اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

العلة الغائية عند الأشاعرة


يوسف الساريسي

Recommended Posts

بسم الله الرحمن الرحيم

العلة الغائية عند الأشاعرة

 

أي دارس للفكر الأشعرى لا يخفى عليه معرفة أن الأشاعرة قد نفوا تعليل أفعال الله، والمعنى المقصود هو العلة الغائية وهي الغرض والباعث والمؤثر، وهذا لأن لله تعالى الكمال المطلق وأنه المؤثر لا المؤثر عليه وأنه قادر على خلق النتائج دون توسيط الأسباب، وأنه ليس له حاجة فى شىء لأنه غنى عن المخلوقات جميعا

ينطلق الفلاسفة والمتكلمون جميعا من معتزلة وأشاعرة وماتريدية، من مقررات تعريف العلة وأركانها كما وردت من الفلسفة الاغريقية وبالأخص فلسفة أرسطو، ويقسم أرسطو العلل إلى أربعة وهي: العلة الفاعلية والعلة الغائية والماهية والمادية.

فوجود الشيء وتحققه في الخارج يحتاج إلى فاعل ومادة وصورة ومجموع هذا المركب تسمى علة تامة

فالعلة الفاعلية: هي الشخص الفاعل أو صاحب الفكرة، مثال أن الله هو الخالق للكون

والعلة الغائية: وهي الغاية أو الغرض وهو ما لأجله يصدر الفعل من الفاعل،مثال أن الله له غاية من وجود الكون قبل ايجاده

والعلة الماهية: التصور الذهني لاجزاء الشيءأو هو الصورة او الهيئة للشيء

والعلة المادية: الوجود الخارجي الحقيقي للشيء المحسوس ماديا

فالعلة الماهية: هي المادة والصورة فقط، أما العلة للوجود الخارجة عن الماهية: هي العلة الفاعلة والعلة الغائية

فالعلة الغائية هي الغاية والمقصد والمصلحة والحكمة والباعث على الحكم في الأفعال. والعلة الغائية متقدمة على الفعل في الوجود العلمي الذهني ومتأخرة في الوجود الخارجي الفعلي (النتيجة)، وهذه العلة هي المقصودة في التعليل بالحكم والغايات والمقاصد، أما العلة الشرعية فهي اقرب ما تكون إلى العلة الفاعلة وهي دالة على معنى التأثير وغير داخلة في ماهية الحكم.

إذن اعتمد المتكلمون على معنى العلة وتقسيماتها من أرسطو وطبقوا هذا الأمر على أفعال الإله، وبالتالي نفوا وجود العلة الغائية في أفعال الله سبحانه وتعالى،

انتفاء العلة الغائية عن افعال الله تعالى:

الدليل الذي استند اليه المتكلمون عموما -والأشاعرة منهم- على نفي العلة الغائية هو دليل أو حجة الاستكمال فالإمام الفخر الرازي يقول: أن كل مَنْ فَعَل فعلا لغرض فهو مستكمل بذلك الغرض، والمستكمل بغيره ناقص بذاته وذلك على الله محال، وإما أن يكون الداعي هو الحكمة والمصلحة فالله قادر على تحقيقها دون توقف على وسائط.

يقول د. محمد رمضان سعيد البوطي -وهو أحد أعمدة الفكر الأشعري في العصر الحديث- في كتابه كبرى اليقينيات الكونية: (فشعور الإنسان بالبرد توصله إلى الحاجة إلى الدفء، وهذه الحاجة هي غرض يحمل الإنسان على القيام بارتداء معطف ثقيل، فإذا فعل ذلك تحقق له الغرض المطلوب وشعر بالدفء. فتحقيق الدفء علة غائية وهي الحامل والباعث على الفعل وهي ماثلة في الذهن من قبل الفعل ولكنها تتحقق في الخارج بعده)

فالمخلوق قد يدفعه البرد الى إيقاد النار ليصطلى بها أو يدفعه الجوع الى تناول الطعام ليصل الى الشبع، أما الإله فإنه مستغن بنفسه ولا يسعى ليسد نقصا أو يزداد كمالا، ونفى العلة- بهذا المعنى – عن أفعال الإله لا يعنى أبدا أن أفعاله عبثية غير مقصودة كانما أتت بها المصادفات، وانما تحدد الإرادة أفعال الله تعالى وسننه الكونية وشرائعه على نحو متسق وحكيم دون غرض أو باعث أو علة تتسلط على الإله، فإرادته تامة لا يشوبها أى معنى من معانى الجبر أو الحمل على ما لا يريد.

الإمام الشهرستاني يقول: (ان الله تعالى خلق العالم ... لا لعلة حاملة له على الفعل، سواء قدرت تلك العلة نافعة له أو غير نافعة، إذ ليس يقبل النفع والضرر، أو قدرت تلك العلة نافعة للخلق إذ ليس يبعثه على الفعل باعث فلا غرض له في أفعاله ولا حامل، بل علة كل شيء صنعه)

يقول البوطي: (صفة الارادة في ذات الله صفة تامة كاملة لا يشوبها أي جبر أو قسر، فلو قلت بأن الله أنزل المطر من أجل علة استهدفها، وهو ظهور النبات على وجه الأرض وأنها حاملة له على إنزال المطر -كما هو شأن العلة الغائية- فمعنى ذلك أنك تقول إن الضرورة هي التي حملته على الإمطار، إذ كانت هي الواسطة التي لا بد منها للنبات فالارادة متجهة اذا إلى الانبات أما الأمطار فإنها مشوبة بقدر كبير من الضرورة التي تنافي الارادة ، .... وهذا الاعتقاد في حق الباري جل جلاله كفر محض وأنه يتناقض مع مقتضى الألوهية تناقضا بينا).

وأدلة من ذهب من المتكلمين كالأشاعرة  إلى نفي التعليل هي نفس أدلة الفلاسفة، ألا أن المتكلمين متفقون على أن أفعال الله تصدر عن إرادته وعلمه فهي صادرة بالاختيار فلا شيء في أفعال الله تصدر وجوبا عن ذاته كما يقول الفلاسفة، حيث أن الفلاسفة يقولون بأن صدور وتولد المعلول عن علته التامة هو واجب تلقائي ضروري دون إرادة، وبالتالي قالوا بقدم العالم أي أن الوجود أزلي مع الله، لأن العلة الفاعلة وهي الله وجميع ما يلزم للوجود قد وجد منذ الأزل فالعالم موجود ضرورة منذ الأزل فهو قديم حسب اصطلاحاتهم، وقد كفرهم حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي على مقولتهم بقدم العالم.

وقد خالف الماتريدية -من المتكلمين- الأشاعرة في قولهم بنفي العلل الغائية عن أفعال الإله، حيث أنهم عللوا أفعال الله بأنها لرعاية مصالح العباد.

يتبع بمشيئة الله

رابط هذا التعليق
شارك

رأي الأشاعرة في العلل الكونية :

أراد الله تعالى أن يسير الكون وفق سنن مطردة لا تكاد تنخرق وفى تلك السنن نرى عللا يتولد عنها معلولات وأسبابا توصل لنتائج، وشروطا يوجب عدمها عدم المشروطات، ولكن السادة الأشاعرة نفوا أيضا أى ترابط ضرورى بين العلل والمعلولات أو بين الأسباب والنتائج ردا على الفلاسفة الطبيعيين الذين لا يرون وراء المعلول الا علته ولا يدركون الا الأسباب الظاهرة القريبة فإيجاد الممكنات أو إعدامهاعند الأشاعرة- يأتى مقارنا للسبب لا بواسطة السبب ذاته فالإحراق يخلق عند ملامسة النار للورق لا بملامسة النار للورق، ولكن من اطراد اقتران النار بالإحراق تصور بعض الفلاسفة أن النار هى التى أوجدت الإحراق وأن الماء هو الذى يوجد الري بذاته  فانتصب لهم الأشاعرة نافين أى فاعلية للمادة الصماء.

وما دعى الأشاعرة لتقرير تلكم الفكرة أن أخص صفات الإله عندهم هى الخلق والإختراع أو إيجاد الممكنات واعدامها وهو المستبد بها حصر، أما العلل القريبة فهى علل جعلية يخلق الله المعلول عندها لا بها ولكن هذا لا يدعو لإهمال تلك العلل وترابطها العادى مع معلولاتها كشروط أو أسباب ولكنهم يعزون التأثير والفاعلية والخلق لله رب العالمين

فالاشاعرة بنفون الأسباب المؤثرة في المخلوقات، لأن ذلك يناقض أصل توحيد الفاعلية وما نظرية الكسب إلا لحل مشكلة اقتران القدرة الحادثة بالقدرة القديمة في فعل العبد ، فلا أثر للسبب في مسببه، وهذا الفهم يتناسب تماما مع نظرية الكسب الأشعرى حيث أن الفعل يوجد بإعتبارين الإيجاد والكسب، فالأول من الله والآخر من العبد ولو ألغى الأشاعرة أى دور للمكلف لقالوا بالجبر التام.

الذى يحرص الأشاعرة على انحصاره فى ذاته تعالى من معانى العلية هو معنى الفاعلية فقط أما المعانى الأخرى كالإحتياج والتوقف والإشتراطوكلها مما ينتمى لمعنى العلية بصورة أو أخرى- فلا بأس فيما يرى الأشاعرة أن تضاف الى الحوادث أنفسها، فمما لا شك فيه أن الأشاعرة قائلون باحتياج الكل الى الجزء وبإحتياج العرض الى موضوع يقوم به والإحتياج مما يثبت علية المحتاج اليه فى المحتاج فلولا أنهم يقرون بعلية الأشياء بعضها فى بعضإجمالا- للزمهم انكار مثل هذه الأحكام الضرورية فى العقول والأذهان.

وقد هاجمت كل المدارس العقلية الأشاعرة بدءا من المعتزلة وحتى الفلاسفة والملاحدة، فادعى عليهم أنهم صادموا الفطرة حينما قطعوا العلائق بين العلل ومعلولاتها وبين الأسباب ونتائجها  وادعى عليهم أيضا أنهم صادموا العقل والعلم حين فسروا الظواهر الكونية تفسيرا غيبيا.

والظاهر أن مذهب نفاة تعليل أفعال الإله (ومنهم الأشاعرة) سببه هو الرد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم الذي يستلزم طرد التعليل، وهذا يعني أن أفعال الله تعالى لا يقصد منها غاية أصلا، وانما هربوا من أن يجعلوها تابعة لحكمة ما، لأن ذلك يؤدي إلى القول بقدم العالم، فسدوا الباب من ذلك. لأن في ذلك إشارة إلى استلزام التعليل للتسلسل.

وبطلان التسلسل هو أحد بديهيات العقول التي يعتمد عليها المتكلمون والمناطقة في أحكامهم كبطلان التناقض وبطلان الدور الخ، وهي أهم مستندات الدلالة على صانع وخالق الكون، فمَنْ تَتَبَّع العلل الكونية سينقاد الى إدراك علة أولى ضرورية تستند اليها باقى العلل كى لا تتسلسل الى ما لا نهاية، والأثر يدل على المؤثر أبدا، والقول بنفى العلية نفيا تاماكما فعل الفيلسوف الأوروبي الحديث دافيد هيوم- سيؤدى حتما الى الإلحاد، فعندما ننفى ترابط العلل مع المعلولات لن نكون مضطرين الى البحث وراء العلة الأولى الموجدة للكون وفلسفة هيوم خير شاهد على هذا!!

ومن الأمثلة على بديهية بطلان التسلسل هو كإطلاق رصاصة من مسدس، فإذا اطلقت الرصاصة من قبل أحد الجنود، ولكن هذا الجندي قبل أن يطلق الرصاصة انتظر الأمر من الضابط المباشر، وهذا الضابط انتظر الأمر من الضابط ذو الرتبة الأعلى منه والضابط الثاني انتظر الأمر من الضابط الثالث والثالث انتظر الأمر من الرابع، والقول بتسلسل الأوامر إلى الأعلى إلى ما لا نهاية محال عقلا، لأنه ما دامت اطلقت الرصاصة فهناك ضابط اتخذ القرار ثم أمر من تحته بتنفيذه حتى وصل إلى الجندي حامل المسدس ، وإذا افترضنا أن التسلسل لا نهائي فتكون الرصاصة لن تطلق إلى الأبد أو أنها غير موجودة، وإذا كانت الرصاصة قد اطلقت فهناك حتما نهاية وقطع للسلسلة عند نهاية معينة عند الضابط الذي اعطى الأمر لمن دونه وإلا فمن المحال أن تطلق الرصاصة من المسدس.

