اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

ما البديل؟-د. إياد قنيبي


أبو عائشة

Recommended Posts

ما البديل؟-د. إياد قنيبي

 

السلام عليكم ورحمة الله

"كلامك مقنع، لكن ما البديل؟"،

كان هذا أكثر تساؤل أُثير طوال الأشهر الماضية على طرحي في سلسلة (نصرة للشريعة) http://al-furqan.org...px?pid=7&pvr=16 وفي الحلقات المفردة المتعلقة بالانتخاباتhttp://al-furqan.org...x?pid=446&pvr=1. ولا يخفى أنه تساؤل متوقع. ولكني –ولا زلت-أؤخر الإجابة عن هذا السؤال عمدا لأني أسير بترتيب معين لا أريد له أن يختل. فبعد المحاور التي طرحت في الحلقات الإحدى والعشرين الماضية يتبقى أمامنا:

1) بيان الآثار السلبية لدخول ال"الإسلاميين" البرلمانيين في العملية الديمقراطية ولتصريحاتهم المتعلقة بتطبيق الشريعة.

2) تناول الأدلة التي يطرحها مؤيدو المسلك الديمقراطي ومبررو تعطيل الشريعة أو تأجيل تطبيقها دليلا دليلا ومناقشتها.

3) بيان موقف مراكز التخطيط الاستراتيجي ودوائر صنع القرار الغربية من انخراط الـ"إسلاميين" في العملية الديمقراطية

4) مقارنة الحضارة الإسلامية بالحضارة الغربية في المسائل التي تُهاجم الحضارة الإسلامية من خلالها.

5) إعطاء "البديل" الشرعي الصحيح عن المسلك الديمقراطي.

 

وكان من أهم أسباب تأخير الحديث عن الـ"بديل" الشرعي هو السير بطريقة "التخلية ثم التحلية"، و "النفي ثم الإثبات"...أريد أن أقطع الأمل في المسالك الديمقراطية التنازلية وأسقطها من خياراتنا وأبين بطلانها شرعا وواقعا، ومن ثم أعرض الحل على قلوبٍ خلت من التعلق بالمسالك الباطلة.

 

لكن عددا من المتابعين يلح علي باستمرار أن أقدم الطرح البديل. والبعض تعجل الحكم بأنه ليس لدينا بديل، وأن ليس لدينا إلا الانتقاد والتنظير دون تقديم حلول عملية للوصول إلى النهضة المنشودة.

وأنا لن أدع هذه الضغوطات تخرجني عن مساري ولا تحرق لي المراحل، خاصة وأن الحديث عن الـ"بديل" لن يستغرق حلقة وحلقتين فحسب، بل ويستلزم منا جهدا كبيرا جدا في التحضير. لكني سأعطي إشارات سريعة لا يراد لها أبدا أن تكون عرضا شاملا متكاملا مؤصلا للـ"بديل" الشرعي، وإنما نوردها لنبين أن مسارنا الذي نسير فيه حاليا هو مرحلة لا يمكن تجاوزها في سبيل الوصول إلى النهضة المنشودة. وسأقسم هذه الإشارات على كلمتين هذه أولاهما...

فأقول وبالله التوفيق:

1) من أعجب العجب أن يطالبنا بعض الإخوة بـ"إعطاء بديل عملي مفصل لطريقة الوصول إلى الحكم" كما نص بعضهم، ويريد منا أن نعرض هذا "على الهواء مباشرة"! ولعل إخواننا هؤلاء يظنون أن "بدائلنا" مرحب بها قانونيا محليا ودوليا كما الحال مع "بدائلهم"! وكأننا في بلاد لا حد فيه لحرية التعبير.

فأود أن يعلم القارئ الكريم أن النظام الدولي الحالي يعرف من أين تؤكل الكتف، فيتعامل مع من يقترب من أكل أكتافه وتقويض بنيانه بقسوة جنونية، بينما يفتح للمعترضين عليه طرقا ناعمة وردية يعلم النظام الدولي جيدا أنها لن تزيده إلا قوة ورسوخا. فلا يتوقعْ أصحاب المسالك الناعمة من آكلي الكتف أن يعبروا ويشرحوا ويفصلوا بأريحيتهم، إذ أن البطش والمسميات والتهم الجاهزة في الانتظار!

