اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

سورة الناس (1)


Recommended Posts

سورة الناس (1)

 

 

نقفُ اليومَ معَ جملةٍ تساويْ سورةً كاملةً، وهي سورةُ الناس: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلَهِ النَّاسِ ، مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ، مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ.

 

تتكوّنُ هذه السورةُ من جملةٍ واحدةٍ كبرى، بداخلها جملة صغرى بالنسبة لها، الكبرى تبدأ من قوله تعالى: (قُلْ) وهو فعلُ أمرٍ فاعلُهُ مستترٌ تقديرُهُ أنتَ، والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وخطابُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم خطابٌ لأمته، ما لم يدلَّ دليلٌ على أنَّ هذا خاصٌّ به صلى الله عليه وسلم، وهنا ليس من دليل ولا قرينةٍ تخصصُ الأمرَ بالرسولِ صلى الله عليه وسلم.

 

وفعل الأمرِ هذا مكوّنٌ من حرفينِ يشكلانِ مقطعاً واحداً، وفعل الأمر إن كان المخاطب أو الفاعلُ فيها مفرداً مذكراً، وكان صحيح الآخرِ فإنه يبنى على السكون، ولكنَّ الحرف الأخيرَ الذي هو موضع البناء السكون سُبِقَ بساكنٍ، وهو حرف العلةِ الواو، فالتقى ساكنان، هكذا (قُوْلْ)، والعربُ تتخلصُ من التقاء الساكنينِ بغير طريقة، وهنا تم التخلصُ من التقاء الساكنين بحذف الساكن الأولِ، وهو الواو، فتحولت (قوْلْ) إلى (قُلْ).

 

وبداية السورة بهذا الفعل، الأمر بالقول، دلالة وإشارة إلى التزام الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه، فإنّ الله تعالى خاطبه بـ (قُلْ)، وخاطبَ أمتَه بـ (قُل)، وقارئُ السورةِ يبدؤها بـ (قُلْ)، فصلى الله على سيدنا محمد النبيِّ الأميِّ، الذي لا ينطقُ عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى.

 

وفعلُ القولِ يليهِ مَقولُ القولِ، وهو في العادةِ يكونُ جملةً، ومَقولُ القولِ هنا هو بقيةُ السورةِ، من عندِ قولِه تعالى: (أعوذُ) إلى آخرِ السورة، فكلها جملة واحدةٌ، ولكنها لما وقعتْ مَقولَ القولِ صارتْ جملةً صغرى بالنسبة للجملة الأولى الكبرى. وسنفصلُ القولَ في ذلك إن شاء اللهُ تعالى.

 

أعوذُ: فعلٌ مضارعٌ، مرفوعٌ، فهو لم يسبقْه ناصبٌ ولا جازمٌ، وهو مسندٌ إلى المتكلمِ، أي فاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ تقديرُهُ أنا. ومصدرُهُ العَوذُ، وهو اللجوءُ.

الباءُ حرفُ جرٍ معناهُ هنا الاستعانةُ، أيْ أن اللاجئ والمستعيذَ يستعينُ في لجوئه واستعاذته برب الناس.

ربِّ: اسم مجرورٌ بحرف الجرّ الباء، وهو مضافٌ.

الناسِ: مضافٌ إليهِ مجرورٌ، وهو اسمُ جمعٍ للبشرِ جميعِهم، أو لطائفةٍ منهم.

 

وإضافةُ كلمة (ربّ) إلى كلمة (الناس) أكسبتها التعريف، وخُصَّت كلمةُ الناس بالإضافةِ دونَ غيرِها لمناسبتها المستعاذَ منه، وهو شرُّ الناسِ، ومناسبتها خواتيم الآيات، فكل آياتِ السورة مختومةٌ بحرف السين، الذيْ هو صوتٌ مهموسٌ، وأكثر ما يظهرُ في حالةِ الهمسِ والكلام الخفيِّ، وهو المناسبُ للوسوسةِ التي هي الكلامُ الخفيّ.