رابط هذا التعليق
شارك

خلاصة رأي الأشاعرة في العلة الغائية:

1- ينفى الأشاعرة العلة الغائية عن أفعال الإله، والعلة المعنية هنا هى الغرض أو الحاجة أو المؤثر ونفى العلة- بهذا المعنى – عن أفعال الإله لا يعنى أبدا أن أفعاله عبثية غير مقصودة كانما أتت بها المصادفات وانما تحدد الإرادة أفعال الله تعالى وسننه الكونية وشرائعه على نحو متسق وحكيم.

2- يرى الأشاعرة أن العلاقة بين العلل الكونية ومعلولاتها محض اقتران وهي علل وأسباب جعلية، وانما تثبت الفاعلية أو خاصيتى الإيجاد والإعدام لله وحده

3-اتفق الشاعرة مع جميع المتكلمين على أن الأحكام الشرعية تدل على الحكمة وتتبنى رعاية مصالح المكلفين

 والله الموفق وعليه التكلان

رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم ورحمة الله

لكي ندرك الأسباب التي دفعت الأشاعرة –مع تقديرنا الشديد لهم- إلى ما يشبه انكار السببية، ونفي العلة الغائية عن أفعال الإله -كما ذكرنا أعلاه- لا بد لنا من التعرض لمجموعة قضايا تثيرها هذه الأبحاث، وهي:

1.       مدى صلاحية علم المنطق للاستدلالات العقلية والتوصل إلى نتائج صحيحة

2.       اشكالية الابحاث المتعلقة بموضوع صفات الله عند علماء الكلام

3.       واقع العلة وعلاقتها بالسبب والغاية والارادة والفعل والحكمة

4.       دليل الاستكمال الذي بنى عليه الأشاعرة نفي العلة الغائية عن افعال الله

 

وسنبدأ بطرح هذه النقاط نقطة نقطة ثم التوصل إلى خلاصة لهذا الموضوع تحل هذه الإشكاليات التي تعرض لها الأشاعرة

ونحن إذ نطرح مثل هذه القضايا لا نقصد التعرض للأشاعرة بالنقد من حيث هو نقد، بل نود تصويب الأخطاء التي نراها من جراء انجرار الأمة في ماضيها وراء المنطق اليوناني دون تمحيص جدير بمبلغ هذا العلم من الحق، وهدفنا دائما التصويب وتجنب الأخطاء وخصوصا لدى الأشاعرة الذين هم أقرب المتكلمين الينا

وهدفنا من ذلك هو سعينا لانهاض المسلمين من جديد بإحسان فهم الإسلام، لأننا نعتبر أساس مشكلة الأمة الإسلامية وانحطاطها الذي وصلت اليه، هو الضعف الشديد الذي طرأ على أذهان المسلمين في فهم الإسلام، أو هو سوء الفهم للإسلام ، وكان من أهم أسباب هذا الضعف هو تأثر المسلمين بالمنطق اليوناني ونشوء علم الكلام في القرون الأولى، وكان لا بد لنا من أجل إحسان فهم الإسلام وإزالة الغشاوات عن الإذهان، من التعرض لبعض الأبحاث التي ناقشها المتكلمون من مثل القضاء والقدر وصفات الله وغيرها من الأبحاث، وهنا أردنا التعرض لهذا الموضوع المتعلق بالعلة الغائية لتصويب الرأي فيها وحل الإشكاليات التي فرضتها هذه الأفكار لدى المسلمين في الماضي والحاضر.

والله من وراء القصد

رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم

سنبدأ ببحث النقاط المذكورة أعلاه حسب الترتيب والبداية ستكون النقطة الأولى.

النقطة الأولى: مدى صلاحية علم المنطق للاستدلالات العقلية والتوصل إلى نتائج صحيحة

الأشاعرة بوصفهم من المتكلمين، فالمنطق في علم الكلام هو من أهم ما يستندون اليه في استدلالاتهم، لأنهم يعتبرون المنطق بأنه آلة تعصم العقل عن الوقوع في الخطأ ، وهم لم يتوصلوا إلى تعريف العقل بشكل صحيح، أو التوصل إلى شروط البحث العقلي الصحيح والوقوف عندها. وهي أربعة شروط: وجود الواقع المحسوس ووجود حواس سليمة ووجود دماغ صالح للربط الذكي ، ووجود المعلومات السابقة.

علم المنطق كما يذكر الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله تعالى في كتاب التفكير، لا يعتبر -المنطق- طريقة خاصة في التفكير، وإنما هو أسلوب من أساليب البحث المبنية على الطريقة العقلية، والمنطق فيه قابلية الكذب وقابلية المغالطة، والأولى أن تستعمل الطريقة العقلية في البحث ابتداء، وأن لا يلجأ إلى الأسلوب المنطقي.

وفي الجزء الأول من كتاب الشخصية الإسلامية يتعرض الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى، لنشأة المتكلمين ومنهجهم في البحث، وذكر أن هذا المنهج من البحث المنطقي الذي اعتمدوا عليه يقوم على الاستدلال وبناء قضايا على قضايا والتوصل إلى نتائج منطقية منها، وهو منهج يعطي العقل حرية البحث في كل شيء فيما يدرك وفيما لا يدرك في الطبيعة وفيما وراء الطبيعة وفيما يقع عليه الحس وما لا يحس، ولم يلتزموا بشرط البحث العقلي في المحسوسات فقط.

وقد تعرض المتكلمون لصفات الله وأفعاله مما لا يقع عليه الحس وخاضوا فيها بحثا، وفاتهم أن المحسوس مدرك وأن ذات الله غير مدركة فلا يمكن أن يقاس أحدهما على الآخر، فالبحث في صفات الله دون دليل من الشرع هو بحث في ذات الله وهو ممنوع، فمثلا بحثوا مفهوم العدل بالنسبة لله، مع أن عدل الله لا يقاس على عدل الإنسان، وبحثوا موضوع علم الله وقدرته وارادته، وهي أبحاث كلها تقع في دائرة غير المحسوس، ولا يمكن للعقل أن يصدر حكمه عليها، ومجمل هذه الأبحاث مبنية على فروض وتخيلات، ويقام البرهان عليها من مجرد التصور المنطقي لأشياء قد تكون موجودة او غير موجودة، لذلك وقعوا في أخطاء من جراء هذا المنهج المنطقي في البحث.

وقد تعرض حزب التحرير لمنهج المتكلمين بالتفصيل في كتبه، خصوصا كتاب الشخصية الإسلامية كما ذكرنا، وفندها تفنيدا تاما، ومن أراد الاستزادة فعليه بمراجعة الموضوع هناك.

 يتبع بمشيئة الله

رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم

النقطة الثانية: اشكالية الابحاث المتعلقة بموضوع صفات الله عند علماء الكلام

كان من أول الابحاث التي بحثها المتكلمون وبخاصة المعتزلة مسألة كلام الله وخلق القرآن، ومن هنا يرجع أصل تسمية علم الكلام والمتكلمين لأن أول ابحاثهم كانت مسألة كلام الله، وقد أثارت قضية خلق القرآن اشكالية كبيرة لدى المسلمين في العصر العباسي، وقد سجن الإمام أحمد بن حنبل وجلد بسببها، وتعرض الكثير من علماء المسلمين للتعذيب من جراء فرض الدولة العباسية رأي المعتزلة في مسألة خلق القرآن على الناس بقوة الدولة وبالإكراه، وانتهت هذه المحنة في زمن المتوكل على الله وتم بعدها اخراج الإمام أحمد من السجن، وفي الحقيقة لم يفد هذا البحث المسلمين في شيء وإنما أضرهم أكثر مما نفعهم.

يذكر الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله تعالى في كتاب الشخصية الاسلامية أنه مع مجيء المتكلمين وتسرب الأفكار الفلسفية دب الخلاف في صفات الله، بسبب بحث المعتزلة لعلاقة ذات الله بصفاته، فقالت المعتزلة أن ذاته وصفاته شيء واحد، أما أهل السنة -الأشاعرة- فقالوا أن صفات الله ليست عين ذاته، ثم بينوا معنى كل صفة من صفات الله الأزلية كالعلم والقدرة والسمع والبصر والارادة والمشيئة والكلام.

والغريب -كما يقول الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى- أن نقاط الجدل التي اثارها المتكلمون هي عينها كان قد اثارها فلاسفة اليونان من قبل، وقد تصدى أهل السنة للمعتزلة بسبب اندفاعهم وراء الفلسفة اليونانية للتخفيف من هذا الاندفاع ووراء ما توصل اليه هذه الآراء من فروض نظرية وقضايا منطقية، ولكنهم وقعوا في نفس ما وقع فيه المعتزلة فردوا على الصعيد ذاته.

فجميع الفرق الكلامية لم تدرك معنى العقل بالشكل الصحيح، هو السبب الذي افقدهم الضوابط والشروط اللازمة لصحة هذه الأبحاث، ولو ادركوا معنى العقل لما تورطوا في هذه الأبحاث الفرضية والنتائج المدرك أنها غير واقعية، بل هي أشياء ترتبت على أشياء أخرى فسميت حقائق عقلية، وهي في حقيقتها أبحاث فيما وراء الطبيعة والمحسوسات. وكذلك لم يميز المتكلمون بين طريقة القرآن في تقرير الحقائق وبين طريقة الفلاسفة في ادراك الحقائق.

ولهذا كان بحث المتكلمين جميعا في صفات الله في غير محله وهو خطأ محض، فصفات الله توقيفية، فما ورد منها في النصوص القطعية ذكرناه بالقدر الذي ورد في النصوص ليس غير، فلا يجوز أن نزيد صفة لم ترد ولا أن نشرح صفة بغير ما ورد عنها بالنص القطعي, ومن أراد الاستزادة حول هذا البحث فعليه بمراجعة موضوع صفات الله في الجزء الأول من كتاب الشخصية الإسلامية.

ولذلك نرى نتائج هذا المنهج المنطقي في البحث واضحة في بحث الأشاعرة حول العلة الغائية في أفعال الإله، فنرى تعرضهم لمعاني صفات الله وما يستلزم هذا البحث من فروض ونتائج غير محسوسة، فنراه بشكل واضح خصوصا صفة الإرادة وصفة القدرة، ويجصل من جراء ذلك استنتاجات ولوازم لا ضرورة لها، ولذلك وجب علينا الوقوف عند حد ما أثبتت النصوص لنا حول صفات الله، دون الدخول في استنتاجات منطقية لا دليل عليها.

يتبع بمشيئة الله

تم تعديل بواسطه يوسف الساريسي
رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم ورحمة الله

ثالثا: واقع العلة وعلاقتها بالسبب والغاية والإرادة والفعل والحكمة

 العلة من ناحية اللغة تأتي بمعنى التكرر والعائق والضعف فى الشيء والسبب، فهي في اللغة لفظة قريبة من معنى السبب. ولكن يتضح من معانيها اللغوية أنها العائق أي السبب المعيق ومن معانيها علة المريض وهي سبب الضعف فيه أي سبب المشكلة التي حدثت في جسم المريض بعد أن كان صحيحا.

أما من ناحية عقلية فتطلق العلة على السبب، ولكن النظرة إلى العلة تكون بشكل أوسع، بحيث تشمل الأسباب والشروط اللازمة لحصول الأعمال مع انتفاء الموانع والمعيقات، وعندها يطلق عليها العلة التامة ، وبالتالي هناك علاقة بين العلة والسبب بين اللغة والعقل.

ومن ناحية الفلسفة الاغريقية وبالأخص فلسفة أرسطو-كما ذكرنا أعلاه-، فهو يقسم العلل إلى أربعة وهي: العلة الفاعلية والعلة الغائية والماهية والمادية. فوجود الشيء وتحققه في الخارج يحتاج إلى فاعل ومادة وصورة ومجموع هذا المركب تسمى علة تامة. والعلة الغائية هي الغرض أو هي ما لأجله يصدر الفعل من الفاعل أي هي الباعث على الحكم في الأفعال. والعلة الغائية متقدمة على الفعل في الوجود العلمي الذهني ومتأخرة في الوجود الخارجي الفعلي (النتيجة)، وهذه العلة هي المقصودة في التعليل بالحكم والغايات والمقاصد.

إذن اعتمد المتكلمون على معنى العلة وتقسيماتها من أرسطو وطبقوا هذا الأمر على أفعال الإله، وبالتالي نفوا وجود العلة الغائية في أفعال الله سبحانه وتعالى. أما العلة الشرعية فهي اقرب ما تكون إلى العلة الفاعلة وهي دالة على معنى التأثير وغير داخلة في ماهية الحكم.

