اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

بين يدي سورة البقرة


Recommended Posts

بين يدي سورة البقرة

 

 

سورة البقرة مدنية، على اعتبار أن المدني ما نزل بعد الهجرة، ولو كان نزوله مكانًا في غير المدينة، فالعبرة في تصنيفه بالمدني هو زمان النزول، فما كان قبل الهجرة كان مكيا، وما كان بعدها كان مدنيا.

والقرآن المكي، الذي نزل بمكة يقرب من ثلثي القرآن وسميت آياته مكية، وهي في مجموعها لا تكاد تتعرض لشيء من الأحكام، وإنما تقتصر على بيان أصول الدين والدعوة إليها كالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، والأمر بالصلاة، والاتصاف بالصفات الخُلقية كالصدق والأمانة، والنهي عن الأعمال المسيئة كالزنا والقتل ووأد البنات، والتطفيف في الكيل والميزان، وتضع الخطوط العريضة والدقيقة لعملية الصراع الفكري بين النظام الجاهلي، ونظام الإسلام، في إطار طريقة إحلال الإسلام محل الكفر نظامَ حياة، وما يتخلله من كفاح سياسي بقصد ضرب النظام السياسي الجاهلي من أساسه لتقويض أركانه، وما شابه ذلك. والقسم الثاني من كتاب الله تعالى الذي نزل في المدينة يقارب ثلث القرآن وسميت آياته مدنية. وهي آيات الأحكام من معاملات كالبيع والإجارة والربا، ومن حدود كحد الزنا وحد السرقة، ومن جنايات كقتل القاتل العمد وعقوبة قُطّاع الطرق، ومن بيّنات كشهادة الزنا وسائر الشهادات. ونزل كذلك باقي أحكام العبادات كالصوم والزكاة والحج والجهاد .

سورة البقرة: خمسة وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف، وستة آلاف ومائة وعشرون كلمة، ومائتان وستة وثمانون آية في عدد الكوفي وعدد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهي أطول سور القرآن على الإطلاق.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شيء سناما وسنام القرآن سورة البقرة من قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخل في بيته شيطان ثلاثة أيام) وسَنام كل شيء أعلاه وهذا ليس علَماً لها ولكنه وصف تشريف، وإنما كانت سنام القرآن، أي ذروته لأنها اشتملت على جملة ما فيه من أحوال الإيمان وفروع الإسلام.

وقال خالد بن مَعْدان، وورد في حديث مرفوع في مسند الفردوس: إنها "فسطاط القرآن" والفسطاط ما يحيط بالمكان لإحاطتها بأحكام كثيرة، وذلك لعظمها وبهائها وما تضمنت من الأحكام والمواعظ.

نزلت سورة البقرة بالمدينة بالاتفاق وهي أول ما نزل في المدينة، وحكى ابن حجر في فتح الباري الاتفاق عليه، ولا شك أن سورة البقرة فيها فرض الصيام، والصيام فرض في السنة الأولى من الهجرة، فُرض فيها صوم عاشوراء ثم فرض صيام رمضان في السنة الثانية لأن النبيء صلى الله عليه وسلم صام سبع رمضانات أولها رمضان من العام الثاني من الهجرة، فتكون سورة البقرة نزلت في السنة الأولى من الهجرة في أواخرها أو في الثانية.

وفي البخاري عن عائشة (ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عنده)، تعني النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان بناء رسول الله على عائشة في شوال من السنة الأولى للهجرة، وقيل في أول السنة الثانية،

هذا وقد قيل إن قوله تعالى: ﴿واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله﴾ (البقرة: 281) الآية هو آخر ما نزل من القرآن من السماء، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن، فعلى هذا يكون نزول سورة البقرة امتد طوال الفترة المدنية، على نحو تسع سنين.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

بين يدي سورة البقرة (2)

 

 

وإذ قد كان نزول هذه السورة في أول عهدٍ بإقامة الدولة الإسلامية، والمجتمع الإسلامي في المدينة، واستقلال أهل الإسلام بمدينتهم، لذا فقد كان من أول أغراض هذه السورة تصفية المجتمع الإسلامي من أن يختلط بعناصر مفسدة لما أقام الله لها من الصلاح سعياً لتكوين المجتمع الإسلامي على صورة نقية من شوائب الدجل والدخل.

وإقامة ونشوء المجتمعات على نحو سليم يقتضي وضع طريقة معينة للعيش تميز هذا المجتمع عن المجتمعات الجاهلية، ليحيا المسلمون فيه حياة إسلامية، في مشاعرها، وفي عقائدها، وفي تشريعاتها، وفي قوانينها وأنظمة الحياة التي تحكمها، وفي إنشاء الأفراد والجماعات فيها على مبادئ تقوم على جملة معاريف يقيمونها في حياتهم، يأتمرون بها، ويمنعون الحيد عنها أو الخروج عليها، وتبين لهم جملة المنكرات التي يحاربونها، ويأنفون منها، ويمنعون أنفسهم ومجتمعهم من أن تُفعل فيه هذه المنكرات، فإذا ما قام هذا كله، فقد قام سلطان الإسلام في واقع الحياة، ونشأ عن إقامته في ظل أمان ذاتي للمؤمنين بأمان الإسلام، نشأ عن هذا كله قيام دار الإسلام، وتمايز المسلمون بكل أنواع التمايز عن دار الكفر بجملة ما تقوم عليه من سلطانٍ قائمٍ على أنظمة الكفر والجاهلية، وأعراف الجاهلية وحياة الجاهلية،

فلا ترى المرء بعد ذلك يدخل في الإسلام إلا وهو يعلم أن عليه أن يخلع ماضيه بكل ما فيه من أفكار جاهلية، على عتبة المسجد يتبرؤ من ذلك الماضي بكل ما فيه من ضلال، ويتوب إلى الله تعالى منه ليدخل في الإسلام صفحة بيضاء نقية تبايع على السمع والطاعة فيما يتعلق بأنظمة الحياة والمجتمع، على أساسٍ من النصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويُعاقد على الطاعة لهذا الدين، الطاعة لله ولرسوله؛ يصوغ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لهم حياتهم الإسلامية بمفاهيمها ومشاعرها وأنظمتها، طالبين رضا الله تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار.

وإذْ كانت سورة البقرة أولَ سورة نزلت بعد الهجرة فقد عُني بها الأنصار وأَكبوا على حفظها، يدل على ذلك ما جاء في السيرة أنه لما انكشف المسلمون يوم حُنَين قال النبيء صلى الله عليه وسلم لعمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: (اصرُخْ يا معشرَ الأنصار يا أهل السَّمُرَة (يعني شجرة البيعة في الحديبية) يا أهل سُورَةِ البقرة) فقال الأنصار: لبيك لبيك يا رسول الله أَبشر.

وفي الموطأ قال مالك إنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها،

وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ في كتابه المسمى أسماء من روي عن مالك عن مرداس بن محمد أبي بلال الأشعري قال حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال: تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورا. حدثني حسن بن عبد الوهاب أبو محمد بن أبي العنبر حدثنا أبو بكر بن حماد المقريء قال سمعت خلف بن هشام البزاز يقول ما أظن القرآن إلا عاريَّةً في أيدينا وذلك إنا روينا أن عمر بن الخطاب حفظ البقرة في بضع عشرة سنة فلما حفظها نحر جزورا شكرا لله. وإن الغلام في دهرنا هذا يجلس بين يدي فيقرأ ثلث القرآن لا يسقط منه حرفا فما أحسب القرآن إلا عاريَّةً في أيدينا.

وكان لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة من شعراء الجاهلية، أدرك الإسلام فحسن إسلامه وترك قول الشعر في الإسلام، سأل عمر في خلافته عن شعره واستنشده، فقرأ سورة البقرة، فقال: إنما سألتك عن شعرك، فقال: ما كنت لأقول بيتا من الشعر بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران، فأعجب عمر قوله، وكان عطاؤه ألفين فزاده خمسمائة. وقد قال كثير من أهل الأخبار: إن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم.

وهذا يدلنا على الفرق الهائل بين الشعر وبين القرآن الكريم، إذ أن أعظم الشعراء أدركوا أن بيانهم وبلاغتهم وفصاحتهم ليست بشيء إذا ما قورنت بأصغر سورة من كتاب الله، فأعجزتهم، وقد اعتادوا في الجاهلية أن يتسابقوا أيهم أشعر، وأيهم أبلغ، لينالوا الدرجات العلى من الفخار بذا، فالآن وقد عرفوا القرآن الكريم، وقارنوا ما لديهم من البلاغة بالقرآن فقعد من قعد منهم وترك هذا التسابق في مضمار الشعر، ليتسابق في ميدان الخيرات، وانتقل الشعر بعد ذلك لفضاء آخر من الأغراض ونظرة الناس إليه.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

من فضائل سورة البقرة:

 

وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي، من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان " وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال أبو عبيد: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سلمة بن كُهَيْل، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، يعني ابن مسعود، قال: إن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع فيه سورة البقرة. ورواه النسائي في اليوم والليلة، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال، حدثني أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن عجلان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ألْفَيَنَّ أحَدَكم، يَضَع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى، ويدع سورة البقرة يقرؤها، فإن الشيطان يفرّ من البيت تقرأ فيه سورة البقرة، وإن أصفرَ البيوت، الجَوْفُ الصِّفْر من كتاب الله". وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة.

وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال: ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط.

وقال: إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لبابًا، وإن لباب القرآن المفصَّل .

وروى - أيضا - من طريق الشعبي قال: قال عبد الله بن مسعود: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخرها وفي رواية: لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق .

قال البخاري: وقال الليث: حدثني يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أسَيد بن حُضَير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكت، فسكَنتْ، فقرأ فجالت الفرس، فسكت، فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها. فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اقرأ يا ابن حُضَير". قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي وانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظُّلَّة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: " وتدري ما ذاك؟ ". قال: لا. قال: " تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لَأَصْبَحَتْ ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم.

وهكذا رواه الإمام العَالم أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب فضائل القرآن، عن عبد الله بن صالح، ويحيى بن بكير، عن الليث به، وقد روي من وجه آخر عن أسيد بن حضير، كما تقدم، والله أعلم.

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشير بن مهاجر حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: "تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة". قال: ثم سكت ساعة، ثم قال: " تعلموا سورة البقرة، وآل عمران، فإنهما الزهراوان، يُظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان أو غيايتان ، أو فرْقان من طير صَوافّ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة. فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين، لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان أو ترتيلا ". مسند أحمد، ورجاله رجال الصحيح، ورواه الدارمي وابن أبي شيبة، والعقيلي في الضعفاء وقال العقيلي: لا يصح في هذا الباب شيء، يعني "وإن القرآن يلقى صاحبه"

وروى ابن ماجه من حديث بشير بن المهاجر بعضه، وهذا إسناد حسن على شرط مسلم، فإن بشيرا هذا أخرج له مسلم، ووثقه ابن معين، وقال النسائي: ليس به بأس، إلا أن الإمام أحمد قال فيه: هو منكر الحديث، قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تجيء بالعجب. وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدي: روى ما لا يتابع عليه. وقال الدارقطني: ليس بالقوي.

قلت (ابن كثير): ولكن لبعضه شواهد؛ فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي؛ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اقرؤوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرْقان من طير صوافّ يحاجان عن أهلهما " ثم قال: " اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة " حديث صحيح وهو في المسند.

وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام مَمْطور الحَبَشِيّ، عن أبي أمامة صُدَيّ بن عجلان [الباهلي].

ومن ذلك حديث النَّوّاس بن سِمْعان. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، عن محمد بن مهاجر، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي، عن جُبَير بن نُفَير، قال: سمعت النواس بن سمعان الكلابي، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران ". وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: " كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شَرْق، أو كأنهما فرْقَان من طير صَوَاف يُحَاجَّان عن صاحبهما ". ورواه مسلم، عن إسحاق بن منصور، عن يزيد بن عبد ربه، به، والترمذي، من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، به. وقال: حسن غريب.

وقال أبو عبيد: حدثنا حجاج، عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير، قال: قال حماد: أحسبه عن أبي منيب، عن عمه؛ أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران، فلما قضى صلاته قال له كعب: أقرأت البقرة وآل عمران؟ قال: نعم. قال: فوالذي نفسي بيده، إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب. قال: فأخبرني به. قال: لا والله لا أخبرك، ولو أخبرتك لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت.

[قال أبو عبيد]: وحدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر: أنه سمع أبا أمامة يقول: إن أخًا لكم أرِي في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وعر طويل، وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان تهتفان: هل فيكم من يقرأ سورة البقرة؟ وهل فيكم من يقرأ سورة آل عمران؟ قال: فإذا قال الرجل: نعم. دنتا منه بأعذاقهما، حتى يتعلق بهما فتُخطران به الجبل.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

النكت البلاغية في افتتاح سورة البقرة

 

 

أما النكت البلاغية في افتتاح سورة البقرة فقد قال فيها المفسرون رحمهم الله قولا راقيا: "والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يقال: إن قوله ﴿الۤـمۤ﴾ جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، وفيها تسجيل لإعجاز القرآن وإنحاء على عامة المشركين عجزهم عن معارضته وهو مؤلف من حروف كلامهم وكفى بهذا نداء على تعنتهم، و﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ جملة ثانية، و﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ ثالثة، و﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ رابعة. وقد أُصيب بترتيبها مفصلُ البلاغة حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف عطف، وذلك لمجيئها متآخية آخِذاً بعضُها بعنقِ بعضٍ، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة، بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريراً لجـهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلاً بكماله لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لعالمِ: فيم لذتك؟ قال: في حجة تتبختر اتضاحاً وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً.

فكماله ذلك مما يوفر دواعيكم على اتباعه والافتخار بأنْ مُنِحتموه فإنكم تَعُدون أنفسكم أفضل الأمم، فكيف لا تسرعون إلى متابعة كتاب نزل فيكم هو أفضل الكتب وأكملها!

ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ونظمت هذا النظم الرشيق من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إن المطلوب بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظَّرف (فِيهِ)، وفي الرابعة الحذف، ووضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد» كأن نفسه هداية وإيراده مُنَكَّراً ففيه إشعار بأنه هدى لا يُكْتَنَهُ كُنْهُهُ، ولا يبلغ مداه الواصفون. والإيجاز في ذكر المتقين "

وقد حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل، لو وُصف باسم الفاعل فقيل هادٍ للمتقين، فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه، فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم، فمن منتفع بهديه في الدين، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين، وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم. وقد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى:

﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ [التغابن: 16] فإن قَصَّر بأحد سعيُه عن كمال الانتفاع به، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية، ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن.

قال بديع الزمان النورسي: أما (هدى للمتقين) فاعلم! ان منبع حسن هذا الكلام من أربع نقط:

الاولى: حذف المبتدأ، اذ فيه اشارة الى ان حكم الاتحاد مسلَّم. كأن ذات المبتدأ في نفس الخبر. حتى كأنه لاتغاير بينهما في الذهن أيضا.

والثانية: تبديل اسم الفاعل بالمصدر، [لم يقل: هاد] إذ فيه رمز الى أن نور الهداية تجسَّمَ فصار نفس جوهر القرآن؛ كما يتجسم لونُ الحمرة فيصير قرْمِزاً .

والثالثة: تنكير (هدى) اذ فيه إيماء الى نهاية دقة هداية القرآن حتى لايُكْتنه كُنْهها، والى غاية وسعتها حتى لايُحاط بها علماً. اذ المنكورية إما بالدقة والخفاء، وإما بالوسعة الفائتة عن الاحاطة. والتنكير هنا للتعظيم.

والرابعة: الايجاز في (للمتقين) بدل "الناس الذين يصيرون متقين به" أوجز بالمجاز الاول إشارة الى ثمرة الهداية وتأثيرها، ورمزاً الى البرهان "الإِنِّيّ" على وجود الهداية. فإن السامع في عصر يستدل بسابقه كما يستدل به لاحقه .

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

نظرة إجمالية إلى موضوعات سورة البقرة:

 

 

هدف السورة: رسم معالم المنهج القويم لاستخلاف الإنسان في الأرض

كما أسلفنا، نزلت سورة البقرة في المدينة، وبدأ نزولها مع بدء تأسيس المجتمع الإسلامي فيها، فكان تأسيس صورة المنهج الصحيح الذي يقوم عليه هذا المجتمع، هدف السورة الكبير، فهي تذكر قصة خلق آدم، مبرزة مهمته الأساس، وهي أن يكون خليفة في الأرض، فكان تساؤل الملائكة عن طبيعته، أمفسد في الأرض؟ يسفك الدماء، فبين لهم رب العالمين أنه يعلم ما لا يعلمون، فكان هذا الإنسان، الذي إن نسي وأخطأ وعصى وحاد عن منهج الله تعالى، تاب وثاب إلى الحق، فاستحق بهذا أن يكون خليفة في الأرض، يسير على منهج معين لعمارتها، من هنا كان تعليم الله تعالى لآدم الأسماء كلها.

 

في أول آياتها، في الربع الأول منها، تجلو صورة أصناف ثلاثة من الناس، المؤمنين، والكفار، والمنافقين، وتضم إليهم فيما بعد صنفا رابعا يتمثل في أهل الكتاب وخصوصا بني اسرائيل منهم، وفيها يتحدى رب العزة سبحانه البشر والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن،

ثم في الربع الثاني منها يبين لنا قصة أول معصية عُصيَ بها ربُّ العالمين سبحانه، حين خلق آدمَ عليه السلام، وامتنع إبليسُ عليه لعنة الله من السجود امتثالا لأمر رب العزة سبحانه، فطرده، تحدثنا عن بشاعة المعصية، وعن أهمية التوبة، وتربط ذلك في خاتمة هذه القصة بالهداية مرة أخرى، (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) آية 38 وهي تؤكد ما ورد في أول سورة البقرة (هدى للمتقين)

 

ومن ثم تحدثنا هذه السورة من الربع الثالث فيها إلى السابع عن قصة بني اسرائيل مع موسى عليه سلام الله، لتحلل لنا بدقة متناهية معالم شخصية هذا الصنف من البشر، في ظل مسألة الاستخلاف في الأرض، ولقصتهم معالم رئيسة أبرزتها السورة في محطاتها الطويلة، تدور في فلك حيدتهم عن المنهج القويم دائما، لذا لم يكونوا حقيقين بالقيام بواجب الاستخلاف قياما يرضي الله تبارك وتعالى، فوعظنا بحالهم ليكون بنيان المجتمع الجديد في المدينة، قائما على غير هذا النموذج المغرق في التفلت من أوامر الله، المسرع في معصيته، المعاند للخضوع والاستسلام لله ورسله.

ومن محطات هذا القسم نجد التذكير بآلاء الله تعالى ونعمه، مع الجحود والمعصية، وهو عين السبب الذي جعل إبليس يُطرد من السماء، والمعصية أنزلت آدم عليه السلام وزوجه من الجنة فكان التعب والنصب والشقاء مكان الدعة ورغد العيش في الجنة، ربطًا في هذين الموضعين بين شكر النعم بأداء حق الله تعالى فيها، وما يحصل جراء المعصية أو كفر النعمة، كما في حال بني اسرائيل.

ومن ثم تنتقل لتمهد لموضوع قِبلةِ المسلمين في الصلاة، الوِجهة التي يتوجه إليها المسلمون حيث حلوا وارتحلوا، في صلاتهم وعبادتهم، فتمهد لمسألة تحويل القبلة بقصة بناء ذلك البيت المقدَّس، في مكة المكرمة، لتحدثنا عن نبي الله إبراهيم عليه سلام الله، وابنه اسماعيل عليه سلام الله تعالى، وتبرز لنا هذا النموذج الذي برزت مسألة طاعة الله والاستسلام لأمره فيه بأعظم صورها، إذ عرض على إبراهيم عليه سلام الله أن يترك زوجه ورضيعها في واد غير ذي زرع، حيث لا بشر ولا ماء، وصورة تلك الزوجة الواعية المؤمنة بأن الله لا يضيع من اتكل عليه حق الاتكال والتزم أمره حق الالتزام، فالتزما هذا الأمر على عظمه ومشقته وصعوبته،

فكان هذا البيتُ المباركُ حقيقا بأن ينال شرف بناء هذا البيت المقدس، الكعبة، فكانت بركة حسن القيام بالإيمان بالله والاستسلام والخضوع لأوامره طريقا لنوال هذا الشرف الأبدي، ولتمثل صورة لأفضل ما يكون عليه استخلاف الناس في الأرض، وإقامة منهج الله في تلك النفوس العالية الشامخة، لتكون مثالا يحتذى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فكانت مسألة الاستخلاف في الأرض وفق منهج الله الحق تمثل أساس قصة آدم عليه سلام الله، (إني جاعل في الارض خليفة) وقصة بني اسرائيل (واني فضلتكم على العالمين) وقصة سيدنا ابراهيم الخليل وولده اسماعيل عليهما سلام الله، (إني جاعلك للناس اماما) وهي تشكل الجزء الأول من السورة، وتمهد للجزء الثاني الذي فيه مسألة تحويل قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، هذا الأساس يضع صورة مثالية لتطبيق المنهج، تمثل صورة ابراهيم عليه سلام الله، وصورة شابتها معصية، لحقتها توبة، تمثل قصة آدم عليه سلام الله، وقصة بني اسرائيل بكل ما فيها من فظائع ارتكبوها، لتضع هذه الصور أمام المجتمع الوليد في المدينة المنورة لترسم لهم الخط المستقيم كي يتبينوه.

وفي القصص الثلاث ايضاً اختبار نماذج مختلفة من الناس في طاعة الله تعالى فاختبار سيدنا آدم عليه سلام الله كان في طاعة الله (منع من الأكل من الشجرة) واختبار بني اسرائيل في طاعتهم لأوامر الله من خلال رسوله واختبار سيدنا ابراهيم عليه سلام الله، بذبح ابنه اسماعيل ايضا اختبار طاعة لله تعالى (واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات)، حتى يتصور الإنسان أن هذه الحياة التي هو مستخلف فيها هي دار اختبار، يفلح فيها من أطاع الله واهتدى، وإن حصلت منه معصية فعليه التوبة والإنابة، رسمت له صورة اشق ابتلاء يمكن أن يبتلى به المرء، وهو الامتثال لاختبار ذبح الولد باليد، فاستحق من خضع له أن يُفتدى بذبح عظيم، وينال شرف الإمامة في الناس، وسلم الله له ولده وجعله نبيا، وأحد أبسط الاختبارات، أن لا يأكل من شجرة واحدة، وعنده ما لا يحصى غيرها من الأشجار والثمار، فكانت تلك المعصية على صغرها، عظيمة في جنب من عصاه، فاستحق بها النزول من الجنة إلى الأرض.

في الجزء الثاني من السورة كما أسلفنا ابتدأ بمسألة تحويل القبلة، لتتميز هذه الأمة عن الأمم السابقة بقبلتها، وبمنهجها القائم على هدى صراط الله المستقيم، وحتى بمصطلحاتها، (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا)

وفي الربع الثاني من هذا الجزء يضع مقومات للنفس الإنسانية، تستعين بالصبر والصلاة، تصبر على الابتلاءات، ترتبط بالله تعالى في سرائها وضرائها، ثم أنها مسئولة عن إظهار ما أنزل الله من البينات والهدى ليٌعمل فيه في المجتمع، وتصل الخطورة لدرجة استحقاق اللعنة حال الكتمان، لأن صلاح المجتمع من الخطورة بحيث يتطلب السفور في حمل الدعوة وبيان الحق في موضعه، وتظهر بعد ذلك مسألة اتخاذ الأنداد من دون الله، فإن كانوا رؤساء في الضلالة والباطل تبرأوا ممن اتبعهم يوم القيامة، لينقاد المسلم في حياته لله، وفي الله، مع من يوالي الله تعالى.

وهذا كله في ظل عملية وضع أساسِ قيمٍ شاملةٍ وجملة من الأحكام الشرعية التي تناولت تفصيلا لأنظمة كثيرة من أنظمة الحياة، على صعيد الفرد والمجتمع، على صعيد التشريع الجنائي ونظام العقوبات، والتركات والوصايا، والعبادات

كفرض الصيام، والحج وشعائره، وجواب جملة من الأسئلة التي سُئِلَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والنفقة التي تناولتها السورة بالترغيب فيها والترهيب من تركها، وضربت للحض عليها أروع الأمثال، وأشدها فعلا في النفس، فأحكامٌ تتعلق بالاقتصاد، وأحكامٌ تتعلق بالأشهر الحرم والقتال، وآياتٌ تحض على الصبر على الابتلاءات، وتربط التمكين باشتداد الأذى حتى يبلغ من النفوس مبلغا عظيما فتصبر في جنب الله تعالى، لتستحق نزول نصر الله تعالى عليها، فجملةٌ من أحكام المطعومات، وجملةٌ من أحكام النظام الاجتماعي كالنكاح والطلاق والرضاعة والعدة، والنفقة والخلع، في ظل من الأجواء المشحونة بالتقوى، ومراقبة الله، ومراقبة حدوده، وقد سبق هذا كله تقويم النفس لتهيئتها قبل إقامة نظام الأسرة، لتقيمها وهي مستعدة الاستعداد الكامل بسلاح التقوى وما يشحذه من عبادات وطاعات، وصبر، وتحمل مسئولية، لأن الأسرة لبنةٌ مهمة في تكوين المجتمع، فكان الحرص على بناء لبناتها على أساس صحيح لضمان حسن البناء.

وهذا كله توجته آية عظيمة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) آية 208 والسلم هو الإسلام، وهو الخضوع والاستسلام الكامل لأوامر الله تعالى، ومراقبة حسن تطبيقها في الحياة، في إطار مسئولية الفرد والجماعة والدولة، وهو توجيه للمسلمين أن لا يكونوا كبني إسرائيل الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) آية 85 وأن يأخذوا الدين كاملا غير مجتزأ فكأنما يوجهنا الله تعالى في سياق السورة الى الطاعة والتميز ثم يعطينا بعض عناصر المنهج ثم يأمرنا أن نأخذ الإسلام كافة و لا نفعل كما فعل بنو اسرائيل ثم يكمل لنا باقي المنهج. وهذه الآية (ادخلوا في السلم كافة) كان لا بد من وجودها في مكانها بعد الطاعة والتميز واتباع الاوامر والنواهي والجهاد والانفاق للحفاظ على المنهج ثم الاخذ بالدين كافة ثم التقوى التي تجعل المسلمين ينفذون هذا المنهج بوازع مراقبة الله تعالى، وبوازع عيشهم في المجتمع حياة إسلامية تعينهم على الاستزادة من هذه التقوى، وتقطع عنهم أسباب المعصية بحسن تطبيق المنهج على مستوى المجتمع كله.

يتخلل هذا كله جملة من القواعد العقدية، كالتفكر في خلق السموات والأرض، والإيمان بالغيب، وقرب الله تعالى ممن يدعوه، إلى الإيمان بالملائكة، لتربط الإيمان أبدا بالعمل، ويجعل الإنسان الإيمان المحرك الذي يسيره في الحياة الدنيا، ويجعل الأحكام الشرعية المقياس الذي يقيس عليه تصرفاته وسلوكه.

 

ثم تأتي قصة قتال طالوت لجالوت، وما فيها من معان عظيمة لمقارنة قيم زائفة بقيم راقية، قيم الفئة القليلة التي ثبتت على الحق وأقبلت وهي تقدم لقاء ربها والموت في طاعته على حياتها، لينتصر المنهج الذي تحمله، مقابل قيم الفئة التي تشبثت بالحياة الدنيا، ولم تفهم معنى الطاعة، ولم تحتمل الابتلاءات، ففشلت ولم تستحق نوال شرف الاقتداء بها.

