اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

ابوالتراب المقدسي

الأعضاء
  • Posts

    1
  • تاريخ الانضمام

  • تاريخ اخر زياره

ابوالتراب المقدسي's Achievements

  1. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ التّدرج في تطبيق الأحكام الشّرعية مُبرراتُه وحُكمُهُ مقدمة: لقد ظهرت العديد من الحركات الإسلامية التي تعمل لإنهاض المسلمين وإعادتهم إلى سابق عهدهم من مجدٍ وعزة، ولكنها واجهت صعوبات متنوعة داخلية وخارجية، أما الداخلية فتمثلت في ابتعاد الناس عن الفهم الصحيح للإسلام وأحكامه، فضلاً عن مقاومة الحكام لهذه الحركات والتضييق عليها، وأما الخارجية فتمثلت في العداء المستحكم بين المسلمين والكفار وكيدهم المستمر للمسلمين، وازدادت هذه الصعوبات وتعقدت بعد نجاح الغرب الكافر في هدم دولة المسلمين سنة 1924 وإقامة كيانات تحكم بأنظمته وتكرِّس أفكاره عن طريق طغمةٍ حاكمةٍ تأتمر بأوامره وتبطش بالنيابة عنه بحَمَلة الدعوة والعاملين من أجل التغيير الحقيقي. في ظل هذه الظروف العصيبة، وفي ظل الانهيار المتسارع الذي شمل كل الصُّعُد، انقسمت تلك الحركات إلى تيارين: الأول: نادى بالقيام بأعمال فورية بغية وقف الانهيار ولو جزئياً، وتثبيت بقـايا المظاهر الإسلامية ولو أدى ذلك إلى التعايش مـع الأنظمة الفاسدة ( المشاركة في الحكم )، والتدرج في محاربة أفكار الكفر حتى يتم إيجاد جو ملائم يؤدي إلى تطبيق الإسلام كاملاً تلقائياً بعد أن يكون الإسلام قد تمكَّن من النفوس. ولا يخفى أنّ المناداة بالتدرج قد وُجدت كردة فعل أمام ما يلمسه الدعاة من بعدٍ سحيقٍ للناس عن فهم أحكام الإسلام، وأمام الهجمة الشرسة من الغرب وعملائه من الحكام الذين تسلطوا على رقاب المسلمين؛ لذلك فإن القائلين بالتدرج يرون أن المناداة بالتطبيق الفوري للإسلام وإعلان العداء الصريح لأنظمة الكفر سيؤدي حتما إلى إثارة نقمة الحكام ومَنْ وراءهم، وإلحاق الأذى بالدعوة وحَمَلتها، في الوقت الذي يؤدي فيه تبني التدرج واستعمال الأساليب التي تسمح بها الأنظمة الوضعية إلى تجنيب الدعوة هذا الصِدام المبكر الذي لاتقوى عليه لكونها لا تزال في بداياتها، كما أراد بعضهم ممالأة الحكام ومسايرتهم بالقول بأنه يجوز التدرج في تطبيق أحكام الشرع بدل الحل الانقلابي الشامل لاقتلاع الكفر من جذوره، ثمَّ أخذوا يقلّبون النصوص ويفتشون عن أدلّة تدعم قولهم، بدل أن يتقيدوا بالطريقة الشرعية في استنباط الأحكام، والتي تقوم على فهم المشكلة ( الواقع الذي يراد معالجته وبيان حكم الله فيه )، ومن ثمَّ الإتيان بالأدلة الشرعية المنطبقة على هذه المشكلة، وفهمها ودراستها، ومن ثمَّ يصار إلى استنباط الحكم الشرعي من هذه الأدلة الشرعية. أما التيار الآخر: فقد ذهب إلى تحريم التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية، نادى بالعمل على إعادة الإسلام إلى الحياة كاملاً غير مجزأ، كما حرّم التعايش مع أنظمة الكفر مهما بدا في ذلك من مصالح آنية. ونظراً لما يكتسبه هذا الموضوع من أهمية، إذ يقتضي تغييراً جذرياً في طريقة عمل بعض الحركات الإسلامية، فإننا سنحاول إلقاء الضوء عليه وبحثه من الناحية الشرعية للوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح في مسألة التدرج في تطبيق الإسلام. معنى التدرج وماذا يشمل عند القائلين به يطلق مصطلح التدرج ويُراد به الوصول إلى الحكم الشرعي المطلوب على مراحل، وليس دفعة واحدة؛ ولذلك يعبر عنه عند أصحابه بالمرحلية، كأن يطبق المسلم أو يدعو إلى حكم غير شرعي ولكنه أقرب من سابقه إلى الحكم الشرعي بنظر القائل به، ثمَّ يتدرج في التطبيق أو الدعوة من حكم غير شرعي إلى حكم غير شرعي آخر أقرب إلى الشرع، حتى يصل ـ حسب رأيه ـ إلى الحكم الشرعي، وهذا في أحسن أحواله يعني تطبيق بعض الأحكام الشرعية التي ليس فيها مصادمة مع أنظمة الكفر، كالتي تتعلق بالأحوال الشخصية ونحوها، وتعطيل أحكام شرعية، والسكوت عن أحكام غير شرعية، ريثما يصل مع الوقت ـ حسب زعمه ـ إلى التطبيق الكامل للشرع. كما أنّ التدرج غير مقيد بعدد ثابت من المراحل، وليس خاضعاً لقواعد منضبطة عند القائلين به، فقد يأخذ الحكم الواحد مرحلة أو مرحلتين أو ثلاثاً أو أكثر، وعندهم التدرج يبقى للظروف والأوضاع وتأثيرها في تحديد عدد المراحل، فقد تقل وقد تكثر، ووقت كل مرحلة قد يطول وقد يقصر، ثمَّ إنّ إطلاق فكرة التدرج قد يشمل أفكاراً متعلقة بالعقيدة كقبول القول: ( إن الاشتراكية من الإسلام )، أو ( إنّ الديمقراطية من الإسلام )، وقد تشمل أحكاماً شرعية كأن تلبس المرأة المسلمة لباساً يصل ثوبها فيه إلى ما تحت ركبتها بقليل ريثما يطبق في مرحلة لاحقة الحكم الشرعي المطلوب، وقد يتعلق بالنظام كالمطالبة بالمشاركة في الحكم، مع أنّه حرام شرعاً وبحسب اعتراف القائلين به، لكنها عندهم مطالبة ليست مقصودة لذاتها بل للوصول إلى الحكم بالإسلام الذي هو الأصل والواجب في مرحلة لاحقة، أو قد يكون بالعمل على إيجاد بعض الأحكام الإسلامية والسكوت عن الأخرى على أمل أن تكثر حتى تطغى ثم تسود وهكذا.... وقد يتعلق التدرج بالدعوة حين يُدعى إلى كل ما تقدم، فيلتزم المقتنع بالتدرج بهذا الأسلوب ويحاول أن يدعو الآخرين بحسبه، وقد يكون صاحب هذا الطرح من التقوى بحيث أنه من ناحية الالتزام لايقبل على نفسه أي تفريط ، ولكنه يقبله لغيره من باب حرصه على الآخرين حتى لايرفضوا أحكام الإسلام. أهمّ مُبررات القائلين بالتدرج ومناقشتها لقد اعتمد القائلون بالتدرج على بعض المبررات زعموا أنها تؤيد هذا الفهم في التفكير والدعوة إلى الإسلام، وفيما يلي عرض لأهمها: أولاً: مبرراتهم من القران الكريم: 1- آيات الربا: زعموا أن الله تعالى لم يحرم الربا دفعة واحدة، بل نزل تحريمه على دفعات ومراحل، قال تعالى: ] وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ [ (الروم:39)، وقال: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [(آل عمران:130)، وقال تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [(البقرة:278)، وقال تعالى حكاية عن اليهود: ] وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [(النساء:161)، وقال تعالى: ] وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [(البقرة:17)، ومن مجمل هذه الآيات فهم القائلون بالتدرج أن الربا كان مباحاً بدليل الآية الأولى، ثم نزل تحريم أكل الربا المضاعف دون القليل في الآية الثانية، ثم نهى في الآية الثالثة عن القليل من الربا بدليل قوله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [، ومن ثمَّ قالوا إنّ تحريم الربا بدأ بالتلميح لا بالتصريح بدليل الآية الرابعة حكاية عن اليهود، وأخيراً حرّم الله تعالى الربا بعد هذا التسلسل وبعد هذه المراحل التي مر بها بقوله تعالى: ] وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [. المناقشة: إنّ الاستدلال بهذه الآيات للقول بالتدرج هو أبعد ما يكون عن الصواب، فالآية الأولى لاعلاقة لها بالربا موضوع بحثنا لا من قريب ولا من بعيد، وموضوع الآية هو الهبة والهدية، ومعناها أن من أعطى هبة أو هدية يريد ضعفها أو استردادها من الناس، فلا يربو عند الله، أي لا ثواب عليها عند الله، قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية ] وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً [: يريد هدية الرجل الشيء يرجو أن يثاب أفضل منه فذلك الذي لا يربو عند الله، ولا يؤجر صاحبه، ولكن لا إثم عليه، وفي هذا المعنى نزلت الآية ( نقله القرطبي )، وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في هذه الآية: إن من أعطى عطية يريد إن يرد عليه الناس أكثر مما أهدى لهم فهذا لاثواب له عند الله I ، بهذا فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب، والشعبي، وهذا الصنيع مباح، وقال ابن عباس: الربا رباءان ( ربوان ) فربا لا يصح يعني البيع، وربا لابأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها وأضعافها. أما الآية الثانية: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ ، فقد نزلت تنهى عن أكل الربا المضاعف وهو ما كانوا عليه في الجاهلية، ولا يوجد فيها ما يدل على تقييد تحريم الربا بالمضاعف. ولقد ذكر المفسرون أن سورة البقرة وهي السورة التي نزل فيها تحريم الربا هي أول سورة نزلت في المدينة، وسورة آل عمران التي نزل فيها النهي عن الربا المضاعف نزلت بعدها، وعليه فزعمهم أن الله سبحانه قد أباح أكل الربا القليل زعم غير صحيح، ويكون ما ذكر في آية آل عمران ليس من قبيل التدرج بل جِيء بها باعتبار ما كانوا عليه في العادة التي يعتاد عليها الكفار في الربا. أما الآية