا لله عز وجل ورسوله". ولما وليَ الخلافَة عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه؛ أرسلَ معاذاً إلى بني كِلابٍ ليقسم فيهم أعطياتهم، ويُوزع على فقرائِهم صدَقات أغنيائِهم، فقام بما عُهد إليه من أمرٍ، وعاد إلى زوجِه بحلسِهِ (ما يوضع على ظهر الدابة تحت السرج) الذي خرَج به يَلفه على رقبتهِ، فقالت له امرأته: "أين ما جِئت به مما يأتي به الولاة من هديةٍ لأهليهم؟ّ!" فقال: "لقد كان معي رقيبٌ يقظ يُحصي عليَّ" (يريد بالرقيب الله عز وجل)، فقالت: "قد كنتَ أميناً عند رسول الله، وأبي بكرٍ، ثم جاء عمرُ فبعثَ معك رقيبا يُحصي عليك؟!" وأشاعَت ذلك في نِسوة عُمر، واشتكته لهُنَّ، فبلغَ ذلك عُمر؛ فدعَا معاذاً وقال: "أأنا بَعثتُ معكَ رقيباً يحصي عليك؟" فقال: "لا يا أميرَ المؤمنين، ولكنني لم أجِد شيئاً أعتذرُ به إليها إلا ذلك"، فضحِكَ عمرُ رضوان الله عليه، وأعطاه شيئاَ وقال له: "ارضها به". وفي أيام الفاروق أيضاً أرسلَ إليه والِيه على الشامِ يزيدُ بن أبي سُفيان يقول: "يا أميرَ المؤمنين، إن أهلَ الشام قد كثرُوا وملؤوا المدائنَ، واحتاجُوا إلى من يُعلمهُم القرآن ويفقههُم بالدّين فأعنّي يا أميرَ المُؤمنين برجالٍ يُعلمونهم"؛ فدعا النفرَ الخمسَة الذين جَمعوا القرآن الكريم في زمنِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام. وهم: معاذ بنُ جبلٍ وعُبادة بنُ الصّامتِ وأبو أيوبَ الأنصاريُّ وأبيُّ بنُ كعبٍ وأبو الدَّرداء، وقال لهم: "إنّ إخوانكم من أهل الشامِ قد استعانوني بِمن يُعلمُهم القرآن ويفقهُهم في الدين فأعينوني رحمكم الله بثلاثةٍ منكم؛ فإن أحببتم فاقترعوا وإلا انتدبتُ ثلاثة منكم"، فقالوا: "ولم نقترعُ؟ فأبو أيوبَ شيخ كبيرٌ، وأبيٌّ بنُ كعبٍ رجلٌ مريضٌ، وبقينا نحنُ الثلاثة"، فقال عمر: "ابدؤوا بحِمص فإذا رضيتم حال أهلِها؛ فخلفوا أحدكم فيها وليخرُج واحدٌ منكم إلى دمشق، والآخرُ إلى فلسطين". فقام أصحابُ رسول الله الثلاثة بما أمَرهم به الفاروقُ في حمصَ، ثم تركوا فيها عُبادة بن الصامتِ، وذهبَ أبو الدرداء إلى دمشقَ، ومضى معاذ بنُ جبلٍ إلى فلسطينَ. ولما مات أمير الشام "أبو عبيدة" استخلفه أمير المؤمنين على الشام، وكان عمر بن الخطاب يقول: "لو اسْتَخْلفْت معاذ بن جبل فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعت نبيك يقول: إنّ العلماء إذا حضروا ربهم عزَّ وجل كان معاذ بين أيديهم". وقد كان عمـر بن الخطـاب -رضي اللـه عنه- يستشيـره كثيراً وكان يقول في بعـض المواطـن التي يستعيـن فيها برأي مُعاذ وفقهـه: "عجزت النساء أن يلدن مثله، لولا معاذ بن جبـل لهلك عمـر، ومن أراد الفقه؛ فليأت معاذ بن جبل". وهناك أصيبَ معاذ بالوباء.فلما حضرَته الوفاة استقبلَ القبلة وجعلَ يردّدُ هذا النشيد: "مرحباً بالموت مرحباً، زائرٌ جاءَ بعد غياب، وحبيب وَفدَ على شوْق"، ثم جعل ينظر إلى السماء ويقول: "اللهُم إنك كنت تعلمُ أني لم أكن أحبُّ الدنيا وطولَ البقاءِ فيها لغرسِ الأشجار، وجريِ الأنهارِ، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدةِ الساعات، ومزاحمة العلماءِ بالرُّكب عند حِلق الذكر، اللهمَّ فتقبل نفسِي بخير ما تتقبلُ به نفساً مؤمنة"، ثم فاضت روحُه الطاهرة بعيداً عن الأهل والعشيرِ داعياً إلى الله، مهاجراً في سبيله. وكانت وفاته في السنة السابعة عشرة من الهجرة النبوية في طاعون عمواس وعمره ثلاث وثلاثون سنة. حُبّ العلم كان معاذاً -رضي الله عنه- دائب الدعوة إلى العلم وإلى ذكر الله، فقد كان يقول: "احذروا زيْغ الحكيم، واعرفوا الحق بالحق، فإنّ للحق نوراً". وكان يرى العبادة قصداُ وعدلاً، قال له يوماً أحد المسلمين: "علّمني"، فسأله معاذ: "وهل أنت مطيعي إذا علمتك؟" قال الرجل: "إني على طاعتك لحريص"، فقال له معاذ: "صُمْ وأفْطِر، وصَلِّ ونَمْ، واكْتَسِب ولا تأثَمْ، ولا تموتنَّ إلا مُسْلِماً، وإياك ودَعْوَة المظلوم". وكان يرى العلم معرفة وعملاً فيقول: "تعلموا ما شئتـم أن تتعلموا، فلن ينفعـكم الله بالعلم حتى تعْمَلوا". وكان يرى الإيمان بالله وذكره استحضاراً دائماً لعظمته ومراجعة دائمة لسلوك النفس، يقول الأسود بن هلال: "كُنّا نمشي مع مُعاذ، فقال لنا: اجلسوا بنا نُؤْمِنْ ساعة". اللهم اجعلنا من الحريصين على العلم والعمل، اللهم أعنا على حمل هذا الخير للناس، اللهم عجل لنا بالفرج والتمكين، خلافة على منهاج النبوة، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.
  2. عطـاء بن أبي ربـاح بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين.. سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، "ما رأيتُ أحدًا يريدُ بالعلمِ وجهَ اللهِ عز وجل غير هؤلاء الثلاثة: عطاءٌ... وطاووسٌ... ومُجاهدٌ." هذا قول لسَلَمةُ بن كُهيل. ها نحن أولاءِ في العَشرِ الأخيرة من شهر ذي الحِجة سنة سبع وتسعين للهجرة ... وهذا البيت العتيق يموج بالوافدين على الله من كل فج، مشاةً ورُكبـانــًا وشيوخـًا وشبانـًا، ورجالًا ونساءً. فيهم الأسود والأبيض، والعربي والعجمي، والسيد والمسود... لقد قدموا جميعًا على ملكِ الناسِ مخبتين مُلبين، راجين مؤملِين. وهذا سليمان بن عبد الملك خليفة المسلمين، وأعظم ملوك الأرض يطوف بالبيت العتيق حاسر الرأسِ حافي القدمين ليس عليه إلا إزارٌ ورداءٌ...شأنه في ذلك كشأن بقية رعاياه من إخوته في الله. وكان من خلفه ولداه. وهما غلامان كطلعة البدرِ بهاءً ورُواءً، وكأكمام الورد نضارةً وطيبًا. وما أنِ انتهى من طوافه حتى مال على رجلٍ من خاصته وقال: أين صاحبكم؟ فقال: إنه هناك قائمٌ يصلي... وأشار إلى الناحية الغربية من المسجد الحرام. فاتجه الخليفة ومن ورائه ولداه إلى حيثُ أُشير إليه ...وهَمَّ رجال الحاشية بأن يتبعوا الخليفة ليفسحوا له الطريق، ويدفعوا عنه أذى الزحام، فثَنَاهم عن ذلك وقال: هذا مقامٌ يستوي فيه الملوك والسوقة... ولا يفضلُ فيه أحدٌ أحدًا إلا بالقبول والتقوى .. ورُب أشعث أغبر قدِم على الله فتقبله الله بما لم يتقبل به الملوك، ثم مضى نحو الرجل فوجده ما يزال داخلًا في صلاته، غارقًا في ركوعه وسجوده. والناس جلوسٌ وراءه، وعن يمينه وشماله ... فجلس حيث انتهى به المجلس ... وأجلس معه ولديه ... وطفق الفتيان (القرشيان) يتأملان ذلك الرجل الذي قصده أمير المؤمنين، وجلس مع عامة الناس ينتظر فراغه من صلاته. فإذا هو شيخٌ (حبشيٌ(، أسود البشرة، مفلفل الشعر، أفطس الأنف، إذا جلس بدا كالغراب الأسود. ولما انتهى الرجل من صلاته؛ مال بشقه على الجهة التي فيها الخليفة فحياه سليمان بن عبد الملك فردّ التحية بمثلها. وهنا أقبل عليه الخليفة، وجعل يسأله عن مناسك الحج منسكًا منسكًا وهو يفيض بالإجابة عن كل مسألة... ويفصل القول فيها تفصيلًا لا يدعُ سبيلًا لمستزيد...ويُسند كل قولٍ يقوله إلى رسول الله e. ولما انتهى الخليفة من مساءلته جزاه خيرًا، وقال لولديه: قوما، فقاما... ومضى الثلاثة نحو المسعى. وفيما هم في طريقهم إلى السعي بين الصفا والمروة؛ سمع الفتَيَان المنادين ينادون: يا معشر المسلمين... لا يفتي الناسَ في هذا المقام إلا عطـاء بن أبي ربـاح...فإن لم يوجد فعبد الله بن أبي نَجيح. فالتفت أحد الغلامين لأبيه وقال: كيف يأمر عامل أمير المؤمنين الناس بأن لا يستفتوا أحدًا غير عطاء بن أبي رباح وصاحبه... ثم جئنا نحن نستفتي هذا الرجل الذي لم يأبه للخليفة، ولم يوفه حقه من التعظيم!! فقال سليمان لولده: هذا الذي رأيتَه يا بني ورأيت ذلنا بين يديه هو عطاء بن أبي رباح؛ صاحب الفتيا في المسجد الحرام، ووارث عبد الله بن عباس في هذا المنصب الكبير. ثم أردف يقول: يا بني ... تعلموا العلم ... فبالعلم يشرُف الوضيع... وينْبُه الخامل... ويعلو الأرقاء على مراتب الملوك... لم يكن سليمان بن عبد الملك مبالغًا فيما قاله لابنه في شأن العلم. فقد كان عطاء بن أبي رباح في صغره عبدًا مملوكًا لامرأة من أهل مكة. غير أن الله عز وجل أكرم الغلام الحبشي بأن وضع قدميه منذ نعومة أظفاره في طريق العلم، فقسّم أوقاته أقسامًا ثلاثة: قسم جعله لسيدته؛ يخدمها فيه أحسن ما تكون الخدمة، ويؤدي لها حقوقها عليه أكمل ما تؤدَى الحقوق. وقسم جعله لربه؛ يفرغ فيه لعبادته أصفى ما تكون العبادة وأخلصها لله تعالى. وقسم جعله لطلب العلم؛ حيث أقبل على من بقي حيًا من صحابة رسول الله e، وطفق ينهل من مناهلهم الصافية. فأخذ عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، حتى امتلأ صدره علمًا وفقهًا ورواية عن رسول الله e. ولما رأت السيدة المكية أن غلامها قد باع نفسه لله... ووقف حياته على طلب العلم... تخلت عن حقها فيه وأعتقت رقبته تقربا لله عز وجل؛ لعل الله ينفع به الإسلام والمسلمين. ومنذ ذلك اليوم اتخذ عطاء بن أبي رباح البيت الحرام مقاماً له... فجعله داره التي يأوي إليها ... ومدرسته التي يتعلم فيها... ومصلاه الذي يتقرب فيه لله بالتقوى والطاعة. حتى قال المؤرخون: كان المسجد فراش عطاء بن أبي رباح نحوًا من عشرين عامًا. وقد بلغ التابعي الجليل عطاءُ بنُ أبي رباح منزلة في العلم فاقت كل تقدير.. وسما إلى مرتبة لم ينلها إلا نفرٌ قليل من معاصريه... فقد رُوي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أمَّ مكة معتمرًا، فأقبل الناس عليه يسألونه ويستفتونه، فقال: إني لأعجب لكم يا أهل مكة... أتجمعون لي المسائل لتسألوني عنها وفيكم (عطاء بن أبي رباح)؟! وقد وصل عطاء بن أبي رباح إلى ما وصل إليه من درجة في الدين العلم بخصلتين اثنتين، أولاهما: أنه أحكم سلطانَـه على نفسه؛ فلم يدع لها سبيلاً لترتع فيما لا ينفع... وثانيتهما: أن أحكم سلطانه على وقته؛ فلم يهدره في فضول الكلام والعمل... حدّث محمد بن سُوقة (أحد علماء الكوفة وعبّادها) جماعةً من زُواره، قال: ألا أسمعكم حديثًا لعله ينفعكم كما نفعني؟ قالوا: بلى. قال: نصحني عطاء بن أبي رباح، فقال: يا ابن أخي... إن الذين من قبلنا كانوا يكرهون فضول الكلام. فقلت: وما فضول الكلام عندهم؟ فقال: كانوا يعدون كل كلام فضولاً ما عدا كتاب الله عز وجل أن يُقرأ ويُفهم. وحديث رسول الله e أن يُروى ويُدرى، أو أمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر، أو علمًا يُتقرب به إلى الله تعالى، أو أن تتكلم بحاجتك ومعيشتك التي لا بد لك منها. ثم حدّق إلى وجهي وقال: أتُنكرون: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾، وأن مع كل منكم ملكين: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ ثم قال: أما يستحي أحدنا لو نُشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره؛ فوجد أكثر ما فيها ليس من امر دينه، ولا أمر دنياه. ولقد نفع الله عز وجل بعلم عطاء بن أبي رباح طوائف كثيرة من الناس؛ منهم أهل العلم المتخصصون، ومنهم أرباب الصناعات المحترفون، ومنهم غير ذلك... حدّث الإمام أبو حنيفة النعمان عن نفسه قال: أخطأتُ في خمسةِ أبوابٍ من المناسك بـمكة فعلمنيها حجّام (حلاق)... وذلك أني أردتُ أن أحلقَ لأخرج من الإحرام، فأتيت حلاقًا، وقلت: بكم تحلق لي رأسي؟ فقال: هداكَ الله... النُسُك لا يُشارَط فيه، اجلس وأعطِ ما يتيسر لك. فخجِلتُ وجلست. غير أني جلست مُنحرفًا عن القبلة. (فأومأ إليّ بأن أستقبل القبلة)؛ ففعلتُ، وازددت خجلًا على خجلي. ثم أعطيته رأسي من الجانب الأيسر ليحلقه، فقال: أدِر شِقك الأيمن؛ فأدرتُهُ. وجعل يحلق رأسي وأنا ساكت أنظر إليه وأعجب منه، فقال لي: ما لي أراكَ ساكتًا؟... (كَبّر)... فجعلت أكبر حتى قمت لأذهب. فقال: أين تريد؟ فقلت: أريد أن أمضي إلى رحلي. فقال: صلِ ركعتين، ثم امضِ إلى حيث تشاء. فصليت ركعتين، وقلت في نفسي: ما ينبغي أن يقع مثل هذا من حجّام إلا إذا كان ذا علم. فقلت له: من أين لك ما أمرتني به المناسك؟ فقال: لله أنت... لقد رأيت عطاء بن أبي رباح يفعله، فأخذته عنه، ووجهت الناس إليه. ولقد أقبلت الدنيا على عطاء بن أبي رباح فأعرض عنها أشد الإعراض، وأباها أعظم الإباء... وعاش عمره كله يلبس قميصًا لا يزيد ثمنه على خمسة دراهم! ولقد دعاه الخلفاء إلى مصاحبتهم... فلم يُجب دعوتهم؛ لخشيته على دينه من دنياهم، لكنه -مع ذلك- كان يفدُ عليهم إذا وجدَ في ذلكَ فائدةً للمُسلمين، أو خيرًا للإسلام. من ذلك ما حدَّثَ بهِ عثمان بن عطاءٍ الخرساني قال: انطلقتُ مع أبي نريدُ هشام بن عبد الملك، فلما غدونا قريبًا من دمشق؛ إذا نحن بشيخٍ على حمارٍ أسود عليه قميصٌ صفيق وجُبة بالية، وقلنسوة لازقة برأسه، ورِكاباه من خشب. فضحكت منهُ وقلتُ لأبي: من هذا؟! فقال: اسكت، هذا سيد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح... فلما قرُب منا نزل أبي عن بغلته، ونزل هو عن حماره، فاعتنقا وتساءلا، ثم عادا فركبا، وانطلقا حتى وقفا على باب قصر هشام بن عبد الملك. فما أن استقر بهما الجلوس حتى أُذِن لهما، فلما خرج أبي قلت له: حدثني بما كان منكما، فقال: لما علم هشام أن عطاء بن أبي رباح بالباب؛ بادر فأذِن له ووالله ما دخلتُ إلا بسببه، فلما رآه هشام قال: مرحبًا مرحبًا... هَهُنا هَهُنا ... ولا زال يقول له: هَهُنا هَهُنا حتى أجلسه معه على سريره، ومس بركبته ركبته.. وكان في المجلس أشراف الناس وكانوا يتحدثون فسكتوا. ثم أقبل عليه هشام وقال: ما حاجتك يا أبا محمد؟ قال: يا أمير المؤمنين، أهل الحرمين... أهل الله وجيران رسوله؛ تُقسّم عليهم أرزاقهم وأعطياتهم... فقال: نعم.. يا غلام اكتب لأهل مكة والمدينة بعطاياهم وأرزاقهم لسنة. ثم قال: هل من حاجة غيرها يا أبا مُحمد؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز وأهل نجد أصلُ العربِ وقادةُ الإسلام؛ تُرد فيهم فضول صدقاتهم... فقال: نعم.. يا غلام اكتب بأن تُرد فيهم فضول صدقاتهم. هل من حاجة غير ذلك يا أبا مُحمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين... أهل الثغور يقفون في وجوه عدوكم، ويقتلون من رام المسلمين بِشَرّ؛ تُجرى عليهم أرزاقًا تُدرها عليهم.. فإنهم إن هلكوا ضاعت الثغور... فقال: نعم، يا غلام اكتب بحمل أرزاقهم إليهم... هل من حاجة غيرها يا أبا مُحمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل ذمتكم لا يُكلفون ما لا يطيقون، فإن ما تَجبونه منهم معونة لكم على عدوكم. فقال: يا غلام اكتب لأهل الذمة بألا يُكلفوا ما لا يُطيقون. هل من حاجة غيرها يا أبا مُحمد؟ قال: نعم... اتقِ الله في نفسك يا أمير المؤمنين.. واعلم أنك خُلقت وحدك.. وتموت وحدك.. وتُحشر وحدك.. وتُحاسَب وحدك.. ولا والله ما معك ممن ترى أحد. فأكبَّ هشام ينكت في الأرض وهو يبكي... فقام عطاء، فقمتُ معه. فلما صرنا عند الباب، إذا رجلٌ قد تبعه بكيس لا أدري ما فيه وقال له: إن أمير المؤمنين بعث لك بهذا... فقال: هيهات... وما أسألكم عليه من أجرٍ إنْ أجري إلا على رب العالمين. فوالله إنه دخل على الخليفة وخرج من عنده ولم يشرب قطرة ماء! وبعد، فقد عُمِّر عطاء بن أبي رباح حتى بلغ مائة عام... ملأها بالعلم والعمل... وأترعها بالبر والتقوى... وزكاها بالزهادة بما في أيدي الناس، والرغبة بما عند الله... فلما أتاه اليقين وجده خفيف الحمل من أثقال الدنيا.. كثير الزاد من عمل الآخرة.. ومعه فوق ذلك سبعون حجة وقف خلالها سبعين مرة على (عرفات) وهو يسأل الله تعالى رضاه والجنة ويستعيذ به من سخطه والنار.
  3. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربه إلى يوم الدين، أما بعد، ســلمان الفارسي رضى الله عنه قصتنا هذه هي قصة الساعي وراء الحقيقة الباحث عن الله، قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه، فلنترك لسلمان نفسه المجال ليروي لنا أحداث قصته، فشعوره بها أعمق وروايته لها أدق وأصدق. قال سلمان: كنت فتىً فارسياً من أهل (أصبهان) من قرية يقال لها (جيَّان)، وكان أبي دهقان القرية (أي رئيسها) وأغنى أهلها غنىً وأعلاهم منزلة. وكنت أحبَ خلق الله إليه منذ ولدت، ثم ما زال حبه لي يشتد ويزداد على الأيام حتى حبسني في البيت خشية عليّ كما تُحبس الفتيات. وقد اجتهدت في المجوسية (دين يعبد أصحابه النار أو الشمس) حتى غدوت قيِّم النار التي كنا نعبدها وأنيط بي (أوكل إلي) أمر اضرامها حتى لا تخبو ساعة في ليل أو نهار. وكان لأبي ضيعة عظيمة تدر علينا غلة كبيرة، وكان أبي يقوم عليها ويجني غلتها (يشرف عليها ويجمع ثمرها). وفى ذات مرة شغله عن الذهاب إلى القرية شاغل، فقال: يا بني، إني قد شغلت عن الضيعة بما ترى، فاذهب إليها وتولَ اليوم عني شأنها، فخرجت أقصد ضيعتنا، وفيما أنا في بعض الطريق مررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، فلفت ذلك انتباهي. لم أكن أعرف شيئاً عن أمر النصارى، أو أمر غيرهم من أصحاب الأديان لطول ما حجبني أبي عن الناس في بيتنا، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم لأنظر ما يصنعون. فلما تأملتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في دينهم، وقلت: والله هذا خير من الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، ولم أذهب إلى ضيعة أبي. ثم إني سألتهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: في بلاد الشام. ولما أقبل الليل عدت إلى بيتنا، فتلقاني أبي يسألني عما صنعت، فقلت: يا أبت إني مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، وما زلت عندهم حتى غربت الشمس. فذعر أبي مما صنعت وقال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خيرٌ منه. قلت: كلا - والله – إنّ دينهم لخير من ديننا. فخاف أبي مما أقول، وخشي أنْ أرتد عن ديني، وحبسني بالبيت ووضع قيداً في رجلي. ولما أتيحت لي الفرصة بعثت إلى النصارى أقول لهم :إذا قدم عليكم ركب يريد الذهاب إلى الشام فأعلموني .فما هو إلا قليل حتى قدم عليهم ركب متجه إلى الشام، فأخبروني به فاحتلت على قيدي حتى حللته، وخرجت معهم متخفياً حتى بلغنا بلاد الشام، فلما نزلنا فيها قلت: من أفضل رجل من أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف راعي الكنيسة، فجئته فقلت :إني قد رغبت في النصرانية وأحببت أنْ ألزمك وأخدمك وأتعلم منك وأصلي معك. فقال: ادخل؛ فدخلت عنده وجعلت أخدمه. ثم ما لبثت أنْ عرفت أنْ الرجل رجل سوء؛ فقد كان يأمر أتباعه بالصدقة ويرغبهم بثوابها فإذا أعطوه منها شيئاً لينفقه في سبيل الله اكتنزه لنفسه ولم يعطِ الفقراء والمساكين منه شيئاً حتى جمع سبع قلال من الذهب (جرار عظيمة). فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته منه، ثم ما لبث أنْ مات فاجتمعت النصارى لدفنه فقلت لهم :إنّ صاحبكم كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعطِ المساكين منها شيئاً. قالوا: من أين عرفت ذلك؟ قلت: أنا أدلكم على كنزه .قالوا: نعم دلنا عليه، فأريتهم موضعه فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وفضة، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه، ثم صلبوه ورجموه بالحجارة. ثم إنه لم يمض غير قليل حتى نصّبوا رجلاً آخر مكانه فلزمته، فما رأيت رجلاً أزهد منه في الدنيا ولا أرغب منه في الآخرة ولا أدأب منه على العبادة ليلاً ونهاراً فأحببته حباً جماً، وأقمت معه زماناً، فلما حضرته الوفاة قلت له :يا فلان إلى من توصي بي ومع من تنصحني أن أكون من بعدك؟ فقال :أي بني، لا أعلم أحداً على ما كنت عليه إلا رجلاً بالموصل هو فلان لم يحرف ولم يبدل فالحق به .فلما مات صاحبي لحقت بالرجل في الموصل، فلما قدمت عليه قصصت عليه خبري وقلت له :إنّ فلاناً أوصاني عند موته أنْ ألحق بك وأخبرني أنك مستمسك بما كان عليه من الحق. فقال :أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على خير حال. ثم إنه لم يلبث أنْ مات، فلما حضرته الوفاة قلت له :يا فلان لقد جاءك من أمر الله ما ترى وأنت تعلم من أمري ما تعلم، فإلى من توصى بي؟ ومن تأمرني باللحاق به؟ فقال: أي بني، والله ما أعلم أنّ رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين وهو فلان فالحق به. فلما غُيِّب الرجل في لحده، لحقت بصاحب نصيبين وأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي، فقال لي: أقم عندنا، فأقمت عنده فوجدته على ما كان عليه صاحباه من الخير، فوالله ما لبث أنْ نزل به الموت، فلما حَضَرتْه الوفاة قلت له :لقد عرفت من أمري ما عرفت فإلى من توصي بي؟ فقال: أي بني، والله إني ما أعلم أحداً بقي على أمرنا إلا رجلاً بعمورية هو فلان، فالحق به، فلحقت به وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت عند رجل كان - والله – على هدي أصحابه، وقد اكتسبت وأنا عنده بقرات وغنيمة .ثم ما لبث أنْ نزل به ما نزل بأصحابه من أمر الله، فلما حضرته الوفاة قلت له: إنك تعلم من أمري ما تعلم فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني أنْ أفعل؟ فقال: يا بني - والله – ما أعلم أنّ هناك أحداً من الناس بقي على ظهر الأرض مستمسكاً بما كنا عليه، ولكنه قد أظل زمان (دنا واقترب) يخرج فيه بأرض العرب نبي يُبعث بدين ابراهيم ثم يهاجر من أرضه إلى أرضٍ ذات نخل بين حرتين (أرض ذات حجارة سود نخرة) وله علامات لا تخفى. فهو يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة فان استطعت أنْ تلحق بتلك البلاد فافعل. ثم وافاه الأجل فمكثت بعده بعمورية زمناً إلى أنْ مر بها نفر من تجار العرب من قبيلة (كلب)، فقلت لهم: إنْ حملتموني معكم إلى أرض العرب أعطيتكم بقراتي هذه وغنيمتي، فقالوا :نعم نحملك، فأعطيتهم اياها وحملوني معهم حتى إذا بلغنا وادي القرى (وادٍ بين المدينة والشام) غدروا بي وباعوني لرجل من اليهود، فالتحقت بخدمته، ثم ما لبث أنْ زاره ابن عم له من بني قريظة، فاشتراني منه ونقلني معه إلى يثرب، فرأيت النخل الذى ذكره لي صاحبي بعمورية، وعرفت المدينة بالوصف الذي نعتها به، فأقمت بها معه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ يدعو قومه في مكة، لكنني لم أسمع له بذكر لانشغالي بما يوجبه عليّ الرق. ثم ما لبث أنْ هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب، فوالله إني لفي رأس نخلة لسيدي أعمل فيها بعض العمل، وسيدي جالس تحتها إذ أقبل عليه ابن عم له، وقال له :قاتل الله بني قَيلة وهم الأوس والخزرج، والله إنهم الآن لمجتمعون بقُباء على رجل قدم عليهم اليوم من مكة يزعم أنه نبي. فما إنْ سمعت مقالته حتى مسني ما يشبه الحمى واضطربت اضطراباً شديداً حتى خشيت أنْ أسقط على سيدي، وبادرت إلى النزول عن النخلة، وجعلت أقول للرجل :ماذا تقول؟ أعد إليّ الخبر، فغضب سيدي ولكمني لكمة شديدة وقال لي: ما لك ولهذا؟! عد إلى ما كنت فيه من عملك. ولما كان المساء أخذتُ شيئاً من تمرٍ كنت جمعته وتوجهت به إلى حيث ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليه وقلت له :إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم، ثم قربته إليه، فقال لأصحابه :كلوا، وأمسك يده فلم يأكل .فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت. وأخذت أجمع بعض التمر، فلما تحول الرسول صلى الله عليه وسلم من قُباء إلى المدينة جئته فقلت له :إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل منها وأمر أصحابه فأكلوا معه .فقلت في نفسي: هذه الثانية، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد (مكان في المدينة جُعل مدفناً) حيث كان يواري أحد أصحابه، فرأيته جالساً وعليه شملتان، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره لعلي أرى الخاتم الذى وصفه لي صاحبي في عمورية، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم أنظر إلى ظهره عرف غرضي فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت فرأيت الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خبرك؟ فقصصت عليه قصتي، فأعجب بها، وسره أنْ يسمعها أصحابه مني، فأسمعتهم اياها فعجبوا منها أشد العَجَب، وسُروا بها أعظم السرور. فسلامٌ على سلمان الفارسي يوم قام يبحث عن الحق في كل مكان، وسلامٌ على سلمان الفارسي يوم عرف الحق فآمن به أوثق الايمان، وسلامٌ عليه يوم مات ويوم يبعث حياً. أيها الأخوة الكرام لسيدنا سلمان الفارسي قصص طويلة جداً، لكن هذه بدايتها، فنحن لا نقول لكم: اذهبوا إلى الموصل، أو إلى نصيبين، ولا إلى عمورية لتبحثوا عن الحقيقة، بل الزموا الحق الذي وصلكم بفضل من الله دون تعب أو مشاق، الزموا دعوة الحق، دعوة الخلافة التي يدعو لها حزب التحرير. الزموا جلسات العلم وحلقات الذكر، الزموا الطاعة وأخلصوا العبادة، وكما وصلكم هذا الخير فعليكم أن تحملوه إلى غيركم من أقارب وأصدقاء، جيران وزملاء. يقول صلى الله عليه وسلم: "فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ". هذه قصة سيدنا سلمان الفارسي، في البحث عن الحقيقة، فكل ظروفه كانت تحول بينه وبين الهدى، ومع ذلك تجاوز كل العقبات، ووصل إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام، وهذه القصة، يجب أن تكون نبراساً لنا في حياتنا، فبعد الوصول للحقيقة وبعد ادراكها، نسعد إلى الأبد ونُرضي الواحدَ الأحد، وإنْ غابت عنا الحقيقة، فما وصلنا إلى شيء، وما فُزنا بشيء، وكان الخسار والبوار، والعياذ بالله. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم أعنا على حمل هذا الخير للناس، اللهم عجل لنا بالفرج والتمكين، خلافة على منهاج النبوة، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.
