اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

أزمة النقد


Recommended Posts

#أزمة_النقد
 
في ليلة الأحد 15 آب 1971 ظهر الرئيس نيكسون على شاشة التلفزيون بعد خلوة استغرقت 48 ساعة في "كامب ديفيد" ليقول للأمريكيين إن الدفاع عن الدولار ومكافحة البطالة وتحسين وضع الميزان التجاري وميزان المدفوعات هي كلها عناصر أساسية لسياسة اقتصادية جديدة، الغاية منها حفظ مركز الولايات المتحدة كأول دولة اقتصادية في العالم" ثم أردف قائلاً: "هل سيبقى هذا البلد القوة الاقتصادية الأولى في هذا العالم، أم أننا سنستسلم ونقبل بأن نكون الدولة الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟ هل سنحافظ على القوة التي جعلت الحرية والسلام ممكنين في العالم أم أننا سنتقهقر؟ كل ذلك رهن بروح المناقشة التي ستظهرونها. يجب علينا أن نعيد لهذا البلد الإيمان الذي ساعدنا على بناء أمّة كبيرة في الماضي والذي سيساعدنا على أن نقولب عالم المستقبل". بهذه الكلمات أعلن الرئيس الأمريكي سياسته الاقتصادية لمواجهة الأزمة النقدية العارمة التي كادت أن تقصم ظهر الاقتصاد الغربي برمّته، وتجر معها البلدان التابعة للغرب. فكانت خطة نيكسون لطمة للعالم الحر قلبت مقاييس التجارة الدولية، وزرعت الفوضى في بورصات العالم الغربية، ثم جعلت عملات البلدان الصناعية تتراقص. وقبل أن نتطرق إلى الأزمة ثم إلى الخطة التي أنقذت الدولار الأمريكي من الانهيار، يجدر بنا أن نلقي ضوءاً على تاريخ نظام النقد العالمي منذ نشأته على أساس الذهب إلى أن تغير باتفاقية "بريتون وودز" عام 1944 حين وضع النظام الحالي الذي كان سبباً أساسياً ولا يزال في توالي ما أصاب النقد الدولي من أزمات ومشاكل لا يزال العالم يستعر بأوارها، حتى يعاد الذهب ليكون الأساس الذي تقيّم به جميع العملات الدولية، ومن ثم يعود الاستقرار ليخيم على العلاقات الاقتصادية بين الأمم.
أمّا نظام الذهب فيعود تاريخه إلى قدم الأمم، وسار عليه العالم منذ أن عرف النقد حتى الحرب العالمية الأولى (ومعه نظام الفضة) حيث عمدت الدول المتحاربة إلى اتخاذ إجراءات جعلت نظام الذهب يضطرب، فمنها من أوقف قابلية تحويل عملاتها إلى ذهب، ومنها من فرض القيود الشديدة على تصديره، ومنها من صار يعرقل استيراده، فاختل النظام النقدي، وتقلبت أسعار الصرف. ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم تعرضت الحياة النقدية في العالم إلى عدة أزمات دولية، وأصبح النقد وسيلة من وسائل الاستعمار بيد الدول الكبرى تحاول ضرب أعدائها عن طريقه.