في الجزء الثالث من السورة تبرز آية عظمة الله تبارك وتعالى، آية الكرسي، تدل على أن من يريد أن يطبق المنهج فعليه أن يستشعر عظمة الله وجلال الله، وهيبة الله، وقدرة الله، فالمنهج ثقيل، ويتطلب وازعا عظيما يدفع المرء لحمله وتحمله والثبات عليه، فكان لا بد من تصور عظمة من وضع هذا المنهج لنا لنسير عليه، وعظمة ما يستحق من الطاعة والمحبة وعظيم خطر معصيته،

ثم تبين لنا بوضوح لا خفاء فيه، أن هذا المنهج من الوضوح بمكان، معالم الرشد فيه جلية بينة، لا تخفى على ذي لب، لدرجة أنه يستحيل مع سطوع هذا الحق تبرير أي إكراه لحمل الناس عليه، فقد تبين فيه الرشد من الغي، والإنسان السوي يتبع الرشد إذ يتبين له، فلا معنى لإكراهه عليه، ولكن من اتبع هذا الرشد، فعليه أن يقوم بذلك وفق منهج التخلية قبل التحلية، فيؤمن بالله تعالى بعد أن يكفر أولا بالطاغوت بكل أشكاله وأصنافه وأنواعه، ليستحق أن يلحق في زمرة من يتمسكون بحبل الله المتين وعروته الوثقى التي لا تنفصم.

وقد وضحت لنا السورة نماذج مهمة من قصص الطواغيت ففي جنبات السورة نرى أنواعا كثيرة من هؤلاء الطواغيت، إبليس، وفرعون، والنمرود، وطغيان بني اسرائيل بعد كل ما أنعم الله عليهم، ليستحقوا بذا غضب رب العالمين الذي اختتم به سورة الفاتحة، فهنا بيان معالم ما استحقوا به نزول الغضب عليهم لنعتبر منهم، ثم لتضع هذه السورة أحكاما عظيمة وأوامر صارمة بخصوص مفهوم الطاغوت الذي تناولناه بتفصيل كبير في أحد ملاحق هذا التفسير لشديد أهميته، لأنه الصارف الأعظم عن منهج الله، فقد يضع منهجه مكان منهج الله ليطبق في الأرض، أو يتكبر على منهج الله، أو يتصرف أي تصرف يطغى فيه عن الحق، فيستحق بذلك كله اسم الطاغوت فكان لزاما علينا أن ننفر منه ونكفر به.

في الربع الأخير من السورة العظيمة، يتكرر الأمر بالنفقة ثانيا وثالثا ورابعا، ويصورها لنا القرآن بصور بليغة، عميقة الأثر في النفس، تصور مآل من ينفق، ومآل من يبخل، أثر النفقة على ذرية المنفق، والمحق على من يبخل، وتنتقل بنا في إطار النظام الاقتصادي إلى الحديث عن خطر عظيم على الاقتصاد في المجتمع، ألا وهو جريمة الربا، أكبر مفسد لنظام الاقتصاد، فأحكام الدَّين، والمعاملات،

فخاتمة السورة بما فيها من صفات الجماعة المؤمنة، وأركان الإيمان، وربط ذلك بالتكليف، وأخيرا الدعاء إلى الله تعالى، وختامه الدعاء بنصر الإسلام على الكفر وتمكين المؤمنين في الأرض.

بدأت السورة بتمجيد كتاب الله تعالى، وجعله مصدرا للهداية الحقة، واختتمت بانتصار الإسلام على الكفر، وأنَّى أن يحصل ذلك النصر إلا بكتاب الله تعالى، فهو مبتدأ النصر ومنتهاه.

فآخر آيتين في السورة، قال فيهما صلى الله عليه وسلم: "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه"

﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾

أولاهما عن الإيمان والإخبات التام لله تعالى، وثانيتهما تبين التكاليف التي على المرء التزامها، وتذكر بشديد المحاسبة عليها، في ظل إنسانية الإنسان، فإن نازعته نفسه التجاوز فعليه التوبة، واللجوء إلى الله والاستعانة به، ليتحقق من مجموع الإيمان المخبت، والتزام التكاليف التي في هذا الكتاب المبين، يتحقق النصر بعد استحقاقه بالصبر على الابتلاءات والمحن!!

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)﴾ البقرة،

تزاوج في هذا كله، بين دور الفرد في مسألة النصر والتمكين التي تعقب مسألة التزامه التكاليف، وقيامه بها، وإيمانه، وبين دور الجماعة التي تظلل دور ذلك الفرد، فالإيمان المطلوب هو أن يدخل في جملة ما دخل به المؤمنون ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾، والخطاب الذي أتى بصيغة الجماعة، ثم في الآية الأخيرة، تناولت الفرد بتكليفه بنفسه ما في وسعها، ومحاسبته فردا على أعماله، ثم تبين له أهمية الجماعة في ضمان حسن سيره على هذا المنهج: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ وفي وسط السورة بينت له أن التمكين يأتي للجماعة التي تصبر على المنهج الحق: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ ثم الدعاء لله بصيغة الجمع: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾، إذ النصر بيد الله، فلا بد من دعائه لينزله على من صبر والتزم وآمن ودعا.

والنصر إنما يكون بتمكين هذا المنهج من حياة المجتمع ليصوغها وفق نموذج الحياة الإسلامية، وفي حياة الدولة، ليسوسها وفق أوامر الله تعالى ونواهيه، وفي حياة الفرد، ليسوس حياته متحملا مسئولياته في تطبيق شرع الله على نفسه وأهله وفي مجتمعه، فإذا قام المجتمع كله على أساس هذا المنهج سعدت البشرية به، ورضي عنهم رب العالمين سبحانه.

 

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى: هذه السورة تضم عدة موضوعات. ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا.. فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة، واستقبالهم لها، ومواجهتهم لرسولها صلى الله عليه وسلم وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها... وسائر ما يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود والمنافقين من جهة، وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى.. وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها؛ وإعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض، بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها، ونقضهم لعهد الله بخصوصها، وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم - عليه السلام - صاحب الحنيفية الأولى، وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم.. وكل موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسيين،

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

سورة البقرة من أعظم سور القرآن، وكل القرآن عظيم، فهو من العظيم سبحانه، يكفيها أنها تجيب عن أسئلة العقدة الكبرى عند الإنسان، فبعد أن قدمت في أصناف الناس الثلاثة أشارت إلى أن الله تعالى خلق السموات والأرض وهو بكل شيء عليم، ثم ذكرت قصة جعل خليفة في الأرض أي قصة خلق الإنسان، فأجابت عن سؤال: (من أين جئت؟)، ثم إنزاله إلى الأرض وتكليفه بالتكاليف الشرعية بإرسال الرسل (فإما يأتينكم مني هدىً...)، وفصلت السورة في جملة من الأحكام الشرعية التي تجيب عن سؤال (لماذا؟)، ثم الحساب يوم القيامة.. (يحاسبكم به الله)، جواباً عن سؤال (إلى أين المصير؟).. وبما أن الإنسان خطاء وخير الخطائين التوابون فقد علمنا سبحانه وتعالى في آخر السورة كيف نلجأ إليه ونستعين به ونستغفره ونستنصره... فما أعظم هذه السورة!!!!

أبو محمد خليفة

 

عن صفحة:

إعجاز القرآن الكريم - فأتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثلِهِ Miracles Of The Quran

رابط هذا التعليق
شارك

وجه مناسبة سورة البقرة لسورة الفاتحة

 

 

ووجه مناسبة سورة البقرة لسورة الفاتحة أن الفاتحة مشتملة على بيان الربوبية أولا، والعبودية ثانيا، وطلب الهداية في المقاصد الدينية والمطالب اليقينية ثالثا، والاستعانة بالقادر الرحيم على المطالب الدنيوية رابعا، وكذا سورة البقرة مشتملة على بيان معرفة الرب أولا كما في ﴿يؤمنون بالغيب﴾ وأمثاله وعلى العبادات وما يتعلق بها ثانيا وعلى طلب ما يحتاج إليه في العاجل والآجل آخِرا، وأيضا في آخر الفاتحة طلب الهداية وفي أول البقرة إيماء إلى ذلك بقوله ﴿هدى للمتقين﴾

كما أنه في سورة الفاتحة أمرنا أن ندعو بطلب الهداية، وبين لنا في أول البقرة أن طريق تلك الهداية هي كتاب الله، وسبيلها: المطالب اليقينية، التي تشكل القاعدة الفكرية التي تبنى عليها وجهة نظر المرء في الحياة، أي عقيدته، وتنبثق من تلك القاعدة الفكرية اليقينية، أنظمة الحياة، لتقوم على أساس من القطع لا شك ولا ريب فيه، فلا يصل المرء إلى الهداية فقط، بل علاوة عليها، يسير في الحياة مطمئنا، مؤمنا مسلما مخبتا لله تعالى، متقيا الله في تصرفاته وسلوكه، فجمعت بذلك الأصل بين العقيدة والأحكام الشرعية، فأساس العقيدة الإيمان، وأساس الأحكام الشرعية التقوى، إذ أن التقوى تتضمن هذين المعنيين، ومن أهمها الصلاة والزكاة، تنهى المرءَ صلاتُهُ عن الفحشاء والمنكر، وتزكو نفسه بزكاة ماله، فتتحقق له معاني التقوى، على أن يقوم ذلك كله على أساس الإيمان بالغيب واليقين بالآخرة، فتتحقق بذا أعلى مراتب الهدى، ثم أتبعها في السورة بما يشَكِّل قاعدة لأنظمة الحياة، الاجتماعية، والاقتصادية، والحكم، والجهاد، وغير ذلك، على أساسٍ من مراقبة الله عند القيام بها، والقيام بها على الوجه الذي شرعها الله عليه، في إطارٍ من الجو الإيماني الذي ترسم معالمه هذه السورة الكريمة، سواء بضرب المثال بقصص بني اسرائيل مع نبي الله موسى عليه سلام الله، لترسم لنا صورة انحراف أولئك القوم عن هدى الله المستقيم، عظةً وتذكرة لنا، أو من خلال التذكير بشدة طاعة ابراهيم الخليل عليه سلام الله وولده إسماعيل، وزوجه هاجر لأمر الله وتسليمهم وإيمانهم المطلق بأوامر الله، حتى وإن كان ظاهر تلك الأوامر الابتلاء الشديد، أو حتى الثقة بنصر الله مع القلة، بشرط الصبر والمصابرة والمرابطة، في الحق، فكانت معالم الجو الإيماني ترتسم من خلال لوحات حية نابضة ترسم حالات النفس البشرية في حالات مختلفة، بغية إظهار أهمية تسيير المرء لحياته كلها منقادا لعقيدته وإيمانه، ووفق أوامر الله تعالى.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

استحقاق نزول النصر بين مسئولية الفرد ومسئولية الجماعة كما بينته سورة البقرة

 

 

بدأت السورة بتمجيد كتاب الله تعالى، وجعله مصدرا للهداية الحقة، واختتمت بانتصار الإسلام على الكفر، وأنَّى أن يحصل ذلك النصر إلا بكتاب الله تعالى، فهو مبتدأ النصر ومنتهاه.

فآخر آيتين في السورة، قال فيهما صلى الله عليه وسلم: "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه"

﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾

أولاهما عن الإيمان والإخبات التام لله تعالى، وثانيتهما تبين التكاليف التي على المرء التزامها، وتذكر بشديد المحاسبة عليها، في ظل إنسانية الإنسان، فإن نازعته نفسه التجاوز فعليه التوبة، واللجوء إلى الله والاستعانة به، ليتحقق من مجموع الإيمان المخبت، والتزام التكاليف التي في هذا الكتاب المبين، يتحقق النصر بعد استحقاقه بالصبر على الابتلاءات والمحن!!

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)﴾ البقرة،

تزاوج في هذا كله، بين دور الفرد في مسألة النصر والتمكين التي تعقب مسألة التزامه التكاليف، وقيامه بها، وإيمانه، وبين دور الجماعة التي تظلل دور ذلك الفرد، فالإيمان المطلوب هو أن يدخل في جملة ما دخل به المؤمنون ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾، والخطاب الذي أتى بصيغة الجماعة، ثم في الآية الأخيرة، تناولت الفرد بتكليفه بنفسه ما في وسعها، ومحاسبته فردا على أعماله، ثم تبين له أهمية الجماعة في ضمان حسن سيره على هذا المنهج: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ وفي وسط السورة بينت له أن التمكين يأتي للجماعة التي تصبر على المنهج الحق: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ ثم الدعاء لله بصيغة الجمع: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾، إذ النصر بيد الله، فلا بد من دعائه لينزله على من صبر والتزم وآمن ودعا.

والنصر إنما يكون بتمكين هذا المنهج من حياة المجتمع ليصوغها وفق نموذج الحياة الإسلامية، وفي حياة الدولة، ليسوسها وفق أوامر الله تعالى ونواهيه، وفي حياة الفرد، ليسوس حياته متحملا مسئولياته في تطبيق شرع الله على نفسه وأهله وفي مجتمعه، فإذا قام المجتمع كله على أساس هذا المنهج سعدت البشرية به، ورضي عنهم رب العالمين سبحانه.

 

عن صفحة:

 

رابط هذا التعليق
شارك

البقرة الآيتان الأولى والثانية (1)

 

 

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الۤـمۤ (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)﴾

﴿الۤـمۤ (1)﴾ هذه الآية اختلف المفسرون في تأويلها، قال قُطْرُب والفرّاء وغيرهما: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحدّاهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم؛ ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قُطْرُب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا: ﴿الم﴾ و ﴿المص﴾ استنكروا هذا اللفظ، فلما أَنْصَتوا له صلى الله عليه وسلّم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم.

وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ فصلت: 26 نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة.

وقال زيد بن أسلم: هي أسماء للسُّوَر.

قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقله عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة آلم السجدة، و﴿هل أتى على الإنسان﴾

﴿ذَٰلِكَ﴾، ذا: إسم إشارة، ويقال فيه: ذا وذائه وهو يدل على القرب، فإذا دخلت الكاف فقلت: ذاك دل على التوسط، فإذا أدخلت اللام فقلت: ذلك دل على البعد، وبعض النحويين رتبة المشار إليه عنده قرب وبعد فمتى كان مجرداً من اللام والكاف كان للقرب، ومتى كانتا فيه أو إحداهما كان للبعد، والكاف حرف خطاب تبين أحوال المخاطب من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث كما تبينها إذا كان ضميراً،

﴿ذلك﴾ اسم مبهم يشار به إلى البعيد، والمشار إليه ههنا حاضر، فلم عبر عنه باسم الاشارة للبعيد؟ ولم يقل: هذا الكتاب؟

﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ هنا إشارة إلى علوه وبُعد رتبته وبُعده عن الريب وأنه بَعيد المنال لا يستطيع أن يُؤتى بمثله، وهذا متناسب مع ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَنْ تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ (24)﴾ البقرة.

فإذا أنت تدبرت في ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ فانها كما تُفصح عن أنه ليس محلا للشك تعلن بأنه منوّر بنور اليقين.

نلاحظ أن هنالك ربط بين قول الحق سبحانه ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾؛ إذ أن المتقين لا يرتابون فيه، وبين قوله تبارك وتعالى ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ فهو خطاب في إطار التحدي فيهما معا، ومناسبة بين قوله ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ وبين قوله: ﴿فَاتَّقُواْ النَّارَ﴾، فالمتقون اهتدوا بهداه، وكان الكتاب منارة هدى لا يصح الارتياب فيه لسطوع برهانه، وقوة بيانه، فحق على من تحداهم أن يقتدوا بمن اهتدى بهديه، فاتقى وسلك في سلك المتقين، فأمرهم بأن: ﴿فَاتَّقُواْ النَّارَ﴾، فيصح الربط بين قوله: ذلك الكتاب، في مقام الإشارة بالبعيد، بمقام التحدي أن يأتي من يَتَحَدَّاهُ بمثل ذلك الكتاب،

فيكون القول فيها أنه أشار إلى الكتاب بالبعيد لبعد المنال عن تحقق الاتيان بمثله.

ويعضد هذا أيضا أن قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ ومعنى الكلام هنا أن هذا الكتاب هو القرآن لا شك فيه أنه نزل من عند الله؛ كما قال تعالى في السجدة [1-2]: ﴿الۤـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾.

حيث أن التحدي مداره أن هذا القرآن لو لم يكن منزلا من عند الله لاستطاعوا الاتيان بمثله، فإن كانوا في ريب من أنه تنزيل من رب العالمين، فليأتوا بحديث مثله.

وكذلك فإن: ﴿ذلك الكتاب﴾ ذا اسمُ إشارة واللاَّمُ كنايةٌ عما جيء به للدلالة على بُعد المشارُ إليه، والكافُ للخطاب، والمشارُ إليه هو المسمَّى، فإنه منزَّلٌ منزلةَ المشاهَدِ بالحسِّ البَصَري، وما فيه من معنى البعدِ، مع قُرب العهدِ بالـمُشار إليه، للإيذان بعلو شأنه، ومنزلته، وكونِه في الغاية القاصيةِ من الفضل والشرف، والرتبة، إثرَ تنويهِه بذكر اسمِه ، والإشارة بذلك للتعظيم وتنزيل البعد الرتبـي منزلة البعد الحقيقي فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة. وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صوناً له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال،

والقرآن يستعمل (هذا) لكن في مواطن ﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (9)﴾ الإسراء، عندما قال ﴿يهدي للتي هي أقوم﴾ من باب أنه يجب أن يكون قريباً حتى نهتدي به لكن لما قال ﴿ذلك الكتاب﴾ كانت تلك إشارة إلى كونه بعيدا لا يُستطاع أن يؤتى بمثله. ثم إنه لم يذكر القرآن إلا بـ ﴿هذا﴾ ولم يقل (ذلك) فحيثما أشار إلى القرآن أشار بـ ﴿هذا﴾ لأن القرآن من القراءة وهو مصدر فِعل قرأ وكلمة قُرآن أصلاً مصدر، فلقرأ مصدران: قراءة وقرآناً. فأنت حين تقرأ تقرأ القريب إذن هذا هو القرآن.

أما الكتاب، فقد يكون إشارة إلى ما في اللوح المحفوظ فيسمى كتاباً. ﴿وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ (92)﴾ الأنعام. كان مسطّراً في اللوح المحفوظ ثم نزل مقروءاً ثم قرأه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم سُطِّر. فعندما كان في اللوح المحفوظ قال عنه: ﴿وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ﴾، وعندما غدا بين أيدينا قال عنه: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ للتذكير بالصلة بين ما في أيدينا واللوح المحفوظ الذي أُنزل منه الكتاب.

فلما كان مقام التحدي بأن يؤتى بمثل الكتاب، أشار إليه بما يقتضيه مقام رفع منزلته، وتعظيم شأنه، فقال: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾، ولما كانت الإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والإتعاظ بأوامره ونواهيه، قال عنه ﴿وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾.

و قال ابن جريج: قال ابن عباس: ذلك الكتاب، أي: هذا الكتاب. وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج أن ذلك بمعنى هذا، والعرب تعارض بين هذين الاسمين من أسماء الإشارة، فيستعملون كلاً منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم، وقد حكاه البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة.

فإذا كان الوجهان سواءً، كان ذلك الاستعمال (أي المراوحة بين استعمال هذا وذلك) مجالاً لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد مناسبة لذلك المقام فدلنا على أنهم يعرِّفون مخاطبيهم بأغراضٍ لا قبل لتعرُّفها إلا إذا كان الاستعمال سواءً في أصل اللغة، ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى، مثل استعمال اسم الاشارة للإشارة إلى محسوس غير مشاهد نحو ﴿تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ﴾ [مريم: 63] فلتصييره كالمشاهد وتنزيل الإشارة العقلية منزلة الحسية،

والعرب قد تستعمل الإشارة إلى البعيد الغائب مكان الإشارة إلى القريب الحاضر كما قال خُفاف بن نَدْبة:

أقول لَه والرمحُ يأطر مَتْنَه تأمل خُفَافاً إِنني أَنَا ذلك

أي: أنا هذا، وقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخَطِيم في «الحماسة»:

متَى يأتِ هذَا الموتُ لا يلفِ حاجة لنفسيَ إلا قد قضيتُ قضاءها

قال ابن عاشور في تفسيره، -وقوله أدق ما قيل في ﴿ذلك﴾ -، "وابن مالك في «التسهيل» سوَّى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم إذ قال: وقد يتعاقبان (أي اسم القريب والبعيد) مشاراً بهما إلى ما وَلياه أي من الكلام، ومثَّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى: ﴿ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم﴾ [آل عمران: 58] ثم قال: ﴿إن هذا لهو القصص الحق﴾ [آل عمران: 62] فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد، وكلام ابن مالك أوفق بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

البقرة الآيتان الأولى والثانية (2)

 

 

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الۤـمۤ (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)﴾

 

﴿ٱلْكِتَـٰبُ﴾، يطلق بإزاء معان : منها: على الفرض أي التكليف ﴿كتب عليكم القصاص﴾ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ﴾ وأيضا: على الحكم أي القضاء، قاله الجوهري لأقضين بينكما بكتاب الله، كتاب الله أحق،

والكتاب هنا القرآن الكريم، فهو كتاب الله تعالى، فيه الفرائض والأوامر والنواهي، وفيه أصل الحكم، فهو أُنزل ليحكم الناس به، ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)﴾ البقرة، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)﴾ الحديد، فالكتاب إذن يسوس حياة الفرد بالأوامر والنواهي، ويسوس حياة الأمة بالسلطان القائم على أساس الحكم بما أنزل الله فيه، ليتحصل الهدى للمتقين، فيعين الفرد على أسباب التقى بصياغته الحياة من حوله في المجتمع صياغة اسلامية، فتمنع عنه أسباب المعاصي، وتحيطه بالأجواء الإيمانية التي تعينه على الاستزادة من الطاعات، حيث أن الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية، فإن تحصين الأجواء في المجتمع بحصن العيش وفقا لطراز العيش الإسلامي، يعين على تحصيل التقوى وتقويتها، ومنع أسباب المعاصي.

قوله تعالى: ﴿ٱلْكِتَـٰبُ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته، فالتعريف فيه إذن للعهد، ويكون الخبر هو جملة ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾، ويجوز أن يكون ﴿ٱلْكِتَـٰبُ﴾ خبراً عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجُزءين فهو إذن قصر ادِّعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كما لو فُقِدَ منها وصفُ الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب،

يقول الدكتور / محمد عبد الله دراز: " روعي في تسميته قرآنا كونه متلوا بالألسن، كما روعي في تسميته كتابا كونه مدونا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعا ﴿أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى﴾، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر ".

 

الشَّكُّ هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ وَقِيلَ: الشَّكُّ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لَا يَمِيلُ الْقَلْبُ إلَى أَحَدِهِمَا.

والريب: مصدر رابني، إذا حصل فيك الريبة. وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها. ومنه ما روى الحسن بن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة، وإنّ الصدق طمأنينة"

وفي الرّيْب ثلاثة معان:

أحدها: الشك؛ قال عبد اللَّه بن الزِّبَعْرَى:

ليس في الحق يا أُمَيْمَةُ ريْبٌ إنما الرَّيبُ ما يقول الجهول

وثانيها: التُّهَمَة؛ قال جَمِيل:

بُثَينةُ قالت يا جَميلُ أَرَبْتَنِي فقلت كلاَنا يابثين مُريب

وثالثها: الحاجة؛ قال:

قضينا من تِهَامةَ كلَّ ريْب وخَيْبَرَ ثم أَجْمَعْنَا السيوفا

﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ معناه أنه من الوضوح بمكان وفيه من سطوع البرهان ما جعله موضعا لمنع حصول الريبة من قبل العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحياً بالغاً حد الإعجاز، لا أن أحداً لا يرتاب فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى:

﴿وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا﴾ [البقرة: 23]. الآية فإنه ما أبعد عنهم الريب بل عرفهم الطريق الـمُريح له، المفحم بحصول البرهان بأن لا ريب فيه، وهو أن يجتهدوا في معارضة نجم من نجومه ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة.

﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شبهة في صحته، ولا في كونه من عند الله، ولا في كونه معجزاً. ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا﴾ [البقرة: 23]

ولربما طعن بعض الملحدة فيه فقال: إن عنى أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه، وإن عنى أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه. الجواب: المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه، والأمر كذلك؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه، ونظير ذلك قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾: ومعنى ﴿تَّبَيَّنَ﴾ انفصل وامتاز، فكان المراد أنه حصلت البينونة بين الرشد والغي بسبب قوة الدلائل وتأكيد البراهين، أي تميز الحق من الباطل، والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة، إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يُقسَرَ على الإيمان ويُـجْبَرَ عليه، فكأن الآية تقول: بعد كل هذا الوضوح والبيان في الدين، لم يبق على صاحب اللب إلا أن يدخله، إذ لا يُتَصَوَّرُ قهرُه على الدخول فيه ولا يـُحْتَاجُ لذلك لشدة ما فيه من الوضوح، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

البقرة الآيتان الأولى والثانية (3)

 

 

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الۤـمۤ (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)﴾

 

وقوله سبحانه: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ فيه تظهر فيه الجهات الثلاث لفصاحة الكلام وجزالته، فالقاضي عبد الجبار الهمذاني يرى أن الكلام يكون فصيحًا بجزالة لفظه وحسن معناه والفصاحة لا تظهر في الكلمات المفردة، وإنما بضم هذه الكلمات بعضها إلى بعض، والجهات الثلاث هي:

اختيار الكلمة نفسها (وهي هنا الريب).

ثانيها: حركة هذه الكلمة من حيث الإعراب (وهي هنا مبنية على الفتح وهي اسم لا النافية للجنس ولم تجئ مرفوعة فلم يقل (لا ريبٌ فيه). وثالثها: موقع الكلمة تقديمًا أو تأخيرًا وتعريفًا أو تنكيرًا …الخ، فتقديم كلمة ريب على الجار والمجرور فيه ما فيه، فاختيار كلمة ريب لأنها تعطي ما لا تعطيه كلمة "شك"

فإن الشك: تردد النفس بين شيئين ولكن الريب شك مع تهمة وقلق واضطراب،

وبناؤها على الفتح يدل على نفي الريب نفيًا تامًا وتقديمها على الجار والمجرور يعطي معنى غير المعنى الذي تُأخر فيه، فمعنى ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾: نفي الريب عن القرآن دون التعرض لغيره من الكتب، ولكن لو قال لا فيه ريبٌ لكان المعنى إثبات الريب في غيره من الكتب، ألا ترى إلى قوله سبحانه في وصف خمر الجنة ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنـزفُونَ﴾ 47 الصافات، في أن المراد ليس نفي الغول عن خمر الجنة فحسب وإنما المراد مع ذلك إثباته في خمر الدنيا .

كذلك: وبناؤها على الفتح نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية، وذلك يناقض نفي الماهية، ولهذا السر كان قولنا: «لا إلهَ إلا الله» نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى.

الوقف على ﴿فِيهِ﴾ هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على ﴿لاَ رَيْب﴾ ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله: ﴿قَالُواْ لاَ ضَيْرَ﴾ [الشعراء: 50] وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز؛ والتقدير: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ ﴿فِيهِ هُدًى﴾. واعلم أن القراءة الأولى أي ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ أولى؛ أي أولى من القراءة على: ﴿لاَ رَيْبَ﴾ مع الوقف ثم: ﴿فِيهِ هُدًى﴾ لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى والله أعلم.

أما الهدى فقد سبق وتناولناه في تفسير سورة الفاتحة فارجع إليه،

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

البقرة الآيتان الأولى والثانية (4)

 

 

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الۤـمۤ (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)﴾

المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية فرط الصيانة، فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر، والمراد هنا المتقين الله، أي الذين هم خائفون غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرىء عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا.

والتقوى: أصلها في اللغة قلّة الكلام؛ حكاه ٱبن فارس، فالمتقي إنما يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى، مأخوذ من ٱتقاء المكروه بما تجعله حاجزاً بينك وبينه؛ كما قال النابغة:

سقط النَّصِيفُ ولم ترد إسقاطه فتناولته وٱتقّتنا باليد

وقال في الكشاف: المتقي في اللغة: اسم فاعل من قولهم: وقاه فاتقى، والوقاية: الصيانة، ومنه: فرس واقٍ، وهذه الدابة تقي من وجاها: إذا أصابها ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في الشريعة: الذي يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. انتهى.