  4. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين. سعيـد بن عـامر الجمحي (رضي الله عنه) صحابي قال عنه المؤرخون: رجل اشترى الآخرة بالدنيـا وآثر الله ورسوله على ما سـواهما. كان الفتى سعيد بن عامر الجمحي واحداً من الآلاف المؤلفة الذين خرجوا إلى منطقة التنعيم في ظاهر مكة بدعوة من زعماء قريش ليشهدوا مصرع خبيب بن عدي أحد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن ظفروا به غدراً ، فقد شارك في سرية المنذر بن عمرو التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجد ليُعلموهم القرآن، فأُحيط بهم، وقُتل معظمهم، ووقع خبيب في الأسر، فباعوه إلى أناس من مكة، فأخذه أبو سروعة عقبة بن الحارث ليقتُله بأبيه الذي قُتل في بدر على يد خبيب. وقف الفتى سعيد بن عامر الجمحي بقامته الممدودة يطل على خبيب وهو يقدم إلى خشبة الصلب، وسمع صوته الثابت الهادئ من خلال صياح النسوة و الصبيان، وهو يقول :إن شئتم أن تتركوني أركع ركعتين قبل مصرعي فافعلوا، فقالوا: لك ذلك، ثم رآه يقبل على زعماء القوم و يقول :والله لولا أن تظنوا أني أطلت الصلاة جزعاَ من الموت لاستكثرت من الصلاة !! ثم أبصر سعيد بن عامر خبيباً يرفع بصره إلى السماء من فوق خشبة الصلب ويقول : اللهم أحصهم عدداً و اقتلهم بدداً و لا تغادر منهم أحداً، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة و به ما لم يستطع إحصاءه من ضربات السيوف و طعنات الرماح. وقد كان لهذا الدّعاء أثرٌ على من حضر قتله. عادت قريش إلى مكة و نسيت في زحمة الأحداث الجسام خبيباً و مصرعه، لكن الفتى اليافع سعيد بن عامر الجمحي لم يغب خبيب عن خاطره لحظة لأنّ خبيباً علَّم سعيداً ما لم يكن يعلم من قبل ، علمه أنّ الحياة الحقة عقيدة و جهاد في سبيل الله حتى الموت. وعلمه أيضا أن الإيمان الراسخ يفعل الأعاجيب و يصنع المعجزات ، وعلمه أمراَ آخر هو أنّ الرجل الذي يحبه أصحابه كل هذا الحب إنما هو نبي مؤيد من السماء، عند ذلك شرح الله صدر سعيد بن عامر إلى الإسلام. هاجر سعيد بن عامر إلى المدينة و لزم رسول الله صلوات الله عليه، وشهد معه خيبر وما بعدها من الغزوات، و لما انتقل النبي الكريم إلى جوار ربه وهو راضٍ عنه ظل من بعده سيفاً مسلولاً في أيدي خليفتيه أبي بكر وعمر، وعاش مثلاً فريداً فذاً للمؤمن الذي اشترى الآخرة بالدنيا ، وآثر مرضاة الله وثوابه على سائر رغبات النفس وشهوات الجسد ، وكان خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفان لسعيد بن عامر صدقه وتقواه، ويستمعان إلى نصحه ويصغيان إلى قوله ، فقد جاء سعيد بن عامر سيّدنا عمر بن الخطّاب في أوّل ولايته وخلافته للمسلمين بعد أبي بكر ناصحًا: ” يا عُمر، أوصيكَ أن تخشى الله في النّاس، ولا تخشى النّاس في الله، وألّا يخالف قولك فعلك، فإنّ خير القول ما صدّقه العمل"، فطلب منه عمر بن الخطّاب ولاية حمص، فكرِه سعيد ذلك، فغضب عمر أنّهم ولّوه الخلافة ويريدون التخلّي عنه فيها. فألحّ عليه حتّى ولّاه عليها. وقال: ألا نفرض لك رزقاً؟ قال :وما أفعل به يا أمير المؤمنين ؟! فإنّ عطائي من بيت المال يزيد عن حاجتي ، ثم مضى إلى حمص، وما هو إلا قليل حتى وفد على أمير المؤمنين بعض من يثق بهم من اهل حمص، فقال لهم : اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسد حاجتهم ، فرفعوا كتاباً فإذا فيه :فلان وفلان وسعيد بن عامر ، فقال: ومن سعيد بن عامر ؟! فقالوا :أميرنا ! قال : أميركم فقير؟! قالوا :نعم و والله إنه ليمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار، فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته. لم يمض على ذلك طويل وقت حتى أتى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ديار الشام يتفقد أحوالها فلما نزل بحمص لقيه أهلها للسلام عليه فقال : كيف وجدتم أميركم ؟ فشكوه إليه وذكروا أربعاً من أفعاله ، كل واحد منها أعظم من الآخر . قال عمر :فجمعت بينه وبينهم ، ودعوت الله ألا يُخيب ظني فيه ، فقد كنت عظيم الثقة به، فلما أصبحوا عندي هم وأميرهم ، قلت : ما تشكون من أميركم ؟ قالوا :لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار ، فقلت :وما تقول في ذلك يا سعيد ؟ فسكت قليلاً ، ثم قال : والله إني كنت أكره أن أقول ذلك ، أما وإنه لا بد منه ، فإنه ليس لأهلي خادم ، فأقوم في كل صباح فأعجن لهم عجينهم ، ثم أتريث قليلا حتى يختمر، ثم أخبزه لهم ، ثم أتوضأ وأخرج للناس . قال عمر :وما تشكون منه أيضاً ؟ قالوا:إنه لا يجيب أحداً بليل ، قلت :وما تقول في ذلك يا سعيد ؟ قال :إني والله كنت أكره أن أعلن هذا أيضاً، فأنا قد جعلت النهار لهم والليل لله عز وجل .قلت :وما تشكون منه أيضا؟ قالوا :إنه لا يخرج إلينا يوماً في الشهر ، قلت :وما هذا يا سعيد ؟ قال : ليس لي خادم يا أمير المؤمنين ، وليس عندي ثياب غير التي علي ، فأنا أغسلها في الشهر مرة وأنتظرها حتى تجف ، ثم أخرج عليهم في آخر النهار. ثم قلت :وما تشكون منه ايضا؟ قالوا :تصيبه من حين إلى آخر غشية فيغيب عمن في مجلسه . فقلت :وما هذا يا سعيد ؟! فقال :شهدت مصرع خبيب بن عدي وأنا مشرك ، ورأيت قريش تقطع جسده وهي تقول :أتحب أن يكون محمد مكانك ؟ فيقول : والله ما أحب أن أكون آمنا في أهلي وولدي ، وأنّ محمداً تشوكه شوكة ، وإني والله ما ذكرت ذلك اليوم وكيف أني تركت نصرته إلا ظننت أنّ الله لا يغفر لي، وأصابتني تلك الغشية. عند ذلك قال عمر :الحمد لله الذي لم يخيب ظني به ، وقال له: خذ هذه الألف دينار فتقوَّ بها. قال: لا حاجة لي فيها، أعط من هو أحوج إليها مني. فقال عمر: على رسلك حتى أحدثك ما قال رسول الله، ثم إن شئت فاقبل وإن شئت فدع: إنّ رسول الله عرض عليَّ شيئًا فقلت مثل الذي قلت، فقال رسول الله: "من أعطي شيئًا من غير سؤال ولا استشراف نفس، فإنه رزق من الله فليقبله ولا يرده". فقال الرجل: أسمعت هذا من رسول الله؟ قال: نعم. فقبله الرجل ثم أتى امرأته فقال: إن أمير المؤمنين أعطانا هذه الألف دينار، فقالت: الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك ، اشتر لنا مؤنة واستأجر لنا خادماً، فقال لها :وهل لك فيما هو خير من ذلك؟ قالت :وما ذاك؟! قال :ندفعها إلى من يأتينا بها ، ونحن أحوج ما نكون إليها. قالت: وما ذاك؟! قال :نقرضها الله قرضاً حسناً. قالت :نعم وجزيت خيراً. فما غادر مجلسه الذي هو فيه حتى جعل الدنانير في صرر، وقال لواحد من أهله :انطلق بها إلى أرملة فلان، وإلى أيتام فلان، وإلى مساكين فلان. رضي الله عن سعيد بن عامر الجمحي فقد كان من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
  5. بـلال بـن ربــاح (رضي الله عنه) مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال بن رباح سيرة من أروع سير النضال في سبيل العقيدة ... وقصة لا يمل الزمان من ترديدها ... ولا تشبع الآذان من سحر نشيدها. يقال: إنه حبشي، وقيل: من مولدي الحجاز. ولد بلال في "السراة" قبل الهجرة بنحو ثلاث وأربعين سنة لأب كان يدعى "رباحاً"، أما أمه فكانت تدعى "حمامة "وهي أمهٌ سوداء من إماء مكة ... لذا كان بعض الناس ينادونه بـ ابن السوداء. نشأ بلال في مكة المكرمة، وكان مملوكاً لأيتام من "بني عبد الدار" أوصى بهم أبوهم إلى أمية بن خلف أحد رؤوس الكفر، ولما أشرقت مكـة بأنوار الدين الجديد.... وهتف الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بكلمة التوحيد ...كـان بلال من السـابقين الأولين الى الإسلام فقد أسلم ولم يكن على ظهر الأرض من مسلم إلا هو وبضعة نفر من السابقين الأولين على رأسهم: خديجة بنت خويلد أم المـــؤمنين، وأبو بكر وعلي وعمار بن ياسر وأمه سمية وصهيب الرومي والمقداد بن الأسود. حيث أنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبَا بَكْرٍ اعْتَزَلا فِي غَارٍ، فَبَيْنَمَا هُمَا كَذَلِكَ، مَرَّ بِهِمَا بِلالاً وَهُوَ فِي غَنَمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، وَبِلالُ مَوْلِدُ مِنْ مَوْلِدِي مَكَّةَ ، قَالَ : وَكَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ بِمَكَّةَ مِائَةُ مَمْلُوكٍ مُوَلَّدُ ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهِمْ ، فَأُخْرِجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلا بِلالاً ، يَرْعَى عَلَيْهِ غَنَمَهُ تِلْكَ ، فَأَطْلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنْ ذَلِكَ الْغَارِ ، فَقَالَ : " يَا رَاعِي ، هَلْ مِنْ لَبَنٍ " ، فَقَالَ بِلالٌ : مَا لِي إِلا شَاةٌ مِنْهَا قُوتِي ، فَإِنْ شِئْتُمَا آثَرْتُكُمَا بِلَبَنِهَا الْيَوْمَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ائْتِ بِهَا " ، فَجَاءَ بِهَا ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَعْبِهِ (وهو قدح ضخم)، فَاعْتَقَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَحَلَبَ فِي الْقَعْبِ حَتَّى مَلأَهُ ، فَشَرِبَ حَتَّى رُوِيَ ، ثُمَّ حَلَبَ ، فَسَقَى أَبَا بَكْرٍ ، ثُمَّ احْتَلَبَ حَتَّى مَلأَهُ ، فَسَقَى بِلالا حَتَّى رُوِيَ ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا ، وَهِيَ أَحْفَلُ مَا كَانَتْ ، ثُمَّ قَالَ : " يَا غُلامُ ، هَلْ لَكَ فِي الإِسْلامِ ؟ " فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، وَقَالَ : " أكْتُمْ إِسْلامَكَ " ، فَفَعَلَ ، وَانْصَرَفَ بِغَنَمِهِ ، وَبَاتَ بِهَا ، وَقَدْ أُضْعِفَ لَبَنُهَا (أي تضاعف)، فَقَالَ لَهُ أَهْلُهُ : لَقَدْ رَعَيْتَ مَرْعًى طَيِّبًا ، فَعَلَيْكَ بِهِ ، فَعَادَ إِلَيْهِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ يَسْقِيهِمَا وَيَتَعَلَّمُ الإِسْلامَ ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، فَمَرَّ أَبُو جَهْلٍ بِأَهْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدعَانَ ، فَقَالَ : إِنِّي أَرَى غَنَمَكُمْ قَدْ نَمَتْ وَكَثُرَ لَبَنُهَا ، فَقَالُوا : قَدْ كَثُرَ لَبَنُهَا مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ، وَمَا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهَا ، فَقَالَ : عَبْدُكُمْ وَرَبُّ الْكَعْبَةِ يَعْرِفُ مَكَانَ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ ، فَامْنَعُوهُ أَنْ يَرْعَى ذَلِكَ الْمَرْعَى ، فَمَنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ المرعى ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ ، فَاخْتَفَى فِي دَارٍ عِنْدَ الْمَرْوَةِ ، وَأَقَامَ بِلالٌ عَلَى إِسْلامِهِ ، فَدَخَلَ يَوْمًا الْكَعْبَةَ ، وَقُرَيْشٌ فِي ظَهْرِهَا لا تَعْلَمُ ، فَالْتَفَتَ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا أَتَى الأَصْنَامَ ، فَجَعَلَ يَبْصُقُ عَلَيْهَا ، وَيَقُولُ : خَابَ وَخَسِرَ مَنْ عَبَدَكُنَّ ، فَطَلَبَتْهُ قُرَيْشٌ ، وَهَرَبَ حَتَّى دَخَلَ دَارَ سَيِّدِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ ، فَاخْتَفَى فِيهَا ، وَنَادَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ ، فَخَرَجَ ، فَقَالُوا : أَصَبَوْتَ ؟ قَالَ: وَمِثْلِي يُقَالُ لَهُ هَذَا؟ فَعَلَيَّ نَحْرُ مِائَةِ نَاقَةٍ لِلاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالُوا: إِنَّ أَسْوَدَكَ صَنَعَ كَذَا وَكَذَا، فقاموا بتعذيبه أشد العذاب. وقد لقي بلال من أذى المشركين ما لم يلقه سواه، فلقد كان لأبو بكر وعلي عصبية تمنعهما وقوم يحمونهما، أما اولئك المستضعفين من الأرقاء والإماء فقد نكلت بهم قريش أشد التنكيل، منهم من قُتل ومنهم من أطالت قريش تعذيبهم وعلى رأسهم بلال بن رباح. فقد كانوا إذا توسطت الشمس كبد السماء والتهبت رمال مكة بحرارة الشمس، ينزعون عنهم ثيابهم ويلبسونهم دروعاً من الحديد ويصهرونهم بأشعة الشمس المتقدة، ويلهبون ظهورهم بالسياط ويأمرونهم أن يسبوا محمدا، فكانوا إذا اشتد عليهم العذاب يستجيبون لهم ولكن قلوبهم معلقه بالله ورسوله، إلا بلالا رضي الله عنه وأرضاه فقد كانت نفسه تهون عليه في الله عز وجل. كان الذى يتولى تعذيبه أمية بن خلف وزبانيته، وكانوا يلهبون ظهره بالسياط فيقول: أحــدٌ أحــدٌ، ويطبقون على ظهره الصخور فيقول: أحــدٌ أحــدٌ، ويشتدون عليه في النكال فيهــتف: أحـــدٌ أحــــدٌ، كانوا يأمرونه بأن يذكر اللات والعزى فيذكر الله ورسوله. يقولون له: قل كما نقول، فيقول: إنّ لساني لا يحسنه، وكان الطاغية الجبار أمية بن خلف يطوق عنقه بحبل ويسلمه إلى السفهاء والأطفال ليطوفوا به شعاب مكة، فكان بلالا رضي الله عنه يستعــذب العذاب في سبيل الله ورسوله ويردد على الدوام نشيده العلوي ... أحــدٌ أحــدٌ... فلا يمل من ترداده ولا يشبع من إنشاده. وقد عرض أبو بكر على أمية بن خلف أن يشتريه فأغلى في الثمن وهو يظن أنه لن يشتريه، فاشتراه منه بتسع أواقٍ من الذهب، وبعد أن تمت الصفقة قال أمية :لو أبيت أخذه إلا بأوقية لبعته، قال له الصديق :لو أبيت بيعه إلا بمائه لاشتريته. وعندما أذن الله لرسوله بالهجرة إلى المدينة هاجر بلال في جملة من هاجر ونزل هو والصديق وعامر بن فهر في بيت واحد فأصيبوا بالحمى جميعا وقد صبر بلال على هذا الابتلاء أيضاً. واستقر بلال في يثرب بعيدا عن أذى قريش وتفرغ لنبيه وحبيبه محمد صلوات الله وسلامه عليه، حتى أصبح ألزم له من ظله، ولما شيد الرسول صلى الله عليه وسلم مسجده في المدينة وشرع الأذان ...