أما العلة في أصول الفقه مختلفة عن السبب، فالسبب هو علة قاصرة غير مؤثرة في الحكم، وإنما هي فقط أمارة وعلامة لوجود الحكم الشرعي، أما العلة فهي الباعث على الحكم وهي مؤثرة في هذا الحكم. فدلوك الشمس سبب لصلاة الظهر وهي علامة على دخول الوقت ووجوب وجود الصلاة، ولكنها غير مؤثرة وليست الباعث على حكم الصلاة، أما الإلهاء عن صلاة الجمعة فهي علة للنهي عن التجارة والبيع وقت صلاة الجمعة، ويقاس عليها مثلا النهي عن اجراء العقود وعقد الصفقات وكل ما يلهي عن صلاة الجمعة، فالعلة هنا مؤثرة في الحكم وتدور معه وجودا وعدما.

أما علاقة العلة بالغاية والحكمة، فالعلة الغائية هي العلة الباعثة على وجود الأفعال وما يتعلق بها من غايات وحكم، فالغايات تتأخر عن العلل الغائية في الذهن، ولكن الغايات تسبق الأفعال في الوجود العلمي الذهني، ومتأخرة في الوجود الخارجي الفعلي (النتيجة) فالحكمة هي ما ينتج عن الفعل من مصالح ومنافع بعد حصوله.

ومن أجل أن نفهم العلة الغائية والغاية والحكمة، لا بد لنا من تصور ما يحصل في ذهن الإنسان قبل القيام بالفعل وبعده وذلك يكون على مرحلتين: المرحلة الأولى هي تشخيص وفهم المشكلة، ثم المرحلة الثانية وهي حل المشكلة. فالموضوع متعلق بالتفكير في المشكلات والحاجات لدى الإنسان، حيث أن لكل مشكلة أسباب ولها نتائج (مسببات)،

فالمرحلة الأولى يتم فيها تشخيص المشكلة من خلال تحديد الظواهر الناتجة عنها أي نتائجها وآثارها، وإذا تم تحديد آثار المشكلة يتم الانتقال إلى تحديد سبب المشكلة وهو ما يسمى بالعلة الغائية أي السبب الباعث على حصولها أو هو السبب المؤثر أي المثير للمشكلة. وقد تكون المشكلة سببها حاجات الإنسان العضوية كالأكل والشرب والنوم وغرائزه كغريزة حب البقاء والنوع (الطاقة الحيوية)، فإذا لم تشبع هذه الحاجات فإنها توجد مشكلة.

والمرحلة الثانية -بعد إتمام تشخيص المشكلة وفهمها ذهنيا-، هي سعي الإنسان إلى حل هذه المشكلة من خلال عكس الأسباب والنتائج، فيحول العقل نتائج المشكلة فتصبح غايات، فيما يحول أسباب المشكلة أو عللها الغائية إلى أسباب لحلها، وتكون أسباب الحل هي الأعمال السببية الموصلة إلى تحقيق الغايات، أي هي أفعال الإنسان المراد القيام بها وما يلزمها من شروط وأدوات مع التغلب على الموانع والمعيقات.

ومن هنا نلاحظ الربط الواضح بين العلة الباعثة على وجود المشكلة وبين الغاية الماثلة في الذهن قبل القيام بالأفعال، فنتائج المشكلة تصبح هي الغايات المطلوبة والمقصودة لاحقا، وكذلك نلاحظ العلاقة ما بين نتائج الأفعال والعلة الغائية، فالعلة الغائية هي سبب حدوث المشكلة وهي نفسها السبب الفاعل المتخذ وسيلة لحلها ولكن بشكل معكوس.

فالفعل الإنساني إذن هو السبب الفاعل للوصول إلى النتيجة المقصودة وهو معكوس السبب الباعث الذي أدى إلى حدوث المشكلة، أي أن العلة الغائية هي معكوس السبب الفاعل أي هي الفعل الذي أدى لحصول المشكلة ولكن بشكل معكوس، والفرق بينهما أن العلة الغائية تحصل بشكل لا إرادي ويكون الإنسان مجبرا فيه حيث يقع عليه دون إرادة منه، ولكن سبب الحل يكون بقيام الإنسان فعل إرادي.لحل المشكلة وعكس نتائجها.

ولنأخذ المثال الئي ذكره البوطي أعلاه حيث قال: فشعور الإنسان بالبرد توصله إلى الحاجة إلى الدفء، وهذه الحاجة هي غرض يحمل الإنسان على القيام بارتداء معطف ثقيل، فإذا فعل ذلك تحقق له الغرض المطلوب وشعر بالدفء. فتحقيق الدفء علة غائية وهي الحامل والباعث على الفعل وهي ماثلة في الذهن من قبل الفعل ولكنها تتحقق في الخارج بعده.

فلدينا حاجة عضوية عند الإنسان وهي المحافظة على طاقة حرارية مناسبة للجسم، وعند البرد يشعر الإنسان بارتعاش وقشعريرة وألم في الأطراف وانزعاج في الذهن فهذه تعتبر نتائج المشكلة، ويبحث ذهنيا عن سبب المشكلة فيجد أنه برودة الجو مع خفة اللباس الواقي لجسمه من البرد، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المرحلة الثانية من التفكير لحل المشكلة، فيحول نتائج المشكلة إلى غايات فتصبح غايته هو عكس البرد أي وصول الدفء لجسمه واطرافه لايقاف الألم والقشعريرة، ويتم ذلك بعكس سبب المشكلة وهي هنا اللباس الدافئ، فيقرر أن الحل يكون بالأخذ بالأسباب أي بالقيام بفعل معين وهو لبس معطف ثقيل أو اشعال نار، وإذا أراد حل المشكلة وعزم على القيام بتحقيق الغاية المقصودة فإنه يأخذ بالأسباب فيتحقق له الغرض المطلوب والمقصود وهو الدفء فإذا حصل الدفء تكون النتيجة قد طابقت الغاية المقصودة، فيكون قد نجح في حل المشكلة التي حدثت لديه، فالنجاح هو مطابقة نتيجة الفعل السببي للغاية المقصودة التي كانت ماثلة في الذهن قبل القيام بالفعل.

ومن خلال هذا التحليل نتعرف على أن العلة الغائية هي برودة الجو بالنسبة للحراة المناسبة لجسمه، وأن الغاية المقصودة هي الوصول إلى الدفء المناسب، وأن الفعل المطلوب هو لبس معطف ثقيل عازل عن البرد، وأن الإرادة والعزيمة توصله إلى البحث عن المعطف المناسب ثم لبسه حول جسمه، وأن النتيجة المتحققة هي دفء الجسم، فإذا تحقق له الدفء فيكون قد نجح في عمله وحقق غايته.

فالعلل الغائية هي المثيرات الداخلية والخارجية التي تؤثر في الظروف والأحوال المناسبة لحاجات الإنسان وهذه العلل لا يتحكم فيها الإنسان بل هي أمور تقع في الدائرة التي تسيطر عليه ولا إرادة له فيها

والله الموفق وعليه التكلان

تم تعديل بواسطه يوسف الساريسي
رابط هذا التعليق
شارك

21 ساعات مضت, عبد الله العقابي said:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

حياك الله أخي عبد الله

أرى أننا بحلجة إلى التفاعل في المنتدى وأنا بانتظار آرائكم

ولكم تحياتي

رابط هذا التعليق
شارك

رابعا: دليل الاستكمال الذي بنى عليه الأشاعرة نفي العلة الغائية عن افعال الله

 

بالإطلاع على أدلة المتكلمين –ومنهم الأشاعرة- حول نفي التعليل عن أفعال الله يتضح أنها هي نفس أدلة الفلاسفة، فالفلاسفة يتصورون بأن صدور وتولد المعلول عن علته التامة هو واجب تلقائي ضروري من واجب الوجود دون إرادة، وبالتالي قالوا بقدم العالم أي أن الوجود أزلي مع الله، لأن العلة الفاعلة وهي الله وجميع ما يلزم لخلق العالم قد وجد منذ الأزل، فالعالم موجود بالضرورة منذ الأزل، أي قديم. ألا أن المتكلمين متفقون على أن أفعال الله تصدر عن ارادته وعلمه فهي صادرة بالاختيار فلا شيء في أفعال الله تصدر وجوبا عن ذاته كما يدعي الفلاسفة.

الدليل الذي يعتمده الأشاعرة لنفي العلة الغائية عن أفعال الله سبحانه وتعالى هو دليل أو حجة الاستكمال، فيقولون بأن المخلوق قد يدفعه البرد الى إيقاد النار ليصطلى بها أو يدفعه الجوع الى تناول الطعام ليصل الى الشبع، أما الإله فإنه مستغن بنفسه ولا يسعى ليسد نقصا أو يزداد كمالا، ونفى العلة- بهذا المعنى – عن أفعال الإله لا يعنى أبدا أن أفعاله عبثية غير مقصودة كأنما أتت بها المصادفات، وانما تحدد الإرادة أفعال الله تعالى وسننه الكونية وشرائعه على نحو متسق وحكيم دون غرض أو باعث أو علة تتسلط على الإله، فإرادته تامة لا يشوبها أى معنى من معانى الجبر أو الحمل على ما لا يريد.

يقول الإمام الفخر الرازي: "أن كل من فعل فعلا لغرض فهو مستكمل بذلك الغرض، والمستكمل بغيره ناقص بذاته وذلك على الله محال، وإما أن يكون الداعي هو الحكمة والمصلحة فالله قادر على تحقيقها دون توقف على وسائط".

ويقول الإمام الشهرستاني: "ان الله تعالى خلق العالم ... لا لعلة حاملة له على الفعل، سواء قدرت  تلك العلة نافعة له أو غير نافعة، إذ ليس يقبل النفع والضرر، أو قدرت تلك العلة نافعة للخلق إذ ليس يبعثه على الفعل باعث فلا غرض له في أفعاله ولا حامل، بل علة كل شيء صنعه".

ويقول د. البوطي: "صفة الارادة في ذات الله صفة تامة كاملة لا يشوبها أي جبر أو قسر، فلو قلت بأن الله أنزل المطر من أجل علة استهدفها، وهو ظهور النبات على وجه الأرض وأنها حاملة له على إنزال المطر -كما هو شأن العلة الغائية- فمعنى ذلك أنك تقول إن الضرورة هي التي حملته على الإمطار، إذ كانت هي الواسطة التي لا بد منها للنبات فالارادة متجهة اذا إلى الانبات، أما الأمطار فإنها مشوبة بقدر كبير من الضرورة التي تنافي الارادة ، .... وهذا الاعتقاد في حق الباري جل جلاله كفر محض وأنه يتناقض مع مقتضى الألوهية تناقضا بينا".

وبتدبر دليل "الاستكمال" هذا والذي اعتمد عليه الأشاعرة، نجد أنه صحيح جزئيا من زاوية رد القول بالنقصان في ذات الله سبحانه، وهو غير دقيق من زاوية ضرورة الوسائط.

فكما رأينا في النقطة الثالثة التي ذكرناها سابقا أعلاه، فإن العلة الغائية تعني وجود حاجة أو مشكلة عند المخلوق تؤثر عليه بشكل لا إرادي أي جبرا عنه، فتدفعه إلى القيام بأعمال معينة لسد هذه الحاجة أو حل هذه المشكلة، فالجوعان يدفعه الجوع للأكل لتحقيق الشبع، والنعسان يندفع للنوم والعطشان يحتاج للشرب، والمريض الذي لديه مشكلة في جسمه يحتاج للدواء من أجل الشفاء. فالعلة الغائية بهذا المعنى منفية قطعا عن الله سبحانه لأن من أهم صفاته أنه كامل وأنه صمد أي غير محتاج.

والصمد سبحانه الذي لا يستند إلى شيء، بل كل المخلوقات تستند (تعتمد) في وجودها وحاجاتها اليه، فالله تعالى لا يجوع ولا يعطش ولا ينام بل هو قائم بذاته وهو قيوم السموات والأرض، وتستند الأشياء والمخلوقات في وجودها وسد حاجاتها إليه، فهو بهذا المعنى ربها أي يرعاها بما يصلحها، فالقول بالعلة الغائية في أفعال الله يعني اثبات النقصان في ذات الله كالأكل والنوم والمرض، ثم هو يلزمه بالضرورة أن يقوم بأفعال معينة ليسد هذا النقصان، فهو يستكمل بهذه الأفعال نقصانه.