قوله تعالى: ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ خصّ الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان القرآنُ هدىً للخلق أجمعين، تشريفاً للمتقين؛ لأنهم آمنوا وصدّقوا بما فيه. وروي عن أبي رَوْقٍ أنه قال: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أي كرامة لهم؛ يعني إنما أضاف إليهم إجلالاً لهم وكرامةً لهم وبياناً لفضلهم، وأما غير المؤمنين فقد قال فيهم: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِىۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾.

فهو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار؛ منزلتهُ ساميةٌ سامقةٌ راقيةٌ، لا يستحق أن ينال شرف الانتفاع بها إلا من استحق كرامة الإيمان بالله أولا، ليسموا بنفسه فيستحق أن تكون نفسُهُ موضعا لهذا الشرف العظيم، أن ينتفع بهدى خاص من الله تعالى رب السموات، يشرف هذا المخلوق من الطين، كما قال تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57].

وإنما قيل هدى ﴿لّلْمُتَّقِينَ﴾ والمتقون مهتدون من قبل، لأنه كقولك للعزيز المكرم: أعزك الله وأكرمك، تريد طلب الزيادة على ما هو ثابت فيه واستدامته.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ومَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)﴾

 

 

اعلم! أن ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ مع أنه إذا نظرت الى مقتضى الحال إيجاز، الا أنه إذا وازنت بينه وبين مرادفه وهو "المؤمنون" تظنه إطنابا؛ فأبدل "ال" بـ"الذين" الذي من شأنه الاشارة الى الذات بالصلة فقط ، كأنه لاصفة له الا هي للتشويق على الإيمان، والتعظيم له؛ والرمز الى أن الإيمان هو المنار على الذات قد تضاءلت تحته سائر الصفات.. وأبدل "مؤمنون" بـ "يؤمنون" لتصوير وإظهارِ تلك الحالة المستحسنة في نظر الخيال، وللاشارة الى تجدده بالاستمرار وتجلّيه بترادف الدلائل الآفاقية والأنفسية، فكلما ازدادت ظهوراً ازدادوا إيمانا .

على أننا نضع هنا بعض المفاهيم المهمة المتعلقة بمسألة الإيمان:

أما قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، ما علاقة الإيمان بالغيب؟

قال الكشميري رحمه الله في: وأضاف الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى على معناه اللغوي، فبدأ قيداً آخر، وقال: إن الإيمان اسم للتَّصديق بالمغيبات خاصة، ولا يطلق الإيمان على غير ذلك ، فلا يقال: آمنت بذلك في جواب من قال: السماء فوقنا، ولذا قال تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ البقرة3، فقيَّد الإيمان بالغيبِ، لأنه لا يتعلق إلا به .

وقال الزمخشري في كشافه: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ 7 غافر؛ وفيها التنبيه على أن الأمر لو كان كما يقوله المجسمة كان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين ولما وصفوا بالإيمان لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب ولما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم علم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض …الخ وإنما يهمنا الشاهد من كلام الزمخشري في أنه إنما يوصف بالإيمان الغائب.

وقال العلامة ابن تيمية رحمه الله في موضع آخر: والفرق الثاني ما تقدم من أن الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار بل في الأخبار عن الأمور الغائبة ونحوها مما يدخلها الريب فإذا أقر بها المستمع قيل آمن بخلاف لفظ التصديق فإنه عام متناول لجميع الأخبار، وأما المعنى فإن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من قرّ يقرّ وهو قريب من أمن يأمن، لكن الصادق يطمئن إلى خبره والكاذب بخلاف ذلك كما يقال الصدق طمأنينة والكذب ريبة فالمؤمن دخل في الأمن كما أن المقر دخل في الإقرار.

وقال الصنعاني في إجابة السائل: فكأنه قيل الاعتقاد هو الجزم الذي يقبل التشكيك في الجملة أشار إليه السعد في حواشي شرح العضد.

فإذا علمت هذا كله، تبين لك أن الإيمان لا بد أن يتعلق بالمغيبات، فيتم البحث فيما يقبل التشكيك، ما هو عُرضة للتغير للبحث في الأدلة التي توصل إلى مطابقة الفكرة المبحوثة في الذهن للواقع الخارجي المغيب عنا، لنصل إلى التصور فالتصديق الجازم بمطابقة تلك الفكرة للواقع الخارجي، فيحصل الإيمان بذلك الأمر الغيبي.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾

 

سنضع بين أيدكم بحثا طريفا في إقامة الصلاة، تابعوه بإذن الله وستجدون ما يأخذ بيدكم بإذن الله تعالى إلى الارتقاء بفهم مفهوم الصلاة وذلك ونحن في رحاب سورة البقرة، الآية الثالثة:

 

إقامة الصلاة

 

والصلاة أصلها في اللغة: الدعاء من صلى يصلي إذا دعا. وقد ذكر هذا الجوهري، وغيره. وقال قوم: هي مأخوذة من الصَّلا، وهو عرق في وسط الظهر، ويفترق عند العُجْب. ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل؛ لأنه يأتي في الحلبة، ورأسه عند صلوى السابق، فاشتقت منه الصلاة؛ لأنها ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لأن الراكع يثني صلويه، والصلا مغرز الذنب من الفرس، والاثنان صلوان، والمصلي تالي السابق؛ لأن رأسه عند صلوه. ذكر هذا القرطبي في تفسيره. وقد ذكر المعنى الثاني في الكشاف هذا المعنى اللغوي. وأما المعنى الشرعي، فهو هذه الصلاة التي هي ذات الأركان، والأذكار. وقد اختلف أهل العلم هل هي مبقاة على أصلها اللغوي أو موضوعة وضعاً شرعياً ابتدائياً. فقيل بالأوّل، وإنما جاء الشرع بزيادات هي الشروط والفروض الثابتة فيها. وقال قوم بالثاني.

وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها؛ على ما يأتي بيانه. يقال: قام الشيء أي دام وثبت؛ وليس من القيام على الرِّجْل؛ وإنما هو من قولك: قام الحق أي ظهر وثبت؛ قال الشاعر:

وقامت الحرب بنا على ساق

وقال آخر: وإذا يقال أتيتُم لم يبرحوا حتى تُقيم الخيلُ سُوقَ طِعانِ

وقيل: ﴿يقيمون﴾ يديمون، وأقامه أي أدامه؛ وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله: من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضَيّعها فهو لما سواها أضيع.

قال ابن عباس ويقيمون الصلاة، أي: يقيمون الصلاة بفروضها. وقال الضحاك عن ابن عباس: إقامة الصلاة: إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها، وقال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها. وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور بها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهذا إقامتها.

ومعنى ﴿يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ يحمل على أربعة معان: أولها: يعدلون أركانها بأن يوقعوها مستجمعة للفرائض والواجبات أو لها مع الآداب والسنن، ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها، من أقام العود إذا

وثانيها: يداومون أو يواظبون عليها من قامت السوق إذا نفقت ، وأقمتها إذا جعلتها نافقة، قال:

أقَامتْ غزالةً سُوقَ الضُراب لأهْلِ العِرَاقينِ حَولاً قَمِيطا

فإنه إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يُرغب فيه، وإذا ضُيِّعت كانت كالكاسد المرغوب عنه،

وثالثها: أو يتشمرون لأدائها بلا فترة عنها ولا توان، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه وتجلد، وضده قعد عن الأمر، وتقاعد.

ورابعها: أو يؤدونها ويفعلونها وعبر عن ذلك بالإقامة لأن القيام بعض أركانها، كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح. فهذه أربعة أوجه،

وفي الكلام على الأولين منها استعارة تبعية وعلى الأخيرين مجاز مرسل،

والأول أظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب، وأفيد لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن، وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى، لا ﴿لّلْمُصَلّينَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـٰتِهِمْ سَاهُونَ﴾، ولذلك ذكر في سياق المدح والمقيمين الصلاة، وفي معرض الذم فويل للمصلين، والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى، كتبتا بالواو على لفظ المفخم، وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء.

قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: (كل موضع ذكر فيه المصلّون في معرض المدح فإنما جاء لمن أقام الصلاة، إما بلفظ الإقامة، وإما بمعنى يرجع إليها، قال تعالى ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصَّلاَةَ﴾، وقال تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ﴾ [الإسرَاء: 78]، ﴿وَالْمُقِيمِى الصَّلاَةِ﴾ [الحَجّ: 35]، ولما ذكر المصلّين بالغفلة قال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 4، 5] ولم يقل: فويل للمقيمين الصلاة).

والمعنى هو التفريق بين حال المصلي، وحال المقيم الصلاة، إذ رب مصل لم ترتفع صلاته فوق رأسه موضع قدم ولا شبر!

روي أن رجلاً رآه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حالة لا تجزئ، ويحكى في بعض الروايات: (لو مت على ذلك لم ترح رائحة الجنة)، وفي بعضها: (دخلت النار)؛ ولهذا يقول العلماء: إن هذا الحديث أشد ما يكون تحذيراً من التراخي والتهاون في أداء الصلاة، والصلاة التي لا يتم ركوعها وسجودها تلف كما يلف الثوب الخرق ويرمى بها في وجه صاحبها، ولا تفتح لها أبواب السماء.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

في رحاب الآية الثالثة من سورة البقرة: (2)

 

اقتران الأمر بإقامة الصلاة بالأمر بالزكاة أو بالإنفاق

اقترن الأمر بالصلاة مع الأمر بالأمور التالية:

 

إيتاء الزكاة ، الإنفاق مما رزقهم الله

التزكي وخشية الله بالغيب، الشورى، التقوى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلاوة القرآن، الشكر، الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وأمور أخرى كثيرة.

﴿يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاة﴾، ومعناها يعملون بالكتاب، ولم تترك هذه الآية عملا صالحا إلا قرنته بالصلاة! بل بكل ما نزل في الكتاب من عقائد وأحكام شرعية، قرنت ذلك كله بالصلاة!

فكأن الصلاة هي المحرك الدافع للقيام بسائر الأعمال، والالتزام بها، وكأنها الركن الركين والعمود المتين الذي يقوم عليه هذا الدين، لدرجة التمسك بالشيء بكلتا القبضتين، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي يتصل المرء من خلالها بربه خمس مرات في اليوم والليلة على الأقل، لتعيده إلى جادة الصواب كلما أخذته الدنيا بعيدا عنها، أو تزوده بزاد من التقوى فتشحذ همته أبدا، وهذا الاقتران بين العمل بالكتاب وإبراز فرض الصلاة من ضمنه على الرغم من أن التمسك بالكتاب وإقامة ما فيه يتضمن إقامة الصلاة، إلا أن إبرازها في هذا الموضع يدل على أنها لازمة لحسن التمسك بالكتاب لزوم الروح للحياة.

فالفرض الذي هكذا حاله، لا يكون إلا بمكانة العمود من البناء يقوم البناء عليه، وكلما كان أثبت مكانا وأرسخ أركانا كان البناء أوثق عرى، وأشد ثباتا في وجه العواصف، فلا غرو إذن أن نكني عن إقامة الدين كله بإقامة الصلاة!

 

أما بالنسبة للفرق بين الأمر بالإنفاق مما رزقهم الله، واقتران الأمر بإقامة الصلاة مع الأمر بإيتاء الزكاة، فلا بد للوقوف على دقائقه من النظر في أوجه الإنفاق التي أمر بها الإسلام، لنجد منها: الانفاق في الجهاد، أي في سبيل الله، ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)﴾ البقرة، وفي آيات البقرة من الآية 261 إلى الآية 274، نجد أن النفقة تعني النفقة في باب الجهاد أيضا، وفي باب الصدقة، والنفقة زكاة للمال، ولقد ذكر النفقة في سبعة عشر موضعا من سورة البقرة، ثم هنالك باب نفقة الرجل على من يعوله، ثم هناك إنفاق المرء على نفسه وأهله لتسيير أمور حياته، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)﴾ الفرقان، ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)﴾ الحديد،

روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «دينارٌ أنفقَته في سبيل الله ودينار أنفقته في رَقَبة ودينار تَصدّقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك». وروي عن ثَوْبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أفضلُ دينارٍ ينفقه الرجل دينارٌ ينفقه على عياله ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عزّ وجلّ ودينارٌ ينفقه على أصحابه في سبيل الله»

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

في رحاب الآية الثالثة من سورة البقرة: (3)

 

﴿حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإنجِيلَ﴾، ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ﴾

في هاتين الآيتين: ورد الاقتران بين الإقامة، وبين العمل بما في التوراة والانجيل، وفي الثانية: جاء الأمر بالاستمساك بالكتاب، أي بالتوراة والانجيل، والعمل بما فيهما، واقترن بإقامة الصلاة،

وبغيتنا من التعرض لتفسيرهما هنا هو استنباط معان أوسع لإقامة الصلاة الواردة في هذا الموضع من سورة البقرة، وغيره في القرآن الكريم، وإنما لزمتنا هاتان الآيتان لما سيتضح بعد قليل ان شاء الله تعالى:

فقال تعالى في الآية الأولى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)﴾ المائدة

وقال تعالى في الآية الثانية: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)﴾ الأعراف.

قال الإمام القرطبي: قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ﴾ أي بالتوراة، أي بالعمل بها؛ يقال: مسك به وتمسك به أي ٱستمسك به. وقرأ أبو العالِية وعاصم في رواية أبي بكر «يُمْسِكُونَ» بالتخفيف من أمسك يمسك. والقراءة الأُولى أوْلى؛ لأن فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك بكتاب الله تعالى وبدينه فبذلك يُمدحون. فالتمسك بكتاب الله والدِّين يحتاج إلى الملازمة والتكرير لفعل ذلك.