كان بلال أول مؤذن في الإسلام. حيث كان إذا فرغ من الأذان وقف عند باب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول حي على الصلاة، حي على الفـلاح، فإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجرته ورآه بلال مقبلاً ابتدأ الإقامة. وقد أهدى النجاشي ملك الحبشة الرسول الأعظم ثلاثة رماح من نفائس ما يقتنيه الملوك فاحتفظ بواحد لنفسه وأعطى واحدا لعلي بن أبي طالب وواحدا لعمر بن الخطاب ثم اختص برمحه بلالا، فجعل بلال يسعى به بين يديه أيام حياته كلها فكان يحمله في العيدين وفي صلوات الاستسقاء ويركزه أمامه إن أقيمت الصلاة خارج المسجد. وقد شهد بلال مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدرا، ووجد أبا جهل وأمية بن خلف صريعين تنوشهما سيوف المسلمين. لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا على رأس كتيبته الخضراء كان معه داعـــي الســماء ... بــلال بن ربـــاح، وحين دخل الكعبة كان في صحبته ثلاثة رجال هم :عثمان بن طلحه حامل مفاتيح الكعبة، وأسامه بن زيد حب رسول الله وابن حبه، وبلال بن رباح مؤذن رسول الله، ولما حانت صلاة الظهر كانت الألوف المؤلفة تحيط بالرسول صلوات الله وسلامه عليه، عند ذلك دعا الرسول بلال بن رباح وأمره أن يصعد على ظهر الكعبة ويعلن من فوقها كلمة التـــوحيــد، فصدع بلال بالأمر وأرسل صوته الجهير بالأذان، وكانت قريش تشهد ذلك المشهد العظيم، مشهد عز الإسلام والمسلمين، فما إن وصل بلال في الأذان إلى قوله : أشهــد أنّ محــمداً رســول الله قالت جويريه بنت أبي جهل: لعمري لقد رفع الله لك ذكرك، أما الصلاة فنصلي، وإنا والله لا نحب من قتل الأحبة أبدا، فكان أبوها ممن قتلوا في بدر، وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يشهد هذا اليوم، وكان أبوه قد مات قبل الفتح بيوم، وقال الحارث بن هشام: واثكــلاه ليتني مت قبل أن أرى بلالا فوق الكعبة، وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الخطب الجلل أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بنية أبي طلحة، وكان معهم أبو سفيان بن حرب فقال :أما أنا فلا أقول شيئا، فإني لو فهت بكلمه لنقلتها هذه الحصاة إلى محمد بن عبدالله. ظل بلال يؤذن للرسول صلى الله عليه وسلم طيلة حياته وظل الرسول صلى الله عليه وسلم يأنس لذلك الصوت الذي عُذب في الله أشد العذاب وهو يردد أحــدٌ أحــدٌ، ولما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وحان وقت الصلاة، قام بلال يؤذن في الناس والنبي الكريم مسجى لم يدفن بعد، فلما وصل إلى قوله أشــهد أنّ محـــمداً رســول الله، خنقته العبرات واحتبس صوته في حلقه واجهش المسلمون في البكاء وأغرقوا في النحيب، ثم أذن بعد ذلك ثلاثة أيام فما إن وصل إلى أشــهد أنّ محـــمداً رســول الله بكى وأبكى ...عند ذلك طلب من أبي بكر أن يعفيه من الأذان بعد أن عاد لا يحتمله واستأذنه في الخروج إلى الجهاد في سبيل الله والمرابطة في بلاد الشام، فتردد الصديق، فقال له بلال :إن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني وإن كنت اعتقتني لله فخلني لمن اعتقتني له، فقال أبو بكر والله ما اشتريتك إلا لله وما أعتقتك إلا في سبيله، فقال بلال :إني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر : لك ذلك. رحل بلال عن المدينة مع أول بعث من بعوث المسلمين وأقام في "داريا" بالقرب من دمشق، وظل ممسكاً عن الأذان حتى قدم عمر بن الخطاب بلاد الشام فلقي بلالاً رضوان الله عليه بعد غياب طويل، وكان عمر شديد الشوق إليه عظيم الإجلال له حتى أنه إذا ذكر الصديق أمامه يقول: "إنّ أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا "يعني بلالاً. ثم إنّ بلالاً رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني؟ فانتبه حزيناً، وركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل يبكي عنده، ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له: يا بلال، نشتهي أن نسمع أذانك. ففعل، وعلا السطح، ووقف، فلما قال: الله أكبر، الله أكبر، ارتجت المدينة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ازدادت رجتها، فلما قال: أشهد أنّ محمدا رسول الله، خرجت العواتق من خدورهن، وقالوا: بُعث رسول الله، فما رُئي يوم أكثر باكيا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك اليوم. ثم عاد إلى دمشق حتى وافاه الأجل المحتوم في داريا، فكانت امرأته تعول إلى جانبه في مرض الموت وتصيح قائلة: واحـــزناه، وكان هو يفتح عينيه في كل مرة ويجيبها قائلاً: وافـــرحــــاه، ثم لفظ انفاسه الأخيرة وهو يردد: غــداً نلقى الأحبــة .... محمداً وصحبــه غـــداً نلقـى الأحبــة .... محمــداً وصحــبه حدثنا ابن بريدة سمعت أبي يقول: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا بلالاً، فقال: بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، إني دخلت الجنة البارحة، فسمعت خشخشتك أمامي، وأتيت على قصر من ذهب، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لعمر. فقال بلال: ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث إلا توضأت، ورأيت أنّ لله علي ركعتين أركعهما، فقال: بها. عن أنس أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : السُباق أربعة: أنا سابق العرب، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة، وصهيب سابق الروم. عَنْ اِبْن مَسْعُود، قَالَ: مَرَّ الْمَلَأ مِنْ قُرَيْش بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْده خُصَيْف وَعَمَّار وَبِلَال وَخَبَّاب وَنَحْوهمْ مِنْ ضُعَفَاء الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد أَرَضِيت بِهَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمك، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَنَّ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْننَا، أَنَحْنُ نَكُون تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ؟ اُطْرُدْهُمْ عَنْك، فَلَعَلَّك إِنْ طَرَدْتهمْ أَنْ نَتَّبِعَك! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة " وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ". من مواقف سيدنا بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: روى البخاري بسنده، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: سرنا مع النبي ليلة، فقال بعض القوم: لو عَرَّسْتَ بنا يا رسول الله. قال: "أخاف أن تناموا عن الصلاة". قال بلال: أنا أوقظكم، فاضطجعوا. وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي وقد طلع حاجب الشمس، فقال: "يا بلال، أين ما قلت؟" قال: ما ألقيت عليَّ نومة مثلها قطُّ. قال: "إنّ الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء، يا بلال، قُمْ فأذن بالناس بالصلاة". وعن أبي سعيد الخدري، عن بلال قال: قال رسول الله: "يا بلال، إلقَ الله فقيرًا ولا تلقه غنيًّا". قال: قلت: وكيف لي بذلك يا رسول الله؟ قال: "إذا رزقت فلا تخبأ، وإذا سئلت فلا تمنع". قال: قلت: وكيف لي بذلك يا رسول الله؟ قال: "هو ذاك وإلا فالنار". ومن أقوال سيدنا بلال أنه كان يقول عن نفسه تواضعًا: "إنما أنا حبشي، كنت بالأمس عبدًا". وعن هند امرأة بلال قالت: كان بلال إذا أخذ مضجعه قال: "اللهم تجاوز عن سيئاتي، واعذرني بعلاتي". في الختام أيها الاخوة الكرام هؤلاء رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وصبروا كما صبر أولوا العزم من الرسل، فأثابهم الله بأن جعلهم خلفاء الأرض. ونحن في هذا الزمان ما أحوجنا أن نصبر على أذى الكفار وحربهم على لإسلام، وأن نثبت على الحق كما ثبت سيدنا بلال. اللهم إنا نسألك أن تفرج عنا همومنا وتهدينا سواء السبيل، اللهم مكن لنا في الأرض كما مكنت للذين من قبلنا وأبدلنا من بعد خوفنا أمنا، اللهم نصرك الذي وعدت... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
  6. بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد... الربيع بن الخُثيم قال عنه عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودِ: (يَا أَبَا يَزِيدَ ؛ لَوْ رَآكَ رَسُولُ اللهِ e لَأَحَبَّكَ). قال هلال بن إساف (أحد ثقات التابعين ومتقدميهم) لضيفه منذر الثوري أحد متأخري التابعين :ألا امضي بك يا منذر إلى الشيخ لعلنا نؤمن ساعة، لعلنا نتعظ فلا نشغل أنفسنا إلا بالإيمان؟ قال منذر :بلى …فو الله ما أقدمني إلى "الكوفة" إلا الرغبة في لقاء شيخك الربيع بن خثيم والحنين للعيش ساعة في رحاب ايمانه .ولكن هل استأذنت لنا عليه؟ فقد قيل لي :إنه منذ أصيب بالفالج (مرض يعرف الآن بالشلل النصفي) لزم بيته وانصرف إلى ربه وعزف (زهد) عن لقاء الناس، فقال هلال :إنه لكذلك منذ عرفته الكوفة وإن المرض لم يغير منه شيئاً، فقال منذر :لا بأس …ولكنك تعلم أن لهؤلاء الأشياخ (أي شيوخ) أمزجة (طبائع وأحوال) رقيقة، فهل ترى أن نبادر الشيخ فنسأله عما نريد؟ ام نلتزم الصمت فنسمع منه ما نريد؟ فقال هلال :لو جلست مع الربيع عاماً بأكمله فإنه لا يكلمك إذا لم تكلمه ولا يبادرك إذا لم تسأله …فهو قد جعل كلامه ذكراً، وصمته فكراً .فقال منذر : فلنمضِ إليه إذاً على بركة الله . ثم مضيا إلى الشيخ … فلما صارا عنده سلما وقالا :كيف أصبح الشيخ؟ فقال : أصبح ضعيفاً مذنباً، يأكل رزقه.. وينتظر أجلـه .فقال له هلال :لقد أمَّ (جاء) الكوفة طبيب حاذق، أفتأذن بأن أدعوه لك؟ فقال :يا هلال إني لأعلم أن الدواء حق …ولكني تأملت عاداً وثموداً وأصحاب الرس (من الأمم الخالية التي كان لها شأن) وقروناً بعد ذلك كثيراً ونظرت في حرصهم على الدنيا ورغبتهم في متاعها وقد كانوا أشد منا بأساً (قوة) وأعظم قدرة ..وقد كان فيهم أطباء وفيهم مرضى …فلا المداوي بقي ولا المداوى !ثم تنهد تنهيداً عميقاً وقال :ولو كان هذا هو الداء لتداوينا منه . فاستأذن منذر وقال :فما الداء إذاً يا سيدي الشيخ؟! فقال :الداء الذنوب.. فقال منذر :وما الدواء؟ قال : الدواء الاستغفار .فقال منذر :وكيف يكون الشفاء؟ فقال :بأن تتوب ثم لا تعود …ثم حدق فينا وقال : السرائر .. السرائر، عليكم بالسرائر اللاتي تخفى عن الناس وهن على الله تعالى بوادٍ (ظاهرة)، التمسوا دواؤهنَّ فقال منذر :وما دواؤهن؟ فقال الشيخ :التوبة النصوح (التوبة الصادقة المقترنة بالعزم على عدم العودة) ثم بكى حتى بللت دموعه لحيته، فقال له منذر :أتبكي وأنت أنت؟ (إشارة إلى ما عُرف من صلاحه وعبادته وزهادته) فقال : هيهات ..لم لا أبكِ؟ وقد أدركت قوماً نحن في جنبهم (بالنسبة إليهم) لصوص (يقصد الصحابة رضوان الله عليهم). قال هلال :وفيما نحن كذلك إذ دخل علينا ابن الشيخ فحيـّـا وقال :يا أبتِ إن أمي قد صنعت لك خبيصاً (حلوى) وجودته …وإنه ليجبر قلبها ان تأكل منه. فهل آتيك بـه؟ فقال :هاته .فلما خرج ليحضره.. طرق الباب سائل، فقال :ادخلوه. فلما صار في صحن الدار (باحتها) نظرتُ إليه، فإذا هو رجل كهل ممزق الثياب قد سال لعابه على ذقنه، وبدا من ملامح وجهه انه معتوه، فما كدت أرفع بصري عنه حتى أقبل إبن الشيخ بصحفة الخبيص (وهو وعاء منبسط يشبع الخمسة)، فأشار إليه أبوه :أن ضعها بين يدي السائل .فوضعها بين يديه.. فأقبل عليها الرجل، وجعل يلتهم ما فيها التهاماً ولعابه يسيل فوقها… فما زال يأكل حتى أتى على ما في الصحفة كله .فقال له ابنه :رحمك الله يا أبت لقد تكلفت أمي وصنعت لك هذا الخبيص .. وكنا نشتهي أن تأكل منه فأطعمته لهذا الرجل الذي لا يدري ماذا أكل فقال يا بني : إذا كان هو لا يدري، فإن الله يدري، ثم تلا قوله عز وجل ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ سورة آل عمران. وفيما هو كذلك إذ دخل عليه رجل من ذوي قرباه وقال :يا أبا يزيد، قتل الحسين بن فاطمة عليه وعلى أمه السلام، فقال :إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم تلا قوله تعالى ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ سورة الزمر. لكن الرجل لم يشفه كلام الشيخ، فقال له :ماذا تقول في قتله؟ فقال : أقول إلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم .قال هلال : ثم إني رأيت وقت الظهر قد اقترب فقلت للشيخ: اوصني . فقال :لا يغرنك يا هلال كثرة ثناء الناس عليك، فإن الناس لا يعلمون منك إلا ظاهرك …واعلم انك صائرٌ إلى عملك …وإن كل عملٍ لا يبتغى به وجه الله يضمحل (يتلاشى)، فقال منذر :وأوصني أنا أيضا جزيت خيراً ..فقال :يا منذر. اتق الله فيما علمت… وما أستؤثر عليك بعلمه فكِلهُ إلى عالمه ..يا منذر، لا يقل أحدكم :اللهم إني أتوب إليك ثم لا يتوب فتكون كذبة …ولكن ليقل :اللهم تب عليَّ فيكون دعاء .واعلم يا منذر أنه لا خير في كلامٍ إلا في تهليل الله (قول لا إله إلا الله ..وتحميد الله …وتكبير الله …وتسبيح الله) وسؤالك من الخير …وتعوذك من الشر …وأمرك بالمعروف …ونهيك عن المنكر …وقراءة القرآن... فقال له منذر :لقد جالسناك فما سمعناك تتمثل بالشعر، وقد رأينا بعض أصحابك يتمثلون به، فقال :ما من شيء تقوله هنا (في الدنيا) إلا كتب وقرئ عليه هناك (في الآخرة)… وأنا أكره ان أجد في كتابي بيت شعر يقرأ علي يوم يقوم الحساب .ثم التفت إلينا جميعا وقال :أكثروا من ذكر الموت فهو غائبكم المرتقب …وإن الغائب إذا طالت غيبته أوشكت أوبته (قربت عودتُه) وترقبه ذووه .ثم استعبر (بكى وسالت عبراته) وقال :ماذا نصنع غداً ﴿إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ﴾ سورة الفجر، قال هلال :وما كاد الربيع ينتهي من كلامه حتى أذن للظهر، فأقبل على ابنه وقال :هيا نجب داعي الله ..فقال لنا ابنه :أعينوني على حمله إلى المسجد جزيتم خيراً .فرفعناه فوضع يداه على كتف ابنه ويسراه على كتفي وجعل يتهادى (أي يمشي بين اثنين ويعتمد عليهما في مشيه) بيننا ورجلاه تخطان على الأرض خطاً .فقال له المنذر :يا أبا يزيد، لقد رخص الله لك فلو صليت في بيتك !فقال :انه كما تقول …ولكني سمعت المنادي يقول حي على الفلاح… حي على الفلاح (أقبلوا على الفوز والنجاة) فمن سمع منكم المنادي يدعوه إلى الفلاح ..فليجبه ولو حبواً (زحفاً على اليدين والبطن). وبعدُ … فمن الربيع بن خُثيم هذا؟! إنَّه علمٌ من أعلام التابعين… وأحد الثمانية الذين انتهى إليهم الزهد في عصرهم. عربي الأصل… مُضري الأرومة (أي إن أصله ينتهي إلى مضر أحد أجداد رسول الله e) يلتقي مع رسول الله e في جدَّيه إلياس ومُضر. نشأ منذ نعومة أظفاره في طاعة الله… وفطم نفسه منذ حداثتها على تقواه…كانت أمه تنام في الليل ثم تصحو فتجد ابنها اليافع مازال صافاً في محرابه…ســابحــاً في منـــاجاتــه…مُستغرقاً في صـــلاته…فتناديه وتقول: يا بني-يا ربيع-ألا تنام؟ فيقول: كيف يستطيع النوم من جنَّ عليه الليل (غشاه الليل وأظلم عليه) وهو يخشى البيات؟ (هجومُ الخصوم). فتتحدَّر الدموع على خدَّي أمه العجوز وتدعو له بالخير. ولمَّا شبَّ الربيع ونما، شبَّ معه ورعه ونمت بنموه خشيته من الله… ولقد أرَّق أمه كثرة تضرعه وشدة نحيبه في عتمات الليل، والناس نيام حتى ظنَّت به الظنون… فصارت تناديه قائله: ما الذي أصابك يا بني؟ لعلك أتيت جُرماً… لعلك قتلت نفساً… فقال: نعم يا أماه، لقد قتلت نفساً… فقالت في لهفة: ومن هذا القتيل-يا بني-حتى نجعل الناس يسعون إلى أهله لعلهم يعفون عنك؟ والله لو علم أهل القتيل ما تعاني من البكاء وما تكابد من السهر لرحموك. فقال: لا تُكلمي أحداً. فإنما قتلت نفسي…لقد قتلتها بالذنوب… ولقد تتلمذ الربيع بن خُثيم على يد عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله e أقرب الصحابة هدياً وسمتاً (هيئة) من النبي e. وقد تعلّق الربيع بأستاذه تعلُّق الوليد بأمه… وأحب الأستاذ تلميذه حب الأب لِوحيده… فكان الربيع يدخل على ابن مسعود من غير إذن، فإذا صار عنده لم يؤذن لأحد بالدخول عليه حتى يخرج الربيع. وكان ابن مسعود يرى من صفاء نفس الربيع، وإخلاص قلبه وإحسان عبادته ما يملأ فؤاده أسى على تأخر زمانه عن النبي e، وحرمانه من صحبته… وكان يقول له: يا أبا يزيد لو رآك رسول الله e لأحبك. كما يقول له: ما رأيتك مرةً إلا ذكرت المخبتين (الخاشعين)... ولم يكن عبد الله بن مسعود مغالياً في ذلك. فقد بلغ الربيع بن خُثيم من الخشية والورع والتقوى مبلغاً قلَّما سما إليه أحد من طبقته. وأُثرت عنه في ذلك أخبار ما تزال تزهو بها صفحات التاريخ… من ذلك ما رواه أحد أصحابه قال: صحبت الربيع عشرين سنة فما سمعته يتكلم إلا بكلمةٍ تصعدُ… وتلا قوله عز وجلّ ﴿إليه يصعدُ الكـــلِمُ الطيِّبُ والعَمَلُ الصَّالحُ يرفعُهُ﴾ سورة فاطر. وأخبر عنه عبد الرحمن بن عجلان قال: بِتُّ عند الربيع ليلةً فلمَّا أيقن أنِّي دخلت في النوم قام يصلي: فقرأ قوله جلّ وعزّ ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ سورة الجاثية، فمكث ليلته يصلي بها … يبدأُها ويعيدها حتى طلع عيه الفجر …وعيناه تسُحَّان الدموع سحَّاً… وللربيع في خوف الله وخشيته أخبار كثيرة، من ذلك ما رواه أصحابه قالوا: خرجنا يوما بصحبة عبد الله بن مسعود ومعنا الربيع، فلما صرنا على شاطئ الفرات مررنا بأتون (موقد تحرق فيه الحجارة حتى تصير كلساً) كبير قد سُعرت ناره، فتطاير شررها، وتصاعدت ألسنة لهبها، وسمع زفيرها… وقد أُلقيت في الأتون الحجارة لتحترق حتى تصبح كلساً. فلما رأى الربيع النار توقف في مكانه، وعرته (أصابته) رعدة شديدة… وتلا قوله تعالى ﴿إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ سورة الفرقان، ثم سقط مغشياً عليه، فرابطنا معه حتى أفاق من غشيته ومضينا به إلى بيته. وبعد… فقد ظل الربيع حياته كلها يترقب الموت ويستعد للقائه. فلما احتضر جعلت ابنته تبكي فقال: ما يبكيك يا بُنية وقد أقبل على أبيك الخير؟ ثم أسلم روحه إلى بارئها… و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
  7. بسم الله الرحمن الرحيم ..والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين.. سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد : من يحب أن يعرف قصة إنسان أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً وأحب والده حباً شديداً أيضاً. من يحب أن يعرف قصته المثيرة . إنه أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ. نحن الآن في السنة السابعة قبل الهجرة في مكة . ورسول الله صلوات الله وسلامه عليه يكابد من أذى قريش له ولأصحابه ما يكابد ...ويحمل من هموم الدعوة وأعبائها ما أحال حياته إلى سلسلة متواصلة من الأحزان والنوائب ..وفيما هو كذلك أشرقت في حياته بارقة سرور . فلقد جاءه البشير يبشره أن "أم أيمن" وضعت غلاماً، أضاء أساريره عليه الصلاة والسلام بالفرحة، وأشرق وجهه الكريم بالبهجة .فمن يكون هذا الغلام السعيد الذي أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل هذا السرور؟! إنه أسامة بن زيد. ولم يستغرب أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجته من المولود الجديد، وذلك لموضع أبويه منه (مكانة أبويه عنده) ومنزلتهما عنده .فأم الغلام هي "بركة الحبشية" المكناة بأم أيمن .وقد كانت مملوكة لآمنة بنت وهب أم الرسول عليه الصلاة والسلام، فربَّته في حياتها ..وحضنته بعد وفاتها.. ففتح عينيه على الدنيا وهو لا يعرف لنفسه أماً غيرها، فأحبها أعمق الحب وأصدقه، وكثيراً ما كان يقول :"هي أمي بعد أمي، وبقية أهل بيتي". هذه أم الغلام المحظوظ، أما أبوه فهو حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، وابنه بالتبني قبل الإسلام، وصاحبه وموضع سره، وأحد أهله وأحب الناس إليه بعد الإسلام. وقد فرح المسلمون بمولد أسامة بن زيد كما لم يفرحوا بمولود سواه، ذلك لأن كل ما يفرح النبي صلى الله عليه وسلم يفرحهم. وكل ما يدخل السرور على قلبه يسرهم. فأطلقوا على الغلام المحظوظ لقب : "الحِبُّ وابن الحِبِّ". ولم يكن المسلمون مبالغين حين أطلقوا هذا اللقب على الصبي الصغير أسامة، فقد أحبه الرسول صلوات الله وسلامه عليه حبًّاً تَغْبِطُهُ عليه الدنيا كلها، فقد كان أسامة مقارباً في السن لسبط الرسول (ابن ابنته) الحسن بن فاطمة الزهراء. وكان الحسن أبيض أزهر رائع الحسن شديد الشبه بجده رسول الله صلى الله عليه وسلم .وكان أسامة أسود البشرة أفطس الأنف شديد الشبه بأمه الحبشية .لكن الرسول صلوات الله عليه ما كان يفرق بينهما في الحب، فكان يأخذ أسامة فيضعه على إحدى فخذيه. ويأخذ الحسن فيضعه على فخذه الأخرى، ثم يضمهما معاً إلى صدره ويقول :"اللهم إني أحبهما فأحبهما". وقد بلغ من حب الرسول صلى الله عليه وسلم لأسامة أنه عثر ذات مرة بعتبة الباب فشُجَّت جبهته .وسال الدم من جرحه؛ فأشار النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضوان الله عليها أن تزيل الدم عن جرحه فلم تطب نفسها لذلك . فقام إليه النبي صلوات الله وسلامه عليه وجعل يمص شَجَّتَهُ، ويَمُجُّ الدم وهو يطيب خاطره بكلمات تفيض عذوبة وحناناً. وكما أحب الرسول صلوات الله عليه أسامة في صغره فقد أحبه في شبابه، فلقد أهدى حكيم بن خزام أحد سَراة (أشراف) قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة ثمينة شراها من اليمن بخمسين ديناراً ذهباً كانت (لذي يزن) أحد ملوكهم. فأبى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبل هديته لأنه كان يومئذ مشركاً، وأخذها منه بالثمن .وقد لبسها النبي الكريم مرة واحدة في يوم جمعة، ثم خلعها وأعطاها أسامة بن زيد . فكان يروح بها ويغدو بين أترابه من شبَّان المهاجرين والأنصار. ولما بلغ أسامة بن زيد أشده.. بدا عليه من كريم الشمائل وجليل الخصائل ما يجعله جديراً بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم .فقد كان ذكياً حاد الذكاء، شجاعاً خارق الشجاعة، حكيماً يضع الأمور في مواضعها .عنيفاً يأنف الدَّنايا .آلفاً مألوفاً يحبه الناس .تقياً ورعاً يحبه الله . ففي يوم أحُد، جاء أسامة بن زيد مع نفر من صبيان الصحابة يريدون الجهاد في سبيل الله فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم منهم ما أخذ ..ورد منهم من رد لصغر أعمارهم .فكان من جملة المردودين أسامة بن زيد، فتولى (فرجع) وعيناه الصغيرتان تفيضان من الدمع حزناً ألا يجاهد تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي غزوة الخندق جاء أسامة بن زيد أيضاً ومعه نفر من فتيان الصحابة .. وجعل يشدُّ قامته إلى أعلى ليجيزه (يأذن له) رسول الله، فرقَّ له النبي عليه الصلاة والسلام وأجازه، فحمل السيف جهاداً في سبيل الله وهو ابن خمس عشرة سنة. وفي يوم حنين حين انهزم المسلمون ..ثبت أسامة بن زيد مع العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي سفيان بن الحارث ابن عمه .وستة نفر آخرين من كرام الصحابة .فاستطاع الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه الفئة الصغيرة المؤمنة الباسلة أن يحول هزيمة أصحابه إلى نصر ..وأن يحمي المسلمين الفارِّين من أن يفتك بهم المشركون. وفي يوم مؤتة جاهد أسامة تحت لواء أبيه زيد بن حارثة وسنه دون الثامنة عشرة، فرأى بعينيه مصرع أبيه، فلم يهن (يضعف) ولم يتضعضع، وإنما ظل يقاتل تحت لواء جعفر بن أبي طالب. حتى صُرع على مرأى منه ومشهد ثم تحت لواء عبد الله بن رواحة حتى لحق بصاحبيه .ثم تحت لواء خالد بن الوليد حتى استنقذ الجيش الصغير من براثن الروم. ثم عاد أسامة بن زيد إلى المدينة محتسباً أباه عند الله .تاركاً جسده الطاهر على تخوم الشام .راكباً جواده الذي استشهد عليه . وفي السنة الحادية عشرة للهجرة، أمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بتجهيز جيش لغزو الروم .وجعل فيه أبا بكر، وعمر، وسعد بن أبي وقاص، وأبا عبيدة بن الجراح ..وغيرهم من جِلة الصحابة (شيوخهم). وأمّر على الجيش أسامة بن زيد ..وهو لم يجاوز العشرين بعد ...وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء و قلعة الداروم، القريبة من غزة من بلاد الروم. وفيما كان الجيش يتجهز، مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما اشتد عليه المرض توقف الجيش عن المسير انتظاراً لما تسفر عنه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أسامة :ولما ثَقُلَ على نَبِيِّ الله المَرَض، أَقْبَلْتُ عليه وأقبل الناس معي، فدخلت عليه فوجدته قد صمت فما يَتَكَلَّمُ من وطأة الداء (ثقل الداء وشدته)، يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي ..فعرفت أنه يدعو لي. ثم ما لبث أن فارق الرسول صلى الله عليه وسلم الحياة، وتمت البيعة لأبي بكر .فأمر بإنفاذ بعث أسامة .لكن فئة من الأنصار رأت أن يُؤخر البعث وطلبت من عمر بن الخطاب أن يكلم في ذلك أبا بكر وقالت له :فإن أبَى‘ إِلا المُضِيَّ ، فأبلغه عنا أن يولي أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة .وما إن سمع الصديق من عمر رسالة الأنصار .حتى وثب لها وكان جالسا وأخذ بلحية الفاروق وقال مغضباً: ثكلتك أمك وعَدِمتك يا بن الخطاب ...استعمله (ولاه) رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه ؟!! والله لا يكون ذلك .ولما رجع عمر إلى الناس ..سألوه عما صنع فقال :امضوا ثكلتكم أمهاتكم (فقدتكم أمهاتكم)، فقد لقيت ما لقيت في سبيلكم من خليفة رسول الله . ولما انطلق الجيش بقيادة قائده الشاب، شيَّعَهُ خليفة رسول الله ماشياً وأسامة راكب فقال أسامة :يا خليفة رسول الله والله لتركبن أو لأنزلن .فقال أبو بكر :والله لا تنزل ..و والله لا أركب ..وما علي أن أُغَبِّر قدميَّ في سبيل الله ساعة ؟! ثم قال لأسامة :أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك .وأوصيك بإنفاذ ما أمرك به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مال عليه وقال :إن رأيت أن تُعينني بِعُمرَ فائذن له بالبقاء معي، فأذن أسامة لعمر بالبقاء . مضى أسامة بن زيد بالجيش، وأنفذ كل ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم .فأوطأ خيل المسلمين تخوم البلقاء و قلعة الداروم من أرض فلسطين ونزع هيبة الروم من قلوب المسلمين، ومهَّد الطريق أمامهم لفتح ديار الشام ..ومصر ..والشمال الإفريقي كله حتى بحر الظلمات ..ثم عاد أسامة ممتطياً صهوة الجواد الذي استشهد عليه ابوه. حاملاً من الغنائم ما زاد عن تقدير المقدرين، حتى قيل إنه ما رُئي جيش أسلم وأغنم من جيش أسامة بن زيد. ظل أسامة بن زيد - ما امتدت بالحياة - موضع إجلال المسلمين وحبهم وفاءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم .وإجلالاً لشخصه .فقد فرض له الفاروق عطاءً (مرتباً) أكثر مما فرضه لابنه عبد الله بن عمر، فقال عبد الله لأبيه :يا أبت، فرضت لأسامة أربعة آلاف وفرضت لي ثلاثة آلاف، وما كان لأبيه من الفضل أكثر مما كان لك، وليس له من الفضل أكثر مما لي. فقال الفاروق :هيهات (لقد أبعدت كثيراً) إن أباه كان أحب إلى رسول الله من أبيك ..وكان هو أحب إلى رسول الله منك. فرضي عبد الله بن عمر بما فُرض له من عطاء .وكان عمر بن الخطاب إذا لقي أسامة بن زيد قال :مرحبا بأميري ...فإذا رأى أحداً يعجب منه قال: لقد أمَّره علي رسول الله صلى الله عليه وسلم . رحم الله هذه النفوس الكبيرة، فما عرف التاريخ أعظم ولا أكمل ولا أنبل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
  8. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربه إلى يوم الدين، أما بعد، الصحابي الذي قال "ما خُلق مؤمن يسمع بي، ولا يراني، إلا أحبني" بعد دعوة دعاها له الرسول صلى الله عليه وسلم. أبـو هـريرة الدوسي رضي الله عنه لا ريب أنك تعرف هذا النجم المتألق من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل في أمة الإسلام أحد لا يعرف أبا هريرة؟ لقد كان الناس يدعونه في الجاهلية (عبد شمس)، فلما أكرمه الله بالإسلام وشرَّفه بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: "ما اسمك؟"، فقال: عبد شمس، فقال عليه الصلاة والسلام: "بل عبد الرحمن". فقال: نعم عبد الرحمن، بأبي أنت وأمي يا رسول الله. أما كنيته بأبي هريرة فسببها أنه كانت له في طفولته هرة صغيرة يلعب بها لذلك ناداه أصحابه بـ أبي هريرة وشاع ذلك حتى غلب على اسمه، فلما اتصلت أسبابه بأسباب رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يناديه كثيرا يا "أبا هر"، إيناساً له وتحبباً فيه، فصار يؤثر أبا هر على أبا هريرة، ويقول: ناداني بها حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. أسلم على يد الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، وظل في أرض قومه دَوس إلى ما بعد الهجرة بست سنين، حيث وفد مع جموع من قومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حيث انقطع ذلك الفتى الدوسي "أبو هريرة" لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته ومرافقته، فاتخذ المسجد مقاماً، والنبي معلماً وإماماً، ولم يكن له ولد ولا زوج وإنما كانت له أم عجوز أصرت على الشرك، فكان لا ينقطع أبداً عن دعوتها للإسلام إشفاقاً عليها وبَراً بها، فتنفر منه وتصده. في يوم دعاها إلى الإسلام والإيمان بالله ورسوله، فقالت في النبي قولاً أحزنه، فذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا أبا هريرة؟!" فقال: إني كنت لا أفترْ عن دعوة أمي للإسلام فتأبى علي، إلا أني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله عز وجل أن يميل قلب أم أبي هريرة للإسلام، فدعا لها النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة: فمضيت إلى البيت، فإذا الباب قد رد وسمعت خضخضة الماء، فلما هممت بالدخول، قالت أمي: مكانك يا أبا هريرة، ثم لبست ثوبها، وقالت: أدخل، فدخلت، فقالت: أشهد أنْ لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، فعدت إلى الرسول وأنا أبكي من الفرح كما بكيت قبل ساعة من الحزن، وقلت: أبشر يا رسول الله أبشر، فقد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة إلى الاسلام، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراُ. قال قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم حبب عبيدك هذا - يعني أبا هريرة وأمه - إلى عبادك المؤمنين. وحبب إليهم المؤمنين"، فما خُلق مؤمن يسمع بي، ولا يراني، إلا أحبني. ميــراث محمد عليه الصلاة والسلام وكما أحب أبو هريرة العلم لنفسه فقد أحبه لغيره، فقد روى الطبراني أنّ أبا هريرة مر بسوق المدينة، فوقف وقال: يا أهل السوق ما أعجزكم، قالوا: وما رأيت من عجزنا يا أبا هريرة؟! قال: ذاك ميراث النبي يُقسّم وأنتم ها هنا، ألا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه، قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد فخرجوا سِراعاً، ووقف أبو هريرة ينتظر رجوعهم، فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة أتينا المسجد، فدخلنا فيه فلم نرَ شيئاً يقسّم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً؟ فقالوا: بلى، رأينا قوما يصلون وقوفاً يقرؤون القران، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم: ويحكم فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أحبَّ أبو هريرةَ الرسول صلواتُ الله عليه حُباً خالط لحمهَ ودمَه، فكان لا يشبعُ من النظر إليه ويقولُ: ما رأيتُ شيئاً أملحَ ولا أصبحَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لكَأنَّ الشمسَ تجري في وجهِه، وكان يحمدُ الله تبارك وتعالى على أنْ مَنّ عليه بِصُحبة نبيِّه واتباع دينهِ، فيقول: الحمدُ لله هدى أبا هُريرة للإسلامِ، الحمد لله الذي علمَ أبا هريرة القرآنَ، الحمد لله الذي مَنّ على أبي هريرة بصُحبةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وكما أولعَ أبو هريرةَ برسولِ الله صلوات الله وسلامه عليه، فقد أولعَ بالعِلم وجعلهُ دَيدنهُ (أي دأبه وعادته) وغاية يَتمنَّاها. حَدّثَ زيدُ بنُ ثابتٍ قال: بينما أنا وأبو هريرة وصاحبٌ لي في المسجدِ ندعو الله تعالى ونذكرُه، إذ طلعَ علينا رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأقبلَ نحونا حتى جلسَ بيننا، فسكتنا، فقال: "عُودُوا إلى ما كنتم فيه"، فدعوتُ الله أنا وصاحبي (قبلَ أبي هريرة) وجعلَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم يُؤمّن ُعلى دعائِنا، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهُم إني أسألك ما سألك صاحبايَ، وأسألك عِلماً لا يُنسى، فقال عليه الصلاة والسلام: "آمين"، فقلنا: ونحن نسألُ الله علماً لا يُنسى، فقال: "سبقكم بِها الغُلامُ الدوسيُّ". وقد عانى أبو هريرة بسببِ انصرافهِ لِلعلمِ، وانقطاعِه لمجالس رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما لم يُعانه أحدٌ من الجوعِ وخُشونة العيشِ. روَى عن نفسِه قال: إنه كان يشتدُّ بي الجوع حتى إنّي كنتُ أسألُ الرجلَ من أصحابِ رسولِ الله عن الآيةِ من القرآن (وأنا أعلمُها) كي يَصحبني معه إلى بيته؛ فيطعمني، وقد اشتدَّ بي الجوع ذات يومٍ حتى شدَدتُ على بطني حجراً، فقعدتُ في طريق الصَّحابةِ، فمرَّ بي أبو بكرٍ فسألته عن آيةٍ في كتاب الله وما سألته إلا ليدعوني، فما دعاني. ثم مرَّ بي عمرُ بنُ الخطاب فسألتهُ عن آيةٍ؛ فلم يدعُني أيضاً، حتى مرَّ بي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فعرف ما بي من الجوعِ، فقال: "أبو هريرة؟!" قلت: لبّيكَ يا رسول الله، وتبِعتهُ؛ فدخلتُ معه البيتَ فوجدَ قدَحاً فيه لبنٌ، فقال لأهلهِ: "من أينَ لكم هذا؟" قالوا: أرسلَ به فلانٌ إليك، فقال: "يا أبا هريرةِ انطلقْ إلى أهلِ الصّفّةِ فادعهم" (وهم ضيوف الله من فقراء المسلمين ممن لا أهل لهم ولا ولد ولا مال، فكانوا يجلسون على صفة في مسجد رسول الله فسُموا بأهل الصُفة)، فساءَني إرساله إيَّايَ لِدعوَتهم، وقلتُ في نفسي: ما يفعلُ هذا اللبنُ معَ أهلِ الصُفةِ؟! وكنتُ أرجو أنْ أنالَ مِنه شربة أتقوى بها، ثم أذهبَ إليهم؛ فأتيتُ أهلَ الصّفة ودعوتهُم؛ فأقبلوا، فلما جَلسوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "خذ يا أبا هريرة فأعطهِم"، فجعلتُ أعطي الرجُلَ فيشربُ حتى يَروى إلى أنْ شرِبوا جميعاً؛ فناولتُ القدحَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعَ رأسه إليّ مُبتسماً وقال: "بقيتُ أنا وأنْت". قلت: صَدقت يا رسول الله. قال: "فاشرب"، فشربتُ، ثم قال: "اشربْ"، فشربتُ، وما زال يقول: "اشَرب"، فأشربُ حتى قلت: والذي بَعثكَ بالحقّ لا أجدُ له مَساغاً (أي لا أستطيع ابتلاعه) فأخذَ الإناءَ وشربَ من الفضلةِ. وقد كانت لأبي هريرة جاريةٌ زنجيةٌ (من بلاد الزنج، وهم قوم من السودان) فأساءتْ إليه، وغمت أهلهُ، فرفعَ السوط عليها ليضربَها به، ثم توقفَ، وقال: لولا القصَاصُ يوم القيامة لأوجعتك كما آذيتنا، ولكنْ سأبيعُك ممن يُوفيني ثمنكِ، وأنا أحوجُ ما أكونُ إليه، اذهبي فأنتِ حُرة لله عزّ وجلَّ. لم يمضِ زمن طويل على ذلك حتى فاضت الخيرات على المسلمين وتدفقت عليهم غنائم الفتح، فصار لأبي هريرة مال ومنزل ومتاع، وزوج وولد. غير أنّ ذلك كله لم يغيِّر من نفسه الكريمة شيئاً، ولم يُنسهِ أيامه الخالية، فكثيراً ما كان يقول: نشأت يتيماً، وهاجرت مسكيناً، وكنت أجيراً لِبُسَرَةَ بنت غزوان بطعام بطني (وهي أخت عتبة بن غزوان المازني)، فكنت أخدم القوم إذا نزلوا، وأحدو لهم إذا ركبوا، فزوَّجنيها الله (أي أنّ أبا هريرة قد تزوج بُسرة بعد أنْ كان أجيراً عندها)، فالحمد لله الذي جعل الدين قواماً وصيَّر أبا هريرة إماماً. وقد وَلي أبو هريرة المدينة من قِبَل معاوية بن أبي سفيان أكثر من مرة، فلم تُبَدِّل الولاية من سماحة طبعه، وخفة ظله شيئاً، فقد مرً بأحد طرق المدينة -وهو والٍ عليها- وكان يحمل الحطب على ظهره لأهل بيته، فمرِّ بثعلبةَ بن مالك، فقال له: أَوسع الطريق للأمير يا ابن مالك، فقال له: يرحمك الله، أما يكفيك هذا المجال كله؟! فقال له: أَوسع الطريق للأمير وللحزمة التي على ظهره. وقد جمع أبو هريرة إلى وفرة علمه وسماحة نفسه التُّـقى والورع، فكان يصوم النهار، ويقوم ثلث الليل، ثم يوقظ زوجته فتقوم ثلثه الثاني، ثم توقظ هذه ابنتها فتقوم ثلثه الأخير، فكانت العبادة لا تنقطع في بيته طوال الليل. وكانتِ ابنته تقول له: يا أبتِ إنّ البنات يُعيرنني؛ فيقلنَ: لم لا يُحليك أبوكِ بالذهب؟! فيقول: يا بُنية، قولي لهنَّ: إنّ أبي يخشى عليَّ حرَّ اللهب (أي حر لهب جهنم). ولم يكن امتناعُ أبي هريرة عن تحليةِ ابنته بخلاً بالمالِ أو حرصاً عليه؛ إذ كان جواداً سخيّ اليدِ في سبيل الله. فقد بعثَ إليه مروانُ بنُ الحكم مائة دينارٍ ذهباً، فلما كان الغد أرسلَ إليه يقول: إنّ خادميِ أخطأ فأعطاك الدنانيرَ، وأنا لم أرِدك بها، وإنما أردتُ غيرك، فسُقِط في يدِ أبي هُريرة (أي تحير وندم)، وقال: أخرجتها في سبيلِ الله ولم يبتْ عندي منها دينارٌ؛ فإذا خرجَ عطائي (حقي في بيت المال) فخذها منه. وإنّما فعلَ ذلك مروانُ ليختبره، فلما تحرّى الأمرَ وجَدَه صحيحاً. وقد ظلَّ أبو هريرة (ما امتدَّت به الحياةُ) برَّاً بأِمه، فكان كلما أرَادَ الخروجَ من البيت وقفَ على بابٍ حجرتها وقال: السلامُ عليك يا أمَّتاه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السّلامُ يا بنيَّ ورحمة الله وبركاته، فيقول: رَحمكِ الله كما ربّيتني صغيراً، فتقول: ورحمك الله كما بَرَرتني كبيراً، ثم إذا عادَ إلى بيته فعل مثلَ ذلك. وقد كان أبو هُريرة يَحرصُ أشدَّ الحرصِ على دعوة الناسِ إلى برِّ آباِئهم، وصِلةِ أرحامهم، فقد رأى ذات يومٍ رجلينِ أحدهما أسنُّ (أكبر سناً) من الأخرِ يمشِيان معاً، فقال لأصغرِهما: ما يكون هذا الرَّجلُ منك؟ قال: أبي، فقال له: لا تسمِّه باسمِه، ولا تمشِ أمامَه، ولا تجلِس قَبله. ولما مَرضَ أبو هُريرة مرضَ الموتِ بكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟! فقال: أما إنّي لا أبكي على دنياكم هذه، ولكنَني أبكي لبُعد السَّفر وقلة الزادِ، لقد وقفتُ في نهاية طريقٍ يُفضي بي إلى الجنةِ أو النارِ، ولا أدري في أيِّهما أكون!! وقد عاده مروانُ بنُ الحكم فقال له: شفاكَ الله يا أبا هُريرة، فقال: اللهُمَّ إني أحبُّ لقاءك فأحبَّ لقائي وعجِّل لي فيه، فما كاد يغادر مروانُ داره حتى فارقَ الحياة. رحمَ الله أبا هُريرة رحمةً واسعةً؛ فقد حفِظ للمسلمين ما يَزيدُ على ألفٍ وستمائةٍ وتسعةٍ من أحاديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، جزاه الله عن الإسلامِ والمُسلمين خيراً.