- فالنشاط الجماعي غير المرخص من النظام الدولي هو "تكوين جمعيات أشرار"

- والدعوة باللسان إلى الجهاد أو حتى الثناء على فصيل مجاهد هو "تجنيد عناصر للقيام بأعمال إرهابية"

- ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد أصابته هذه التهمة أيضا، إذ قانون التجنيد يشمل من "يقوم على من يعولهم العنصر في غيابه"!

- وجمع المال أو التبرع به لمن يحارب قوات الاحتلال في بلد من البدلان هو "تمويل منظمات إرهابية" عقوبته "الحبس مدة لا تقل عن عشر سنوات وغرامة مالية بقيمة تصل إلى ما يعادل حوالي مليون ونصف دولار"!

- وانتقاد نظام من الأنظمة الشرقية أو الغربية القائمة هو "تعكير صفو العلاقة بدولة أجنبية" عقوبته خمس سنوات من السجن على الأقل.

هذا غير تهم إطالة اللسان وإثارة النعرات و... و... و...

ولعل كثيرا من القراء الكرام لا يعلم أني حديث الخروج من الأسر بعد تعرضي لبعض هذه التهم!

- وها هو عدد من الشباب يحاكَم لمحاولته الذهاب إلى سوريا للجهاد.

 

وفي المقابل نرى النظام العالمي يفتح ذراعيه وحضنه للانخراط في العملية الديمقراطية ويتقبل "غزوات الصناديق" الناعمة ويبعث مندوبين للإشراف على "نزاهة" الانتخابات وينص في درسة (كيف تتلاشى الجماعات الإرهابية) على أن دمج الإسلاميين في العملية السياسية هو من أفضل السبل لنزع فتيلها والتخلص من خطرها.

في ظل هذا كله فإني أستغرب جدا من هؤلاء الإخوة الذين يطالبونني بـــ"إعطاء بديل عملي مفصل لطريقة الوصول إلى الحكم" وبثه ليستفاد منه، ولربما يتوقعون أني إذا أعلنت هذا البديل فإني سأحصل على جائزة نوبل للآداب وجائزة وزارة الثقافة للإبداع وستأتيني الأنظمة تعرض علي التعاون معها لتحقيق الخطط ويطلب السفير الأمريكي مقابلتي لبحث السبل! ((ما لكم كيف تحكمون))؟! والمضحك المبكي هو أن بعض هؤلاء الإخوة ذاتهم يصفني بـ"قلة إدراك الواقع"!

 

فأنصح إخواني هؤلاء بالرجوع إلى السيرة النبوية ودراسة بيعة العقبة وملابسات الهجرة إلى المدينة. وليعلموا أن مثلي يسير في حقل ألغام ويستفيد من الدائرة المتاحة بالطرق الشرعية مع الموازنة التي تقتضي أن قليلا مستمرا خير من كثير منقطع. وعلى ضوء هذه النقطة الأولى ينبغي فهم الإجمال في النقاط التالية.

 

2) كنت أرد أحيانا ردا مجملا على سؤال (ما البديل) بأن علينا التركيز على الدعوة لتصحيح أفكار الناس وتصوراتهم. فيعترض البعض بنبرة فيها التقليل من شأن الدعوة. وأود هنا أن أذكر بأول جملة في دراسة مركز التخطيط الاستراتيجي (راند) الصادرة عام 2007 بعنوان (بناء شبكات إسلامية معتدلة)...إذ كانت أول جملة: (The war in most of the Muslim world nowdays is a war of thoughts) (إن الحرب في معظم أنحاء العالم الإسلامي اليوم هي حرب أفكار). فيبدو أن أعداءنا يفهمون طبيعة المعركة وأهمية الدعوة اكثر منا!