إذن اقترن المدح بإقامة الصلاة، بالمدح بالاستمساك بالكتاب كله، والعمل بما فيه، في وقت كان أسلافهم قد ورِثوا كتاب الله فقرؤوه وعلموه، وخالفوا حكمه وأتَوْا محارمه مع دراستهم له. فكان هذا توبيخاً وتقريعاً لهم. ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ﴾ ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدّة حرصهم ونهمهم. ﴿وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا﴾ وهم لا يتوبون. ودلّ على أنهم لا يتوبون، فقارن بين حالهم وحال من يستمسك منهم بالكتاب ويعمل بما فيه، ويقيم الصلاة.

وفي الآية الأولى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، فما لم يقيموا التوراة والانجيل والقرآن ويعملوا بما فيها، فليسوا على شيء!! أي لستم على دين يُعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه، كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه. ويا له من وصف فظيع!

قال الإمام الطبري: ﴿وما أنزل إلـيكم من ربكم﴾ ما جاءكم به مـحمد صلى الله عليه وسلم من الفرقان، فتعملوا بذلك كله وتؤمنوا بـما فـيه من الإيمان بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، وتقرّوا بأن كلّ ذلك من عند الله، فلا تكذبوا بشيء منه ولا تفرّقوا بـين رسل الله فتؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، فإن الكفر بواحد من ذلك كفر بجميعه، لأن كتب الله يصدّق بعضها بعضاً، فمن كذّب ببعضها فقد كذّب بجميعها .

لا يخفى أن الله تعالى جعل لكلٍّ شرعةً ومنهاجًا، ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)﴾ المائدة، فالقرآن الذي أمرهم بإقامته، مع إقامة التوراة والانجيل، لقوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، هذا القرآن هيمن ونسخ الشرائع التي كانت نزلت عليهم، أي هيمن ونسخ الأحكام الشرعية التي كانوا مخاطبين بها، وأصبحوا مخاطبين بالأحكام الشرعية التي في القرآن، وبقي من إقامة تلك الكتب الإيمان، إذ أن أصل الدين واحد، خاطب الأنبياء كلهم أقوامَهم بالتوحيد، وبأصل الاعتقاد نفسه، فكانت إقامة تلك الكتب تتمثل بالإيمان بنبوة محمد عليه سلام الله، فما لم يؤمنوا بها، فإنهم ليسوا على شيء، فإقامة التوراة والانجيل إذن تقتصر بعد بعثة النبي الخاتم عليه سلام الله تعالى على الإيمان به واتباعه، فمن لم يفعلها منهم فليس على شيء!

إذا تقرر هذا، فنربط الآن بين إقامة التوراة والانجيل، أي أصل الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإقامة القرآن الكريم، أي العمل بالأحكام الشرعية الورادة فيه، وبين إقامة الصلاة، ومثله القول بالاستمساك بالتوراة والانجيل والإيمان بنبوة محمد عليه سلام الله من خلال ما ورد فيهما من بشاراته، وبين إقامة الصلاة، لنستنبط معاني أوسع لإقامة الصلاة، فلنقف أولا قليلا على معنى كلمة إقامة فنقول وبالله تعالى التوفيق:

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

في رحاب الآية الثالثة من سورة البقرة: (4)

 

لكننا سنستنبط معنى أوسع لإقامة الصلاة:

﴿وَيُقِيمُونَ﴾ من الإقامة يقال أقمت الشيء إقامة إذا وفيت حقه قال تعالى: ﴿لَسْتُمْ عَلَىٰ شَىْء حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإنجِيلَ﴾ [المائدة: 68] أي توفوا حقهما بالعلم والعمل.

وأصل القيام في اللغة هو الانتصاب المضاد للجلوس والاضطجاع، وإنما يقوم القائم لقصد عمل صعب لا يتأتى من قعود، فيقوم الخطيب ويقوم العامل ويقوم الصانع ويقوم الماشي فكان للقيام لوازم عُرفية مأخوذة من عوارضه اللازمة ولذلك أطلق مجازاً على النشاط في قولهم قام بالأمر، ومن أشهر استعمال هذا المجاز قولهم قامت السوق وقامت الحرب، وقالوا في ضده ركدت ونامت، ويفيد في كل ما يتعلق به معنى مناسباً لنشاطه المجازي وهو من قبيل المجاز المرسل وشاع فيها حتى ساوى الحقيقة فصارت كالحقائق ولذلك صح بناء المجاز الثاني والاستعارة عليها، فإقامة الصلاة استعارة تبعية شبهت المواظبة على الصلوات والعناية بها بجعل الشيء قائماً، وأحسب أن تعليق هذا الفعل بالصلاة من مصطلحات القرآن وقد جاء به القرآن في أوائل نزوله فقد ورد في سورة المزمل: ﴿وأقيموا الصلاة﴾ وهي ثالثة السور نزولاً. وذكر صاحب الكشاف وجوهاً أُخر بعيدة عن مساق الآية.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

في رحاب الآية الثالثة من سورة البقرة: (5)

 

الصلاة عمود الأمر كله:

لا شك أن الصلاة عمود الدين، فقد روى الإمام أحمد رضي الله عنه والترمذي واللفظ له: حَدَّثنا ابنُ أَبي عُمَرَ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ مُعَاذٍ الصَّنْعَانِيُّ عن مَعْمَرٍ عن عَاصِمِ بنِ أَبي النُّجُودِ عن أَبي وَائِلٍ عن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النبيِّ في سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْماً قَرِيباً مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عنِ النَّارِ، قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله عَلَيْهِ: تَعْبُدُ الله وَلاَ تُشْرِكْ بِهِ شَيْئَاً، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِىءُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِىءُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوفِ الَّليْلِ، قَالَ: ثُمَّ تَلاَ ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿يَعْمَلُونَ﴾ ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإسلام، وَعُمودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ. ثمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أمّك يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلاَ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ». قال أبو عِيسَى: هَذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

وروى الترمذي رحمه الله تعالى: حدثَني قتادةُ عنِ الحسن عن حريثِ بن قَبيصَةَ، قال: قدِمتُ المدينةَ فقلتُ اللهمَّ يسر لي جليساً صالحاً قال فجلستُ إلى أبي هُريرَةَ فَقُلْتُ: إني سأَلتُ الله أن يرزقني جليساً صالحاً فحدثني بحديثٍ سمعتهُ من رسولِ الله لعلَّ الله أن ينفعَنِي به، فقال سمعت رسولَ الله يقولُ: «إنَّ أولَ ما يُحَاسَبُ به العبد يومَ القيامةِ من عملهِ صَلاتُه، فإن صَلُحَتْ فقد أفلحَ وأنجحَ، وإن فَسَدَتْ فقد خابَ وخسرَ، فإن انتقصَ من فريضةٍ شيئاً قال الرب تبارك وتعالى: أنظروا هل لَعْبْدِيَ منْ تطوعٍ؟ فيُكْمِلُ بها ما انتقصَ من الفريضةِ، ثم يكونُ سائرُ عملِهِ على ذلك».

وروى الإمام أحمد رضي الله عنه عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الإسلام عُرْوَةً عُرْوَةً فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِى تَلِيهَا وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضاً الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلاَةُ».

 

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

في رحاب الآية الثالثة من سورة البقرة: (6)

 

ترك الصلاة:

عَنْ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ. مسلم. كتاب الإيمان. عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ إِلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ. النسائي كتاب الصلاة. ابن ماجه، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ. الترمذي. كتاب الإيمان عن رسول الله. عَنْ عَبْدِ الله بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ. النسائي كتاب الصلاة. ابن ماجه. قال الإمام أبو الوليد بن رشد القرطبي: (وأما ما الواجب على من تركها عمداً وأُمر بها فأبى أن يصليها لا جحوداً لفرضها، فإن قوماً قالوا: يقتل، وقوماً قالوا: يعزر ويحبس، والذين قالوا يقتل منهم من أوجب قتله كفراً، وهو مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك، ومنهم من أوجبه حداً وهو مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر ممن رأى حبسه وتعزيره حتى يصلي.

والسبب في هذا الاختلاف اختلاف الآثار، وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس" وروي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث بريدة أنه قال "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس بين العبد وبين الكفر –أو قال الشرك- إلا ترك الصلاة"، فمن فهم من الكفر ههنا الكفر الحقيقي جعل هذا الحديث كأنه تفسير لقوله عليه السلام "كفر بعد إيمان" ومن فهم ههنا التغليظ والتوبيخ أي أن أفعاله أفعال كافر وأنه في صورة كافر كما قال "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" لم ير قتله كفراً.

وأما من قال يقتل حداً فضعيف ولا مستند له إلا قياس شبه ضعيف إن أمكن.

وعلى الجملة فاسم الكفر إنما ينطلق بالحقيقة على التكذيب، وتارك الصلاة معلوم أنه ليس بمكذب إلا أن يتركها معتقداً لتركها هكذا، فنحن إذن بين أحد أمرين: إما إن أردنا أن نفهم من الحديث الكفر الحقيقي يجب علينا أن نتناول أنه أراد عليه السلام من ترك الصلاة معتقداً لتركها فقد كفر، وإما أن يحمل على اسم الكفر على غير موضوعه الأول وذلك على أحد معنيين، إما على أن حكمه حكم الكافر: اعني في القتل وسائر أحكام الكفار، وإن لم يكن مكذباً، وإما على أن أفعاله أفعال كافر على جهة التغليظ والردع له: أي أن فاعل هذا يشبه الكافر في الأفعال، إذ كان الكافر لا يصلي، كما قال عليه الصلاة والسلام "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".

وحمله على أن حكمه حكم الكافر في أحكامه لا يجب المصير إليه إلا بدليل لأنه حكم لم يثبت بعد في الشرع من طريق يجب المصير إليه، فقد يجب إذا لم يدل عندنا على الكفر الحقيقي الذي هو التكذيب، أن يدل على المعنى المجازي لا على معنى يوجب حكماً لم يثبت بعد في الشرع بل يثبت ضده، وهو أنه لا يحل دمه إذ هو خارج عن الثلاث الذين نص عليهم الشرع فتأمل هذا، لأنه بين. والله أعلم.

أعني أنه يجب علينا أحد أمرين: إما أن نقدر في الكلام محذوفاً إن أردنا حمله على المعنى الشرعي المفهوم من اسم الكفر، وإما أن نحمله على المعنى المستعار، وأما حمله على أن حكمه حكم الكافر في جميع أحكامه، مع أنه مؤمن فشيء مخالف للأصول، مع أن الحديث نص في حق من يجب قتله كفرا أو حداً، ولذلك صار هذا القول مضاهياً لقول من يكفر بالذنوب.)

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

ما أقاموا فيكم الصلاة:

 

قلنا قبل قليل: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاة﴾، ومعناها يعملون بالكتاب، ولم تترك هذه الآية عملا صالحا إلا قرنته بالصلاة!

فكأن الصلاة هي المحرك الدافع للقيام بسائر الأعمال، والالتزام بها، لدرجة التمسك بالشيء بكلتا القبضتين، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي يتصل المرء من خلالها بربه خمس مرات في اليوم والليلة على الأقل، لتعيده إلى جادة الصواب كلما أخذته الدنيا بعيدا عنها، أو تزوده بزاد من التقوى فتشحذ همته أبدا، وهذا الاقتران بين العمل بالكتاب وإبراز فرض الصلاة من ضمنه على الرغم من أن التمسك بالكتاب وإقامة ما فيه يتضمن إقامة الصلاة، إلا أن إبرازها في هذا الموضع يدل على أنها لازمة لحسن التمسك بالكتاب لزوم الروح للحياة.

فالفرض الذي هكذا حاله، لا يكون إلا بمكانة العمود من البناء يقوم البناء عليه، وكلما كان أثبت مكانا وأرسخ أركانا كان البناء أوثق عرى، وأشد ثباتا في وجه العواصف، فلا غرو إذن أن نكني عن إقامة الدين كله بإقامة الصلاة!

 

كذلك: في آية النساء 162، ورد الأمر بإقامة الصلاة بصيغة والأمر بإيتاء الزكاة بصيغة أخرى فقال:

﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)﴾ النساء.

يعقد سيبويه في كتابه: الكتاب باباً بعنوان باب ما ينتصب على التعظيم (يأتي منصوباً) إرادة التعظيم ويستشهد بذلك بهذه الآية، بمعنى أنه لما قال ﴿والمقيمين الصلاة﴾ كان يريد تميزهم وتميز إقامة الصلاة كأنه قال: أذكر بخير وأثنى على وأمدح المقيمين الصلاة؛ (منصوب على المدح)، أو أعظّم المقيمين الصلاة.

ورجع للرفع مرة أخرى ﴿والمؤتون الزكاة﴾ هذا يجري على سنن العربية توجيه على التعظيم والمدح. والجملة كلها ﴿والمقيمين الصلاة﴾ معطوفة من قبيل عطف الجمل وليس من قبيل عطف المفردات.

نستفيد من تخصيص فعل إقامة الصلاة بهذا المقام العظيم أن لها من الأهمية والخطورة ما يستدعي لفت الانتباه لها بأن سلكها في سلك تميز إعرابا عما سلكته سائر الأفعال التي أثنى عليها في تلك الآية، والتي كانت مرفوعة، نظير قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ 62 البقرة، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ 69 المائدة، ففي البقرة وقع الذين آمنوا موقع نصب اسم إن، وعطف عليه الذين هادوا والنصارى (وقدمهم على الصابئين لعددهم وتأثيرهم) والصابئين، وجعل خبر إن من آمن بالله واليوم الآخر.