فهذا الأمر أي سد النقصان أو الاستكمال لا يجوز في حق الله سبحانه، لأن من أهم صفاته التي اثبتها العقل له بالقطع هو كونه خالق وأنه قادر غير عاجز، وهو غير محتاج وغير محدود أي أزلي وهو واجب الوجود، وهو أيضا عالم ومريد وحكيم ومالك الملك وغير ذلك من الصفات التي يثبتها العقل لله سبحانه، وهذا ينفي عن الخالق حاجته في وجوده أو أفعاله إلى أي شيء بل هو قادر على الخلق والقيام بما يريد دون الاحتياج والاستناد إلى أي شيء، فهو يُطعِم ولا يُطعَم ولا تأخذه سنة ولا نوم، وهو من يشفي المرضى وهو من ينزل الماء من السماء ليسقي جميع النبات والأحياء، ودليل الاحتياج هذا هو من أهم الأدلة التي تثبت عجز المخلوقات، ويثبت بأن لها خالقا خلقها، ولكنه –أي الخالق- يجب أن يكون غير عاجز ولا محتاج، فلو كان محتاجا لكان مخلوقا وهذا تناقض باطل لا يجوز. لذلك فاستناد الأشاعرة والمتكلمين لهذا الدليل هو في محله ولا اشكال فيه.

ولكن لاحظ النقطة الخفية التي تتسرب بين كلمات الأشاعرة، وهي قولهم بأن الله قادر على سد حاجات المخلوقات دون توسط أي دون أسباب، وهذا ملاحظ في كلامهم ولكنه أمر يضاف إلى دليل الاستكمال وهو ليس جزءا منه بل تعلق به تعلقا دون ضرورة، فانظر ولاحظ الإشكال في الكلام ولنأخذ ما يذكره البوطي في مثال المطر والنبات أعلاه، فهو يقول: (أن الله أنزل المطر من أجل علة استهدفها، وهو ظهور النبات على وجه الأرض وأنها حاملة له على إنزال المطر -كما هو شأن العلة الغائية- فمعنى ذلك أنك تقول إن الضرورة هي التي حملته على الإمطار، إذ كانت هي الواسطة التي لا بد منها للنبات)، فالموضوع تحول هنا فلم يعد اثبات أن الله محتاج في ذاته، فليس الله بحاجة للنبات في ذاته وتوسل بالامطار لتحقيق ذلك، بل الموضوع أن الله أراد أن يتحقق الانبات لسد حاجات غيره أي مخلوقاته -لأنه ربها- وليس من أجل لذاته، وذلك بواسطة سبب معين وهو المطر.

فكون الله سبحانه يرتب الانبات بسبب الامطار، فلا يشكل هذا أية مشكلة ولا نقصا في ذاته، بل  هذا النقص يثبت لهذه الأشياء لأنها محتاجة لغيرها، وهذا هو بالضبط دليل الاحتياج الذي نستند اليه في إثبات وجود الله، فالله أراد الانبات وأراد الامطار وجعل هذا سببا في ذاك، فأين الاشكال؟ حقيقة لا يوجد اشكال لأن الله هو خالق الأشياء وخالق التأثير في الأسباب، وإنما المشكلة تكون إذا كان الله بحاجة في ذاته للنبات ولا يستطيع تحقيق الحصول على النبات الا بأسباب معينة وهي الامطار، أو أنه لا يملك التأثير على الاسباب ولا الوصول بها الى النتائج وهي النبات لسد حاجات غيره من المخلوقات، فيكون هذا الأمر عندها نقص في ذات الله سبحانه، ولكن إذا قلنا أن الله لا يحتاج إلى النبات وأنه هو من يوجد هذه الأغراض للمخلوقات بسبب حاجتها  اليها فهذا يثبت وجود النقص فيها ويثبت أن الله هو من تحتاج اليه فيكون من صفاته أنه صمد وقيوم ورب.

وعليه فلا يوجد أية مشكلة في ذات بسبب هذا الإقرار،فالله هو من جعل المطر سببا في الإنبات. وهذا من مقتضيات الخالقية القيومية والصمدية والربوبية في ذات الله، فالله رب كل شيء ويسد حاجات جميع مخلوقاته فيجعل هذا المخلوق يستكمل حاجته من مخلوق آخر، والله أراد أن يكون الإنبات بواسطة الأمطار، وأن يحتاج الحيوان إلى ماء المطر ليشرب وإلى النبات ليأكل، وأن يصطاد الحيوان حيوانا آخر ليسد به جوعته، وأن يأكل الإنسان من النبات والحيوان ليسد حاجاته، والأدلة على ذلك من الحياة والواقع ومن القرآن متضافرة لا يمكن انكارها.

ومن أجل اثبات أن هذا الفهم ليس فهمنا الخاص بل هو فهم الأشاعرة، نقرأ من كلام البوطي في ص 145 من كتابه كبرى اليقينيات حيث يقول: (لأن من يحتاج إلى أمر ثم لا يستطيع بلوغ هذا الأمر الا بواسطة معينة يستعملها فانما هو ناقص من جهتين الاحتياج والاستعانة بالغير فهذا شأن كل من تقوم أعماله على أساس العلة الغائية) فهنا يفترض الأشاعرة أن الله عندما جعل الإنبات بواسطة الأمطار افترضوا بأن الله يعجز عن فعل ذلك إلا بالاستعانة بهذه الواسطة وهذا العجز مناقض لصفة الكمال، وقولهم هذا -حسب هذا المعنى- صحيح، ولكنه مشروط -بشرط غير لازم- بأن الله يحتاج ولا يستطيع بلوغ ذلك إلا بالاستعانة بالوسائط، ولو أزلنا هذا الشرط من الكلام لزال الإشكال أصلا فلسنا بحاجة إلى هذا الشرط حتى يقتضي ذلك نفي السببية والعلية عند الأشاعرة. وعندها يصبح الكلام متسقا ولا إشكال فيه فيكون القول بأن الله أراد إنبات النبات وجعل المطر سببا في الإنبات، وهو ذاته خالق المطر وخالق النبات وجعل بينهما رابطة سببية بحيث تكون في النبات قابلية الانتفاع من المطر وجعل في الماء قابلية أو خاصية الإرواء لتكون متناسبة مع النبات ، فالكلام -بعد إزالة شرط عدم الاستطاعة- يصبح متسقا ولا إشكال فيه.

والغريب في الأمر أن المتكلمين أنفسهم يستدلون بدليل العناية على وجود الله، وهو من أهم الأدلة التي تثبت الكلام الذي نقوله أعلاه. فالله عز وجل خلق المخلوقات وأتقن صنعها وأحكمه، وجعل الأشياء مسخرة ليستفيد منها الإنسان ويقضي حاجاته من الغذاء والشراب والدواء والرعي والركوب والصناعة والبنيان فهي عناية مقصودة ليست عبثية، فالتسخير والتناسب بين الأشياء لمصالح المخلوقات أكبر دليل على على العناية.

ودليل العناية هو ما يثبت أن الله خلق الأشياء لينتفع بعضها من بعض، وأن تكون سببا في تحقيق حاجات الإنسان بالتسخير. وهذه هي عناية الرب سبحانه بمخلوقاته، ويكفيك قول الله تعالى في سورة طه: (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (50) أي أن الله أعطى كل شيء صلاحه وهداه لما يصلحه.

وبهذا نرى أن الإشكال الموجود عند الاشاعرة في موضوع السببية والعلية والوسائط الضرورية قد تم حله.

 والحمد لله رب العالمين

رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم ورحمة الله

بعد هذا التوضيح لدليل الاستكمال عند الأشاعرة، لا بد لنا من توضيح أمرين متعلقين به وهما:

ألف:    الفرق بين الغاية والعلة الغائية

باء:       رأي الأشاعرة في العلل والأسباب الكونية

تم تعديل بواسطه يوسف الساريسي
رابط هذا التعليق
شارك

ألف: الفرق بين الغاية والعلة الغائية

اتماما لما تم بحثه أعلاه حول النقطة الرابعة المتعلقة بدليل الاستكمال عند الأشاعرة ، لا بد من بحث الفرق بين الغاية والعلة الغائية، فهل العلة الغائية هي نفسها الغاية؟ وما العلاقة ما بين العلة الغائية والغاية؟

كما ذكرنا في شرح النقطة الثالثة أعلاه، فالعلة الغائية هي الباعث على القيام بالفعل عند الفاعل، وهي سبب قيام الفاعل بالفعل وهي عند الإنسان نابعة من حاجاته العضوية وغرائزه أو هي بمثابة السبب لمشكلة حدثت لدى الإنسان يسعى لحلها، وهو عندما يفكر بحل المشكلة أو اشباع الحاجة تتبلور لديه الغايات والعواقب والنتائج أو ما يسمى بالحكمة، وكذلك تتحدد لديه الأفعال السببية اللازمة للوصول للغايات.

فالبحث في العلة الغائية هي مرحلة سابقة ذهنيا على مرحلة حل المشكلات من خلال تحديد الغايات والمقاصد والأفعال والنتائج. وعليه تكون العلة الغائية هي السبب الباعث على تحديد الغايات والأفعال السببية اللازمة لتحقيق النتائج وحل المشكلة.

أما الغاية فهي الهدف أو القصد القائم في ذهن الفاعل قبل قيامه بالفعل، وأما الحكمة فهي العاقبة أو النتيجة التي تحصل بعد قيام الفاعل بالفعل، وحتى لا يكون الفعل عبثيا يجب أن تكون النتيجة مقصودة من الفعل أي بأن تكون العواقب مدركة عند الفاعل وتحصل النتائج وفقا للإرادة المقصودة، فإذا كان القصد شيئا مختلفا عن النتيجة فيكون الفاعل مخفقا في تحقيق ما يريد وما يقصد، وحين تكون النتيجة مطابقة تماما للقصد والغاية المرادة التي سبقت الفعل، يكون الفاعل ناجحا ومحققا لما أراد.

ومن خلال تتبع اقوال الأشاعرة يلاحظ أنهم يتجنبون ذكر الغاية من الأفعال ويركزون على العلة الغائية، مع أنهما ليسا بنفس المعنى كما ذكرنا، وأحيانا نجد التفريق عندهم ولكن بشكل غير واضح ولا قاطع، ولذلك يتهمهم الكثير من الفرق الأخرى بأن كلامهم عن نفي العلة الغائية يعني نفيهم للغاية وهذا يقتضي العبثية في أفعال الله سبحانه وتعالى. والأشاعرة طبعا ينكرون هذا المقتضى للعبثية، ويبررون قولهم بأن إرادة الله هي المخصصة للأفعال.

وحتى يكون كلامنا هنا واضحا لا لبس فيه، نقول بأن الغاية هي مغايرة للعلة الغائية، وأن نفي الغاية والقصد من الأفعال بقتضي العبثية، وإثبات وجود غايات للأفعال لا يستلزم أية إشكالات تتعلق بدليل الاستكمال الذي يستند اليه الأشاعرة في نفي العلة الغائية، ولذلك كان لا بد لهم من نفي العلة الغائية في أفعال الله لأن ذلك دليل نقص واحتياج، والله تعالى غير محتاج بل هو كامل، ولا بد أيضا من إثبات وجود غايات لأفعال الله وإلا كانت عبثية، لأن الغاية تابعة للقصد والإرادة، فإذا اثبتنا أن الله مريد فيكون ما يفعله مقصود لحكمة والأمر المقصود هو الأمر الذي تكون له غاية. والمريد الحكيم هو من تكون ارادته وغاية أفعاله مطابقة تماما لما ينتج عن هذه الأفعال.

وحتى يكون كلامنا مستندا للأدلة الشرعية ولا نثبت لله سبحانه وتعالى أمرا في غير محله، ننظر في قول الله تعالى في سورة يس: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82)) فهذه الآية تحتوي على ثلاثة أمور: فهناك أمر قولي من الله وهناك إرادة وهناك شيء مراد، والشيء المراد هو الغاية الموجودة أي المعلومة في علم الله، والإرادة الربانية أرادت خلق هذا الشيء أو تحويله فأمرت -بالأمر الكوني القدري لا التكليفي- بخلقه أو تحويله بقول "كن" فتتحقق النتيجة وهي وجود الشيء العيني كمخلوق في الواقع كما أراده الله تماما. هذا هو معنى الآية، وهنا واضح ان وجود الغاية (أي إيجاد الشيء أو تصويره) سبقت الفعل الإلهي (قوله للشيء كن) وأن تحقق النتيجة (الشيء المخلوق أو المصور) يأتي عقب الأمر، أي في الزمان والمكان الذي قدره الله وأراده.