 

الثورة المصرية مثلا كانت في بداياتها مصدر رعب للعالم الغربي. وكانت تتطلب من الـ"إلاسلاميين" وضوحا في الرؤية والأهداف وتمسكا بالثوابت وصفاء في المنهج ومعرفة بطبيعة العدو. ونزعم أن الإسلاميين لو تملكوا هذه المقومات لكانت هذه الثورة بداية الفرج للأمة الإسلامية بأسرها، ولاستلهمت نجاحَها شعوب العالم الإسلامي. لكن التشوش الفكري المنهجي الذي لاقى وَهَنًا من نفوس بعض الإسلاميين فوت الفرصة وحول الثورة إلى نموذج بائس محبط للشعب المصري والشعوب الإسلامية من ورائه.

والمشكلة لم تكن بالدرجة الأولى مع الشعوب، بل مع الإسلاميين أنفسهم الذين لم يحسنوا قيادة المرحلة. ولهذا فإننا نرى الدعوة التي نسير فيها، والموجهة إلى الإسلاميين والمهتمين بنهضة الأمة، ضرورة لمنع تكرر هذا الإخفاق.

لذا فعلينا تجنب هذه النبرة التي تقلل من شأن "التنظير" وكأنه مضيعة للوقت، في الوقت الذي أدرك الغرب ان هذا التنظير وحرب الأفكار لا يقل أهمية عن الحرب العسكرية، الأمر الذي جعله يضيق الخناق ويفرض القوانين حتى على هذا الجانب التنظيري.

والغريب أن الذين يقللون من شأن التنظير يمارسون هذا "التنظير" علينا ويرون بضرورة أن يتصدوا للرد على طروحاتنا! فنقول لهم: إن كنتم لا ترون فائدة في التنظير فلماذا الرد على طروحاتنا؟ لبيان ما ترونه فيها من "باطل" وتحذير الناس منه؟ إذن فهذا من أهدافنا أيضا في "تنظيرنا": بيان باطل مسالككم والتحذير منه ليقيننا أنه يترتب عليه فشل وإخفاق ونتائج عملية سلبية في الواقع.

 

3) هب أن طرحنا هذا لم يُؤَدِّ إلى قيام دولة الإسلام، فإن المقصود منه هدف أهم وأعلى حتى من قيام دولة الإسلام، ألا وهو تنقية معتقدات المسلمين من تصورات نخاف عليهم أن يلقوا الله تعالى بها. وسنعرض لها في المحور القادم من حلقات السلسلة بإذن الله. فتسويغ الحكم بغير الشريعة، وتسويغ أن يُرهن تطبيق الشريعة بموافقة الشعب أو البرلمان، وتشرب النفوس لمبادئ الديمقراطية المتعلقة بالحريات والتعددية غير المنضبطة بضوابط الشريعة والدفاع عن هذه المبادئ وادعاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم تنازلات عن ثوابت وفقدان الثقة في رصيد الفطرة الذي تخاطبه الشريعة وتبرير التفلت من أحكام الشريعة حتى على مستوى البيت والفرد ذاته والنفور من أحكام شرعية كما ظهر ويظهر من مساجلاتنا مع خصوم الرأي...هذا كله خلل في المفاهيم والتصورات كالخلل الموجود لدى بعض المتصوفة والجهمية والخوارج وغيرهم من الطوائف الضالة. ومن أشرف المهام وأعظمها اجرا أن تصوب عقيدة الناس وتصوراتهم. وهذا التوصيب هو بحد ذاته نجاح بغض النظر عن انعكاساته على حياة الناس العملية...((يوم لا ينفع مال ولا بنون () إلا من أتى الله بقلب سليم)). وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ))...ونحن بسيرنا في هذه السلسلة نسعى إلى يصيبنا ويصيب إخواننا الذين يتبنون طروحاتنا نصيب من هذا الحديث.

فلا ينبغي أن يقال لنا: (وضح كيف سيقود هذا الطرح بعد خمس سنين أو عشر سنين إلى قيام الدولة الإسلامية)! فحتى على فرض أنه لم يؤدِّ، فكفى أنه يصب في الغاية التي من أجلها تُقام الدولة الإسلامية، وهو حراسة العقيدة الإسلامية مما يشوبها وتحقيق معاني العبودية في نفوس الناس. وهذا هدف لدينا في ذاته. فكيف ونحن نرى أن هذا التصحيح هو الخطوة الأولى التي لا مناص منها لقيام الدولة. وقد بوب البخاري في مستهل صحيحه: (باب: العلم قبل القول والعمل).