الثالثة: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [، فلا تعني أنه قد سمح للمسلمين بشيء قليل من الربا ثمَّ نهوا عنه، بل إنّ هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم، فكانوا قد قبضوا بعضه وبقي بعض، فعفا الله عز وجل عما كانوا قبضوه وحرم عليهم ما بقي منه، ويعضد ذلك قول الله تعالى: ] وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [ (البقرة 279)، وكذلك قول الرسول r : (( وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله )) (رواه مسلم). أما الآيـة الرابعة: ] وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [، قـال القـرطبي: " قال الله تعالى في اليهود: ] وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [، ولم يرد به الربا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا وإنما أراد المال الحرام كما قال تعالى: ] سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [(النساء:42)، يعني به المال الحرام من الرشا وما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا ليس علينا في الأميين سبيل وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأي وجه أكتسب " ، فالربا المقصود في هذه الآية هو المال الحرام من الرشوة وغيرها الذي كان يأكله اليهود، وحتى لو كان المراد به الربا فليس فيه دلالة على مشروعية التدرج. وعليه فإنّ حكم الربا تحريمه في بادئ الأمر، ولا يوجد ما يدل على أنه حُرم على مراحل، وتعدد النصوص الواردة في الموضوع كان لوقائع معينة، ولا يوجد فيها ما يدل على التدرج. ب- آيات الخمر: زعموا أن الله عز وجل قد حرم الخمر على مراحل، قـال تعالى: ] يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [(البقرة:220)، وقال تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ...[(النساء:43)، وقال تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ[ (المائدة:91)، ومن مجمل هذه الآيات فهم القائلون بالتدرج أن الخمر كان مباحاً في بادئ الأمر بدليل الآية الأولى، ثمَّ نزل تضييق الإباحة بقوله تعالى: ]لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى[ ، ثمَّ نهي عن الخمر بعد هذا التضييق. المناقشة: إنّ هذه الآيات لا تدل على التدرج في تحريم الخمر، فالخمر لم تكن محرمة، بل كانت متروكة على الإباحة الأصلية، أي أن الشرع كان ساكتاً عنها مع شربهم لها حتى نزلت الآية الثالثة: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [، ويؤيد ذلك ما حدث مع سيدنا عمر بن الخطاب t فقد قال: ( اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت التي في البقرة يسألونك عن الخمر والميسر الآية، فدعي عمر فقرئت عليه فقال اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت التي في النساء يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، فدعي عمر فقرئت عليه ثم قال اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت التي في المائدة إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر إلى قوله فهل أنتم منتهون، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: انتهينا انتهينا )،( رواه الترمذي وغيره ). لقد ظل سيدنا عمر يسأل الله تعالى أن ينزل بيانا شافيا في الخمر الذي كان متروكا على الإباحة قبل نزول الآية الأولى، وظل يسأل الله تعالى بالرغم من نزول الآيتين الأولى والثانية مما يدل على أنها ظلت على إباحتها حتى نزل التحريم في الآية الثالثة، والنهي في الآية الثانية منصب على الصلاة وليس على الخمر، فهي آية متعلقة بالصلاة، والمدقق في فقه هذه الآية يرى أنها لم تَنْهَ المسلمين عن الصلاة وقد شربوا الخمر، بل نهت عن الصلاة في حالة السكر حتى يعلم المسلمون ما يقولون، ولو كان المسلم بعد نزول هذه الآية تفوح منه رائحة الخمر وهو يصلي، أو يحمل معه قربة من خمر، أو قد شرب من الخمر بالمقدار الذي لا يضيع معه عقله فلا شيء عليه. إن الله سبحانه وتعالى ذم الخمر في الآية الأولى باعتبارها تجلب مضرة، ونهى عن الصلاة حال السكر في الآية الثانية، وغاية ما في ذلك أنهما مقدمات لتحريم الخمر، كما نقل الطبري أن رسول الله r قال عند نزول آيتي البقرة والنساء: (( إن ربكم يقدم في الخمر )) من حديث الربيع بن أنس بإسناد رجاله وثقوا، وكون أن الله I قدم في تحريم الخمر، لايُسوغ لأحد أن يتدرج أو يقدم مقدمات للتحريم، إذ لامعنى لهذا إلا أن يعطل حكم التحريم، الذي نزل في الآية الثالثة، وهذا لايقال عنه تدرج. فهل يجوز لنا أن نأخذ في الربا والخمر بالحكم السابق بحجة التدرج بالأحكام؟!. الجواب القطعي: لا ؛ لأن حكم التحريم للربا والخمر قطعي، فلا يجوز شرعاً الرجوع إلى الحكم السابق؛ لأننا نكون قد فعلنا ما نهى عنه الله U ، ولم يحصل أن أحداً استحل الربا بعد تحريمها أو استحل شرب الخمر بعد تحريمها، لا في عهد الرسول r ولا في عهد الصحابة ولا في عهد التابعين وتابعيهم، وهذا هو الذي عليه السلف والخلف، وسيبقى الحكم كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يجوز أبداً لأحد أن يستبيحهما أو أن يعود ليحرّمها تدريجياً كما يدّعي القائلون بالتدرج؛ لأن زمن الوحي قد انتهى، وللربا والخمر اليوم حكم واحد لايتغير بحال من الأحوال، ولا يسقط الإثم عن المقارف لهما تحت أية ذريعة كانت. ثانياً: مبرراتهم من الحديث الشريف: وزعم القائلون بالتدرج، أن هذه الفكرة قد دلت عليها الأحاديث النبوية الشريفة، واستدلوا لذلك بحديث معاذ بن جبل، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله rلِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَـى الْيَـمَنِ: (( إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ )). واستدلوا أيضاً على القول بالتدرج، بحديث اشتراط ثقيف، فعن الحسن عن عثمان عن أبي العاص: (( أنّ وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله r أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم فاشترطوا عليه أن لايحشروا، ولا يعشروا ولا يُجَبُّوا فقال رسول الله r لكم أن لاتُحشروا ولا تُعشروا ولا خير في دينٍ ليس فيه ركوع )) ، وهذا اللفظ لأبي داود، وقوله: لايجبّوا من التجبية أي الركوع وقد أطلقت مجازاً عن الصلاة، وفي رواية أخرى لأبي داود من حديث وهب: (( قال سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت قال اشترطت على النبي r أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي r يقول: سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا ))، وفي روايـة لأحمد من حـديث أبي الزبـير: (( سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت فقال اشترطت على رسول الله r أن لاصدقة عليها ولا جهاد )). المناقشة: نظراً لأهمية هذين الحديثين عند من استدل بهما على مشروعية التدرج فإننا سنناقشهما بشيء من التفصيل، وقبل الخوض في تفصيل مناقشة هذين الحديثين لابد أن نوضح ما يلي: 1- عند استنباط حكم شرعي لمسألة، فإنه يدرس واقعها جيداً ثم تجمع الأدلة المتعلقة بهذا الواقع، وتدرس هذه الأدلة دراسة أصولية ليستنبط الحكم الشرعي. 2- يبذل الوسع أولاً للجمع بين الأدلة فإعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما. 3- إذا تعذر الجمع يصار إلى الترجيح وفق أصوله المتبعة: فالمحكم قاضٍ على المتشابه، والقطعي قاضٍ على الظني، وإذا اجتمع ظني وظني فتدرس قوة الدليل من حيث السند ومن حيث العموم، فقوى السند يرجح على الأقل قوة، والخاص يرجح على العام، والمقيد على المطلق، والمنطوق على المفهوم ...الخ كما هو مفصل في بابه. وهذا يعني أن أي دليل ظني فيه شبهة الدلالة على النقيض من القطعي، فإن القطعي قاضٍ عليه، أي أن الظني يجب أن يُفهم بما لايعارض القطعي، بمعنى آخر يصار إلى إعمال الدليلين بفهم الظني بما لايتعارض مع القطعي إذا أمكن، وإلا ذهبنا إلى الترجيح أي الأخذ بالقطعي وردَّ الظني. والآن لنناقش الاستدلال بالحديثين على مشروعية التدرج: 1- حديث معاذ بن جبل: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله rلِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: (( إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ )). أ- الحديث صحيح من حيث السند وكذلك من حيث المتن فلا اضطراب فيه، وقد رواه كثير من أهل الحديث مثل البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة والبيهقي وابن خزيمة، وقد أورده معظمهم تحت باب وجوب الزكاة أو جواز إخراج مال الزكاة من بلد إلى بلد، ونورد هنا ـ باختصار ـ تفسير ابن حجر العسقلاني للحديث المذكور في كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري: " قوله: (( فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله )) والمراد بعبادة الله توحيده وبتوحيده الشهادة له بذلك ولنبيه بالرسالة, ووقعت البداءة بهما لأنهما أصل الدّين الذي لا يصحُّ شيء غيرهما إلا بهما فمن كان منهم غير مُوحِّدٍ فالمطالبة متوجهةٌ إليه بكل واحدةٍ من الشهادتين على التعيين، ومن كان مُوحِّداً فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة. قوله: (( فإن هم أطاعوا لك بذلك )) أي شَهِدوا وانقادوا. قوله: (( فإن هم أطاعوا فأخبرهم ))، يُفهم منه أنهم لو لم يطيعوا لايجب عليهم شيءٌ، وفيه نظر لأن مفهوم الشرط مختلَفٌ في الاحتجاج به، وأجاب بعضهم عن الأول بأنه استدلال ضعيف، لأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في الوجوب، كما أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قُدِّمت إحداهما على الأخرى في هذا الحديث ورُتِّبت الأخرى عليها بالفاء، ولا يلزم من عدم الإتيان بالصلاة إسقاط الزكاة. وقيل الحكمة في ترتيب الزكاة على الصلاة أن الذي يُقِرُّ بالتوحيد ويجحد الصلاة يكفر بذلك فيصير ماله فيئا فلا تنفعه الزكاة، وأما قول الخطابي إن ذكر الصدقة أُخِّر عن ذكر الصلاة لأنها إنما تجب على قوم دون قوم وأنها لا تكرر تكرار الصلاة فهو حسن، وتمامه أن يقال: بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطُّف في الخطاب لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يَأْمَن النفرة ". وبمثل هذا قال النووي والسندي والسيوطي، وهذا التفسير وافٍ بأنه لايمكن أن يُستدلَّ بالحديث المذكور لتجويز التدرج وتبريره. ب- لايصح أن يفهم من الحديث جواز التدرج في الأحكام؛ لأن تحريم التدرج ثابت بالقطعي، كما سيأتي بيانه، وبهذا عمل الصحابة عند الفتح فطبقوا الإسلام كاملاً على البلاد المفتوحة، وهو أمر متواتر مستفيض. ج- الحديث نص في الصلاة والزكاة، ولم يستدل أحد من الفقهاء به في جواز الطلب بالصلاة دون الزكاة، أي أن الذين يقولون بالتدرج لايقولون بالتفريق بين الصلاة والزكاة فلا يجيزون للمسلم الصلاة وترك الزكاة، بل هم يقيسون على مفهوم الحديث المتعلق بالصلاة والزكاة، يقيسون عليه التدرج في تطبيق الأحكام الأخرى وهذا باطل لأن حكم الأصل الذي قاسوا عليه غير معمول به عندهم فهم لايقولون بالتدرج في الصلاة والزكاة ولكن يقولون بالتدرج في تطبيق فروع الأحكام الأخرى؛ ولذلك فالحديث غير صالح الاستدلال به على التدرج؛ لأن الأصل المذكور فيه ( التدرج في الصلاة والزكاة ) غير معمول به عندهم، كما أنّه لا يصح بحال أن يفهم من الحديث جواز التدرج؛ لأنه سيتعارض مع القطعي الذي يحرم التدرج، كما لا يقاس على الحديث؛ لأن الأصل ( التدرج في الصلاة والزكاة ) غير معمول به. د- إذن هل يُرَدّ أو يمكن إعماله بما لا يتعارض مع القطعي؟ الجواب يمكن فهمه على النحو التالي: منطوق الحديث لا يدل على التدرج بل مفهومه هو الذي دل على ذلك، فنص الحديث: (( إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ )). فالمنطوق يفيد دعوتهم إلى الإيمان فإذا آمنوا فادعهم إلى الصلاة فإذا صلوا ادعهم إلى الزكاة، ولكن ليس في المنطوق فإذا لم يؤمنوا لاتدعهم إلى الصلاة وإذا لم يصلوا فلا تدعهم إلى الزكاة ! بل هذه فهمت من مفهوم المخالفة بالشرط أي إذا لم يؤمنوا فلا تدعهم للصلاة، وإذا لم يصلوا فلا تدعهم للزكاة، ومفهوم الشرط يعطَّل إذا خالف المنطوق، أي ليس فقط إذا عارض منطوق القطعي بل حتى إذا خالف منطوق الظني فإن المفهوم يعطل ولا يعمل به؛ ولذلك فيفهم الحديث بمنطوقه ويوقف عنده، ولا يعمل بمفهوم المخالفة لمعارضته منطوق الأدلة الصريحة بوجوب الأخذ بأحكام الإسلام كاملةً، وتعطيل مفهوم المخالفة بالمنطوق أمر ثابت في الأصول، ومتفق عليه عند الذين يعملون بالمفهوم وعند الذين لا يعملون به، فمثلاً: قـوله تعالى: ] وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [، فالمنطوق تحريم إكراههن على الزنا إن أردن العفاف، ومفهوم الشرط أن يكرهن إذا لم يردن العفاف، لكن هذا معطل بمنطوق الآية: ] وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [ ؛ ولذلك لا يعمل بمفهوم الآية: ] إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [ ويوقف في الآية عند منطوقها فقط أي: يعمل بمنطوقها هو: فلا يكرهن على الزنا إن أردن العفاف، وأما الحكم في حالة عدم إرادتهن العفاف فلا يؤخذ من مفهوم هذه الآية بل من الأدلة الأخرى التي تحرم الزنا تحريماً مطلقاً. ومثاله أيضاً قوله تعالى: ] وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ ...[ فإن منطوقها القصر في حالة الخوف، ومفهوم الشرط أَنْ لاقصر إن لم تخافوا، لكن هذا المفهوم معطل بمنطوق الحديث: (( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )) ؛ لذلك فيعمل بمنطوق الآية، وهو القصر في حالة الخوف، وأما القصر في حالة الأمن فلا يؤخذ من مفهوم الآية بل من أدلة أخرى أي من حديث الرسول r الذي بين جواز القصر في الخوف والأمن. وهكذا يقال في حديث معاذ أن منطوق الحديث يعمل به، ولكن لايعمل بمفهوم الشرط فيه بل يؤخذ حكم أداء الزكاة لمن لم يؤدِ الصلاة من أدلة أخرى وهي التي توجب فرض الزكاة فرضاً عاماً مطلقاً سواء أدى الصلاة أم لم يؤدها، أي أن أدلة تحريم التدرج يعمل بها منطوقاً ومفهوماً، وحديث معاذ يعمل به منطوقاً ولا يعمل به بمفهومه، وهكذا يجمع في العمل بالأدلة وفق الأصول الفقهية المتبعة. 2- حديث اشتراط ثقيف: عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص: (( أنّ وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله r أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم فاشترطوا عليه أن لايحشروا، ولا يعشروا ولا يُجَبُّوا فقال رسول الله r لكم أن لاتُحشروا ولا تُعشروا ولا خير في دينٍ ليس فيه ركوع )) ، وهذا اللفظ لأبي داود، وقوله: لايجبّوا من التجبية أي الركوع وقد أطلقت مجازاً عن الصلاة. وفي رواية أخرى لأبي داود من حديث وهب: (( قال سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت قال اشترطت على النبي r أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي r يقول: سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا )). وفي رواية لأحمد من حديث أبي الزبير: (( سـألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت فقال اشترطت على رسول الله r أن لاصدقة عليها ولا جهاد )). نقول في هذا الحديث: أ- حديث أحمد فيه ابن لهيعة وهو ضعيف، فلا يصلح للاستدلال وبالتالي ليس موضع بحث. ب- حديث أبي داود من حيث اشتراط ثقيف يؤخذ به وإن كان المنذري قد قال عنه: " وقد قيل إن الحسن البصري لم يسمع من عثمان ابن أبي العاص "، لكنها بصيغة المجهول، لذلك يمكن الاحتجاج به. ج- أبو داود في روايةٍ يقول: (( فاشترطوا على رسول الله r أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبّوا فقال رسول الله r لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا خير في دين ليس فيه ركوع )). وفي الأخرى يقول: (( سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت قال اشترطت على النبي r أن لاصدقة عليها ولا جهاد وأنه سمع النبي r يقول سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا )). وبالطريقة نفسها التي تحدثنا فيها عن حديث معاذ بن جبل t نقول: أ- لايصح أن يفهم من حديث اشتراط ثقيف جواز التدرج؛ لأن الأدلة القطعية ثابتة على تحريم التدرج. ب- إنّ الحديث لابد ان يفهم بما لايتعارض مع الأدلة القطعية التي حرمت التدرج، أي يعمل بالدليلين: الأدلة القطعية التي تحرم التدرج، والدليل الظني ( حديث اشتراط ثقيف )، وإما أن يعمل بالدليل القطعي ويرد الظني إذا لم يمكن إعمال الدليلين، أي يُصار إلى الجمع بين الأدلة إن أمكن أو يُعمد إلى الترجيح، ومعلوم أن القطعي قاضٍ على الظني. ج- إن الجمع بين الأدلة ميسور على النحو التالي: رواية أبي داود الأولى: (( أن لايحشروا، ولا يعشروا )) يحمل قوله: أن لايحشروا، على أن لا يحشروا إلى عامل الزكاة فيدفعوا زكاتهم عنده، بل في أماكنهم أي أنه هو يأتيهم إلى أماكنهم ويأخذ زكاتهم، وهذا المعنى هو أحد معاني ( يُحشروا )، قال في اللسان: " أي لايندبون للمغازي ولا تضرب عليهم البعوث ... وقيل لايحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم "، وأما يعشروا أي لايؤخذ عشر أموالهم، وهذا المعنى هو أحد معاني ( يعشروا )، قال في اللسان: أي لايؤخذ عشر أموالهم، وقيل أرادوا به الصدقة الواجبة؛ ولذلك يكون ما اشترطوه ووافقهم الرسول r عليه هو أن يدفعوا زكاة مالهم في أماكنهم، وأن