فالشيء المعلوم -وهو المخلوق أو الشيء المتحول من صورة إلى صورة- قد كان موجودا في علم الله قبل خلقه الفعلي ثم ظهر للوجود في المكان والزمان المقدر في علم الله بأمر الله وبإرادته وقدرته، وهذا ينفي قطعا أن الله يخلق دون غاية، فالغاية موجودة في علم الله ثم تكون الإرادة والأمر في زمن محدد فيكون ذلك الشيء ويتحقق وجوده العيني كما أمر الله وأراد، ويوجد بنفس الصورة التي علمها وأرادها، والصورة التي علمها الله وأرادها هي الغاية الموجودة قبل ايجاد الأشياء،

فأين الإشكال في اثبات وجود الغاية قبل الوجود الفعلي للأشياء ؟!! وهذا الفهم لأفعال الله وغاياتها لا يستلزم أية قضايا باطلة.

والأشاعرة أنفسهم يسلِّمون بالحكم والمصالح في الأفعال الإلهية وفي الأحكام الشرعية، إلا أنها ليست مقصودة أو جالبة للحكم بل هي آثار وثمار للفعل، ويقولون بأن إرادة الله مخصصة للأفعال، والإرادة مرجحة للاختيار. ولكن هل يوصف الفعل بالحكمة إلا إذا كانت المصلحة فيه مقصودة ولم تقع اتفاقا!؟ وهل تستقل إرادة الله بالفعل دون صفة العلم وصفة الحكمة الثابتتين لله؟ ثم نقول ألا تتعلق إرادة الله بعلمه؟ وهل تصدر الإرادة بغير علم ومعلوم!؟ والأمر المعلوم هنا هو الغاية الموجودة قبل وجود الشيء وصورته، أما الحكمة -والقول بأن الله حكيم- فهي وجود الإرادة والقصد لايجاد الثمار الناتجة من الأفعال بعد إتمامها. فما دام الفعل بإرادة الله وجب أن يكون مقصودا وله غاية وينتج عنها ثمرة وحكمة من الله المريد العليم الحكيم.

يرد المفسر ابن عاشور على رأي الأشاعرة في كتابه التحرير والتنوير فيقول يسلمون – أي الأشاعرة - أن أفعال الله لا تخلو عن الثمرة والحكمة ويمنعون أن تكون تلك الحكم عللا وأغراضا مع أن ثمرة فعل الفاعل العالم بكل شيء لا تخلو من أن تكون غرضا لأنها تكون داعيا للفعل ضرورة، تحقق علم الفاعل وارادته ) وهو يقصد بالعلل والأغراض هنا الغايات، ولا أظنه يقصد العلل الغائية.

يتبع بمشيئة الله

تم تعديل بواسطه يوسف الساريسي
رابط هذا التعليق
شارك

باء:   العلل أو الأسباب الكونية

وفقا لعلم المنطق الذي يستند اليه المتكلمون، فلا بد أن تنتهي سلسلة الاستدلالات بأفكار أولية أو بديهية لا بد منها بالضرورة لمنع التسلسل الباطل في القضايا والأدلة، ومن هذه البديهيات بطلان التناقض وبطلان الدور وبطلان التسلسل اللانهائي وبطلان الرجحان دون مرجح والسببية أو العلية وغيرها من البدهيات.

وبالاستناد إلى هذه البديهيات يتم الاستدلال على وجود خالق واجب الوجود لهذا الكون والتوصل إلى بعض صفاته وذلك من خلال بعض الأفكار البدهية خصوصا فكرة العلية أو السببية، فإذا نقضت فكرة السببية هدمت كل الاستدلالات على وجود الله، ولذلك كان من أكبر الأخطاء التشكيك أو الغمز في مبدأ السببية، وهذا التشكيك في مبدأ السببية والتأثير السببي نابع من اعتبارهم للتأثير السببي بأنه تأثير جعلي فقط أي بمحض مشيئة الله وقدرته، وهذا ما يفسرونه بالقول بأن الله يخلق التأثير والتغيير بالأسباب عندها لا بها.

كل هذا يجعل بديهية العلية أو السببية في الواقع والعقل غير ثابتة ولا أساسية في الكون والعقل، وإنما هي فكرة وهمية لا تفعل بذاتها وإنما هي متعلقة بفاعل آخر غير السبب الظاهر، والفاعل (أي الله) هو غيب لا يظهر تأثيره للبشر، ودوره هو خلق التأثير عند فعل كل فاعل وعند كل تغيير يحصل في الوجود، وهذه النظرية يظهر الخالق وكأنه فقط يقوم بخدمة الفاعلين وهم -في الحقيقة- ليسوا فاعلين بل الله هو الفاعل وهو القادر

وهنا يظهر الخلل القائم في هذا التصور، فالموضوع ليس موضوع خلق التأثير وخلق التغيير عند وجود فعالية الأسباب، وإنما المسألة هي مسألة تغيير وتحويل وتبديل في الأشياء وليست مسألة خلق الفعل من العدم، فالفعل عرض لجوهر موجود وهي غير مستقل بذاته عن الأشياء، لذلك لا يقال خلق الفعل بل الخلق يكون للأشياء، وهذه هي نفس اشكالية نظرية الكسب الأشعرية في موضوع خلق الأفعال ردا على المعتزلة في موضوع القضاء والقدر، فالأشاعرة يقولون بأن الله هو الذي يخلق الأفعال وليس الإنسان، وأن قدرة العبد ليس لها دور بل هي قدرة الله مقترنة مع قدرة العبد، فالعبد كاسب والله هو الفاعل.

 ثم من خلال ادراكنا لمفهوم السببية وكيف يتحول الشيء من شيء ساكن مستقر إلى سبب مؤثر في غيره، ندرك أن التأثير السببي في الأشياء ليست من ذاتها وإنما هي طاقة سببية اكتسبتها من غيرها وأن سلسلة الأسباب هذه تنتهي وتنقطع حتما عند مسبب الأسباب وهو الله تعالى. فالسكين حتى تقطع تحتاج إلى قوة اليد أي إلى الطاقة السببية الواصلة اليها من يد الإنسان، والإنسان تنتقل إليه الطاقة السببية من الطعام ومن الطاقة الحيوية التي هي ثمرة وجود نفخة الروح فيه، والطعام يصتعه النبات ويخزن فيه الطاقة التي تصل إليه من الشمس بواسطة عملية التمثيل الكلوروفيلي، ومعطي الطاقة للشمس هو خالقها أي أن سلسلة الأسباب تنتهي عند الخالق.

فقضية التأثير السببي الموجود في الأسباب ناتج عن الطاقة السببية التي وجدت في الأشياء فحولتها إلى أسباب، وهي ليست طاقة ذاتية في الشيء، بل ما يوجد في الأشياء هو المادة وصفاتها، ومن صفاتها وجود خاصيات كامنة فيها، وهذه الخاصيات يتم تفعليها بتأثير طاقة التي وصلت اليها من خارجها والله هو خالق الأشياء بما فيها من خاصيات، وخالق الطاقة السببية، فلا مشكلة في تأثير الأسباب في الأشياء وفي بعضها، اذا فهمنا واقع السببية والطاقة والتأثير السببي.

وعليه فقول الأشاعرة بأن الله لا يسعى ليسد نقصا في ذاته فهذا صحيح، وأما أن يسد  الله حاجة غيره فلا اشكال  في ذلك، فلا توجد علة تتسلط على الإله لأن الأشياء وعللها والطاقة السببية المؤثرة هي كلها من خلق الله  وهي تسير بقدر الله حسب الخواص والقوانين الجبرية والنواميس والسنن التي اودعها الله فيها. فالله ييسر لكل شيء ما يسد حاجته من خلال الأسباب والعلاقات المتبادلة بين الأشياء وكذلك البشر، فأين الإشكال في تأثير الأسباب في الأشياء وكلاهما من خلق الله وتسخيره

والقرآن في الكثير من آياته أكد وجود التأثير السببي في الأشياء كقوله: (وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا) (وانزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا ) (والله جعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بسأكم) ، (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتقيكم من بأسكم) ،(وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ كَذَٰلِكَ النُّشُورُ) ،(إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره) ،(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا) ،(قاتلوهم يعذبهم الله بايديكم ) (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا انتم منه توقدون) وغيرها الكثير من الايات التي تثبت قطعا وجود التأثير السببي بين الأشياء بتقدير الله وارادته.

 يتبع بمشيئة الله

تم تعديل بواسطه يوسف الساريسي
رابط هذا التعليق
شارك

في ٢٥‏/٩‏/٢٠١٨ at 18:10, يوسف الساريسي said:

رابعا: دليل الاستكمال الذي بنى عليه الأشاعرة نفي العلة الغائية عن افعال الله

 

 

وعليكم السلام أستاذ يوسف
في مشاركتك أعلاه تكوّن عندي سؤال:
ما أشرت إليه وضربت به مثالا حول المطر وعلاقة ذلك بالعلة الغائية فإننا مثلا نقول: سبب الموت إنتهاء الأجل الذي قضاه الله لكل منّا، فهاك مثال فيه نفس منهجية الأشاعرة بالنسبة إلى العلة الغائية لأننا إن قيل سبب الموت قطع الرأس أو ما يؤدي لذلك نقول كلا بل سببه انتهاء الأجل...
ونفس المنهجية في الرزق.

رابط هذا التعليق
شارك

خلاصة بحث موضوع العلة الغائية عند الأشاعرة

جعل الأشاعرة من خصومة الفلاسفة وفرقة المعتزلة من المتكلمين الأساس في أبحاثهم، فكان الكثير من أبحاثهم هي ردود أفعال على مغالاة الفلاسفة والمعتزلة في الاندفاع وراء تبني الآراء الفلسفية اليونانية، وهذا ينطبق على أبحاث وجود الله وما وراء الطبيعة وابحاث صفات الله وأفعاله، ومسائل القضاء والقدر وخلق القرآن والرزق والموت وغيرها من أبحاث العقائد

ولذلك نجد دفاع الأشاعرة عن الإسلام ووقوفهم بشكل حازم أمام تلك الموجة من التأثر بالفلسفة اليونانية، مما كان له الأثر في تخفيف الاندفاع وراء تلك الموجة، وهذا أمر يكتب لصالحهم، ولكن رأينا أن الأشاعرة قد انساقوا مع المتكلمين والمعتزلة في الرد على نفس الصعيد فوقعوا في أخطاء منهجية في طريقة التفكير، وقد ذكرها الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله تعالى في كتبه وبوب عناوين خاصة في بحث طريقة المتكلمين ومنهجهم والرد على هذا المنهج وتصويبه بذكر مواطن الخلل ثم تحديد الرأي الصواب في الموضوع وفق منهجية إسلامية بناها بعد بحث عميق مستنير حول موضوع التفكير وتعريفه ومناهج التفكير، وتعرض كذلك لعلم المنطق والخلل فيه، وتعرض للمغالطات التي تصرف عن الحقائق ثم البحث في النصوص الأدبية والفكرية والتشريعية والسياسية.

فالشيخ تقي الدين رحمه الله فكر -كما يقال- خارج الصندوق، ورفض الانجرار وراء أبحاث الفلاسفة والمتكلمين، فلم يبحث مسألة خلق القرآن ولم يبحث في الكثير من متعلقات صفات الله، وقد ذكر الشيخ تقي الدين موضوع تعليل أفعال الله بغرض، في مبحث مقاصد الشريعة في أصول الفقه، ضمن الجزء الثالث من كتاب الشخصية الإسلامية، وذكر وجود أكثر من رأي في هذا الموضوع ضمن أبحاث علماء التوحيد، ولكنه لم بعطي رأيا في الموضوع وإنما ذكر أن هذا المبحث ليس من مباحث أصول الفقه وإنما هو من المباحث المتعلقة بالعقائد وبصفات الله لا بالشريعة، لذلك لا محل له في أصول الفقه ولا في الفقه ولا علاقة له بالعلة الشرعية... لعدم انطباقه ولتباين الموضوعين موضوع صفات الله وموضوع العلة الشرعية والأحكام الشرعية.