4) أعجب من الإخوة الذين يقولون ما مفاده "أنا مقتنع بما تقوله من حرمة المسالك الديمقراطية، لكن لا أستطيع أن أترك تأييدها حتى تعطيني البديل".

فالسؤال هنا: هل المطلوب منا أن نعمل شيئا فحسب؟ أم أن نعمل بما يرضاه الله؟ هل العمل هو لمجرد التنفيس عن مشاعر الاستياء من الواقع؟ أم هل نظن أننا إن عملنا بطريقة غير شرعية فإن الله سيبارك في عملنا ويجعله سبيلا إلى نهضة الأمة؟!

هَبْ أني لم أعطك البديل، ألا يتوجب عليك ترك مسلك الديمقراطية بمجرد أن يثبت لك عدم شرعيته؟

ثم كيف تتوقع أن ينور الله بصيرتك للطريق الذي يرضاه إن كت مقيما على طريق اقتنعت! أنه غير شرعي، وهو تعالى القائل: ((يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا))...تفرقون به بين الحق والباطل. فاتق الله فيما تعلم من بطلان هذا المسلك ليرزقك علم ما لم تعلم من الطريق الذي يرضاه الله.

 

كانت هذه إشارات أربعة سريعة يتبعها غيرها في الكلمة القادمة بإذن الله. والسلام عليكم ورحمة الله.

تم تعديل بواسطه ابن الصّدّيق
رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم ورحمة الله

هذا المقال استمرار للمقال السابق بعنوان (ما البديل؟) وهو إشارات سريعة للإخوة الذين يسألونني: اقتنعنا بكلامك عن فساد مسلك الديمقراطية شرعا ولكن ما البديل عنه لإصلاح الأوضاع؟ في المقال السابق عرضت أربع نقاط، وقد ارتأيت ألا أستطرد في الموضوع كثيرا بل أقتصر على إضافة الإشارة الخامسة التالية:

 

5) الإخوة يطالبون ببديل عملي موصل إلى الهدف. أي وكأنهم يريدون آلية مفصلة وخططا مرحلية يظهر للعيان أن من سلكها سيصل إلى الحكم ويقيم الدولة الإسلامية. فأود أن ألفت أنظار إخواني إلى أن الله تعالى يبتلي عباده بأمرهم أن يسلكوا طريقا قد يبدو مسدودا مقفرا، لكنه في النهاية هو الطريق الشرعي.

ويبتليهم خلال سلوكهم هذا الطريق بفُرَص ظاهرها أنها ستمكن لدعوتهم وتختصر المراحل وتقلل التضحيات وتنقلهم نقلة هائلة. لكن مشكلة هذه الفرص أنها تتطلب منهم تنازلات عن ثوابت دينهم الذي من أجله سلكوا هذا الطريق. والأمران بلاء: إقفار الطريق وانسداده بلاء، والفرص البراقة التي تلوح في الطريق بلاء. وكأنه عز وجل يريد أن يمتحن يقين عباده بالوعد، وحسن توكلهم، واستسلامهم لأمر الله وإيمانهم بحكمة ربهم وعلمه ورحمته، ويريد كذلك أن ينقي قلوبهم من التعلق بالأسباب المادية وأعمالَـهـم من الروغان حول أمره.

حتى إذا حصل ذلك من العباد ومارسوا العبودية بأصدق أشكالها: عبودية الاستسلام لأمر الله والاستقامة على أمره وعدم الميل عنه ولا حتى بدعوى خدمة الدين....جاءهم النصر والتمكين من حيث لم يحتسبوا وجعل لهم بعد هذا الانسداد الخانق مخرجا...بل وقَلَب مكر أعداء الدين عليهم وكاد للمسلمين بلطفه سبحانه.