وفي عام 1944 عقد ممثلو 44 دولة تمثل العالم الرأسمالي في "بريتن وودز" بولاية نيوهامبشير الأمريكية اجتماعاً انتهوا فيه إلى قبول الدولار -بعد أن كانت دول كثيرة قد فصلت عملاتها عن الذهب- أساساً لتحديد قيمة العملات المختلفة. وطبقاً لقواعد صندوق النقد الدولي الذي اتفق آنذاك على إنشائه، لا تتغير قيمة عملة ما إلاّ في حدود ضيقة جداً لا تتجاوز 1% منقيمتها صعوداً أو هبوطاً حسب العرض والطلب، أمّا إذا رأت دولة بسبب نقص شديد أو زيادة هائلة في ميزانها التجاري، أن تغيّر قيمة عملتها برفعها أو خفضها، فلا يمكن أن يتم ذلك إلاّ بعد مشاورات دولية واسعة وفي حالة الضرورة القصوى، ويمكن لصندوق النقد الدولي أن يقـدم لأعضائه البالغ عـددهم حتى عام 1968 (109) دول مساعدات لسد العجز في الميزان التجاري للدولة التي تطلب ذلك تحقيقاً لقدر معقول من الاستقرار في أسعار العملات الدولية المختلفة. وبموجب هذا النظام وافقت الدول الصناعية الكبرى العشر على وضع سعر معين لنقدها الوطني بالاستناد إلى الدولار الأمريكي. وكذلك اتفقت أمريكا بالمقابل على ربط الدولار الأمريكي بقاعدة الذهب (35 دولاراً للأونصة الواحدة) من تبديل الدولارات المقدمة من المصارف المركزية الأجنبية بسعر ثابت للدولار المرتبط بالذهب. ومن هنا جاء الارتباط بين عملات معظم الدول في العالم الرأسمالي بما فيها الدول القائمة في العالم الإسلامي، إذ اعتمدت هذه الدول الدولار الأمريكي في مقدمة الأرصدة الاحتياطية لدى بنوكها المركزية، كأساس لقيمة نقدها وكغطاء لعملتها. ونتيجة للهزة التي أصيب بها الدولار أساس العملة العالمية، التي أدت إلى انخفاض في قيمه ستلحق خسارة فادحة بمعظم الدول التي اعتمدت هذا الأساس، بنقصان في احتياطيها الذي هو معظمه من الدولار بالإضافة إلى نسبة من الذهب وبقية العملات الأجنبية المعتبَرة والتي يطلق عليها العملة النادرة أو الصعبة. ولهذا كان من الطبيعي أن يتأثر الين الياباني نتيجة لأزمة النقد هذه، حيث تشكل أمريكا وأوروبا الأسواق الاستهلاكية الرئيسية للصادرات اليابانية في العالم، إذ بلغت نسبة ما تشتريه أمريكا من مجموع صادرات اليابان 30%، وكذلك الحال مع ألمانيا الغربية، بعد أن أصبحت اليابان القوة الصناعية الثانية في العالم الرأسمالي تليها ألمانيا الغربية.
أمّا تاريخ الأزمات النقدية فيبدأ منذ الحرب العالمية الثانية حين تأسست الطريقة الحالية المعاصرة للنقد في العالم الرأسمالي. والجدير بالذكر أن عجز ميزان المدفوعات يقع عادة دون أن يسبب أزمة، ولكن هذه المرة لم يعد بالإمكان تحاشي الأزمة الكارثة لأن الأمريكيين بالغوا جداً في عجز ميزان مدفوعاتهم.
إن ميزان المدفوعات يعني حساب الدولة الدولي الخارجي، ويقع هذا العجز في الحساب عندما تصرف الدولة من هذا الحساب أكثر مما ينبغي عليها أن تصرف في خارج بلادها طبعاً، وكانت أمريكا تصرف من هذا الحساب أكثر مما ينبغي عليها منذ أكثر من عشرين سنة. هذا وعندما تقع المشكلة تعتمد الدولة على تغيير قيمة عملتها. إلاّ أن الأمر يختلف بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية لأن الدولار يستمد قوته الشرائية من قوة موطنه الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية، أي منذ أن تأسس نظام النقد العالمي الذي أصبح يتأرجح الآن كي يقع فيما بعد ليعم الخير كل العالم بعد رجوع نظام الذهب بإذن الله. وكان الناس يعلمون أنه حتى عام 1960 يستطيعون إبدال دولارهم بالذهب بالسعر الرسمي أي 35 دولاراً مقابل كل أوقية من الذهب، ولكن استمرار ضعف ميزان المدفوعات بتأثير الإنفاق الخارجي أدى إلى ضعف احتياطي الذهب الأمريكي وأخذ ينقص 1961-1970 إلى ما يقرب من خمسة بلايين دولار، وبعبارة أخرى أن الأزمة تتمثل في أن تزايد عرض الدولار في الأسواق العالمية بالقدر الذي أدى بالتبعية إلى استنزاف نصف احتياطي الذهب الأمريكي أي ما يعادل 10 بلايين دولار إلى جانب امتصاص الإنتاج الأمريكي من الذهب الذي يتراوح بين 50-60 مليون دولار سنوياً. وقد كانت محصلة هذا الوضع أن تغيرت النسبة المئوية للعلاقة بين الذهب والالتزامات الخارجية الأمريكية السائلة، أي أن نسبة الغطاء النقدي من الذهب لعملة الدولار القابلة للتحويل إلى الذهب قد انحدر إلى ثلث ما كانت عليها في خلال عشر سنوات، رغم الضغوط التي تبذلها حكومة الولايات المتحدة على بعض الدول مثل ألمانيا الغربية، لجعل معظم احتياطياتها في شكل دولارات والاكتفاء بقدرٍ فيه يكاد يكون ثابتاً منذ مطلع الستينات وهو أربعة بلايين دولار تقريباً، أي أنه لو أقدمت دولة واحدة وهي ألمانيا الغربية على استبدال احتياطياتها من العملات الأجنبية بالذهب لأتت على الرصيد الباقي من احتياطي الذهب الأمريكي.
وبهذا العجز في ميزان المدفوعات الأمريكية لم تعد أمريكا تستطيع أن تدفع ما يعادل ثمنه من ذهب رغم أن أمريكا لم تقل هذا صراحة، ولكن إنقاذ تحويل الدولار إلى ذهب ضمن إجراءات نيكسون الأخيرة لحماية الدولار يعني عدم مقدرتها على الالتزام بالسعر الرسمي المعلن للدولار لحاملي الأرصدة الدولارية الهائلة خارج الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا كله كان الدافع الأساسي لرفع الستار عن الأزمة التي كانت خفية.
والمتتبعون لمركز الدولار يعرفون أن أزمته الحاضرة تعتبر امتداداً لأزمات سابقة توالت منذ سنة 1964- سنة 1965 عندما أسفر ميزان المدفوعات الأمريكي عن عجز فادح اضطر معه الرئيس جونسون آنذاك إلى رجاء البنوك الأمريكية في الخارج ولا سيما في أوروبا بأن تحوّل إلى أمريكا ما تستطيع تحويله من الدولارات التي تمتلكها حتى يمكن تغطية العجز، ومرت الأزمة بسلام إلى حين، فإنه لم تكد تنقضي ثلاث سنوات حتى واجه الدولار الأمريكي أزمته الثانية حين قام ولسون رئيس وزراء بريطانيا وزعيم حزب العمال فيها في نوفمبر عام 1967 بتوجيه ضربة إلى الدولار بالتواطؤ مع فرنسا بزعامة ديغول آنذاك بتخفيض الاسترليني إلى جانب ما قصده بالدرجة الأولى تنشيط الصادرات البريطانية الخارجية، فقد تقرر عقب ذلك إيقاف تحويل الدولار بالذهب في الأسواق الحرة بالسعر الرسمي المشار إليه مع استمرار قابليته للتحويل في الأسواق الرسمية (أي بين الحكومات والبنوك المركزية لتسوية المدفوعات الدولية). ومن المعروف أن هذا الاجراء يعتبر بمثابة إيقاف كامل لحرية تبادل الدولار بالذهب، لأن الحكومات والبنوك المركزية لا تطلب التحويل إلاّ بعد الاتفاق مع الحكومة الأمريكية التي تتفاهم عادة مع البنوك المركزية على إيقاف التحويل).