أما في بحثنا هنا في موضوع نفي العلة الغائية عن أفعال الاله عند الأشاعرة، فقد ذكرنا وشخصنا بشكل واضح لا لبس فيه المقصود بالعلة الغائية، والفرق بينها وبين السبب والغاية والإرادة والفعل والحكمة، وقد بينا فيه معنى العلة الغائية وأنها هي السبب الباعث على وجود المشكلة أو الحاجة وأن هذا يستلزم وجود أمر لا إرادي (جبري) يؤثر في الإنسان، وأن اثبات هذا الأمر لله -أي العلة الغائية في أفعاله- يستلزم وجود الحاجة والاضطرار والجبر في أفعال الله، وهذه صفة نقص أو كما يسميه الأشاعرة بالاستكمال، ولذلك توصلنا إلى أن العلة الغائية بهذا المعنى منفية قطعا عن الله سبحانه لأن من أهم صفاته أنه كامل غير ناقص وأنه صمد أي غير محتاج. لذلك فاستناد الأشاعرة والمتكلمين لهذا الدليل هو في محله ولا اشكال فيه.

أما الشق الثاني من دليل الاستكمال وهو خلق الله لما يريد دون وسائط، فالموضوع فيها مختلف فهو لم يعد البحث في أن الله محتاج في ذاته إلى شيء وتوسل بالأسباب أو الوسائط لتحقيق ذلك، بل الموضوع أن الله أراد أن يتحقق سد حاجات مخلوقاته بواسطة أسباب معينة، فلا يشكل هذاالأمر  أية مشكلة ولا نقصا في ذاته، بل هذا النقص يثبت لهذه الأشياء لأنها محتاجة لغيرها، وهذا هو بالضبط دليل الاحتياج الدال على وجود الله، ويستدل المتكلمون أنفسهم على وجود الله بدليل العناية ودليل الحكمة والتناسق وهو ما يسميه الغربيون (العلة الغائية)، ودليل العناية هو ما يثبت أن الله خلق الأشياء لينتفع بعضها من بعض، وأن تكون سببا في تحقيق حاجات الإنسان بالتسخير. وهذه هي عناية الرب سبحانه بمخلوقاته، وبهذا نرى أن الإشكال الموجود عند الاشاعرة في موضوع السببية والعلية والوسائط الضرورية قد تم حله.

وكذلك تم النفريق بين الغاية والعلة الغائية، وأن نفي الغاية والقصد في الأفعال يقتضي العبثية، وإثبات وجود غايات للأفعال لا يستلزم أية إشكالات تتعلق بدليل الاستكمال الذي يستند اليه الأشاعرة في نفي العلة الغائية، فإثبات وجود غايات لأفعال الله هو نفي للعبثية عنها، لأن الغاية تابعة للقصد والإرادة، فإذا اثبتنا أن الله مريد فيكون ما يفعله مقصود لحكمة والأمر المقصود هو الأمر الذي تكون له غاية. والمريد الحكيم هو من تكون ارادته وغاية أفعاله مطابقة تماما لما ينتج عن هذه الأفعال من آثار وثمار.

ولنضرب مثالا آخر من القرآن غير المذكور سابقا على وجود الغاية من أفعال الله قبل وجود الأشياء، وهو قوله تعالى في سورة البقرة (إني جاعل في الأرض خليفة). فالله أراد خلق خليفة في الأرض وهو آدم وذريته، وأخبر الملائكة عن هذه الغاية قبل خلق آدم، ثم خلق الله آدم وعلمه وجعل له الاختيار في أن يعبده (تسبيح الله والتقديس له)، فالعبادة هي الغاية وهي المقصد من خلق بني آدم قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) والعبادة هي الحكمة الناتجة من خلق الإنسان ولكن هذه الحكمة قد تتحقق وقد لا تتحقق، والعبادة هي الغاية من خلق الإنسان ككائن مخير وله إرادة خاصة، وهذه الغاية موجودة في علم الله وأخبر بها الملائكة قبل أن يخلق آدم.

ولذلك يجب الانتباه إلى أن النقص قد دخل من قصر البحث لدى الأشاعرة -في موضوع نفي العلة الغائية- على صفة الإرادة والقدرة لله وإغفالهم علاقة الصفات الأخرى بأفعال الله، وهي صفة العلم وصفة الحكمة، فصحيح أن أفعال الله تتعلق بارادته ولكنها تتعلق بعلمه وبحكمته أيضا، ولا يمكن فصل أفعال الله عن جميع صفاته

أما موضوع السببية والوسائط التي ينكر الأشاعرة تأثيرها في الأشياء، بل يهربون من ذلك بالقول بالسببية الجعلية فهذا الأمر هو تشكيك في بدهيات العقول وفي الواقع المحسوس وهو تأويل لا داعي له ولا محل له، لأن خالق الأشياء والطاقة السببية المؤثرة فيها هو الله كما أنه خلق القوانين والنواميس والسنن وجعلها متحكمة في الكون والحياة والإنسان، وقد ذكرنا أن الأسباب تؤثر في غيرها بفعل الطاقة السببية التي تكتسبها من غيرها، وهذه الطاقة السببية ليست ذاتية ولا ضرورية في الأشياء بل هي سلسلة من الأسباب المؤثرة تنتهي عند مسبب الأسباب وهو الله تعالى.

فالخلل في تصور السببية الجعلية آت من بحث مسألة خلق الأفعال، ولكن الموضوع ليس موضوع خلق التأثير وخلق التغيير عند وجود فعالية الأسباب، وإنما المسألة هي مسألة تغيير وتحويل وتبديل في الأشياء وليست مسألة خلق الفعل من العدم، فالفعل عرض لجوهر موجود وهي غير مستقل بذاته عن الأشياء، لذلك لا يقال خلق الفعل بل الخلق يكون للأشياء، وهذه هي نفس اشكالية نظرية الكسب الأشعرية في موضوع خلق الأفعال ردا على المعتزلة في موضوع القضاء والقدر، فالأشاعرة يقولون بأن العبد كاسب والله هو الفاعل

وكما يقال في المثل القديم "أدق من كسب أشعري" تعبيرا من القدماء عن صعوبة فهم وتصور وادراك مسألة الكسب عند الأشاعرة.

وبهذا حلت مشكلة السببية التي كانت تؤرق الباحثين في فكر الاشاعرة

فالحمد لله على نعمة الهدى والرشاد ومنهجية الفكر المستنير بنور القرآن، والبعيد من التأثر بمنطق الفلسفة الاغريقية

والله الموفق وعليه التكلان

تم تعديل بواسطه يوسف الساريسي
رابط هذا التعليق
شارك

شكرا لك أخي عبد الله العقابي على تفاعلك في الموضوع، فنحن بحاجة حقيقة للتفاعل بشكل أكبر في المنتدى

في ٢٧‏/٩‏/٢٠١٨ at 08:10, عبد الله العقابي said:

وعليكم السلام أستاذ يوسف
في مشاركتك أعلاه تكوّن عندي سؤال:
ما أشرت إليه وضربت به مثالا حول المطر وعلاقة ذلك بالعلة الغائية فإننا مثلا نقول: سبب الموت إنتهاء الأجل الذي قضاه الله لكل منّا، فهاك مثال فيه نفس منهجية الأشاعرة بالنسبة إلى العلة الغائية لأننا إن قيل سبب الموت قطع الرأس أو ما يؤدي لذلك نقول كلا بل سببه انتهاء الأجل...
ونفس المنهجية في الرزق.

وسأحاول الاجابة على تساؤلك في اقرب فرصة إن شاء الله تعالى

 

رابط هذا التعليق
شارك

مكمن الخلل الذي وقع فيه الفلاسفة ثم الأشاعرة

كما ذكرنا أعلاه، فإن الخطأ المنهجي الذي وقع المتكلمون عموما، هو الانسياق وراء ابحاث الفلاسفة والرد عليهم على نفس صعيد البحث دون التمييز الدقيق لمدى صحة الأسس التي أقام عليها الفلاسفة استدلالاتهم.

وفي موضوعنا هنا (نفي العلة الغائية عن أفعال الله) وقعوا في نفس الخطأ، فجاءت المشكلة المنهجية لدى الأشاعرة من اقرارهم جزئيا باستدلالات الفلاسفة على قدم العالم أي أزلية الكون من خلال العلة والمعلول، فالفلاسفة يقولون بأنه ما دامت العلة التامة (واجب الوجود وصفاته وافعاله) موجودة فيحصل المعلول (الوجود) عندها وجوبا، فأوجبوا على الله أن يخلق العالم منذ الأزل.

ولما أراد الأشاعرة الرد عليهم نفوا ضرورة انتاج العلة للمعلول وجوبا بأن علقوا وجود المعلول أي العالم بمشيئة الله وليس جبرا عنه. ولذلك قالوا بالسببية الجعلية. وكذلك نفى الأشاعرة العلة الغائية عن أفعال الله حتى لا يحصل المعلول تلقائيا ووجوبا، لأن الأشاعرة اخذوا برأي الفلاسفة بأن الشيء الموجود له أربعة علل هي: العلة الفاعلة والعلة الغائية والعلة الصورية والعلة المادية، وعند توفر جميع هذه العلل ينتج عنها المعلول وجوبا لأن السبب ينتج المسبب حتما،

ولذلك وحتى يرد الأشاعرة على الفلاسفة بنفس المنهج الفلسفي وجدوا الثغرة في العلة الغائية، وهي العلة التي لها علاقة بالباعث والدافع على القيام بالأفعال الارادية عند الفاعلين، وبما أن الفاعل مريد ويفعل باختياره، وهذا الاختيار هو ما يعطل العلة الغائية، قالوا بنفي العلة الغائية عن أفعال الله فكسروا بذلك حجة الوجوب على الله وأصبحت أفعال الله حتى حسب مقاييس الفلاسفة بالارادة والمشيئة، وتوصل الأشاعرة بأنه لا يجب على الله شيء.

والصحيح انه كان على الأشاعرة عدم الإقرار بشروط العلة التامة كما قال بها الفلاسفة، لأن ذلك أوجد لهم إشكالية لها أول وليس لها آخر، اضطرنهم إلى نفي العلة الغائية والتشكيك في السببية والقول بأنها سببية جعلية، ولكن كان بامكانهم أن يخرجوا من هذا المطب والاشكال بطريقة أحسن وأسلم!!!

في رأيي أن قول الفلاسفة بالعلل الأربع وأنها ينتج عنها المعلول وجوبا ليس مسلما به، فهذا صحيح بالاستقراء الجزئي بالنسبة للأشياء الفيزيائية الجامدة التي لا حياة فيها، أما فيما يتعلق بالسببية الإنسانية فهي غير السببية الفيزيائية، لأن هناك حلقة وسطى موجودة بين السبب وحصول المسبب أو النتيجة وهي حلقة الإرادة، وبدون هذه الإرادة لا يحصل الفعل الإنساني، فالارادة هي أحد الأسباب اللازمة حتى تكون العلة تامة والتي بتمامها واكتمالها تحصل النتيجة حتما.

ولنأخذ المثال الذي استخدمه الأشاعرة حول البرد والمعطف، فشعور الإنسان بالبرد هو العلة الغائية الدافعة (الحاجة أو المشكلة) والباعثة على القيام بالفعل، والغاية تتبلور في ذهن الإنسان من خلال عملية عكس نتائج الحاجة أو المشكلة، فتكون الغاية هي التخلص من الألم الجسمي والانزعاج الناتج من البرد، ويكون سبب حل المشكلة أو اشباع الحاجة هو الوصول إلى الدفء وذلك من خلال لبس معطف ثقيل أو اشعال نار حول المكان، وبعد القيام بهذا الفعل تكون النتيجة هي زوال الألم والانزعاج والحصول على الدفء.

ولا بد من ملاحظة نقطة النقص والخلل التي وقع فيها الفلاسفة هنا، وهي أن الفعل الإنساني (وهو لبس المعطف أو اشعال النار) هو فعل ارادي وليس فعلا جبريا، فصحيح أن البرد شيء خارج عن الإرادة ولكن فعل اللبس والنار شيء ارادي ومنوط بمشيئة الانسان واختياره, فيمكنه أن يلبس المعطف أو أن يشعل النار أو لا يفعل شيئا بأن يتحمل ألم البرد، ولا أحد يجبره على فعل أي من هذه الأفعال بل هو يقوم بواحد منها باختياره، وبالتالي تكون ارادته وحدها التي حددت له ما يقوم به من أفعال، طبعا بجانب الأخذ بباقي الأسباب والشروط اللازمة لاتمام هذا الفعل.

والنتيجة أن الفعل الإنساني يلزمه وجود خمس علل وليس أربعة كما يقول الفلاسفة، والعلة الخامسة هي الإرادة والاختيار، ولو انتبه السادة الاشاعرة لهذا الأمر لما لزمهم كل هذا العناء في الرد على الفلاسفة، ولأدركوا أن الإرادة بالنسبة لأفعال الله هي أحد الأمور اللازمة لوجود نتيجة الفعل.