ولنا عند هذه السنة وقفة إن شاء الله عندما نستعرض سير أنبياء الله موسى ويوسف عليهما السلام وقصة نعيم بن مسعود وقطز وموقف أبي بكر من بعث أسامة ونشأة دولة المرابطين.

 

لكننا هنا نكتفي بذكر نموذج واحد، وهو دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقبائل في مرحلة الاستضعاف بمكة... ونحن نعلم أن البعض سيقول كلاما لا يختلف كثيرا عن كلام العلمانيين، إذ يرى أن الأمثلة من حياة النبي انقضى أثرها بانقضاء عهد الصحراء والقبائل وأنها لم تعد صالحة لعالمنا المعاصر!...وليس كلامنا موجها لضعفاء الإيمان هؤلاء، بل لمن يؤمنون بقوله تعالى: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)).

 

رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة بعد إعلان دعوته...عشر سنين من التنكيل والاستهزاء والتكذيب في مكة، أصحابه فيها يعذبون ويشردون ويقتلون، ولا يدري النبي صلى الله عليه وسلم كم ستمتد هذه المعاناة....ثم رحلة الطائف التي كذبه فيه ساداتها ورماه بالحجارة سفهاؤها...والنبي في ذلك كله لا يقصر أبدا في الاجتهاد والأخذ بالأسباب ولا في التخطيط لإنجاح دعوته، ولا يجلس في داره ينتظر الفرج، بل يخاطب كفار مكة جماعات وفرادى، ويُعلن حيث يحسن الإعلان ويُسر حيث يحسن الإسرار، ويرسل عددا من أصحابه إلى الحبشة ليحفظ عليهم دينهم ويخفف معاناتهم. ومع ذلك لم يكن في الأفق تباشير دولة ولا تمكين...وبدا أن الطريق مسدود...

 

 

في هذه الفترة الممحلة القحط الجدباء كرمال الجزيرة العربية تأتي فرص براقة! فقد ذكر ابن هشام و الطبري و ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض نفسه من بين ما عرض على بني عامر بن صعصعة، فقال له رجل منهم: (أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك)؟

 

 

صفقة تبدو رابحة جدا! أن يعلن بنو عامر النصرة للنبي، فينتقل إليهم هو وأصحابه، ويتوقف التعذيب والجلد والسحب على رمضاء مكة ووضع الصخور على الصدور والخنق حتى الموت، ويتحول النبي من مطارَد يرميه السفهاء بالحجارة ويضعون سلا الجزور على ظهره إلى رئيس مطاع، وينشر الدين بسلطان الدولة.

مجموعة من تحقيق المصالح ودرء المفاسد والمحافظة على ضرورات النفس والعرض والمال يقدمها بنو عامر على طبق من ذهب.

 

 

والمطلوب مقابلها تنازل بسيط: أن يقبل رسول الله بشرط انتقال السلطة إلى أصحاب هذا العرض السخي بعد وفاته. وهو تنازل في أمر قد يبدو للوهلة الأولى أنه إداري لا علاقة لها بصلب الدين.

 

لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (الأمر لله يضعه حيث شاء)...رافضا بذلك عرضهم السخي!

رفضا تستهجنه كل الحسابات السياسية المادية الأرضية وتعتبره تفويتا لفرصة العمر، بل لو حدث في أيامنا من غير رسول الله لوصفه فقهاء التنازلات بالتشدد والجمود.

نعم، رَفَض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشرط. فقال له أحد بني عامر: (أنقاتل العرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك)...ثم تولوا عنه مدبرين. وتلاشى الأمل وانطفأ بريق الفرصة.

 

ومع ذلك ما ندم رسول الله وهو يراهم مدبرين عنه، ولا تبعهم ولا طلب أن يعطوه فرصة ليعيد النظر...ما ندم حين فاتت هذه الفرصة وعادت آلام الحياة وهو يرى أصحابه يعذبون والمشركين يستهزئون. فهو يعلم أن الإسلام المشروط المرتبط بأطماع الرياسة ليس الإسلام الذي يحبه الله تعالى، وأن من أسند ظهره إل قوم هذا حالهم كان كمن أسس بنيانه على شفا جرف هار.