تُرى ما هي الأسباب والعوامل وراء ذلك كله، أي وراء أزمة النقد الدولية الحالية التي تتمثل بالعملة الدولية، الدولار الأمريكي؟ والجواب على ذلك أولاً: يكمن السبب الرئيسي في نفس النظام العالمي للنقد الذي عليه منذ اتفاقية "بريتون وودز" المذكورة منذ الحرب العالمية الثانية الذي نتج عنه ربط عملات العالم، ما عدا دول العالم الاشتراكي، بالدولار الأمريكي الذي تعرض ويتعرض دائماً للهزات مما جعل تلك العملات تحت رحمة زعيمة الاستعمار الولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول أن تمتص خيرات شعوب الأرض بأقدامها الأخطبوطية الخبيثة. وثانياً: أمّا السبب المباشر لهذه الأزمة هو في عدة أمور سببت عجزاً كثيراً في ميزان المدفوعات الأمريكي وبالتالي عدم توفر احتياطي الذهب في أمريكا. وهذه الأمور هي:
1- مواصلة حرب فيتنام التي تعتبر نزيفاً مالياً يرهق ميزان المدفوعات الأمريكي حتى بلغ الإنفاق عليها ثمانية مليارات دولار سنوياً.
2- صرف الإعانات الدولية للدول الموالية لها كسباً لتأييدها.
3- أنها عمدت إلى شراء مزيد من القواعد الدولية التي أنفقت عليها مبالغ طائلة في شتى أنحاء العالم وذلك دعماً لموقفها العسكري، وحماية لاستثماراتها الاستعمارية في الخارج مثل شراء قواعد ألاسكا، وإقامة أحلاف الأطلنطي، وجنوب شرق آسيا وغيره.
4- تدفع الدولارات بمبالغ هائلة على شكل مساعدات أو استثمارات إلى الخارج لا سيما إلى أوروبا، وخاصة ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية لمساعدتها وللوقوف في وجه روسيا.
5- وكذلك الإنفاق الواسع على الفضاء.
6- ثم أخيراً الإنفاق الهائل للسياح الأمريكان خارج الولايات المتحدة.
فهذه الإنفاقات الموسعة في خارج أمريكا للدولار، العملة التي تقوم عليها سائر العملات، دون أن يفطن العالم إلى ضرورة وجود رقابة دولية عليها، ودون أن تتحمل أمريكا عبئاً مالياً فورياً وقت إنفاقها، فهي لم تحتفظ بما يوازي قيمة الدولارات الخارجية من أمريكا من الاحتياطي الذهبي الكامل، أي أنها في الواقع تعتبر مقترضة من الدول لهذه الأموال ما دامت الدول تحتفظ بالدولار في خزائنها باعتباره في مقام الذهب. فلما انفجرت أزمات الدولار الواحدة بعد الأخرى، وجدت البنوك المركزية المحتفظة بالدولار نفسها ضحية له، وأنها مضطرة إلى مساندة أمريكا حتى لا تواجه كارثة. وكانت تتم هذه المساندة بشكل قروض لأمريكا أو تعهد بالصرف بالذهب أو بعملاتها مقابل الدولار.
وكانت أهم آثار هذه الأزمة النقدية ركود عام في التجارة الدولية إلى حد كبير ثم قلق واضطراب لدى المنتجين في العالم بسبب الخوف من الخسارة التي ستلحق بهم لعدم استقرار سعر الصرف في العملات الدولية وذلك اختلال في المقياس العام لقيمة النقد العالمي، أي الدولار الأمريكي. ولا يزال العالم يعاني هذه الآثار رغم ما بذل ويبذل من تدابير واحتياطات دولية لتجنب كل ذلك.
مما سبق يتبين لنا مقدار عظمة الإسلام وروعته في نظرته إلى النقود وجعله الذهب والفضة فقط أساساً للعملة عند المسلمين وفي معاملتهم مع الناس خارج حدود الخلافة بما يحققه هذا النظام النقدي من استقرار ورخاء عام في الشؤون الاقتصادية للرعية في الداخل ويجنبها كل سوء ويحميها من تحكم الكافر الخبيث في مقدرات المسلمين كما هو عليه الحال حتى الآن.
16/8/1971

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...