اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

التصهين الإنساني


Recommended Posts

التصهين الإنساني

 

عندما نصف خطاباً بأنه «متصهين» فهذا لا يعني أننا نتهم مَن يتداوله، أو يعيد إنتاجه بأنه صهيوني أو خائن، بقدر ما نقول أن هذا الخطاب يخدم وينحاز للمصالح الصهيونية.

 

 

قد يتداول هذا الخطاب أشخاص يعادون الصهيونية، وقد تكون نواياهم حسنة، لكن النوايا ومواقف الأشخاص التي تتداول الخطاب لا تغيّر من وظيفته. هذه النقطة رئيسة في نقاشنا لنوع جديد من الخطابات الذي يقوم بخدمة المصالح الصهيونية عبر رفع «يافطات» إنسانية.

 

 

مع اشتداد الحملة العسكرية الصهيونية على غزة، بدأ يتردد نوع من الخطاب يوجّه اللوم إلى المقاومة على هذا التصعيد. تأخذ المحاججة الشكل التالي: المقاومة ضعيفة جداً بالنسبة لإسرائيل، وفي كل مرة ترسل المقاومة مجموعة من الصواريخ العبثية نحو إسرائيل يتسبب ذلك بمقتل وإيذاء المدنيين. بحسب هذه المحاججة، هذا عمل متهور وغير محسوب و(متاجر) بدماء الفلسطينيين.

 

 

هذا النوع من الخطاب «إنساني». والمقصود بالإنسانية هنا المواقف والأفعال التي تحركها مشاعر التعاطف مع آلام ومكابدات الآخرين، أفعال وأقوال هدفها رفع هذا الأذى عنهم، وإنقاذهم من خطر الموت المحدق. لندع جانباً نوايا ومقاصد من يرفعون هذا الخطاب، فهي لا تهم. ولنركز على هذا الخطاب نفسه، إذ إن مجرد تبنيه والاقتصار عليه يقوم بإظهار والتشديد على جوانب من المشهد وإخفاء أخرى.

 

 

فالخطاب الإنساني من جهة يتركز بشكل جوهري على رفع الألم، أكثر من تركيزه على مكافحة الظلم أو محاربة الرذيلة. فالشعب السوري، على سبيل المثال، كان خاضعاً لنظام ظالم مستبد لأكثر من أربعة عقود، إلا أن دعوات «التدخل العسكري الإنساني» لم تبدأ إلا عندما شرع هذا النظام بإنزال «الألم» على مواطنيه، أي بقتلهم وتشريدهم. إن استبطان هذا الخطاب يزيد من رهافة إحساسنا تجاه كل مكابدة وكل ألم، ولكنه في نفس الوقت، ولأنه واقع تحت تأثير مشهد الألم نفسه، لا يأبه بسياقه السياسي والاجتماعي وظروفه المحيطة، بل ينزعه عنه، ويصب تركيزه كله على رفعه وتخفيفه.

 

 

والخطاب الإنساني بشكل عام مكوّن من عنصرين: الأول «المساواة» بين البشر لمجرد كونهم بشر، أي تهميش الفروقات الدينية والعرقية والجنسية وغيرها. في حين أن العنصر الآخر هو «انعدام المساواة» في القوّة والقدرة والمعرفة بين ضحية الألم والأذى، وبين مانح المعونة والمساعدة. وبريق هذا الخطاب وجاذبيته تكمن في تأكيده وإبرازه على العنصر الأول، في حين أن مشكلاته ومآسيه تنبع من اصطدام هذا العنصر بواقع العنصر الثاني، أي أن العلاقة التي تحكم المانح والضحية علاقة أبوية، يفترض فيها المانح معرفته بمعاناة الضحية وآلامها، وتبريره لنفسه الحديث باسمها وتأطيرها ضمن إطار «ضحية» ليتمكن من جلب المساعدات لها. أي أنه حتى يتمكن المانح من تقديم المساعدة، فإنه يحتاج لـ«تسويق» آلام الضحية - أي المتاجرة بها - وللوصاية عليها، أي الحديث باسمها وعن مصالحها دون استشارتها.

 

 

هذا الخطاب منتشر، وهو لغة هذا العصر، وكثير من السياسات والحروب التي خيضت في الأعوام الماضية، إنما خيضت باسمه وضمن لغته. ماذا سيحدث عندما يتم النظر للقضية الفلسطينية عبر هذا المنظار؟ سيتم التركيز على الألم الذي يتعرض له الفلسطينيين سواء المحاصرون في غزة أم في المخيمات، وسيتم التركيز على إنقاذهم وتخليصهم من هذا الأذى. لا يهم أن هناك احتلالاً وقع، كل ما يهم إنهاء حال المكابدة هذه حالاً وفوراً. وعندما تقوم المقاومة بإفشال أية محاولة تسوية ظالمة، يتم لومها بأنها السبب في مدّ أمد مكابدة الفلسطينيين، وعندما تقوم بمقاومة العدو الذي يهاجمها، يتم مهاجمتها، ذلك أنه طالما أن مقاومته لا تستطيع الإسراع في تخفيف الألم، فهي بلا جدوى وبلا فائدة.

 

 

كيف يكون مثل هذا الخطاب متصهيناً؟ أي كيف يخدم المصالح والرواية الصهيونية؟ بطرق عدة، الأول أنه يلغي السياق التاريخي والسياسي للصراع، ويستسلم لتوازنات القوى الموجودة على أرض الواقع. فما يهم إنهاء الألم والمكابدة، حتى لو جاءت المعونات الإنسانية من إسرائيل نفسها. فهو لا يأبه كيف تشكّلت إسرائيل، ولماذا تم تشريد الفلسطينيين، المهم أن ينتهي الألم.

 

 

أما الثاني، فالاستراتيجية التي يتبعها الاحتلال عادة لمواجهة أية مقاومة تقوم ضده، إنما تكون عبر عزل المقاومة عن قاعدتها الشعبية. يتم ذلك عبر وسائل عدة، منها رفع كلفة دعم هذه القاعدة الشعبية للمقاومة عبر التضييق عليها اقتصادياً واستهدافها عسكرياً، أو عبر بث دعاية بأن المقاومة تستغلكم وتتاجر بكم. وخطاب التصهين الإنساني يعمل تماماً ضمن هذه الاستراتيجية، ويسعى لإقناع الفلسطينيين بأن المقاومة هي عدوهم الأول.

 

 

لا يعني كشف تحيزات الخطاب الإنساني وسهولة تحوله لخطاب تبرير للاحتلال الصهيوني الاستهانة بآلام الناس ومكابداتهم. بل كل ما يسعى له احترام الفلسطينيين وعدم الحديث باسمهم وادعاء معرفة مصالحهم، واعتبار هذه الآلام والمكابدات «تضحيات»، تم بذلها لقضية عادلة وسامية. إن المشهد الفلسطيني الآن مشهد شجاعة لا مثيل لها قبل أن يكون مشهد آلام وضحايا. وإن الحرص على رفع الألم والمكابدة يجب ألا يكون على حساب القضية التي من أجلها كان بذل هذه التضحيات.

كاتب ...سعودي sultaan_1@

تم تعديل بواسطه حامل العقاب
رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...