لايؤخذ منهم العشر بل الزكاة فقط. وهكذا العمل بالدليلين: يحرم التدرج وفق الأدلة القطعية، ويجوز لمن يريد الإسلام أن يشترط دفع زكاته في مكانه، وأن لايؤخذ منه عشر بل زكاة فقط ، وهذا جائز ولا شيء فيه، أما إذا فسر الحشر والعشر بالمعاني الأخرى أي: بالجهاد والزكاة وأنها لاتجب عليهم فيتناقض هذا مع الأحكام القطعية، وبالتالي يُردُّ الحديث، وإعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما. أما رواية أبي داود الثانية: (( اشترطت لا صدقة عليها ولا جهاد وأنه سمع رسول الله r يقول سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا )) ، وهذا نص خاص فيهم لايتعداهم لغيرهم؛ لأن الحكم الخاص لايتعدى صاحبه، والحكم الخاص يحتاج إلى قرينة لخصوصيته حتى لايتعداه والقرينة هنا إخبار الرسول r أنهم إن أسلموا فسيتصدقون ويجاهدون، ويكون شرطهم لا واقع له، وعِلْم الغيب لايتأتى لغير الرسول r ، فهي قرينة على أن هذا الحكم خاص، كما أنّ الأحكام الخاصة واردة فمثلاً: شهادة خزيمة التي اعتبرها الرسول r له بشهادة رجلين فهي خاصة به ولا تتعداه إلى غيره، وكذلك أضحية أبي بردة بجذعة من المعز أي التي بلغت ستة شهور فهي خاصة به لاتتعداه إلى غيره، لأن الأضحية من المعز تجوز ببلوغها السنة. وهكذا يعمل بالدليلين: يحرم التدرج وفق الأدلة القطعية كما سيأتي بيانها، وتدرج الجهاد والزكاة خاص بوفد ثقيف. ثالثاً: مبررات أُخرى: 1- ما لايُدرك كلُّه لايُترك كُلُّه: فيقولون: نحن الآن لسنا بصدد الدعوة إلى تطبيق الإسلام، فهو ليس من أولوياتنا بل ندعو إلى تطبيق القانون المدني ـ أي قانون الكفر ـ ثم بعد مدة نحاول تطبيق شيء من الإسلام، وهكذا... ويستدلون بـ( ما لايُدرك كلُّه لايُترك كُلُّه ). المناقشة: هذه العبارة التي تلوكها ألسنة كثير من الناس، سواء الذين يصنفون في خانة في أهل العلم، أم الذين يعتبرون من عامة الناس، والمراد بها أنّ المسلم إذا عجز عن القيام بأمر الشارع كلِّه، لكنه يستطيع القيام ببعضه أو جلّه ( أكثره )، فإنّه يقوم بهذه الأمر ولا يتركه، قال تعالى: ] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا [، وقال رسول الله r: (( إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ))، لكن لابد هنا من توضيح أمور ثلاثة هي: 1- أن المولى U حين يقول: ] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [ ، ويقول: ] لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [، فهذا يعني أنه يكلفنا ما هو في استطاعتنا ووسعنا، والوسع هو أقصى الطاقة وليس أدناها أو أوسطها، أي: اتقوا الله I بقدر كل استطاعتكم وليس بقدر نصفها أو ثلاثة أرباعها. 2- أن عدم إمكانية القيام بما أمرنا به الشارع لايعني أن نسلك الطرق المحرمة شرعاً للوصول إليه، أي أن هذا الأمر الذي لانستطيع إدراكه كله ( لانستطيع عمله أو القيام به كله )، لكننا نستطيع القيام ببعضه أو أكثره، هذا الجزء الذي نستطيع القيام به هل نقوم به على ضوء أهوائنا وأمزجتنا، أو نرجع فيه إلى شرع الله U؟!. لاريب أننا ملزمون بالرجوع فيه إلى الشرع، لأننا ملزمون بالتقيد بالحكم الشرعي، فمثلاً إذا فقدنا الماء، أمرنا الشارع أن نستعمل الصعيد الطيب ( التراب )، فهل يجوز مثلاً إذا فقدنا الماء أن نستعمل بدلاً عنه النفط؟!. 3- أن كثيراً من أمور الشرع غير قابلة للتجزئة؛ لذا فهي غير خاضعة لمثل هذه القاعدة، مثل تحكيم شرع الله I ؛ لأن الله I أمرنا أمراً جازماً أن نحكّم شرعه I ولا نحيد عنه، ولو بعضاً منه، قال تعالى: ] وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [. كما أن واقع الذين يرددون هذه العبارة: ( ما لايُدرك كلُّه لايُترك كُلُّه ) يدل على أنها كلمة حق أُريد بها باطل؛ وذلك لثلاثة أمور: أ- أنهم لم يبذلوا الوسع في تحقيق ما أمر الله به وفرضه على الأمة من وجوب تحكيم شرعه، بل أخذوا يميعون القضية، ويزرعون في نفوس الناس الإحباط واليأس عندما يزعمون ويدّعون عدم إمكانية تحقيق هذا الواجب، مع العلم أنهم لو بذلوا من أجل إقامة هذا الدين معشار الجهود التي يبذلونها في إرضاء الكافر والخضوع له والترويج للمشاركة في حكم الكفر، لأقيم الدين، لكن الأمر يحتاج إلى الصدق مع الله ورسوله، وكيف ينصر الله قوماً، انهزموا في أنفسهم؟!. هذا مع العلم أن الله I لم يفرض علينا أمراً إلا وهو سبحانه وتعالى يعلم أن في استطاعتنا القيام به وتنفيذه. ب- أنهم لم يتقيدوا في الجزء الممكن من التطبيق ـ حسب ادعاءهم ـ بحكم الشرع، بل سلكوا فيه منهجاً بعيد كل البعد عن الإسلام. ج- أنهم استعملوا هذه العبارة فيما لايجوز فيه التجزئة، إلا وهو الحكم بما أنزل الله U. 2- موضوع الرِّق: زعموا بأن الشرع قد عالج أحكام الرق بطريقة التدرج. المناقشة: هذا مبرر واهي؛ لأن الله عز وجل لم يحرم وجود الرقيق بل أوجد منافذ له، وإذا عاد وجود الرِّق فستعود أحكامه وسيعود وجود الرقيق مرة ثانية. 3- نزول القران منجماً: ومما احتجوا به أيضاً قولهم بأن القرآن نزل مفرقا ومنجما على مدى 23 سنة، ولم ينزل دفعة واحدة مما يدل على التدرج. المناقشة: إن القرآن نزل منجماً على الأحداث والوقائع، فكان القرآن ينزل للرد على استفسارات الناس مثل قوله تعالى: ] يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ... [ (البقرة: 189). أو للرد على ادعاءات الكفار، قال تعالى: ] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [(النحل: 103)، أو كشف مؤامرات الكفار كما وصف سبحانه وتعالى حالة الوليد بن المغيرة في دار الندوة: ] إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ` فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّر ` ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ` ثُمَّ نَظَرَ ` ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ [(المدثر: 18-22)، أو في سرد قصص الأمم السابقة...إلخ. وقد بين الله تعالى الحكمة من هـذا التنجيم فقال عزَّ من قائل: ] وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [(الإسراء: 106)، وقال أيضاً: ] وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [( الفرقان: 32)، أورد القرطبي في تفسير هذه الآية: " فقال الله تعالى: ] كَذَلِكَ [ أي فعلنا ] لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ [ نقوي به قلبك فتعيه وتحمله; لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، والقرآن أنزل على نبي أمي؛ ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرقناه ليكون أوعى للنبي r وأيسر على العامل به، فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب "، فالحكمة متعلقة إذن بتيسير حمل القرآن والعمل به بمجرد نزوله ولا علاقة لها بالتدرج في تطبيق الأحكام. وهنا نريد أن نشير إلى الفرق بين موضوع نزول الآيات والأحكام منجمة على مدى 23 سنة، وهو ما بينّا الحكمة منه، وموضوع وجوب الإتباع الفوري لكل حكم نازل، فهما موضوعان منفصلان، والأحكام الآن قد نزلت كلُّها، قال تعالى: ] اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً[ (المائدة: 3)، ولم يبق لمسلم عذرٌ في عدم تطبيق حكم معين، فإن كانت الأحكام جاءت متتالية يوضح بعضها بعضاً وقد ينسخ بعضها بعضاً فإنه لم يثبت أن رسول الله r ولا صحابته من بعده قد تقاعسوا في تنفيذ حكمٍ ما بعد علمهم به، وقد تعددت الأخبار عنهم في التزامهم بالأحكام بمجرد نزولها، ولعل أروع مثال على ذلك تغييرُهم لقبلة الصلاة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام أثناء الصلاة بمجرد سماعهم بالحكم دون انتظار مع أن العقل يستسيغ أن يُتِمّوا صلاتهم ثم يُغيِّروا فيما يلي من الصلوات، عن ابن عمر t قال: (( بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله r قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى القِبْلَةِ )) (رواه البخاري). إذاً .. فالأحكام كانت تنزل بحسب الوقائع والأحداث لتثبيت القلوب عليها، فكان أول ما نزل الإيمان وذكر الجنة والنار ثم الحلال والحرام. وليس في هذا أخذ لجزء من الإسلام وترك لجزء آخر، فقد كان المسلمون مسؤولين في حدود ما نزل، ولم تتعد مسؤوليتهم أكثر من ذلك، لكن على تفصيل وضحته النصوص الشرعية، فالأحكام الشرعية الفردية مسؤول عنها المسلمون على أي حال سواء بوجود الدولة الإسلامية أم لا، أما الأحكام الشرعية المنوطة بالدولة الإسلامية فقد تعلقت بالدولة، وهذا هو التفصيل الملزم للمسلمين وليس غيره، ولا عودة إلى الوراء. 4- التدرج سُنّة كونية: زعموا أن التدرج سُنّة كونية لاتتخلّف، ] سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [(الفتح:23)، فضوء النهار يطرد عتمة الليل تدريجياً، والرضيع يصبح رجلاً تدريجياً...