وتذكروا أنه عليه السلام ما كان يعلم في تلك اللحظة كم ستستمر الآلام، بل ما كان يعلم إن كانت المعاناة ستنتهي في فترة حياته.

 

- وتكرر هذا العرض عندما جاءه بنو كندة فيما روى ابن كثير فقالوا: (إن ظفرت تجعل لنا الـمُلك من بعدك؟). فقال (إن الملك لله يجعله حيث يشاء).

والنبي في ذلك كله لا يتكلف ولا يشدد على نفسه ولا على أتباعه، إنما هو لا يساوم في أمور يعلم أنها لا تقبل المساومة.

 

ثم تأتي الفرصة الأكثر إغراء...ففي الأثر الذي حسنه ابن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على بني شيبان، وهم من قبيلة قوية ذات منعة. وتلى عليهم القرآن فمالوا إلى نصرته حتى قال له المثنى بن حارثة:

(إنما نزلنا على عهدٍ أخذه كسرى علينا؛ ألا نحدث حدثًا، ولا نؤوي محدثًا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤيدك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا). أي أنهم استعدوا لنصرته على العرب لكن ليس على الفرس إذ جندهم آنذاك يقدرون بحوالي المليون! وهذا الاشتراط متوقع من أناس لم يتمكن الإيمان من قلوبهم. فهل قبل رسول الله على أمل أن يقنعهم بالتخلي عن هذا الشرط لاحقاً؟ لا بل رفض اشتراطهم وكان مما قاله لهم: ((إن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه)) (رواه ابن حبان في الثقات والبيهقي في دلائل النبوة وابن كثير والسمعاني في الأنساب)...

 

وبعد حادثة بني شيبان مباشرة، ينتقل رسول الله إلى رجال ستة فيسألهم: ((من أنتم؟)) فيقولون: ((نفر من الخزرج)) فيقول لهم: ((أفلا تجلسون أكلمكم؟))...فتتنزل الرحمات وتنفذ مشيئة الله بإكرام نبيه بعد هذا الثبات العجيب، وتأتي الهدية على هذا الصبر والتسليم واليقين والأخذ بالأسباب المشروعة منه صلى الله عليه وسلم، ويبتسم الكون بعد طول عبوس. فقد آمن النفر الستة جميعا من ساعتهم إيمانا نقيا غير مشروط...وانطلقت من هذه اللحظة رحلة النصر والتمكين للرسول الأمين.

 

هكذا هي المعادلة: ثبات على أمر الله مهما بدا الطريق مسدودا، مع أخذ بالأسباب والسير في كل طريق مشروع، ورفض للعروض التي تتطلب التنازل مهما كانت مغرية...((حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنُجِّي من نشاء ولا يُرد بأسنا عن القوم المجرمين)).

 

وليس هذا الذي حصل مع رسول الله فلتة عارضة خارجة عن سنة الله في التغيير، بل هي من سننه تعالى في التغيير...يؤكدها الله تعالى في مواضع كثيرة: أن ليس على الدعاة إلا الثبات والأخذ بالأسباب قدر الوسع والطاقة، ثم النصر بعد ذلك يأتي من غير جهة الأسباب، وبخلاف المعادلات المادية الأرضية:

- ((هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم))...فالاخذ بالأسباب مهما كان عظيما ما كان هو السبب في التأليف بين قلوب الصحابة...إنما هو من الله تعالى.

- وقال تعالى في بدر: ((وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى))

- وقال في غزوة بني النضير: ((هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب))...أخذ المؤمنون بالأسباب وحاصروا بني النضير وصبروا على حصارهم ست ليال...لكن الذي هزمهم بعد ذلك هو الله بطريقة مع أن المؤمنين أنفسهم ما ظنوا أن يخرج هؤلاء دون قتال.