أما في المائدة فقد عطف على اسم إن المنصوب الذين هادوا، وكسر الإعراب كسراً ظاهرياً (أي أن الظاهر لا يقتضي هذا الإعراب، فلا بد من البحث عن المعنى الخفي الذي من أجله وضعت هذه العلامة اللافتة للانتباه في إعراب الصابئين) وجعلها بين الذين هادوا المنصوبة والنصارى المنصوبة، وعلل ذلك العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله: فإن النصارى أفضل من الصابئين فلما قدموا عليهم نصب لفظ ﴿الصابئون﴾ ولكن الصابئين أقدم في الزمان فقدموا ها هنا لتقدم زمنهم ورفع اللفظ ليكون ذلك عطفاً على المحل فإن المعطوف على المحل مرتبته التأخير ليشعر أنهم مؤخرون في المرتبة وإن قدموا في الزمن واللفظ. انتهى

فنقول مثل ذلك في هذه الآية التي جعل فيها مقيمي الصلاة في محل نصب، ليشعر بأهمية ذلك الفعل، أي ليبرزه، فقد وقع بين أمور عظيمة عظيمة لا يقال بأن إقامة الصلاة أعظم منها خطرا، مثل الإيمان بالله وباليوم الآخر، ولكن يقال هنا أن لفت الانتباه إلى أن لإقامة الصلاة معنى خطيرا ينبغي لفت الأنظار إليه، وهو ما سنحاول وضع اليد عليه بعد قليل ان شاء الله تعالى.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

ما أقاموا فيكم الصلاة، الدليل مع نزول عيسى عليه سلام الله

 

لأجل خطورة هذا المعنى وطأنا له بكل تلك التوطئة الطويلة المهمة، من الربط بين إقامة التوراة والانجيل والقرآن، حتى يُعتبر المرء على شيء، أي على دين يُعْتَدُّ به، ومن معاني إقامة الصلاة، ومفهومها، وصيغها المختلفة في القرآن الكريم، لنقول بكل وضوح: المسألة أكبر من مجرد إقامة أركان الصلاة، وفرائضها وسننها، وإسباغ الوضوء والخشوع وإحسان الركوع والسجود، على ما في تلك الأفعال من أهمية وخطورة يترتب عليها ما يتعلق بنجاح الفرد ونجاته في الدنيا والآخرة،

فقد روى مسلم حدّثنا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ وَ هَـرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَ حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ قَالُوا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ فَصَلِّ لَنَا. فَيَقُولُ: لاَ. إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ. تَكْرِمَةَ الله هذِهِ الأُمَّةَ»..

إذن فلا بد أن نفهم حديث: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، على ضوء: لا إن بعضكم على بعض أمراء.

فمنزلة أن يقيم الحاكم الصلاة في المسلمين دلالة على منزلته كإمام لهم، من واجباته هو ومسئولياته هو التي أنيطت به أن يقيم هذه الصلاة، لذلك فهي كناية عن حكمهم بالشرع، اكتسبوا بهذا التطبيق وهذا الحكم بالشرع منزلة أن يُجعلوا هم مقيمي الصلاة في المجتمع.

عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» تابعه عقيل والأوزاعي. انتهى كلام البخاري.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد أخرجه مسلم من طريق ابن أبي ذئب عن ابن شهاب بلفظ «وأمَّكم منكم» قال الوليد بن مسلم: فقلت لابن أبي ذئب إن الأوزاعي حدثنا عن الزهري فقال: «وإمامكم منكم» قال ابن أبي ذئب أتدري ما أمكم منكم؟ قلت تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم. وأخرجه مسلم من رواية ابن أخي الزهري عن عمه بلفظ «كيف بكم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمكم» وعند أحمد من حديث جابر في قصة الدجال ونزول عيسى «وإذا هم بعيسى، فيقال تقدم يا روح الله، فيقول ليتقدم إمامكم فليصل بكم» ولابن ماجه في حديث أبي أمامة الطويل في الدجال قال: «وكلهم أي المسلمون ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح قد تقدم ليصلي بهم، إذ نزل عيسى فرجع الإمام ينكص ليتقدم عيسى، فيقف عيسى بين كتفيه ثم يقول: تقدم فإنها لك أقيمت»

وقال أبو ذر الهروي: حدثنا الجوزقي عن بعض المتقدمين قال: معنى قوله: «وإمامكم منكم » يعني أنه يحكم بالقرآن لا بالإنجيل .

قال بدر الدين العيني في عمدة القاري: قلت: الأنجيل ليس فيه حكم فلا حاجة إلى قوله: لا بالإنجيل، وقيل: معناه يصلي معكم بالجماعة والإمام من هذه الأمة، وقيل: وضع المظهر موضع المضمر تعظيماً له وتربية للمهابة، يعني: هو منكم، والغرض أنه خليفتكم، وهو على دينكم ،

فالخلاصة أنها منزلة أنيطت به لمكانته كخليفة، فعليه واجب أن يقيم الصلاة، وأنها كناية عن دوره في إقامة أحكام الإسلام، والله تعالى أعلم.

وقال ابن عربي في أحكام القرآن: المسألة الثَّالِثَةُ: إذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَقَعَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ؛ فَإِنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ يَكُونُ [فِي الدِّينِ وَيَكُونُ] فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:{أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ، وَأَعْظَمُ الْمَنَازِلِ مَرْتَبَةً الصَّلاةُ}. {وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فَقِيلَ لَهُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إذَا قَامَ مَقَامَك لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ}. الْحَدِيثَ. فَقَدَّمَ الْمُقَدَّمَ، وَرَاعَى الأَفْضَلَ.

حديث "تقديم الصحابة أبا بكر وقولهم اخترنا لدنيانا من اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا " أخرجه ابن شاهين في شرح مذهب أهل السنة من حديث علي قال"لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس وإني شاهد - ما أنا بغائب ولا بي مرض - فرضينا لدنيانا ما رضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا" والمرفوع منه متفق عليه من حديث عائشة وأبي موسى في حديث"قال مروا أبا بكر فليصل بالناس"

إذن فنستنبط من ذلك كله أن الإمام المقدم للصلاة، يقيم للمسلمين الصلاة، هو الخليفة، أي أن من مسؤولية الإمام الأعظم للمسلمين أن يقيم لهم الصلاة، وأن عيسى بن مريم عليه سلام الله، لم يتقدم على إمام المسلمين في الصلاة لانها تدل على إمامته العظمى أي أنه خليفة للمسلمين يقيم أحكام الإسلام فيهم، فيكون مفهوم حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي منع فيه الخروج على الحكام ما أقاموا الصلاة في المسلمين، أنها كناية عن إقامتهم أحكام الإسلام في المجتمع، من باب ذكر الشيء بأهم ما فيه، ومعلوم كما سبق أن الصلاة عمود الدين، فأن يذكر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إقامة الدين مكنيا عنها بإقامة الصلاة أمر فيه من الروعة والدقة ما قد جليناه فيما سبق من استنباط، ويشبهه نصب رب العالمين لفعل إقامة الصلاة في موضع كان مقتضى الإعراب الظاهري أن تكون في محل رفع، فنصبها هناك للدلالة على شدة أهميتها، وإشارة إلى أن في إقامتها في المجتمع علامة على إقامة الإسلام وأحكامه.

فلنجل هذه المسألة بشكل أوضح من خلال فهم طبيعة دار الإسلام ودار الكفر فنقول وبالله تعالى التوفيق:

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

الفرد يقيم الصلاة، والمجتمع يقيم الصلاة، والدولة تقيم الصلاة:

 

دعني أوضح بأن لإقامة الصلاة مستويات ثلاثة، مستوى متعلق بالفرد، ومستوى متعلق بالمجتمع، ومستوى متعلق بالدولة، ولا بد أن تُقام الصلاة على صعيد الفرد، وعلى صعيد المجتمع وعلى صعيد الدولة، ولا يغني أي منها عن الآخر، فإن أقامها الفرد لم يُقِمْ من فرض إقامة الصلاة إلا جزءا صغيرا، وبقي مخاطَبا بإقامتها في المجتمع، وإن أقامها في نفسه وفي المجتمع، بقي مخاطبا بإقامتها في الدولة، وإليك التفصيل الدقيق المدعوم بالأدلة التي تثبت هذه الحقيقة فنقول وبالله تعالى التوفيق:

لا شك أن لإقامة الصلاة معنى ملتصقا بإقامة ركوعها وسجودها والخشوع فيها، وأدائها في وقتها، والصبر على مشقة ذلك، فهذا مما لا شك فيه، وإليه أشارت الآيات التي جاءت تمتدح إقامة الصلاة وتحض عليه، مما تعلق بالفرد كفرد، خوطب بإقامة الصلاة، فهذا المعنى مفهوم واضح، ولكن هذا المعنى لا يتحقق على وجهه الصحيح إلا بالتعرض للبُعد المجتمعي لفرض إقامة الصلاة والربط بين هذا المعنى وبين خطاب الفرد بإقامة الصلاة، وإلا بالتعرض لبُعد إقامة فرض الصلاة على مستوى الدولة، والربط بين هذه المستويات كلها، ولكن علينا ابتداء أن نثبت بالدليل كل ذلك، قبل أن نتطرق إلى معانيه، وكيفية تحققه، فما هو الدليل على أن في إقامة الصلاة خطاب متعلق بالدولة وبالمجتمع؟

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

فلا شك إذن أن أمر الصلاة أيضا أعظم وأجل وأخطر في الإسلام، من أن تقتصر على بُعد فردي متعلق بالفرد دون المجتمع ودون الدولة، إذ أنها أخذت بُعْداً مجتمعيا، وخطابا جماعيا، وينبغي التنبيه إلى خطورة شأنه بربطه بإقامة أحكام الإسلام كلها في الحياة، والنظر إلى إقامة الصلاة على أنها دليل ظاهر على إقامة أحكام الإسلام في المجتمع أو على إهمال تلك الإقامة، وبالتالي ترتيب أحكام شرعية تتعلق بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم بناء على هذه الزاوية المهمة، لأجل ذلك كان لا بد من الوقوف على هذا المعنى الخطير الذي ترتب عليه إجراء الحياة أو الموت في المجتمع،

فقد روى مسلم رضي الله عنه: حدّثنا إِسْحَـقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ. أَخْبَرَنَا عَيسَى بْنُ يُونُسَ. حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ رُزَيْقِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ قَرَظَةَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ، قَالَ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ. وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ. وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: «لاَ. مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ . وَإذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلاَتِكُمْ شَيْئاً تَكْرَهُونَهُ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلاَ تَنْزِعُوا يَداً مِنْ طَاعَةٍ». رواه مسلم.

إذن فهناك إجراء حياة وموت، وحمل لسلاح في وجه حاكم، وما يترتب على ذلك الحمل من مهمة عظيمة تراق فيها الدماء، وتبذل فيها المهج والأرواح فداء لهذه الغاية الخطيرة،

أو طاعة لذلك الحاكم، إن لم يظهر منه كفر بواح، كلها دارت حول النظر في مسألة إقامة الصلاة في المجتمع، فهل المقصود هنا أن يقوم الحاكم بإمامة المسلمين في الصلاة؟ أم أن يتركهم يصلون الفرض في المساجد لا يعترض طريقهم؟ أم أن يأمن المسلم أن يقيم الصلاة بأمان المسلمين في ذلك المجتمع؟ أم ما هو المفهوم الدقيق لإقامة الصلاة في المجتمع والذي سيكون الحد الفاصل بين الخروج على الحاكم بالسيف واتخاذ إجراء الحياة والموت حيال تلك القضية المصيرية، أو المنع من ذلك الخروج وإيجاب الدخول في طاعة ذلك الحاكم المسلم الذي يقيم الصلاة في المجتمع ما أطاع الله ولا طاعة في المعصية؟

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

الإيمان والتقوى والعمل

 

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾، وفي التنزيل: ﴿وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾ [الأعراف: 7]، وقال: ﴿ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ﴾ [الأنبياء: 49]. فهو سبحانه غائب عن الأبصار، غير مَرْئي في هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال؛ فهم يؤمنون أن لَهم رَبًّا قادراً يجازي على الأعمال، فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس،

لاحظ الاقتران المباشر بين قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾ فقد اقترن أمر وصف المتقين بوصف المؤمنين بالغيب، فالمتقي كما أسلفنا يستشعر مراقبة الله عز وجل في كل آن، وما كان الله غائبا، إلا أن أبصارنا وحواسنا لا تدركه، لكمال صفاته تبارك وتعالى، فكان طبيعيا أن تنطلق العقول وتثب لتتفكر وتحصِّلَ الإيمان الذي يجعلها تدرك أن هذا الغائب عن الحس حاضر أبدا مراقِبٌ لكل دقة قلب وخلجة نفس، وحركة عضو، فيستحضر المرء التقوى والمراقبة والخشية لتكون المحرك الدافع، والطاقة المغذية تبعث الروح في جسم أي عمل يعمله، سواء الصلاة أم الزكاة أم النفقة أو ما سواها، والذي من دونها قد يتردى العمل ليغدو جثة هامدة،

ويربط بين الإيمان والعمل، ربطه بين التقوى والعمل، ليحسن العمل أيما إحسان فيقوم به على الوجه الأكمل اللائق بمن يفعله فيه وله ابتغاء مرضاته، وشكرا على نعمائه، وخوفا من عقابه، ولأنه حاضر يراقبه في كل آن، فهذه محفزات على إحسان العمل.

فإن صلى لله تعالى فعدته فيها: الخشوع والإخبات والتطامن والخضوع واللين والانقياد، بين يدى اللّه واستحضار عظمة اللّه وهيبته، وجلاله في الصلاة،، لما يملأ قلبه من جلال اللّه وعظمته يطمع في إحسان لقاء ربه في تلك الصلاة أولا، لينال ثوابه ويفوز بما عنده يرجو رحمته ويخاف عذابه؛ ويقيم ما أمره به على أكمل وجه ممكن.

إذن فالخشوع المطلوب هو خشوع من يقف بين يدي الله لكنه ولطبيعته البشرية فإن المرء بـينا يقف بين يدي الله سبحانه يصلي بخشوع لا تخلو صلاته من خطرات النفس ووساوس الشيطان وهموم الحياة ومشاكلها فينسى في بعض مواطن الصلاة أنه بين يدي الله سبحانه، فلا يكتمل الخشوع عنده ولا يرقى إلى أعلى مراتب الكمال مع أن المفروض أن يكون الخشوع ممتلئًا بالتطامن والإخبات والخضوع واستجماع الهيبة والخوف وهذا ما يطلب منهم الوصول به إلى أعلى مراتب الكمال وهم ﴿مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ﴾ في صلاتهم، يناجونه، فالأمر إذن يحتاج استحضار أكبر قدر من الهيبة والوجل والخشوع، والرب هو المنعم المتفضل فيحتاج الأمر إذن كذلك الارتقاء بالخشوع إلى مستوى يناسب الشكر لله على نعمه لذلك.