إلخ؛ لذلك فعدم مراعاة هذه السنّة الكونية سيؤدي إلى الفشل والسقوط. المناقشة: إن كلمة " سُنّة " التي وردت في القرآن قد جاءت في كل الآيات بمعنى واحد وهو عقاب الله تعالى للمتجبرين وإثابته للطائعين، ولم تَرِد بغير هذا المعنى قطُّ ، مثل قوله تعالى: ] وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ قُبُلاً [ (الإسراء: 55)، وقال تعالى: ] وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ` سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً [(الإسراء: 76-77)، وقال تعالى: ] سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [(الأحزاب:62). كما أنّ التدرج ليس سُنّةً لاتتخلف، بدليل أن الله تعالى جعل الإنسان يصبح مكلفاً بجميع الأحكام الشرعية بمجرد بلوغه، فالصبي ينتقل من وضع غير المكلف إلى وضع المكلف دون أدنى تدرج، عن عائشة رضي الله عنها عن النَّبِيِّ r أنه قَالَ: (( رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ )) (رواه أحمد)، والكافر يصبح مُكلّفاً بكُلِّ الأحكام الشرعية بمجرد إسلامه ولا يُمنح مهلةً في الالتزام بأوامر الله، فكيف يقال بعد هذا أن التدرج سُنّة لاتتخلف، وإن فَرَضنا أن التدرج حقيقة في الظواهر الطبيعية، فهل تصلح هذه الظواهر لأن تكون دليلاً شرعياً يُتّخذ كمصدر للتشريع أو قاعدة من قواعد الفقه مع مخالفته لها؟ إنّ الدليل على الأحكام الشرعية هو النص وما دل عليه النص فقط، ولا عبرة لغير ذلك أبداً. 5- تخفيف معاناة المسلمين ومشاكلهم: قالوا يسمح التدرج بتخفيف جزءٍ من معاناة المسلمين ومشاكلهم الناتجة عن استئثار العلمانيين أو فاسدي الذِّمم بمقاليد الأمور، فإذا ما استلم بعض المسلمين المخلصين بعض المسؤوليات وأحسنوا تسييرها تمكنوا من رفع بعض الأذى عن المسلمين بل وساهم ذلك في الدعاية للإسلام وحَمَلته، وعلى العموم ما دامت النية حسنة، فلا ضير من العمل؛ لأن تحقيق مصالح المسلمين ولو جزئياً أولى من عدمه. المناقشة: إنّ المسألة ليست في جواز تخفيف جزء من مشاكل المسلمين من عدمه فلا خلاف في جواز هذا بل هو أمر واجب، لكن الخلاف في الوسيلة المتبعة، والحكم على جواز العمل من عدمه لايكون بالنظر إلى نتيجة العمل فقط، أو بالنظر إلى الدافع إلى الأعمال فقط، ولكن بالنظر إليهما معاً بالإضافة إلى ماهية العمل في حد ذاته، فالمرأة التي تزني لكي تطعم أبناءها الجياع، لا يمكن لأحد أن يُجوِّز عملها رغم أن الدافع والنتيجة المقصودتين من العمل مقبولان؛ ذلك أن العمل الذي قامت به حرام، كذلك فإن كان تخفيف جزء من مشاكل المسلمين يكون عن طريق القيام بعملٍ حرامٍ مثل المشاركة في أنظمة الكفر، أو إعطائها الشرعية أو إعلان الرضا بها، فإنه يكون حراماً وإن خَلُصت النِّيّات وإن حَسُنت النتائج، ثم أليس العلاج يكون بقطع أسباب المرض، فكيف نروم علاج مشاكل المسلمين وسبب الفساد لا يزال قائماً؟. إنّ من عقيدة المسلمين أن الذل والضنك هما عاقبة من يحيد عن أوامر الله عز وجل، قال تعالى: ] قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ` وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى [(الحج: 123ـ124)، فهل يرجى الصلاح وشرائع الكفر مُتحكَّمة في رقاب المسلمين؟ كما أنّ سوء الحال التي وصل إليها المسلمون ليس ناتجاً فقط عن فساد الأشخاص الذين بيدهم مقاليد الأمور ـ وإن كانوا جزءً من المشاكل ـ ولكن بالأساس لفساد النظام المطبق، فالغاية ليست استبدالَ أشخاصٍ معينين بآخرين، وإنما استبدال نظام وضعي فاسد بنظام رباني صحيح، وعلى هذا فكُلُّ جهدٍ يُبذل في غير طريق إيجاد نظام الإسلام مضيعةٌ له، وإن كلَّ ما يُنادى به من تدرجٍ ومرونةٍ وموافقةٍ للعصر، ليس له من غاية إلا إعطاءُ حُقنٍ تخديريةٍ للمسلمين تُنسيهِم سبب بلائهم الحقيقي. هذا فضلاً عن أنّ ما يُمنّون به الناس من هذه المصالح هو محصور بهم وبأتباعهم، والغالبية العظمى من المسلمين لم ينتفعوا بشيء من ذلك، بل.. في كثير من بلدان العالم الإسلامي أصبح المشاركون في حكم الكفر يداً للحاكم على المسلمين وليس لهم، وخاصة الدعاة الصادقين الذين لم يتلوثوا بمعصية المشاركة بحكم الكفر، فان سألتهم عن ذلك؟!. قالوا: إذا لم نطع الحاكم في ذلك نطرد من الوظيفة، ونجرد من هذه الوزارة، ونحرم من هذا المنصب!!!. وهم في الواقع سائرون في ركب العلمانيين ومن لفَّ لفهم، ومنفذون لمخططات الكافر المحتل، وذلك باستمرار تحكيم شريعة الكفر، ومنع وصول الإسلام إلى الحكم، ولا ندري متى كان إقبال العلمانيين ومن معهم على معصية الله U ، والرضا بالكافر المحتل وأنظمته دليلاً ومبرراً لكي نشاركهم في الباطل؟!!. وتارة يحاولون تمرير مثل هذه الدعوات على الناس بحجة: أننا يجب أن نكون سياسيين، وتراهم عملياً يخضون ويتصرفون سياسياً لكن على الطريقة الغربية القائمة على الكذب والخداع والمراوغة والتضليل، في حين أن السياسة في الإسلام لها مفهوم محدد هو: رعاية شؤون الأمة بالحكم الشرعي، وليس بالحكم الغربي الكافر. هذه هي أهمُّ مبررات القائلين بالتدرج التي زعموا أنها تؤيد هذا الفهم في التفكير، والدعوة إلى الإسلام، وكانوا بهذا المنحى الذي سلكوه قد ساقوا مبرراتهم سوق الشهود على ما يريدون، ولم يكونوا خاضعين للنص ودلالاته بل أخضعوا النص لما يريدونه، فهل تستحق مثل هذه المبررات الواهية أن يوقع المسلم نفسه ـ فرداً كان أم جماعة أم دولة ـ في هذه المخالفات الواضحة لشرع الله تعالى ؟!. حكم الشرع في التدرج بعد استعراض: ماذا يعني التدرج، وماذا يشمل، وما هي مبرراته عند القائلين به، ننتقل إلى بيان الحكم الشرعي فيه، ولا نقول هنا الرأي الراجح؛ لأنّ فكرة التدرج هذه ليست من الشرع ولا يجوز نسبتها إلى الشرع، لكي يكون هناك رأي رجح وآخر مرجوح، بل إنّ المسألة لا تتعلق بالتدرج: هل هو حكم شرعي أو لا، بقدر ما تتعلق بطريقة تفكير لايقرها الشرع بحال من الأحوال؛ ذلك أن للإسلام طبيعة تختلف جذرياً عن غيره، فطبيعة النظام الإسلامي أنه قائم على اتباع الوحي حصراً، بينما تقوم طبيعة النظام الوضعي على الابتداع الإنساني والخبرات البشرية والتي تبقى مهما قويت قاصرة عن تحديد المعالجات الصحيحة لمشاكل الإنسان، والمسلم عندما يتقيد بالشرع عليه أن يجعل أساس تقيده الإيمان بالله تعالى، وإلا فلن يقبل منه التزامه، وعندما يدعو غيره إلى الإسلام عليه أن يجعل أساس دعوته الإيمان بالله، إلا فلن تقبل منه دعوته، فالمسألة تتعلق بالإيمان أولاً، والالتزام الصحيح ثانياً، وحتى يتغير المسلم ويغير الأنظمة تغييراً صحيحاً وسليماً يجب أن يهتم بالأساس الروحي: ( الإيمان بالله تعالى )، بإيجاده أولاً ومن ثم تغذيته، فيسهل بعد ذلك الالتزام. وعدم اعتماد المسلم على الأساس الروحي في الالتزام يوقعه في الإثم إن لم يؤد به إلى الكفر، فلابد من الالتزام بالحكم الشرعي المبني على الأساس الروحي بغض النظر عن مطابقته لواقع الناس أو طباعهم أو أهوائهم أو عدم مطابقته؛ لأنّ مقياس الأعمال الوحيد الذي يقبله الإسلام هو: ( مقياس الحلال والحرام )، أي مقياس التقيد بالأحكام الشرعية بغض النظر عن الصعوبة والسهولة، ومهما كانت المصلحة الآنية أو الأذى المترتب على ذلك؛ لذلك فالمسلم لايسير وفق مايسمح به الطغاة من الإسلام، بل يشقُّ الطريق الذي أمره الله تعالى به شقّاً، ولا يسير في طريقه بناء على ردة فعل عفوية، بل يمعن التفكير ويحدد غاياته بدقة ويسعى جاهداً لتحقيقها ولا يرضى عنها بديلاً، قال تعالى: ] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [ (يوسف: 108)، وقال رسول الله r : (( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه)). فيحرص حرصاً شديداً على ألا يحيد عن الشرع قيد أنملة، قال تعالى: ] وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلا ` إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً [(الإسراء:74 ـ75)؛ لذلك فإننا تقيدنا في بحثنا هذا بالطريقة الشرعية أي: بفهم الواقع (المناط) بجعله محل التفكير ( لا مصدره ) ثم استنباط الحكم من النصوص الشرعية دون سواها، ونحن موقنون أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين وأن الله ناصرٌ حزبه لامحالة، وحارسهم وموفقهم على أن يلتزموا بالانقياد التام لأحكام الله U واتِّقاء محارمه مهما بلغ الأذى والتضييق، كما أننا نعلم أن مواجهة الظلم والظلمة هي قدر الأنبياء وورثتهم والسائرين على نهجهم من حَمَلة الدعوة لايملكون عنه مَحيداً، قال تعالى: ] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُـورِ [(آل عمران: 186). إنّ معظم الدعاة إلى التدرج لايدركون واقع ما يدعون إليه، فهم