ولأدركوا كذلك أن العلة المادية أي وجود المادة الخام التي يصنع منها الشيء هي علة لازمة حتما للفاعل (الإنسان)، ولكن الله لا يحتاج إلى العلة المادية، فقد يخلق الأشياء من العدم بدون سابق وجود كما خلق السموات والأرض، وقد يخلق الله الأشياء بالتصوير أي يحولها ويبدلها من أشياء موجودة خلقها سابقا، فقد خلق الله آدم من تراب، وهذا التراب كمادة شيء مخلوق قبل وجود آدم عليه السلام.

ولذلك لا يصح قياس أفعال الله على أفعال الإنسان، فالله يخلق الأشياء ويصورها من لا شيء أي من العدم، ويخلقها بعلمه وارادته بقوله للشيء كن فيكون، وليس بحاجة إلى علة غائية تدفعه، ولكن هناك مقاصد وغايات لأفعاله موجودة في علم الله قبل خلقها، ثم الله يريد أن يخلق شيئا بارادته في وقت وزمان معين ويشكله ويصوره حسب ما يشاء ويجعله متناسبا ومتلائما مع باقي الأشياء التي خلقها وذلك بقدره وبحكمته.

أما الإنسان فهو يحتاج في صنعه للأشياء أو في افعاله عموما إلى خمس علل وهي: الغائية والفاعلية والمادية والصورية والإرادة، فالإرادة هي أحد أسباب وجود الأشياء وتغيير أحوالها عند الإنسان، ولولا الإرادة لكان الفعل الإنساني هو فعل المضطر أو المجبر أو قد يكون فعلا لا إراديا، إي وقع منه بطريق الخطأ أو الصدفة ولذلك يعتبر فعله هذا فعلا غير مقصود أو عبثيا، ولكن هذا الأمر لا يصح في حق الله بأن يكون فعله بالخطأ او الصدفة العبثية لذلك كان لا بد من القصد والغاية حتى يعتبر الفعل اراديا.

والخلاصة أن انسياق المتكلمين ومنهم الأشاعرة وراء منطق الفلاسفة وظنونهم، هو ما اوقعهم في ورطات فكرية كان يمكن تداركها لو اتبعوا منهجية فكرية صحيحة في ابحاثهم، من خلال طريقة القرآن في اقرار الحقائق، والاعتماد على العقل والفطرة بعد تحديد معنى العقل والطريقة العقلية والشروط اللازمة للتفكير، والابتعاد عن الانجرار وراء علم المنطق والابحاث الفلسفية التي لا طائل منها.

والحمد لله على نعمة الهدى والقرآن

تم تعديل بواسطه يوسف الساريسي
رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم

حياك الله أخي عبد الله

بالنسبة لسؤالك أعلاه حول سبب الموت، فأود التنبيه أن مثال المطر ليس مني، بل هو ما ذكره الأشاعرة لتوضيح رأيهم في نفي العلة الغائية عن أفعال الله، ولأثبات أن الله يستطيع إنبات النبات دون حاجة للمطر كواسطة ضرورية أو سبب مؤثر مفروض عليه

أما بحث سبب الموت فهو بحث مختلف عن بحث العلة الغائية، فما ذكرته من مثال قطع رأس انسان بأنه يؤدي إلى الموت حتما، فهذا مشاهد محسوس، ومثله اطلاق الرصاص على الدماغ أو القلب مباشرة، أو اتلاف أي عضو من أعضاء الإنسان الأساسية التي بدونها تنتفي الحياة من الجسم، فكل هذه الأمور توصل إلى الموت عادة كما يراها الناس ولذلك قال الشاعر المتنبي:

              من لم يمت بالسيف مات بغيره                         تعددت الأسباب والموت واحد

هذا من ناحية الواقع المحسوس، ولكن من ناحية النصوص الشرعية فإنها أثبتت بالقطع أن الإنسان لا يموت إلا بأجله أي في الوقت الذي كتبه الله عليه، لذلك رأي الأشاعرة ورأينا أن الانسان يموت بسبب واحد وهو انتهاء الأجل.

ومعنى انتهاء الأجل هو قبض ملك الموت لروح الإنسان عند وقت محدد كلف الله ذلك الملك به، أي أن سبب الموت هو نزع الروح من الجسد لا غير.

وهذا يساوي أن سبب الحياة هو وجود الروح فالروح هي سر الحياة، فما دامت الروح في الجسد يبقى الكائن حيا وإذا قبضت هذه الروح مات الكائن. فسبب الحياة هو وجود الروح والموت يحصل عند انعدام السبب، أي أن الموت هو زوال ما كان سببا للحياة أي زوال الروح.

فتصبح القضية هي كيف نوفق بين النصوص الشرعية القطعية حول سبب الموت بأنه نزع الروح من قبل ملك الموت عند موعد الكتاب المؤجل، وبين المشاهد المحسوس من أسباب يحصل عندها الموت كحز الرقبة؟

وقد قام الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله في الجزء الأول من كتاب الشخصية الإسلامية بالتوفيق لهذا التعارض الظاهري بين الأمرين، من خلال تحديد معنى السبب وأن سبب الموت حسب الأدلة الشرعية واحد لا يتعدد، وأن حز الرقبة واتلاف القلب ليس هو السبب وإنما هو حالة من الحالات التي يحصل عندها الموت، والتفريق بين السبب والحالة هو المخرج الذي اعتمده الشيخ تقي الدين والأشاعرة .

ومعنى كلام الشيخ تقي الدين هو لزوم التفريق بين سبب الحياة وشروط بقاء الحياة في الإنسان أو الكائن الحي.

ومن خلال ادراكنا الواقعي لشروط بقاء الحياة في تاجسم نجد أنها تنقسم إلى شروط خارجية وداخلية:

أما الشروط الخارجية فهي كالأكل والشرب والتنفس فكل منها شرط من شروط الحياة، وكذلك جميع الحاجات العضوية لأن عدم اشباعها يؤدي إلى الهلاك.

وأما الشروط الداخلية اللازمة لبقاء الحياة فتتمثل في عمل منظومة أجهزة الجسم بشكل سليم، أي أن صلاحية الجسم الحي لدعم الحياة تكون من خلال اتصال الأعضاء الاساسية وعمل أجهزة الجسم بشكل سليم، وعدم تلف أي عضو ضروري كالدماغ والقلب والرئتين والكبد والجلد ... الخ.

وفي حالة انعدام أي شرط من الشروط الداخلية أو الخارجية فإن ذلك يؤدي إلى عدم المشروط أي انعدام الحياة، لأن الشرط هو ما لا يلزم من وجوده وجود ويلزم من عدمه العدم، وبما أن جميع الشروط الداخلية والخارجية لازمة للحياة فإن انعدام أي شرط لازم منها يؤدي إلى عدم صلاحية الجسم كمنظومة لدعم الحياة، فيصبح وجود الروح التي هي سبب الحياة في الجسم وكأنه غير ممكن لاختلال أحد شروط اللازمة لفعالية السبب، فيحصل الموت عند ذلك لأن السبب والشروط لا بد منها كلها لبقاء الحياة، فإذا انعدم السبب حصل الموت وإذا انعدم الشرط حصل الموت ولكن انعدام الشرط يؤدي إلى تعطيل عمل وفعالية السبب أي يؤدي إلى الموت، فيكون السبب الحقيقي للموت هو خروج الروح وليس بسبب الجوع أو الخنق أو حز الرقبة، لأن كل هذه الأمور هي شروط للحياة وليست أسبابا والسبب الوحيد للحياة هو وجود الروح وسبب الموت هو نزع الروح لا غير.

وهذه الشروط اللازمة للحياة هي ما سماه الشيخ تقي الدين بالأحوال فهي ظروف وأوضاع يحصل عندها الموت ولكن الشرط ليس هو سبب الحياة ولذلك ليس هو سبب الموت.

طبعا هذا الكلام لا يقوله الشيخ تقي الدين حرفيا بل هذا توضيح وتفسير مني لمعنى كلامه، لأن الكثير من الشباب يعرفون الفرق بين الأسباب والشروط ويمكنهم التفريق بينهما، فكان ربط موضوع الموت بهذه الأمور (السبب والشروط) أوضح من ذكر موضوع الحالات,

وخلاصة الأمر أن موضوع سبب الموت بقطع الرأس الذي ذكرته هو استشكال شرعي بين النصوص القطعية وبين الواقع المشاهد لحالات الموت، وقد تم حل هذا الإشكال بهذه الطريقة وأقر بصعوبة فهمها من الكتب التي عالجت هذا الموضوع.

 

أما موضوع العلة الغائية فهو مختلف، فليس هناك نصوص تنفي علية أفعال الله تعالى وتعارضت مع الواقع كما في مسألة الموت، بل العكس هو الصحيح، فهناك أدلة ونصوص شرعية تثبت قطعا وجود غايات لأفعال الله كقوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وتثبت تعليل الأحكام الشرعية كما في قوله: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) وغيرها الكثير وهي أدلة متضافرة تثبت ذلك قطعا.

والحمد لله رب العالمين

رابط هذا التعليق
شارك

أكرمك الله أخي يوسف، قرأت الموضوع قراءة عناية، ووجدتك قد أبدعت، ووضعت يدك على محاور تأخذ بالموضوع باتجاه دقيق ، وسأتفكر في المسألة ان شاء الله تعالى، والحمد لله تعالى أن هداك لهذا الفهم الدقيق، وجزاك كل خير

رابط هذا التعليق
شارك

 

قسم أرسطوطاليس العلل إلى أربع:

1- علة مؤثرة – 2- علة مادية- 3- علة صورية- 4- علة غائية.

والمثال الذي مثّل به هو صنم الرخام؛

فالنحات علته المُؤثرة،

والرخام علته المادية،

وشكل الصنم علته الصورية،

وتخليد ذكرى الشخص الذي نُحت الصنم على صورته علته الغائية.

 

 

رابط هذا التعليق
شارك

العِلَّةُ الصورية: ما يُوجِدُ الشَّيْءَ بالفعل. العِلَّةُ الغَائِيَّةُ: ما يُوجَدُ الشيءُ لأجلهِ. العِلَّةُ الفَاعِليَّةُ: ما يُوجَدُ الشَّيءُ لِسَبَبِهِ. العِلَّةُ المادية: ما يُوجِدُ الشَّيءَ بالقوة.

التعريفات للجرجاني

رابط هذا التعليق
شارك

صفات الفعل من زاوية بحث الـمُتَعَلَّقات

قال الرازي في تفسيره: في أقسام الأسماء الواقعة على المسميات: اعلم أنها تسعة،... وثالثها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كقولنا للشيء إنه أسود وأبيض وحار وبارد فإن السواد والبياض والحرارة والبرودة صفات حقيقية قائمة بالذات لا تعلق لها بالأشياء الخارجية،...، وسادسها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كقولنا للشيء إنه عالم وقادر فإن العلم عند الجمهور صفة حقيقية ولها إضافة إلى المعلومات والقدرة صفة حقيقية ولها إضافة إلى المقدورات،....[1]

إنك إذا علمت أن الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كقولنا للشيء إنه عالم وقادر فإن العلم عند الجمهور صفة حقيقية ولها إضافة إلى المعلومات والقدرة صفة حقيقية ولها إضافة إلى المقدورات.

إذا علمت ذلك، فإن الشق المتعلق بالمقدورات هو فقط ما تستطيع فهمه وتفسيره والوقوف على معناه، أما الصفة الحقيقية عند المولى عز وجل فلا، وذلك أنك تستطيع أن تفهم السميع، من خلال أن البشر يتكلمون ويسرون ويتناجون، ويسمع الله ذلك، فهمت الجزء المتعلق بالإضافة التي تحصل في الوجود، ولم تستطع أن تبحث عن المعنى الحقيقي للصفة الحقيقية التي هي صفة الله، فقط بحثت الشق الخاص بما يقع عليه حسك، علمت أنك إن فعلت جريمة فإن الله سيعلمها، لكن شتان بين علم البشر وعلم الله، فعندما نقول : متعَلَّقات الصفة، فإن هذا هو ما نعنيه، نعني أننا نستطيع البحث في المحسوس، وفهم الصفة إجمالا على ضوء ما نفهمه من علاقتها بالمحسوس هذا، وأما الصفة على الحقيقة عند الله تعالى فلا نحيط بشيء من ذلك علما.