- وقال في الأحزاب: ((ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال))...أخذ المؤمنون بالأسباب المشروعة وعانوا الأمرين في حفر الخندق ثم في حراسة المدينة من جحافل الكفار وخططوا وحفظوا النساء والذراري في حصن واجتهد رسول الله ليشق صف اليهود والمشركين...ثم بعد ذلك جاء النصر من غير جهة الأسباب وتولى الله سبحانه رد الكفار دون قتال.

 

وفي المقابل، عندما تعلقت قلوب البعض بالأسباب المادية فوُكلوا إليها:

((ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تُغنِ عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين))

وفي أحد، عندما تعلقت القلوب ببريق الفرصة المشوبة بالمعصية فضاع النصر وخوطبوا بخطاب اللوم:

((حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ))

 

فهذا هو الطريق: دعوة شمولية لا تهمل جانبا من جوانب دين الله تعالى، وتنتظم عقائد المسلمين وأفكارهم وسلوكهم ومعاملاتهم، وتحرُّك نشِطٌ بهذه الدعوة بالخلق الحسن والإخلاص في طبقات المجتمع كافة، وتربية للنفوس على التحلي بالعلم وتحمل التبعات وتقديم التضحيات وإيثار الباقية على الفانية، وحكمة تجعل الدعاة يحسبون كل خطوة يخطونها وتمنعهم من إلقاء أنفسهم في مواطن الهلكة دون فائدة، يقابلها قوة في الحق ومصداقية تمنعهم من أن يحصروا دعوتهم في الجوانب التي لا تغضب الباطل، ثم استنفاد الوسع في الأخذ بأسباب النجاح الدنيوية المشروعة والحرص على التميز في التخصصات ونفع الناس في دينهم ودنياهم، وجهادٌ للكفار والمنافقين باليد واللسان والقلب والمال، ولكل مقام في ذلك ما يناسبه. وأن يكون ذلك كله على هدى من الكتاب والسنة محفوفا باليقين والثبات والصبر وحسن التوكل، دون زيغ ولا تأوُّل فاسد...وبرهنة لله على الصدق برفض الفرص البراقة المشوبة التي تعرض نفسها للدعاة في هذا الطريق على أنها طوق النجاة.

 

وقد كنا إذا ما ذكرنا أهمية الدعوة يقول المجادل: بقينا ندعو سنوات طويلة ولم يتغير الواقع. فنقول: ليست أية دعوة تجلب النصر، بل دعوة كهذه، فهل رأينا دعوة كهذه سنوات طويلة؟ عد إلى وصفها الذي ذكرناه وقارنه بالواقع وستعرف الجواب!

رأينا جهودا طيبة من الدعاة ومن الأحزاب والاتجاهات الإسلامية، وكان لهذه الجهود أثرها النافع على المجتمعات الإسلامية، ولا ينكر ذلك منصف. لكنك إذا استعرضت الملامح العامة المذكورة للجهد الإسلامي المنشود علمت مواطن الخلل في هذه الجهود وأنها تحتاج الكثير من الاستكمال والتنقية وتصحيح القواعد والأسس.

 

وبعد ذلك فبمقدار ما قد يبدو هذا الطريق الأصيل (وليس البديل) في عيون الماديين عقيما قاحلا، فإن ذلك يزيدنا يقينا بصحته ونحن نستذكر هذه السنة من سنن الله تعالى في التمكين لمن يستقيم على الطريق ويأخذ بالأسباب المشروعة ويُعرض عن المشوبة منها مهما كانت براقة.

 

كانت هذه إشارات سريعة نسأل الله تعالى أن ينفع بها. سنمضي بعدها بإذن الله في السلسلة بالمخطط المرسوم لها، حيث سنعرض للمفاسد الفكرية والعقدية الناتجة عن المسلك الديمقراطي التنازلي لنرى خطورتها وانعكاساتها على المجتمعات الإسلامية لعل سالكي هذه السبل يتنبهون إلى المفاسد التي قلما تُذكر وقلما تعطى حجمها مع شدة خطورتها وانتشارها.