يدعون إلى تطبيق أحكام من غير الشرع أو تطبيق بعض أحكام الشرع وإسقاط البعض الآخر وتعطيله بانتظار أن تسنح الظروف، وهذا الجانب من الحياة اليومية الذي رضوا بأن لايُطبق فيه الإسلام يحتاج إلى نظامٍ يسير وفقه ولن يبقى معطلاً بانتظار أن تسنح الظروف. فماذا يُطبق فيه إنّ لم يطبق الإسلام؟! الجواب: لاريب أن الذي سيطبق فيه هو الكفر، فدعاة التدرج إذن هم في الواقع دعاةٌ إلى تطبيق الكفر علموا أم لم يعلموا! فكيف يقبل المسلم هذا على نفسه؟! ومن باب أولى حامل دعوة، ثمَّ إنّ الدعوة إلى التدرج فيها تدخُل وتحكُم في التشريع حين تجيز للإنسان تطبيقاً جزئياً بحجة أنه لا يقوى على التطبيق الكامل الفوري، ونحن أُمرنا أن لانقدم بين يدي الله ورسوله ولا نؤخر، فالذي يضع المعالجات والحلول لمشاكل الإنسان هو ربه العليم الخبير الذي يعلم ما خلق، فكيف يسمح المسلم لنفسه حين الدعوة للتدرج بالتدخل في عملية التشريع هذه، في الوقت الذي تنحصر مهمة البشر في تبليغ المعالجة وتنفيذها، وليس في وضعها. وهنا نريد أن نسأل من يقول بالتدرج: أين هو الأساس الروحي في هذه الدعوة، أين أمر الله به ؟! وهل لجأ رسول الله r إليه مع مسيس الحاجة إليه، سواء في مكة أم في المدينة ؟! لم يلجأ رسول الله إلى غير شرع الله الذي أُمر به، وفيما يلي الأدلة التي تبين وبصورة واضحة وجلية حرمة التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية: 1- الرسول r بدأ دعوته بكلمة التوحيد ولم يدعُ إلى أقل منها: فقد بدأ رسول الله r دعوته بـ( لا إله إلا الله محمد رسول الله )، وكانت كذلك هي آخر كلامه من غير أي تغيير، فهل دعا إلى أقل منها في بادئ الأمر ثم تدرج بها، أم أنها كانت أول دعوته وآخرها؟!. 2- مواقف النبي r من عروض مشركي مكة: إنّ التدرج وأنصاف الحلول ليس مما علمنا إيَّاه رسول الله rإلا ما كان رَفَض الحكم والملك يوم عرَضه عليه سادة قريش مشروطاً بالتخلي عن الدعوة فما كان جوابَه إلا أن قال: (( ما جئتُ بما جئتُكم به أطلبُ أموالكم ولا الشرف فيكم ولا المُلك عليكم ولكنَّ الله بعثني رسولاً وأنزل عليَّ كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلّغتُكم رسالات ربّي ونصحتُ لكم فإنْ تقبلوا مني ما جئتُكم به فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تَرُدّوه عليَّ أصبرْ لأمر الله حتى يحكُم الله بيني وبينكم ))، ( سيرة ابن هشام، وذكره البخاري في كتابه خلق أفعال العباد ). وكذلك رفَض رسول الله r التناوب على الحكم يوم عرضته عليه قريش، أورد القرطبي في تفسير سورة الكافرون: " ] قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [( الكافرون:1)، ذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس: أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة, والعاص بن وائل, والأسود بن عبد المطلب, وأمية بن خلف، لقوا رسول الله r فقالوا: يا محمد, هَلُمَّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي جئتَ به خيراً مما بأيدينا، كنا قد شاركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه. فأنزل الله عز وجل: ] قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [ " ، ويُستنبط مما تقدم حرمة المشاركة في الحكم ضمن أنظمة الكفر ، وحرمة التناوب مع الكفار على الحكم، وكلُّ نظام حكمٍ يخالف نظام الإسلام في أحد أركانه، وعلى رأسها حصرُ حق التشريع في الله تعالى وحده، يعدُّ نظام كفرٍ، ويدخل في هذا الباب: الديمقراطية، والاشتراكية،... الخ. ولا يقولنَّ متقول: إن هذا خاص في العبادة ! ذلك أنّ عدي بن حاتم الطائي عندما سمع هذه الآية: ] اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [(التوبة:31)، وكان قد تنصر في الجاهلية، قال: فقلت إنهم لم يعبدوهم فقال أي رسول الله r : (( بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم ))، وهكذا فإن القبول بتشريع غير تشريع الله عز وجل هو عبادة لغير الله تعالى. 3- موقف النبي r من بني عامر بن صعصعة: ألم يقل الرسول r لبني عامر بن صعصعة حين كان يطلب منهم النصرة: (( الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء ))، ( سيرة ابن هشام )، وذلك عندما طلبوا أن يكون الأمر فيهم من بعده مع شدة الحاجة عنده لوجود من ينصر الدعوة، ألم يكن بالإمكان إجابتهم إلى طلبهم، ثم بعد أن ينصروه تتغير مطالبتهم؟ ولكنها الدعوة الصادقة والأمر الرباني الذي جعله صادقاً فيما يقول من غير مداهنة ولا مساومة، ليحيا من حي عن بينة ويهلك حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. 4- موقف النبي r من بني شيبان: عندما أتى رسول الله r بني شيبان قالوا له: " يامحمد إن عندنا رجالاً كالذرِّ ومالا كالتراب وعزيمة وبأساً كالجبال، ننصرك على العرب ولا ننصرك على الفرس والروم "، فقـال لهم رسول الله r : (( والله إن هذا الدين لن يأخذه إلا من أحاطه من جميع جوانبه ))، فلم يتملق لهم كما يفعل أصحاب المنهج الإنبطاحي القائلون بالتدرج في أيامنا هذه، ولم يقل لأكسبهم الآن ثمَّ بعد ذلك أُقنعهم بهذا الأمر، بل ظل ثابتاً جلداً صلباً على الحق بالرغم من تلك الأوقات العصيبة التي أُقفلت فيها بوجهه الأبواب وضاقت به وبصحبه السبل حتى هاجروا إلى الحبشة، واستمر رسول الله r على هذه الحال حتى هيأ الله له أهل المدينة فبايعوه على الإسلام والنصرة فكانت الهجرة وبداية عهد جديد للمسلمين في ظل دولة الإسلام التي أقامها النبي r في المدينة المنورة. 5- موقف النبي r من بني ثقيف: روى ابن هشام في سيرته أنه عندما قدم وفد ثقيف ليفاوضوا رسول الله r سألوه: (( أن يدع لهم الطاغية، وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين. فأبى رسول الله r ذلك عليهم. فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم، حتى سألوا شهراً واحداً بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمّى، وإنما يريدون بذلك، فيما يظهرون، أن يتسلّموا بتركِها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يُروِّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله r إلاّ أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها. وقد كانوا سألوه ـ مع ترك الطاغية ـ أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله r : أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه ... ))، والصلاة كانت حينذاك قد فرضت، فلم يقبل منهم أن يترك لهم اللات شهراً ثم يهدموها بعد ذلك، ولم يقل لهم لا تصلّوا مدة ثماني سنوات ثم أدّوها، فأين القائلون بالتدرّج من ذلك. إنّ هذه المواقف من الرسول r لتدل على عدم قبوله بأدنى مساومة مهما كانت، وقد أعطى صلوات الله وسلامه عليه على ذلك أصدق مثل في دعوته، فلم يداهن ولم يهادن، ولم يساير، ولم يحاب، ولم يداج من بيدهم الأمور، ولم يقل لاستغل هذه الفرصة واستحوذ على السلطة ثمَّ احكم بالإسلام، بل صدح بها واضحة جلية، الإسلام ولاشيء سواه، فكانت دعوته صريحة جريئة تبعث الفكر الصادق الذي يدحض به الباطل ويجعله زهوقاً. وهذا يعني أن الدعوة إلى الإسلام لابد أن تتحلى بالصدق واستقامة الطريق، لا بالتهاون والتدرج، قـال تعالى: ] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ` قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً [(الكهف: 1- 2)، والله I أخبرنا أن الكفار يودون أن نداهنهم ونسايرهم ونتنازل عن الحق، ونقبل بأرباع الحلول وأنصافها ابتداء بالكفر، فقال عز من قائل: ] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ... [(البقرة:109)، وانتهاء بالأحكام فقال تعالى: ] فَلا تُطِعِ المكذبينَ ` وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [(نون:8-9)، وقد أمرنا ربنا بالاستقامة والتقيد بالشرع فقال: ] فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [(هود:112)، وحذرنا ربُنا من الركون إلى الظالمين بقوله: ] وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [(هود:113). 6- حديث النبي r في التخيير: أخرج ابن ماجة بإسناد رجاله ثقات عن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله r فقال: (( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ ))، إلى أن قال: (( وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ))، وهذا نصُّ في المسألة، ينهى نهياً جازماً عن التّخيُّر مما أنزل الله، والتدرج هو عين التخير، فيكون منهياً عنه نهياً جازماً. 7- الإجماع: فقد ثبت بالتواتر أن الخلفاء الراشدين الأربعة وولاتهم وقضاتهم كانوا يطبقون الإسلام كاملاً ولا يتدرجون في تطبيق الأحكام الشرعية. 