لذا، فإننا نجد أن الله تعالى ينزل المطر من السماء، ويحيي به الأرض بعد موتها، فنفهم العلاقات السببية المحسوسة في الكون، وأن علة إحياء الأرض هو المطر، اقتضت إرادة الله وحكمته أن يسبب الأسباب في الكون، ويجري فيه قوانين معينة تكون أدلة على قدرته وحكمته، فنفهم من هذا أن القوانين الكونية تمضي وفقا لمبدأ العلية والسببية، والغائية، في العلاقات بين الأشياء، ولا نقيس بعد هذا ما يكون من الإنسان من حاجة للدفء تدفعه لإشعال النار فيكون إشعال النار علة غائية لإشباع حاجة الدفء، لا نقيس هذا على الله تعالى

 

وقال مرعي الحنبلي في أقاويل الثقات: وقال الإمام فخر الدين جميع الأعراض النفسانية أعني الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والمكر والإستهزاء ونحو ذلك لها أوائل ولها غايات مثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه[1] فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب بل على غايته أو غرضه الذي هو إرادة الإضرار وكذلك الحياء له أول وهو إنكسار يحصل في النفس وله غرض وهو ترك الفعل فلفظ الحياء في حقه تعالى يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس انتهى
قلت (الحنبلي) وعلى هذا الضابط فكذلك يقال في الرضا والكرم والحلم والشكر والمحبة ونحو ذلك فإن الظاهر أن هذه كلها في حقنا كيفيات نفسانية قيل والحق أن الكيفيات النفسانية تحتاج إلى تعريف لكونها وجدانيات
وفي تفسير القرطبي في قوله تعالى ﴿وإن تشكروا يرضه لكم﴾ الزمر 7 ويرضى بمعنى يثيب ويثنى فالرضا على هذا إما ثوابه فيكون صفة فعل كقوله ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم﴾ إبراهيم 7 وإما ثناؤه فهو صفة ذات انتهى
قلت (الحنبلي) ومن هذا يعلم جواب سؤال كنت أوردته في مؤلف لطيف سميته الأسئلة عن مسائل مشكلة قلت فيه ومنها أن أهل السنة جعلوا الصفات القديمة لله سبحانه ثمانية وهي العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام والبقاء وبعضهم يقول والتكوين محتجين في ذلك بالإشتقاق وأنه لا يعقل مفهوم عليم إلا بعلم وسميع إلا بسمع وهكذا وحينئذ فيقال موجه الإقتصار على هذه الصفات الثمان مع أنه تعالى عزيز فمن أوصافه العزة وعظيم فيمن أوصافه العظمة وحليم فمن أوصافه الحلم فهل يصح أن يقال مثلا حليم بحلم كما يقال عليم بعلم وهكذا في البقية
ولعل الجواب على طريقة الخلف أن هذه الأوصاف كلها كيفيات وإنفعالات تحدث في النفس والله منزه عنها فتؤخذ كلها بإعتبار الغايات بخلاف العلم والقدرة والسمع والبصر ونحوهما فإنها من الأوصاف الذاتية لا من الكيفيات النفسانية
وللسلف أن يقولوا إن هذه الأوصاف على ظاهرها وهذا التعليل لا يستلزم أن يكون كذلك في حقه تعالى كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر تستلزم من النقص في حقنا ما يجب تنزيه الله تعالى عنه من جهة أنها أعراض ونحوه فمذهب السلف أسلم لا سيما وقد نقل البخاري وغيره عن الفضيل بن عياض قدس الله روحه أنه قال ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو لأن الله عز و جل وصف نفسه فأبلغ فقال ﴿قل هو الله أحد﴾ السورة فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه فهذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الإطلاع كما شاء الله أن ينزل وكما شاء أن يباهي وكما شاء أن يضحك وكما شاء أن يطلع فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف فإذا قال الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء أنتهى

نضيف إذن بُعدا يزيد المسألة وضوحا بإذن الله، فنقول بأن هنا تضع اليد على علاقة الفعل بالمفعول، أي علاقة القدرة مثلا بالمقدور، فالفعل يحصل أثره أو غايته فيما يقع الحس عليه، وهذا هو فقط الجزء الذي نستطيع فهمه والتفكير فيه من صفات الفعل عند الله تبارك وتعالى، أما ما سبق أثر الفعل في غايته، فإنه مجهول عندنا لا نعرف له كيفية ولا معنى ولا يشبه كيفيات البشر، أي عندما نقول: صفة إضافية، فإننا نعني أثر الصفة في المفعول، أو المقدور، أوالمحسوس، والذي يقع الحس عليه ويفهم منه أنه قد وقعت عقوبة من الله مثلا، أو ابتلاء منه، أو رزق، أو رحم.. الخ، فهذا الأثر وهذا الواقع المحسوس، أثر الصفة، وليس هو الصفة، وهو ما يدلنا عليها، وهو محل تفكيرنا، وبه نفهم الصفة فهما إجماليا، وإنما سميناه صفة إضافية، لعلاقته بالصفة الحقيقية من حيث أنه أثرها، ولكنه يسيُّر المخلوقات وفق سنن الله تعالى التي سنها في الكون، فيحصل الرزق في وقت، ويحصل الخلق في وقت، وهكذا، فهذا هو الشق الذي يقع عليه الحس من صفات الأفعال.

فعلى هذا، فإنه فرق بين معنى: ﴿ولله العزة جميعا﴾، والتي منها نفهم أن الله يتصف صفة ذاتية بأنه العزيز، لا يشترك معه في صفة العزة أحد، وفرق بينها وبين متعلق صفة فعله بالحوادث، والتي منها يأتي معنى: رب العزة، ومنها أضاف العزة لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أيضا، ففي هذا لا تنزل المعاني منزلة صفات الذات، وكذلك، في صفات الفعل يجب أن ندرك أن في الصفة شق متعلق بالخاصية الإلهية، وشق متعلق بأثر الصفة في المخلوقات، فالجزء المتعلق بالخاصية الإلهية لا يشترك معه أحد فيه، ولا يشبه في تلك الصفة أحدا وإن كانت صفة فعل، وأما في القسم المتعلق بالمقدورات وبالمحسوسات، فإن المعنى يلتمس، ويفهم، ويدل على أنه ذو الرحمة، وواسع الرزق،

لكن الدقيق هنا أن العلاقة بين الصفة الزائدة والصفة الحقيقية هي أن الصفة الزائدة ليست لها علاقة بالله تعالى، ليست هي صفة الله تعالى، بل هي متعلق هذه الصفة، فالله تبارك وتعالى قدر منذ الأزل أن الورقة ستسقط، وعلم ذلك، وكل شيء في كتاب مبين، فلما سقطت الورقة في الوقت الذي قدره الله تعالى، لم يتغير شيء في علم الله، ولم يحدث بحدوث ما قدره الله شيء في علمه أو قدرته أو إرادته،

 

[1] هنا تضع اليد على علاقة الفعل بالمفعول، أي علاقة القدرة مثلا بالمقدور، فالفعل يحصل أثره أو غايته فيما يقع الحس عليه، وهذا هو فقط الجزء الذي نستيطع فهمه والتفكير فيه من صفات الفعل عند الله تبارك وتعالى، أما ما سبق أثر الفعل في غايته، فإنه مجهول عندنا لا نعرف له كيفية ولا معنى ولا يشبه كيفيات البشر.

 

[1] التفسير الكبير للرازي

رابط هذا التعليق
شارك

في ٢٥‏/٩‏/٢٠١٨ at 18:23, يوسف الساريسي said:

ألف: الفرق بين الغاية والعلة الغائية

فما دام الفعل بإرادة الله وجب أن يكون مقصودا وله غاية وينتج عنها ثمرة وحكمة من الله المريد العليم الحكيم.

يرد المفسر ابن عاشور على رأي الأشاعرة في كتابه التحرير والتنوير فيقول يسلمون – أي الأشاعرة - أن أفعال الله لا تخلو عن الثمرة والحكمة ويمنعون أن تكون تلك الحكم عللا وأغراضا مع أن ثمرة فعل الفاعل العالم بكل شيء لا تخلو من أن تكون غرضا لأنها تكون داعيا للفعل ضرورة، تحقق علم الفاعل وارادته ) وهو يقصد بالعلل والأغراض هنا الغايات، ولا أظنه يقصد العلل الغائية.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته استاذ يوسف بارك الله فيك وفي علمك
لم أشأ الإنتقال إلى المشاركة التي تلي هذه حتى أسجل الإستفسار الآتي:
وجود الغاية من فعل الله سبحانه أو الثمرة والحكمة كما قال ابن عاشور ألا يحتمّ ذلك ذكرها؟! فإن لم تُذكر من الفاعل وهو الله - وهو أي الغاية هنا أمر غيبي - فكيف نؤكد وجود غاية دون وجود دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة؟ إضافة إلى ذلك فإن تأكيد الغاية دون تحديدها يفتح الباب على الجاهل وضعيف الإيمان بالتأويل على فعل الله!.

تم تعديل بواسطه عبد الله العقابي
رابط هذا التعليق
شارك

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

بارك الله فيك أخي عبد الله العقابي

أولا: أرجو أن يكون ما اجبتك به سابقا حول التفريق بين سبب الموت وبين العلة الغائية واضحا وكافيا.

ثانيا: بالنسبة للغاية من أفعال وأحكام الله وهي تسمى ايضا بالمقاصد أو هي العاقبة أو الحكمة الناتجة من تطبيقها عند الناس.

يقول الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى في الجزء الثالث من كتاب الشخصية الاسلامية -أصول الفقه في موضوع مقاصد الشريعة: "ومما يجب أن يعلم أن حكمة الله من الحكم هي مقصده هو من تشريعه وغايته منه، فلا بد أن يبينها الشارع نفسه حتى يعرف أنها غايته، أي أن مقاصد الشريعة ... لا تعتبر مقاصد شرعية حتى يأتي بها نص شرعي، فإذا لم يأت بها نص قد جاء من الوحي، فلا يجوز أن تعتبر من المقاصد الشرعية ... ويستحيل عقلا وشرعا الاطلاع على حكمة الله إلا إذا اطلعنا الله عليها بنص بواسطة الوحي". فهذا يؤكد الكلام الذي ذكرته في التعقيب لاغلاق الباب على الجاهل والمتأول.

من ناحية أخرى وبالاشارة إلى ما ذكرته في تعقيبك فليس بالضرورة أن يكون المقصد أو الحكمة قد وردت بدليل قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، فهي مثل العلة الشرعية قد ترد في القرآن أو في السنة أو في اجماع الصحابة، وترد في القطعي والظني، وقد يختلف في دلالتها بين المجتهدين والعلماء، وبالتالي تعامل الحكمة الشرعية معاملة العلة الشرعية من حيث ضوابط أخذها وفهمها، فقد تكون الحكمة صريحة وقد تكون دلالة أو استنباطا.

فحكمة الله من خلق الإنسان هي عبادته (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وهذا المقصد هو الغاية من الخلق، وهو قد ورد بدليل قطعي الثبوت وقطعي الدلالة. وورد في الحديث الشريف أن رسول الله "نهى عن أن تزوج المرأة على العمة وعلى الخالة وقال إنكم أن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" وهذا الحديث ظني الثبوت.

وقد تستنبط الحكمة من مجموعة من الأحكام الشرعية. ومن الأمثلة على الحكم التي استنبطها الشيخ تقي الدين رحمه الله ما ورد في كتاب النظام الاقتصادي هي عرف سياسة الاقتصاد بأنها (هي الهدف الذي ترمي اليه الأحكام التي تعالج تدبير أمور الإنسان، وهي ضمان تحقيق الإشباع لجميع الحاجات الأساسية لكل فرد اشباعا كاملا، وتمكينه من اشباع الحاجات الكمالية بقدر ما يستطيع) والهدف هنا هو نفسه الغاية وهو نفسه الحكمة وهي هنا مستنبطة من مجموعة من النصوص، حيث استنبط الشيخ ذلك من مجموعة من الأحكام الشرعية المتعلقة بالاقتصاد، ويمكنك مراجعة مقدمة الدستور والاطلاع على شرح الأسباب الموجبة للمادة 123 حول تعريف سياسة الاقتصاد في الاسلام

ولك تحياتي

تم تعديل بواسطه يوسف الساريسي
رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم 

أخي أبا مالك بارك الله فيك

هل تتفضل علينا وتربط ما ذكرته في مشاركاتك أعلاه بالموضوع، فأنت من الرواد في مسائل صفات الله وقد وفقك الله وكتبت عدة أبحاث وكتب حول موضوع صفات الله.

فرأيك بالتأكيد له اعتبار ووزن عندنا هنا!!

بانتظاركم

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...