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

موقع الفرقان

http://al-furqan.org/PR/Default.aspx?pid=448&pvr=0

 

 

الفيس بوك

https://www.facebook.com/eyad.qunaibi.5

تم تعديل بواسطه أبو عائشة
رابط هذا التعليق
شارك

د. إياد عبد الحافظ قنيبي، من الأردن مواليد عام 1975. حاصل على درجة الدكتوراه في علم الأدوية من جامعة هيوستن الأمريكية، مارس البحث العلمي في مركز تكساس الطبي. محاضر متفرغ وباحث حاليا في كلية الصيدلة في جامعة العلوم التطبيقية - الأردن وخطيب متطوع بمسجد مصعب بن عمير-عمان، الأردن، ومشرف موقع الفرقان (al-furqan.org)

 

 

اعتقلته المخابرات الاردنية مساء يوم22/9/2010 .

وقد حكمت محكمة امن الدولة اليوم الخميس 28 تموز 2011 بالسجن خمس سنوات على الدكتور اياد القنيبي المدرس السابق باحدى كليات الصيدلية في الجامعات الاردنية الا ان الحكم تم تخفيفه الى سنتان ونصف السنة بعد ان وجهت له المحكمة تهمة " افعال لم تجزها الدولة" في جين برئته من التهم الاخرى مثل دعم جهات ارهابية .

 

وفي 2012-01-04 إفرج عن القنيبي بعدم مسؤوليته عن التهم الموجهة له.

تم تعديل بواسطه أبو عائشة
رابط هذا التعليق
شارك

ارى ان لديه مفاهيم واضحه جعله الله ذخرا للاسلام والمسلمين

 

لكن هل له اي ارتباط بجماعه معينه ام هو ينطلق من عمل فردي وجهد شخصي ؟

 

وهل عرض عليه رأي الحزب وتصوره وما هو رأيه ؟

رابط هذا التعليق
شارك

اقتباس

سنعرض للمفاسد الفكرية والعقدية الناتجة عن المسلك الديمقراطي التنازلي لنرى خطورتها وانعكاساتها على المجتمعات الإسلامية لعل سالكي هذه السبل يتنبهون إلى المفاسد التي قلما تُذكر وقلما تعطى حجمها مع شدة خطورتها وانتشارها.

في البداية اتوجه للدكتور اياد واقول له جزاك الله خير و اقول ايضا قلما يوجد خارج حزب التحرير ينظر لهذه المسألة بعمق واستنارة

فان حزب التحرير قد بين فساد الديمقراطية من الناحية الفكرية والعقدية وايضا من الناحية العملية لا تنطبق على الواقع فهي ,

فكرة خيالية ,منذ نشأتها في اليونان مرورا من المعسكر الرأسمالي الى الاتحاد السوفياتي وكيف تلقفها العملاء والمفتونين بها في

بلاد المسلمين ولحقها الحزب بحيث بين ان الاجراء الذي يجب اتخاذه تجاهها حياة او موت ,وقد اشبعها بحث ونقد وصراع وما زال

الحزب كذلك الى يوم الناس هذا.وقد سطر الحزب الطريقة الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة التي ذكرها الدكتور جزاه الله خير

بمراحلها الثلاث (ضمن تكتل حزبي كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام).واني ادعو الدكتور اياد بان يلقي نظرة على ثقاقة الحزب

من مصادرها المعتبرة عند حزب التحرير عسى الله ان يجمعه بنا لبناء السرح العظيم دولة الخلافة الراشدة الثانية التي وعد ,وبشر,

بها الله ورسوله عليه الصلاة والسلام,وفي الختام الفت انتباه الدكتور للقارء فقط لكي لا تختلط الامور عنده انه لا توجد مجتمعات اسلامية في الاسلام بل هو مجتمع واحد ,بخلاف ما نشاهده في بلاد المسلمين من مجتمعات نتيجة سايك وبيكو ثم نتج عن ذلك

خليط بين الافكار والمشاعر والانظمة من جميع المبادئ من ما افقد المجتمع الاسلامي لونه الخاص وطراز عيشه المتميز فاصبحت

كما ترى وتشاهد.

وصلي اللهم وسلم على سييدنا محمد امين

تم تعديل بواسطه طارق
رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...