8- محاربة أهل الردة: ألم يقاتل الخليفة أبو بكر الصديق t المرتدين ومانعي الزكاة، ولم يأخذهم بالتمهل وتطييب الخاطر، قائلا قولته المشهورة: ( والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه )، مع أن وضع المسلمين كان يومها يشهد حركة ارتداد وتمرد واسعين. فلو كان للتدرج مكان في قاموسهم لكان هذا الأمر أولى ما يؤخذ فيه. 9- الفتوحات وتطبيق الشرع على البلاد المفتوحة: لقد كانت الفتوحات الإسلامية قائمة على قدم وساق، وكانت البلدان تفتح، والناس يدخلون في دين الله أفواجا، ولم يراع المسلمون الأوائل أوضاع أهل هاتيك البلاد الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام. فلم يتركوهم يشربوا الخمر ريثما تألف نفوسهم عدم شربها أو عدم التعامل بالربا أو عدم الزنا...الخ، بل كانوا يدخلون في الإسلام كاملا فيمتنعون عن الربا والزنا والخمر وعن كل ما حرمه الله عليهم، وكانوا ينفذون الأحكام الشرعية المتعلقة بذمتهم سواء منها الفردية أم الجماعية، العينية أم الكفائية. 10- دلالة النصوص الشرعية على وجوب التقيد بأحكام الشرع، والامتثال الفوري لها: لو رجعنا إلى القرآن نستقرئ آياته لأدركنا أن وجوب الالتزام بأحكام الشرع أمر قطعي، وأنّ التدرج هو من الأفكار الدخيلة الغريبة التي وفدت إلينا في عصور الانحطاط التي عاشها المسلمون، فقد كان الرسول r والمسلمون معه كلما نزلت آية بادروا بتنفيذها دون أدنى مهلة أو تأخير، وكان الحكم الذي ينزل يصبح واجب التطبيق بمجرد نزوله. وصار المسلمون بعد نزول قوله تعالى: ] الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [(المائدة:3)، مطالبين بتطبيق الإسلام كله مطالبة كلية، سواء منها ما يتعلق بالعقائد أو العبادات أو الأخلاق، أو المعاملات، وسواء أكانت هذه الأحكام تتعلق بالحكم أم الاقتصاد أم الاجتماع أم السياسة الخارجية، في حالة السلم أو في حالة الحرب. وليست هذه الآية الوحيدة في موضوع وجوب الالتزام بالشرع وعدم الحيد عنه، بل الآيات كثيرة، منها: قوله تعالى: ] فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [(النساء: 65)، وقوله تعالى: ] وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [(الحشر:7)، أي خذوا واعملوا بجميع ما آتاكم الرسول وانتهوا وابتعدوا عن كل ما نهاكم عنه؛ لأنّ ( ما ) في الآية من صيغ العموم فتشمل وجوب العمل بجميع الواجبات ووجوب الانتهاء والابتعاد عن جميع المنهيات، والطلب بالأخذ والانتهاء الوارد في الآية يفيد الوجوب بقرينة ما ورد في نهاية الآية من الأمر بالتقوى والوعيد بالعذاب الشديد لمن لم يعمل بهذه الآية، ومن هذه الآيات قوله تعالى: ] وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ[ (المائدة:49)، وهذه الآية تأمر الرسول r والمسلمين من بعده أمراً جازما بوجوب الحكم بجميع ما أنزل الله تعالى من الأحكام سواء أكانت أوامر أم نواهٍ، وكذلك فيها نهي للرسول r وللمسلمين من بعده عن اتباع أهواء الناس والانصياع لرغباتهم، وكذلك فيها تحذير للرسول r وللمسلمين من بعده أن يفتنه الناس وأن يصرفوه عن تطبيق بعض ما أنزل الله تعالى إليه، وقال رسول الله r : (( لايُؤمن أحدكم حتى يكونَ هَواهُ تبعاً لِمَا جئتُ بِهِ )). هذا فضلاً عن أنّ الأدلة التي جعلت الحاكم الذي لايطبق جميع أحكام الإسلام أو يطبق بعضها ويترك بعضها الآخر كافراً إن كان يعتقد عدم صلاحية الإسلام أو بعض أحكامه للتطبيق فيترك تطبيقها، قال تعالى: ] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ [(المائدة: 44)، وجعلته ظالماً وفاسقاً إن كان لايطبق جميع أحكام الإسلام، أو لايطبق بعضها لكنه يعتقد بصلاحية الإسلام للتطبيق، وقـال تعـالى: ] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [(المائدة: 45)، وقال تعالى: ] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [(المائدة: 47)، كما أن الشرع أوجب القتال وإشهار السيف في وجه الحاكم المسلم إذا أظهر الكفر البواح الذي فيه برهان من الله I ، أي إذا حكم بأحكام الكفر التي لا شبهة أنها أحكام كفر، كثيرة كانت هذه الأحكام أم قليلة، لما ورد في حديث عبادة بن الصامت: (( ... وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان )) (رواه مسلم). إنّ الأدلة الشرعية لم تنصّ على وجوب التقيد بأحكام الشرع فحسب، بل دلت أيضاً على وجوب الامتثال الفوري للحكم الشرعي، وهي أكثر من أن يتسع لها المقام، وقد تقدم من الآيات والأحاديث ما يدل على ذلك، لكن نذكر بعض النصوص الأخرى إتماما للفائدة: ` روى أبو يعلى بإسناد لابأس به عن جابر قال: كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين فحمل منها بمال، فقدم به المدينة، فلقيه رجل من المسلمين، فقال: يا فلان، إن الخمر قد حرمت، فوضعها حيث انتهى على تل، وسجى عليها بالأكسية، ثم أتى النبي r فقال: (( يا رسول الله، بلغني أن الخمر قد حرمت! قال: أجل. قال: أليَ أن أردها على من ابتعتها منه؟ قال: لايصلح ردها. قال: أليَ أن أهديها لمن يكافئني منها؟ قال: لا. قال: إن فيها مالاً ليتامى في حجري. قال: إذا أتانا مال البحرين فأتنا نعوض أيتامك من مالهم. ثم نادى بالمدينة. قال: فقال الرجل: يا رسول الله الأوعية ننتفع بها! قال: فحلوا أوكيتها، فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي )). ` روى أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، واللفظ لأحمد، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: (( أصبنا حمراً خارجاً من القرية، فقال رسول الله r : أكفئوا القدور وما فيها )). وفي رواية لأحمد عن صليت الأنصاري وكان بدرياً قال: (( نهى رسول الله r عن لحوم الحمر ونحن بخيبر فأكفأناها وإنا لجياع ))، فلم يبحها لهم لأنهم جياع! ؛ لأن جوعتهم لم تكن مهلكة. ` أخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا طلحة الأنصاري وأبا عبيدة بن الجراح، وأبيّ بن كعب شراباً من فضيخ وهو تمر، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس، قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال أنس: فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسـفله حتى انكسرت. 11- اُدخلوا في السِّلم كافّة: ونختتم أدلة تحريم التدرج بذكر هاتين الآيتين: قال تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ` فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [(البقرة: 208، 209)، ونكتفي بنقل نص الكلام من تفسير الطبري، وتفسير ابن كثير، والذي يوضح دلالة الآيتين على تحريم التدرج في الأحكام الشرعية. قال الطبري في تفسيره ج2 صـ ( 326 ): " يعني جل ثناؤه بذلك اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها وادخلوا في التصديق به قولاً وعملاً ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدو مبين لكم عداوته وطريق الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه ومنه تسبيت السبت وسائر سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام " ، ثم قال: " القول في تأويل قـوله تعالى: ] فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [، يعني بذلك جل ثناؤه فإن أخطأتم الحق فضللتم عنه وخالفتم الإسلام وشرائعه من بعدما جاءتكم حججي وبينات هداي واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنون فاعلموا أن الله ذو عزة لايمنعه من الانتقام منكم مانع ولا يدفعه عن عقوبتكم على مخالفتكم أمره ومعصيتكم إياه دافع حكيم فيما يفعل بكم من عقوبته على معصيتكم إياه بعد إقامته الحجة عليكم وفي غيره من أموره". وقال ابن كثير في تفسيره ج1 صـ ( 248 ـ 249 ): " يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك، قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد وطاوس والضحاك وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد في قوله:ادخلوا في السلم يعني: الإسلام وقال الضحاك عن ابن عباس وأبو العالية والربيع بن أنس: ادخلوا في السلم يعني: الطاعة، وقال قتادة أيضاً: الموادعة وقوله: كافة، قال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة والضحاك: جميعا، وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر، وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة وطائفة استأذنوا رسول الله r في أن يسبتوا وأن يقوموا بالتوراة ليلاً فأمرهم الله بإقامة شعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر إذ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه والتعويض عنه بأعياد الإسلام ومن المفسرين من يجعل قوله: كافة حالاً من الداخلين أي أدخلوا في الإسلام كلكم والصحيح الأول وهو أنهم أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام وهي كثيرة جداً ما استطاعوا منها كما قال ابن أبي حاتم أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا أحمد بن الصباح أخبرني الهيثم بن يمان حدثنا إسماعيل بن زكريا حدثني محمد بن عون عن عكرمة عن ابن عباس: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة كذا قرأها بالنصب يعني مؤمني أهل الكتاب فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمور التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم فقال الله: ] ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [ ، يقول ادخلوا في شرائع دين محمد r ولا تدعوا منها شيئاً وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها وقوله: ] وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [ ، أي اعملوا بالطاعات واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان فـ: ] إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [(البقرة:169)، و] إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [(فاطر:6 ) ؛ ولهذا قال: ] إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [، قال مطرف: أغش عباد الله لعبيد الله، الشيطان، وقـوله: ] فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ [، أي عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحجج، ] فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ [، أي في انتقامه لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب، ] حَكِيمٌ [، في أحكامه ونقضه وإبرامه ". ومما تقدم يتبين لنا وبما لايدع مجالاً للشك حرمة التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية، فلا يجوز للجماعات والحركات والأحزاب الإسلامية أثناء سيرها ودعوتها أن تأخذ بهذه الفكرة السقيمة، ولا يجوز لها أن تنادي بتطبيق جزءٍ من الإسلام دون آخر، ولا يجوز لها أن تنهى عن منكر معين وتغُضَّ الطرف عن آخر، فلا فرق بين أحكام العبادات وأحكام المعاملات، ولا فرق بين إنكار شرب الخمر وإنكار عمالة الحُكّام للغرب الكافر، كما يحرم عليها إذا وصلت إلى الحكم أن تتأخر في تطبيق أي جزء من الإسلام. فلا تساهل ولا تدرج في تطبيق أحكام الإسلام، إذ لافرق بين واجب وواجب ولا بين حرام وحرام، ولا بين حكم وآخر، فأحكام الله I لابد أن تطبق على الوجه الذي أمر به الله U ، فتنفذ دون تأخير أو تسويف أو تدريج، وإلا انطبق علينا قول الله تعالى: ] أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [(البقرة:85)، وليس هناك من عذر لأي مسلم في عدم تطبيق أي حكم شرعي حاكماً كان أو فرداً عادياً، بحجة عدم القدرة على تطبيقه، أو بعدم ملاءمة الظروف لتطبيقه، أو لأن الرأي العام العالمي لايقبل بتطبيقه، أو أن الدول الكبرى في العالم لاتترك لنا مجالاً لتطبيقه، أو غير ذلك من الذرائع والحجج الواهية التي لا قيمة لها، ومن يحتج بها فلن يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، اللهم إلا إذا كانت هناك رخصة شرعية ذكرت في النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله r ، لا أن تكون النصوص الشرعية تمنع التفريط بالحكم الشرعي وتحرمه ثم يأتي هؤلاء ليقولوا بالتدرج الذي ليس فيه إلا التفريط بالأحكام الشرعية وتطبيق أحكام الكفر. أيها المسلمون بعامة والدعاة منهم بخاصة: نحن نعلم يقيناً أن الدين الذي يقبله الله I ولا يقبل سواه هو الإسلام، قال تعالى: ] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ [، وقـال وقوله الحق: ] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [، إذاً فهناك أمرين لا ثالث لهما، الإسلام أو الكفر، ولا توجد بينهما منزلة أو حالة وسط، فإما أن يكون الإنسان في دائرة الإسلام، وإلا فانه سيكون في دائرة الكفر، وإما أن يكون المسلم داعياً إلى الإسلام، وإلا فإنه سيكون داعياً إلى الكفر، فالدعوة إلى إقامة دولة المؤسسات، ودولة القانون المدني ....الخ، هي دعوة إلى غير الإسلام، هي دعوة لتطبيق أنظمة الكفر، فملة الكفر واحدة، ولا يغرنَّكم التلاعب بالألفاظ ، يقولون .. الدعوة إلى تطبيق الإسلام ليس من أولوياتنا!!. فإن لم تكن الدعوة إلى الإسلام وتطبيقه من الأولويات، فما هي الأولويات التي يجب أن ندعو إليها إذاً؟!!. هل حمل رسول الله r غير الدعوة إلى الإسلام أولوية، ألم يحاصر رسول الله r هو ومن معه في شعاب أبي طالب، ألم يقاسوا ويعانوا من ظلم قريش وطغيانها وجبروتها، فهل جعلهم هذا ينحرفون ويبحثون عن أنصاف الحلول، والتدرج، ويقولون تطبيق الإسلام ليس من أولوياتنا!!. وما أشبه اليوم بالأمس، بالأمس عرضت قريش على رسول الله r المشاركة في الملك والحكم، مقابل التخلي عن الإسلام والدعوة إلى وتطبيقه، واليوم تعرض علينا دول الكفر المشاركة معهم في الحكم والملك، مقابل التخلي عن الإسلام والدعوة إلى وتطبيقه في واقع الحياة العملية، فهل سنرضى بهذا العرض ـ تحت عباءة التدرج ـ أم نتأسى برسول الله r الذي لم يقبل بأدنى مساومة، وأعطى على ذلك أصدق مثل في دعوته، فلم يداهن ولم يهادن، ولم يساير، ولم يحاب، ولم يداج من بيدهم الأمور، ولم يقبل بالتدرج والمرحلية وأنصاف الحلول، ولم يقل لاستغل هذه الفرصة واستحوذ على السلطة ثمَّ احكم بالإسلام، بل صدح بها واضحة جلية، الإسلام ولاشيء سواه، فكانت دعوته صريحة جريئة تبعث الفكر الصادق الذي يدحض به الباطل ويجعله زهوقاً. إنّ فكرة التدرج هذه وجدت في رؤوس أصحابها، نتيجة لضغط الواقع، وللتفلت من هذا الضغط راحوا يتصيدون لها الأدلة تصيداً لتكون مبرراً ومسوغاً للدعوة بحسبها، فالفكرة وجدت أولاً، ثم راحوا يبحثون عن الدليل الشرعي الذي أولوه بحيث يخدم هذه الفكرة، وهذه هي بداية الإنحراف، ولقد رأينا بعض الدول والجماعات والأحزاب التي تبنّت التدرج وقد مرّت عليها العقود، لم يؤدي التدرج إلى اقترابها من الإسلام، بل إلى الابتعاد عن الإسلام والاقتراب من أميركا وحلفائها وأعوانها وعملائها، واستجداء رضاها عنهم؛ لذلك كان لزاماً على دعاة التغيير، وقد تصَدّوا لهذا العمل الجَلَل، وهم يقودون الأمة في طريقها نحو النهضة، عليهم أن يدققوا النظر ويمعنوا الفكر فيما يقومون به من أعمال وأن يحذروا من أن يتم استدراجهم من حيث لايعلمون، للوقوع في كمين التدرج الذي نصبه الغرب وأتباعه من حكام والمسلمين وعلماء البلاط لتحقيق أغراض عديدة أهمها: 1- استدراج المخلصين من الدعاة واستغلالهم لضخ دماء جديدة في عروق الأنظمة الفاسدة المهترئة لترقيع خَرَقِها وتطويل عمرها. 2- إشغال المخلصين من الدعاة بالأعمال الجانبية التي لا تجدي نفعاً عن العمل الجذري القادر على التغيير. 3- تيئيس المسلمين عن طريق افتعال العراقيل بشكل مستمر. وبدل الدعوة إلى التدرج، ندعوكم ـ أيها المسلمون بعامة والدعاة منكم بخاصة ـ إلى الإصرار على الدعوة إلى الإسلام كاملاً دون تدرج وتجزئة للأحكام الشرعية، فلا فرق بين أحكام الصلاة وأحكام الجهاد ولا بين أحكام الحيض والنفاس وأحكام الحكم والاقتصاد. ختاماً: إنّ الدولة الإسلامية حين تقوم لن تقوم على أناس فارغين أو مثقلين بالأفكار الغربيّة، ولن تقوم على أناس لم تعمل الدعوة فيهم ولم تؤثر عليهم فيقبلوها، بل تقوم على رأي عام منبثق عن وعي عام يتقبل فكرة الإسلام والحكم به، تقوم على أناس آمنوا أن الإسلام فكرة وطريقة، عقيدة ونظام، ولا حاجة للرضوخ لضعف الإنسان أو مسايرة الواقع؛ لأنّ الله أمرنا أن نغير النفوس والواقع بالإسلام؛ لذا لابد للمسلمين القائمين على فكرة التدرج أن يخلعوا ثوب الضعف الذي يلبسونه، ويتصلوا بالشرع اتصال الواثق بربه، المؤمن إيماناً راسخاً، بأن الله I هو الذي يدبر الأمر ويغير الأوضاع، وهو تعالى وحده يمنح النصر، قـال تعـالى: ] وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [(الأنفال:10)، ولكنّ الله تعالى اشترط لتحقيق النصر لعباده، أن ينصروه، فقال: ] وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [(الحج:40)، ولا ريب أن نصرة الله تعالى ودينه إنما تكون باتِّباع أوامره واجتناب نواهيه، لا بتقديم التنازلات تحت ذريعة التدرج والمرحلية، وإنّ من أهمّ ما يجب علينا إتباعه والعمل له في هذه المرحلة الراهنة، هو تغيير هذا الواقع المرير ، وذلك بالعمل لتحكيم شرع الله تعالى، قال تعـالى: ] فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [(النساء: 65)، واستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة، التي بشرنا بها رسول الله r بقوله: (( ... ثمَّ تكون خلافة على منهاج النبوة )). ] وَاللَّهُ غَالبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون [
×
×
  • اضف...