  9. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربه إلى يوم الدين، أما بعد، الصحابي الذي قال "ما خُلق مؤمن يسمع بي، ولا يراني، إلا أحبني" بعد دعوة دعاها له الرسول صلى الله عليه وسلم. أبـو هـريرة الدوسي رضي الله عنه لا ريب أنك تعرف هذا النجم المتألق من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل في أمة الإسلام أحد لا يعرف أبا هريرة؟ لقد كان الناس يدعونه في الجاهلية (عبد شمس)، فلما أكرمه الله بالإسلام وشرَّفه بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: "ما اسمك؟"، فقال: عبد شمس، فقال عليه الصلاة والسلام: "بل عبد الرحمن". فقال: نعم عبد الرحمن، بأبي أنت وأمي يا رسول الله. أما كنيته بأبي هريرة فسببها أنه كانت له في طفولته هرة صغيرة يلعب بها لذلك ناداه أصحابه بـ أبي هريرة وشاع ذلك حتى غلب على اسمه، فلما اتصلت أسبابه بأسباب رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يناديه كثيرا يا "أبا هر"، إيناساً له وتحبباً فيه، فصار يؤثر أبا هر على أبا هريرة، ويقول: ناداني بها حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. أسلم على يد الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، وظل في أرض قومه دَوس إلى ما بعد الهجرة بست سنين، حيث وفد مع جموع من قومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حيث انقطع ذلك الفتى الدوسي "أبو هريرة" لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته ومرافقته، فاتخذ المسجد مقاماً، والنبي معلماً وإماماً، ولم يكن له ولد ولا زوج وإنما كانت له أم عجوز أصرت على الشرك، فكان لا ينقطع أبداً عن دعوتها للإسلام إشفاقاً عليها وبَراً بها، فتنفر منه وتصده. في يوم دعاها إلى الإسلام والإيمان بالله ورسوله، فقالت في النبي قولاً أحزنه، فذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا أبا هريرة؟!" فقال: إني كنت لا أفترْ عن دعوة أمي للإسلام فتأبى علي، إلا أني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله عز وجل أن يميل قلب أم أبي هريرة للإسلام، فدعا لها النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة: فمضيت إلى البيت، فإذا الباب قد رد وسمعت خضخضة الماء، فلما هممت بالدخول، قالت أمي: مكانك يا أبا هريرة، ثم لبست ثوبها، وقالت: أدخل، فدخلت، فقالت: أشهد أنْ لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، فعدت إلى الرسول وأنا أبكي من الفرح كما بكيت قبل ساعة من الحزن، وقلت: أبشر يا رسول الله أبشر، فقد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة إلى الاسلام، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراُ. قال قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم حبب عبيدك هذا - يعني أبا هريرة وأمه - إلى عبادك المؤمنين. وحبب إليهم المؤمنين"، فما خُلق مؤمن يسمع بي، ولا يراني، إلا أحبني. ميــراث محمد عليه الصلاة والسلام وكما أحب أبو هريرة العلم لنفسه فقد أحبه لغيره، فقد روى الطبراني أنّ أبا هريرة مر بسوق المدينة، فوقف وقال: يا أهل السوق ما أعجزكم، قالوا: وما رأيت من عجزنا يا أبا هريرة؟! قال: ذاك ميراث النبي يُقسّم وأنتم ها هنا، ألا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه، قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد فخرجوا سِراعاً، ووقف أبو هريرة ينتظر رجوعهم، فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة أتينا المسجد، فدخلنا فيه فلم نرَ شيئاً يقسّم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً؟ فقالوا: بلى، رأينا قوما يصلون وقوفاً يقرؤون القران، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم: ويحكم فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أحبَّ أبو هريرةَ الرسول صلواتُ الله عليه حُباً خالط لحمهَ ودمَه، فكان لا يشبعُ من النظر إليه ويقولُ: ما رأيتُ شيئاً أملحَ ولا أصبحَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لكَأنَّ الشمسَ تجري في وجهِه، وكان يحمدُ الله تبارك وتعالى على أنْ مَنّ عليه بِصُحبة نبيِّه واتباع دينهِ، فيقول: الحمدُ لله هدى أبا هُريرة للإسلامِ، الحمد لله الذي علمَ أبا هريرة القرآنَ، الحمد لله الذي مَنّ على أبي هريرة بصُحبةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وكما أولعَ أبو هريرةَ برسولِ الله صلوات الله وسلامه عليه، فقد أولعَ بالعِلم وجعلهُ دَيدنهُ (أي دأبه وعادته) وغاية يَتمنَّاها. حَدّثَ زيدُ بنُ ثابتٍ قال: بينما أنا وأبو هريرة وصاحبٌ لي في المسجدِ ندعو الله تعالى ونذكرُه، إذ طلعَ علينا رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأقبلَ نحونا حتى جلسَ بيننا، فسكتنا، فقال: "عُودُوا إلى ما كنتم فيه"، فدعوتُ الله أنا وصاحبي (قبلَ أبي هريرة) وجعلَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم يُؤمّن ُعلى دعائِنا، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهُم إني أسألك ما سألك صاحبايَ، وأسألك عِلماً لا يُنسى، فقال عليه الصلاة والسلام: "آمين"، فقلنا: ونحن نسألُ الله علماً لا يُنسى، فقال: "سبقكم بِها الغُلامُ الدوسيُّ". وقد عانى أبو هريرة بسببِ انصرافهِ لِلعلمِ، وانقطاعِه لمجالس رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما لم يُعانه أحدٌ من الجوعِ وخُشونة العيشِ. روَى عن نفسِه قال: إنه كان يشتدُّ بي الجوع حتى إنّي كنتُ أسألُ الرجلَ من أصحابِ رسولِ الله عن الآيةِ من القرآن (وأنا أعلمُها) كي يَصحبني معه إلى بيته؛ فيطعمني، وقد اشتدَّ بي الجوع ذات يومٍ حتى شدَدتُ على بطني حجراً، فقعدتُ في طريق الصَّحابةِ، فمرَّ بي أبو بكرٍ فسألته عن آيةٍ في كتاب الله وما سألته إلا ليدعوني، فما دعاني. ثم مرَّ بي عمرُ بنُ الخطاب فسألتهُ عن آيةٍ؛ فلم يدعُني أيضاً، حتى مرَّ بي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فعرف ما بي من الجوعِ، فقال: "أبو هريرة؟!" قلت: لبّيكَ يا رسول الله، وتبِعتهُ؛ فدخلتُ معه البيتَ فوجدَ قدَحاً فيه لبنٌ، فقال لأهلهِ: "من أينَ لكم هذا؟" قالوا: أرسلَ به فلانٌ إليك، فقال: "يا أبا هريرةِ انطلقْ إلى أهلِ الصّفّةِ فادعهم" (وهم ضيوف الله من فقراء المسلمين ممن لا أهل لهم ولا ولد ولا مال، فكانوا يجلسون على صفة في مسجد رسول الله فسُموا بأهل الصُفة)، فساءَني إرساله إيَّايَ لِدعوَتهم، وقلتُ في نفسي: ما يفعلُ هذا اللبنُ معَ أهلِ الصُفةِ؟! وكنتُ أرجو أنْ أنالَ مِنه شربة أتقوى بها، ثم أذهبَ إليهم؛ فأتيتُ أهلَ الصّفة ودعوتهُم؛ فأقبلوا، فلما جَلسوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "خذ يا أبا هريرة فأعطهِم"، فجعلتُ أعطي الرجُلَ فيشربُ حتى يَروى إلى أنْ شرِبوا جميعاً؛ فناولتُ القدحَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعَ رأسه إليّ مُبتسماً وقال: "بقيتُ أنا وأنْت". قلت: صَدقت يا رسول الله. قال: "فاشرب"، فشربتُ، ثم قال: "اشربْ"، فشربتُ، وما زال يقول: "اشَرب"، فأشربُ حتى قلت: والذي بَعثكَ بالحقّ لا أجدُ له مَساغاً (أي لا أستطيع ابتلاعه) فأخذَ الإناءَ وشربَ من الفضلةِ. وقد كانت لأبي هريرة جاريةٌ زنجيةٌ (من بلاد الزنج، وهم قوم من السودان) فأساءتْ إليه، وغمت أهلهُ، فرفعَ السوط عليها ليضربَها به، ثم توقفَ، وقال: لولا القصَاصُ يوم القيامة لأوجعتك كما آذيتنا، ولكنْ سأبيعُك ممن يُوفيني ثمنكِ، وأنا أحوجُ ما أكونُ إليه، اذهبي فأنتِ حُرة لله عزّ وجلَّ. لم يمضِ زمن طويل على ذلك حتى فاضت الخيرات على المسلمين وتدفقت عليهم غنائم الفتح، فصار لأبي هريرة مال ومنزل ومتاع، وزوج وولد. غير أنّ ذلك كله لم يغيِّر من نفسه الكريمة شيئاً، ولم يُنسهِ أيامه الخالية، فكثيراً ما كان يقول: نشأت يتيماً، وهاجرت مسكيناً، وكنت أجيراً لِبُسَرَةَ بنت غزوان بطعام بطني (وهي أخت عتبة بن غزوان المازني)، فكنت أخدم القوم إذا نزلوا، وأحدو لهم إذا ركبوا، فزوَّجنيها الله (أي أنّ أبا هريرة قد تزوج بُسرة بعد أنْ كان أجيراً عندها)، فالحمد لله الذي جعل الدين قواماً وصيَّر أبا هريرة إماماً. وقد وَلي أبو هريرة المدينة من قِبَل معاوية بن أبي سفيان أكثر من مرة، فلم تُبَدِّل الولاية من سماحة طبعه، وخفة ظله شيئاً، فقد مرً بأحد طرق المدينة -وهو والٍ عليها- وكان يحمل الحطب على ظهره لأهل بيته، فمرِّ بثعلبةَ بن مالك، فقال له: أَوسع الطريق للأمير يا ابن مالك، فقال له: يرحمك الله، أما يكفيك هذا المجال كله؟! فقال له: أَوسع الطريق للأمير وللحزمة التي على ظهره. وقد جمع أبو هريرة إلى وفرة علمه وسماحة نفسه التُّـقى والورع، فكان يصوم النهار، ويقوم ثلث الليل، ثم يوقظ زوجته فتقوم ثلثه الثاني، ثم توقظ هذه ابنتها فتقوم ثلثه الأخير، فكانت العبادة لا تنقطع في بيته طوال الليل. وكانتِ ابنته تقول له: يا أبتِ إنّ البنات يُعيرنني؛ فيقلنَ: لم لا يُحليك أبوكِ بالذهب؟! فيقول: يا بُنية، قولي لهنَّ: إنّ أبي يخشى عليَّ حرَّ اللهب (أي حر لهب جهنم). ولم يكن امتناعُ أبي هريرة عن تحليةِ ابنته بخلاً بالمالِ أو حرصاً عليه؛ إذ كان جواداً سخيّ اليدِ في سبيل الله. فقد بعثَ إليه مروانُ بنُ الحكم مائة دينارٍ ذهباً، فلما كان الغد أرسلَ إليه يقول: إنّ خادميِ أخطأ فأعطاك الدنانيرَ، وأنا لم أرِدك بها، وإنما أردتُ غيرك، فسُقِط في يدِ أبي هُريرة (أي تحير وندم)، وقال: أخرجتها في سبيلِ الله ولم يبتْ عندي منها دينارٌ؛ فإذا خرجَ عطائي (حقي في بيت المال) فخذها منه. وإنّما فعلَ ذلك مروانُ ليختبره، فلما تحرّى الأمرَ وجَدَه صحيحاً. وقد ظلَّ أبو هريرة (ما امتدَّت به الحياةُ) برَّاً بأِمه، فكان كلما أرَادَ الخروجَ من البيت وقفَ على بابٍ حجرتها وقال: السلامُ عليك يا أمَّتاه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السّلامُ يا بنيَّ ورحمة الله وبركاته، فيقول: رَحمكِ الله كما ربّيتني صغيراً، فتقول: ورحمك الله كما بَرَرتني كبيراً، ثم إذا عادَ إلى بيته فعل مثلَ ذلك. وقد كان أبو هُريرة يَحرصُ أشدَّ الحرصِ على دعوة الناسِ إلى برِّ آباِئهم، وصِلةِ أرحامهم، فقد رأى ذات يومٍ رجلينِ أحدهما أسنُّ (أكبر سناً) من الأخرِ يمشِيان معاً، فقال لأصغرِهما: ما يكون هذا الرَّجلُ منك؟ قال: أبي، فقال له: لا تسمِّه باسمِه، ولا تمشِ أمامَه، ولا تجلِس قَبله. ولما مَرضَ أبو هُريرة مرضَ الموتِ بكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟! فقال: أما إنّي لا أبكي على دنياكم هذه، ولكنَني أبكي لبُعد السَّفر وقلة الزادِ، لقد وقفتُ في نهاية طريقٍ يُفضي بي إلى الجنةِ أو النارِ، ولا أدري في أيِّهما أكون!! وقد عاده مروانُ بنُ الحكم فقال له: شفاكَ الله يا أبا هُريرة، فقال: اللهُمَّ إني أحبُّ لقاءك فأحبَّ لقائي وعجِّل لي فيه، فما كاد يغادر مروانُ داره حتى فارقَ الحياة. رحمَ الله أبا هُريرة رحمةً واسعةً؛ فقد حفِظ للمسلمين ما يَزيدُ على ألفٍ وستمائةٍ وتسعةٍ من أحاديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، جزاه الله عن الإسلامِ والمُسلمين خيراً.