عَنْ أَبِي الْيَسَرِ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي الصَّلَاةَ كَامِلَةً وَمِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي النِّصْفَ وَالثُّلُثَ وَالرُّبُعَ حَتَّى بَلَغَ الْعُشْرَ قَالَ سُرَيْجٌ فِي حَدِيثِهِ حَتَّى بَلَغَ الْعُشْرَ. احمد. مسند المكيين.

فهذا كله يستدعي من المصلي أن يستحضر مقام التقوى وما فيه من حضور ومراقبة، وإحسان عمل، وهذا هو الذي يجعل للصلاة ثمرا طيبا مباركا، يذوق الإنسان منه حلاوة الإيمان، ويستروح منه أنسام التقوى، وبذلك يدخل في عباد اللّه المفلحين المكرمين.. كما يقول سبحانه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾ (1: المؤمنون) فالصلاة التي لا يحضرها ذكر اللّه، ولا يغشاها الخشوع والرهب، ولا تظللها سكينة النفس، وطمأنينة القلب ـ هى صلاة قليلة الثمر، ضئيلة الأثر..

إن المرء إذا أراد مقابلة الملك تهيأ بأحسن هندام، وزور في نفسه الكلام تزويرا، يحبره تحبيرا، ويعيد النظر فيه مرارا ليصل به مبلغا يليق بمقام من يخاطبه، ويوصل إليه حاجته بأفضل عبارة تبلغ من نفس ذلك الملك مبلغها، ولله المثل الأعلى، وهو الذي خلق ليُعبَدَ، ورزق وأنعم فلا بد من شكره، وهو الذي يأخذ المذنب بالذنب أخذا شديدا، ويكافئ المحسن بالعمل أضعاف ما يستحق فاعل ذلك العمل تكرما منه وفضلا، لا يبلغ الحامدون ثناء عليه، ولا لا يستطيع أحد مهما سدد أن يعبده حق عبادته، إلا أنه جهد المقل، فلا بد لهذا المكلف العبدِ لأجل أن يسمو بفعاله ويحسنها ويرتقي بها ليقدمها بين يدي مقام رب السموات والأرض، فلا بد أن يستعين لبلوغ ذلك المقام الرفيع بحوافز تعينه، ومخوفات تدفعه، بغية تحصيل ما يعينه على تلك الغاية الصعبة الشاقة، فلا بد من استحضار الإيمان والمراقبة والخشية والرجاء ليرتقي بعمله قدر المستطاع، فيقدمه بين يدي الله تبارك وتعالى راغبا في نوال قبوله له، فهذه هي النكتة البلاغية في الربط بين التقوى والإيمان والعمل، لأن المطلوب من كل عمل أن يؤتي ثماره وأكله في تغيير حياة الإنسان والارتقاء بها لأسمى مكانة تليق بهذا الكائن المكرم على سائر المخلوقات، فلأجل هذا يسمو المرء بأن يزاوج بين الإيمان والتقوى وحسن العمل.

 

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

إقامة الصلاة كناية عن إقامة الدين والحكم به:

 

لكن الأمر بإقامة الصلاة تعدى أيضا الناحية الفردية ليأخذ بُعْداً مجتمعيا خطيرا، وبُعدا آخر يتمثل بدور الحاكم والدولة في إقامة أحكام الصلاة في الفرد والمجتمع، هذان البعدان ينبغي وضع اليد على مفهومهما:

فمن إقامة الصلاة معاقبة تاركها، قال الإمام أبو الوليد بن رشد القرطبي: (وأما ما الواجب على من تركها عمداً وأُمر بها فأبى أن يصليها لا جحوداً لفرضها، فإن قوماً قالوا: يقتل، وقوماً قالوا: يعزر ويحبس، والذين قالوا يقتل منهم من أوجب قتله كفراً، وهو مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك، ومنهم من أوجبه حداً وهو مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر ممن رأى حبسه وتعزيره حتى يصلي.)

ومعلوم أن إيقاع تلك العقوبات لا يكون إلا بأمر قاض يقيمه أمير المؤمنين، فهذا مثال على حكم متعلق بإقامة الصلاة أناطه الشرع بالدولة متمثلة بالقاضي وبرئيس الدولة!

ولهذا الحكم أثره على إقامة الصلاة في المجتمع إذ أن العقوبات زواجر تزجر ضعاف النفوس عن أن يتهاونوا في أداء الواجبات، وتجعل معاريف الإسلام هي المعاريف التي يُؤمر بها في المجتمع، والتي يُعتبر الخروج عليها منكرا يُقاوم في المجتمع بكل الوسائل المشروعة لإنكار ذلك المنكر وتغييره،

فها نحن قد وضعنا اليد على أمر مجتمعي يتعلق بفرض إقامة الصلاة، وهو أن يُنكِرَ المجتمعُ، ويُغَيِّرَ المجتمعُ وأفراده على من يتهاون في إقامة الصلاة، وهذا البعد لا يتحصل في المجتمعات الجاهلية إلا على نطاق أفراد يتناصحون بينهم، لكن أن تكون نظرة المجتمع كله لفرض إقامة الصلاة نظرة تجعل العامة والخاصة، المحتسب والشرطي وغيرهما كلهم ينكرون منكر التهاون بإقامة هذا الفرض، تختلط بذلك مشاعرهم باستهجان مثل هذا العمل، مع قوة السلطان التي تردع وتعاقب، مع فعالهم التي ينكرون فيها على مرتكب ذلك المنكر فعلته، وهكذا، كل هذا البعد لا يتأتى إلا في مجتمع جعل هذا المعروف معروفا لديه،

بل أكثر من ذلك، فقد أناط الإسلام بالمجتمع نفسه، ممثلا بالعلماء، وبالأحزاب السياسية، وبأهل القوة والمنعة ومن ورائهم الأمة بقوتها وهيبتها، أن تردع الحاكم نفسه بالسيف إن هو تهاون في فرض إقامة الصلاة في المجتمع وحاول إظهار نقيضه، لأن إظهار النقيض إظهار للكفر البواح، كما تقوم بعض الدول بمنع المسلمين من مساجدهم، أو من حجاب نسائهم، وتحاصر فرض الصلاة بكل ما أوتيت من قوة، فهنا أضحت معاريف الإسلام منكرات عند تلك الدول، تحاربها بكل ما استطاعت من سبل، ولو أن الأفراد ما زالوا يعتبرونها معاريف يفدونها بأرواحهم، إلا أن الصلاة لم تُقَم على مستوى المجتمع ولا على مستوى الدولة في هذه الحالات فتأمل.

وتفصيل ذلك أن الشارع أمر ابتداء أن يطبق المسلمون الإسلام، تطبيقا للشرع، وحماية للعقيدة، وحملا للدعوة الإسلامية إلى العالم من خلال دولة على رأسها إمام واحد لا يجوز أن يتعدد.

فأناط بهذا الإمام تطبيق الشرع على نحو يلزم فيه غيره، فيلزم مانع الزكاة بأدائها، وليس لمن ليس له صلاحيةٌ ذلك، فعلم أنها للامام، ويعاقب المرتد وفق أحكام المرتد، ويقيم الجمع والأعياد، ويقيم برامج التعليم التي تقوم على أساس الإسلام، وعلى أساس جعل الإسلام حجر الزاوية في بناء المجتمع، فيتعلم المسلمون فرض الصلاة وأحكامها حق التعلم، فيعينهم هذا على حسن أدائها وإقامتها، ويعيد للمسجد مكانته، فهذا كله للسلطان ومن مسئولياته، ومما لا يقيمه الأفراد من غير سلطان إلا جزئيا وعلى نحو لا يؤتي ثمرته المرجوة على صعيد المجتمع ككل، وللسلطان أيضا مسئولية أن يقيم المعاهدات، ويقسم الغنائم، ويوزع الصدقات، ويرعى المصالح، ويطبق الحدود، وهذه الصلاحيات لم تعط لغيره إلا ما أناطه الشارع أو هو بها، كالقاضي والوالي، ومعاوني التفويض والتنفيذ.

ثم إن الشارع أمر الحاكم برعاية شئون المسلمين، وأناط به هذه المسئولية، فمن مسئوليته تلك بوصفه راعيا للشئون أن يقوم ببناء المساجد، وتأمين طرقاتها، ومنع البيع والشراء وقت صلاة الجمعة في الأسواق، وهذه المسئولية أنيطت به ولم تنط بغيره، فمثلا لو قام المسلمون ببناء مسجد، فهذا من باب فعل الخير الذي أمروا به، لكنه لا يغني عن أن الشارع أناط مسئولية إقامة المساجد بالدولة كراعية للشئون والمصالح تقوم بذلك عن المسلمين ولهم.

كما أن الشارع أمر الإمام بمقاتلة الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة، روى البخاري رضي الله عنه: عن واقِدِ بنِ محمدٍ قال: سَمِعْتُ أبي يحدِّثُ عنِ ابنِ عُمَرَ أَنَّ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلّم قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقاتِلَ الناسَ حتَّى يَشْهَدوا أَنْ لا إِلهَ إِلاّ اللّهُ وأنَّ محمداً رسولُ اللّهِ، ويُقِيموا الصلاةَ، ويُؤْتوا الزَّكاةَ. فإذا فَعَلوا ذلكَ عَصَموا مِنِّي دِماءَهُم وأموالَهُم إِلاّ بِحَقِّ الإسلام، وحسابُهم عَلَى اللّه»

قال ابن عربي في أحكام القرآن: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ﴾: دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا كَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَعَلَّقَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ فِي قَوْلِهِ: لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ؛ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْعِصْمَةَ بِإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَتَعَلَّقَ بِهِمَا.

وقال في موضع آخر: فأخبر صلى الله عليه وسلم أن القتال إنما كان على إظهار الإسلام، وأما الاعتقادات فكانت موكولة إلى الله تعالى. ولم يقتصر بهم النبي صلى الله عليه وسلم على القتال دون أن أقام عليهم الحجة والبرهان في صحة نبوته، فكانت الدلائل منصوبة للاعتقاد وإظهار الإسلام معا؛ لأن تلك الدلائل من حيث ألزمتهم اعتقاد الإسلام فقد اقتضت منه إظهاره والقتال لإظهار الإسلام، وكان في ذلك أعظم المصالح، انتهى

فإظهار الإسلام وظهور أحكامه في المجتمع لا يتأتى من إقامة الأفراد وحدهم للصلاة، بل لا بد من أن تكون تلك الأحكام ظاهرة في المجتمع والدولة.

وها أنت ترى أن من مسئوليات الدولة المقاتلة حتى يقيم الناس الصلاة أو يخضعوا لأحكام الإسلام ويؤتوا الجزية، وللدولة الظاهر من الأعمال، فكانت علامة خضوع الناس لسلطان الإسلام متمثلة بإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة، فتأمل هذا جيدا، لتدرك معنى: لا ما أقاموا فيكم الصلاة!

قال الجصاص في أحكام القرآن: ويدل على أنهم مرتدون بامتناعهم من قبول فرض الزكاة ما روى معمر عن الزهري عن أنس قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب كافة فقال عمر: يا أبا بكر أتريد أن تقاتل العرب كافة فقال أبو بكر: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة منعوني دماءهم وأموالهم}. والله لو منعوني عقالا مما كانوا يعطون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.

وروى مبارك بن فضالة عن الحسن قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب عن الإسلام إلا أهل المدينة، فنصب أبو بكر لهم الحرب فقالوا: فإذا نشهد أن لا إله إلا الله ونصلي ولا نزكي، فمشى عمر، والبدريون إلى أبي بكر، وقالوا: دعهم فإنهم إذا استقر الإسلام في قلوبهم وثبت أدوا فقال: والله لو منعوني عقالا مما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وقال الله تعالى: ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم﴾ والله لا أسأل فوقهن، ولا أقصر دونهن فقالوا له: يا أبا بكر نحن نزكي، ولا ندفعها إليك ، فقال: لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضعها مواضعها،

كذلك من الفقهاء من يرى أن الجمعة لا تكون ولا تجزء إلا أن يقيمها الإمام، وإن كنا لا نقول بقولهم إلا أننا ننقله هنا من باب بيان رأي فقهي متعلق بإقامة الصلاة من قبل الدولة:

قال بدر الدين العيني في عمدة القاري كتاب الجمعة:

... حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ المَرُوزِيُّ قال أخبرنا عَبْدُ الله قال أخبرنا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قال أخبرنا سالِمُ بنُ عَبْدِ اللهِ عنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما قال سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم يقُولُ كُلُّكُمْ رَاعٍ. وزَادَ اللَّيْثُ قال يُونُسُ كَتبَ رَزيْقُ بنُ حُكَيْمٍ إلى ابنِ شِهَابٍ وَأنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ بِوَادِي القُرَي هَلْ تَرَى أنْ أُجَمِّعَ وَرُزَيْقٌ عامِلٌ علَى أرْضٍ يَعْمَلُهَا وفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السُّودَانِ وغَيْرِهِمْ ورُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى أيْلَةَ فكَتَبَ ابنُ شِهَابٍ وَأنَا أسْمَعُ يَأمُرُهُ أنْ يُجَمِّعَ يُخْبِرُهُ أنَّ سالِما حَدَّثَهُ أنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ عُمَرَ يقُولُ سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلّم يَقُولُ كُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ الإمَامُ رَاعٍ ومَسؤلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أهْلِهِ وَهْوَ مَسْؤلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالمَرْأةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤلَةٌ عنْ رَعِيَّتِهَا والخَادِمُ راعٍ في مالِ سيِّدِهِ وَمسؤُلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ قال وَحَسِبْتُ أنْ قالَ والرَّجُلُ رَاعٍ فِي مالِ أبِيهِ وَمَسْؤلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ وكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسؤُلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ.

مطابقته للترجمة من حيث إن زريق بن حكيم، لما كان عاملاً على طائفة، كان عليه أن يراعي حقوقهم ومن جملتها إقامة الجمعة، فيجب عليه إقامتها .

 

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل

×
×
  • اضف...