  10. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين. أبو حنيفة النعمان – لمحات رائعة من حياته قال عنه يزيد بن هارون: "لم أرَ أعقل ولا أفضل ولا أورع من أبي حنيفة". وقال عنه بعضهم: "كل الفقهاء عالةٌ على أبي حنيفة" فهو بحق سيد الفقهاء. كان أبو حنيفة حسن الوجه، وسيم الطلعة، عذب المنطق، حلو الحديث، ليس بالطويل البائن (الشديد الطول)، ولا بالقصير الذي تنبو عنه العيون (تعرض عنه الأنظار ولا ترتاح لرؤيته). وهو إلى ذلك لبَّاسٌ أنيق الثياب، بهيُّ الطلعة، كثيرُ التعطر، إذا طلع على الناس عرفوه من طيبهِ قبل أن يروه، ذلكم هو (النعمان بن الثابت بن المرزبان)، المكنى بأبي حنيفة، أول من فتَّق أكمام الفقه واستخرج أروع ما فيها من طيوب (أي أخصب الفقه وكشف عن روائعه). أدرك أبو حنيفة طرفاً من آخر عصر بني أمية، وآخر من أول عصر بني العباس، وعاش في زمنٍ أغدق فيه الخلفاء والولاة على أصحاب المواهب إغداقاً حتى صار رزقهم يأتيهم رغداً من كل مكان، وهم لا يشعرون، بيد أنّ أبا حنيفة أكرم علمه ونفسه عن ذلك، وحزم أمره على أن يأكل من كسب يمينه، وأن تكون يده هي العليا دائماً... دعاه المنصور ذات مرة إلى زيارته، فلما صار عنده بالغ في إعظامه و إكرامه و الترحيب به، و أدنى مجلسه منه، و جعل يسائله عن كثير من شؤون الدين والدنيا، فلما أراد الانصراف دفع إليه بكيس فيه ثلاثون ألف درهم، على ما كان معروفاً من إمساك المنصور، فقال له أبو حنيفة: "يا أمير المؤمنين إني غريب في بغداد، و ليس لهذا المال موضع عندي، و إني لأخشى عليه، فاحفظه لي في بيت المال عندك، حتى إذا احتجته طلبته منك"، فأجابه المنصورُ إلى رغبته، غير أن الحياة لم تطل حينئذ بأبي حنيفة، فلما وافاه الأجل وُجدت في بيته ودائع للناس تزيد عن أضعاف هذا المبلغ، فلما سمع المنصور بذلك قال: "يرحم الله أبا حنيفة، فقد خدعنا، أبى أن يأخذ شيئاً منا، وتلطف في ردنا". لقد كان أبو حنيفة يوقن أنه ما أكل امرؤٌ لقمة أزكى ولا أعز من لقمة ينالها من كسب يده، لذلك نجده يخصِّص شطراً من وقته للتجارة، فقد جعل يتَّجر بالخز وأثوابه (الخز هو ما نسج من صوف وحرير)، وكانت تجارته ذاهبة آيبة بين مدن العراق. وكان له متجر معروف يقصده الناس، فيجدون فيه الصدق في المعاملة، والأمانة في الأخذ والعطاء، ولا ريب في أنهم كانوا يجدون فيه الذوق الرفيع أيضاً، ولقد كانت تجارته تدرُّ عليه خيراً وفيراً، وتحبوه (تعطيه) من فضل الله مالاً كثيراً، فكان يأخذ المال من حِلِّه ويضعه في محله. فلقد عُرف عنه أنه كلما حال عليه الحول أحصى أرباحه من كل تجارته واستبقى منها ما يكفيه لنفقته، ثم يشتري بالباقي حوائج القراء والمحدثين والفقهاء وطلاب العلم وأقواتهم وكسوتهم، ويخصص لكل منهم مبلغاً من النقد العين ويدفع ذلك كله إليهم ويقول: "هذه أرباح بضائعكم أجراها الله لكم على يدي، واللهِ ما أعطيتكم من مالي شيئاً، وإنما هو فضل الله علي فيكم، فما في رزق الله حول لأحد غير الله". ولقد شرَّقت أخبار جود أبي حنيفة وسماحته وغرَّبت، وبخاصة مع جلسائه وأصحابه. من ذلك أن أحد جلسائه جاءه إلى متجره يوماً وقال له: "إني بحاجة إلى ثوبِ خزٍ يا أبا حنيفة"، فقال له أبو حنيفة، "ما لونه؟" فقال: "كذا و كذا"، فقال: "اصبر حتى يقع لي فآخذه لك"، فما إن دارت الجمعة حتى وقع له الثوب المطلوب، فمر به صاحبه، فقال له أبو حنيفة: "قد وقعت لي حاجتك"، وأخرج إليه الثوب و أعجبه وقال: "كم أدفع لغلامك ثمنه"، قال: "درهماً"، فقال الرجل في استغراب: "درهماً واحداً؟‍!"، فقال أبو حنيفة: "نعم"، فقال له الرجل: "ما كنت أظنك تهزأ بي يا أبا حنيفة"، فقال أبو حنيفة: "ما هزئت بك، و إنما اشتريت هذا الثوب و آخر معه بعشرين ديناراً ذهباً و درهم من الفضة، و قد بعت أحد الثوبين بعشرين ديناراً ذهباً، و بقي عليّ هذا بدرهم واحد، وما كنت لأربح على جليسي". وجاءته امرأة عجوز تطلب ثوبَ خزٍ، فأخرج لها الثوب المطلوب، فقالت له: "إنني امرأة عجوز ولا علم لي بالأثمان، وإنها الأمانة، فبعني الثوب بما قام عليك وأضف إليه قليلاً من الربح، فإني ضعيفة"، فقال لها: "إني اشتريت ثوبين اثنين في صفقة واحدة، ثم إني بعت أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم، فخذيه بها، ولا أريد منك ربحاً". وقد رأى ذات يوم ثياباً رثة على أحد من جلسائه، فلما انصرف الناس و لم يبقَ في المجلس إلا هو والرجل قال له: "ارفع هذا المصلى وخذ ما تحته"، فرفع الرجل المصلى فإذا تحته ألف درهم، فقال له أبو حنيفة: "خذها و أصلح بها من شأنك"، فقال الرجل: "إني موسر، و قد أنعم الله علي، و لا حاجة لي بها"، فقال له أبو حنيفة: "إذا كان الله قد أنعم عليك فأين آثار نعمته، أما بلغك أن النبي صلى الله عليه و سلم يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ) ، فينبغي عليك أن تصلح من شأنك حتى لا تُغمَّ صديقك". لقد بلغ من جود أبي حنيفة و بره بالناس أنه كان إذا أنفق على عياله نفقة تصدَّق بمثلها على غيرهم من المحتاجين، وإذا اكتسى ثوباً جديداً كسى المساكين بقدر ثمنه، و كان إذا وُضع الطعام بين يديه غرف منه ضعف ما يأكله عادةً ودفع به إلى الفقراء، و مما يُروى عنه أنه قطع عهداً على نفسه ألا يحلف بالله في أثناء كلامه إلا تصدق بدرهم فضة، ثم تدرَّج في الأمر فجعل على نفسه عهداً إن حلف بالله ليتصدقن بدينار ذهباً، إن حلف صادقاً، فكان إذا حلف صادقاً تصدَّق بدينار، لأن الله عز وجل يقول ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾. ولقد كان (حفص بن عبد الرحمن) شريكاً لأبي حنيفة في بعض تجارته، فكان أبو حنيفة يجهِّز له أمتعة الخز و يبعث بها معه إلى بعض مدن العراق، فجهَّز له ذات مرة متاعاً كثيراً، وأعلمه أن في الثياب كذا و كذا عيوباً، و قال له: "إذا هممت ببيعها فبيِّن للمشتري ما فيها من عيب"، فباع حفص المتاع كله و نسي أن يعلم المشتري بما في الأثواب المعينة من عيوب، و لقد أجهد نفسه في تذكر الرجال الذين باعهم الثياب المعيبة فلم يفلح، فلما علِم أبو حنيفة بالأمر، و لم يتمكن من معرفة الذين وقع عليهم الغبن لم يستقر قراره، ولم تطب نفسه حتى تصدق بأثمان المتاع كلها. لقد كان أبو حنيفة فوق ذلك كله طيب المعاشرة، حلو المؤانسة، يسعد به جليسُه، ولا يشقى به من غاب عنه، ولو كان عدوًّا له. حدَّث أحد أصحابه فقال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول لسفيان الثوري: "يا أبا عبد الله ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة، فإني ما سمعته يذكر عدوًّا له بسوء قط"، فقال له سفيان: "إنّ أبا حنيفة أعقل من أن يسلِّط على حسناته ما يذهب بها". وكان أبو حنيفة كيِّساً في اقتناص ود الناس، حريصاً على استدامة صداقتهم، ولقد عُرف عنه أنه ربما مر به الرجل من الناس فقعد في مجلسه من غير قصد ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه، فإن كانت به فاقة وصله، وإن كان به مرض عاده، وإن كانت له حاجة قضاها، حتى يجّره إلى مواصلته جراً. ولقد كان أبو حنيفة قبل ذلك كله وفوق ذلك كله صوامَّ نهار، وقوامَّ ليل، وخديناً للقرآن (أي صديقاً)، مستغفراً بالأسحار. وكان من أسباب توغله في العبادة واندفاعه فيها أنه أقبل ذات يوم على جماعة من الناس فسمعهم يقولون: "إنّ هذا الرجل الذي ترونه لا ينام الليل"، فما إن لامست كلماتُهم هذه مسمعه حتى قال: "إني عند الناس على ما خلاف أنا عليه عند الله، واللهِ لا يتحدث الناسُ عني منذ الساعة بما لا أفعل، ولن أتوسَّد فراشاً (أي أضع وسادة تحت رأسي) بعد اليوم في ليلٍ حتى ألقى الله. ثمّ دأب منذ ذلك اليوم على قيام الليل كلّه، فكان إذا أرخى الظلام سدوله على الكون (أستار ظلمته)، وأُسلمت الجنوب إلى المضاجع (غرقت في نومها)، قام فلبس أحسن ثيابه، وسرّح لحيته، وتطيب، وتزيّن، ثمّ يصفّ في محرابه، ويقطع ليله قانتاً، أو منحنياً بصلبه (مكباً) على أجزاء القرآن، أو رافعاً يديه بالضراعة. فلربما قرأ القرآن كلّه في ركعة واحدة، ولربّما قام الليل كلّه بآيةٍ واحدة. فلقد روي أنه قام الليل كله وهو يردد قوله عزّ وجلّ: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ وهو يبكي من خشية الله بكاءً يقطّع نياط القلوب (عروق الأفئدة)، وينشج نشيجاً مبحوحاً يفطر الأفئدة (أي يبكي بكاءً يمزّق القلوب). ولقد عُرف عنه أنه صلى الفجر بوضوء العشاء نحواً من أربعين عاماً، ما ترك ذلك خلالها مرةً واحدة. وأنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف مرة. وكان إذا قرأ سورة الزلزلة اقشعر جلده ووجل فؤاده وأخذ لحيته بيده وطفق يقول: "يا من يجزي بمثقال ذرةِ خيرٍ خيراً، ويا من يجزي بمثقال ذرةِ شرٍ شراً، أجرْ عبدك النعمان من النار وباعد بينه وبين ما يقرّبه منها وأدخله في واسع رحمتك يا أرحم الراحمين". وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
×
×
  • اضف...