 

ومع أنّ المستعاذَ منه في السورة كلّها هو الوسوسةُ الآتيةُ من الْجِنَّةِ والناسِ، لكنَّ كلمةَ الناسِ خُصَّتْ بالإضافةِ إليها لأنّ خطَرَ الوسوسةِ الآتيةِ من الناسِ أشدُ من الوسوسةِ الآتيةِ من الْجِنَّ، ذلكَ أنَّ وسواسَ الجنِّ وصِفَ في السورةِ بأنّه خَنَّاس، أي شديدُ الْخَنْسِ، أي الاختفاء، بخلافِ الإنسيِّ الموسوِسِ، فإنّه لا يَخْنَسُ إذا سمعَ ذكرَ اللهِ تعالى.

 

وكذلك فإنّ الخطرَ الآتيَ من الناسِ يكونُ في كثير من أحوالِهِ آتٍ من وسوسةٍ خفيةٍ من الشيطانِ، وعليه فإن وسوسةَ الناسِ أشدُ خطراً، وهو يشملُ الخطرَ الآتيَ من الناسِ أنفسِهم، بدوافعَ من حقدٍ أو حسدٍ أو طمعٍ، ويشمل الخطرَ الآتيَ من كيدِ الشيطانِ ووسوسته لهم، ولذلك خُصَّ بذكرِه في أول السورةِ وإضافةِ لفظِ الـ (ربِّ) إليه، ليكتمل التناسق في السورة الكريمة.

 

و (ال) في كلمة (الناس) جنسية، تفيدُ استغراق جنس الناس.

والرَّبُّ من صفاتِ اللهِ تعالى، وأصلُ اللفظِ في اللغةِ من التربية، كالذي يُعْنى بتربيةِ من يربيه من منشئِهِ إلى منتهاهُ، والربُّ مصدرٌ مستعارٌ لاسم الفاعلِ، والله تعالى هو الأولى بذلك في حقِّ عبادِهِ، إذْ هيّأ لهم كلَّ ما يُصلِحُ أحوالَهم، في كلِّ أحوالِهم ومراحلِ حياتِهم، وهو سبحانَه الحامي لعبادِه، ومالكِ النفعِ والضرِّ لهم، فهو الأحقُّ أنْ يُستعاذَ به من شرِّ مخلوقاته، فكانت الاستعاذةُ بالربِّ، المالكِ الحقيقي للمستعاذِ منه، وربِّ الناسِ، لأنّ شرَّ الناسِ أخطرَ من شرِّ غيرِهم مما استعيذَ منه في السورة.

والجارُّ والمجرورُ (بربِّ) متعلقانِ بالفعل المضارعِ (أعوذُ).

 

مَلِكِ: عطفُ بيانٍ على (ربِّ)، مجرورٌ، وهو مضافٌ، و(الناسِ) مضافٌ إليه مجرورٌ.

إلهِ : عطفُ بيانٍ ثانٍ على (ربّ)، مجرورٌ، وهو مضافٌ، و(الناس) مضافٌ إليهِ مجرورٌ.

 

وعطفُ البيانِ يقتضيْ شمولَ المعطوفِ بحكمِ المعطوف عليه، ولكنه لا يستخدمُ فيه حرفُ عطفٍ، وعطف البيانِ يجمعُ بين بابَي العطفِ والبدلِ، فخالفَ العطفَ بعدمِ استخدامِ حرفٍ للعطفِ، وخالفَ البدلَ من جهةِ أنَّ المعطوف والمعطوف عليه مشمولان في الحكم، ومن هذا البابِ فإنَّ الاستعاذةَ متحققة باللهِ تعالى بوصفِهِ رَبّاً للناس متحكماً فيهم، وبوصفِهِ المالكَ الحقيقيَّ لهم، والقادرَ عليهم، وبوصفِهِ إلهَهم ومعبودهم وهو الذي يحتاجونَ إليه كلُّهم.

 

ولفظ (مَلِك) صفةٌ مشبّهةٌ باسمِ الفاعل، بمعنى المالك، واستخدمَ الصفةَ المشبّهةَ للدلالة على الديمومةِ والاستمرارِ.

 

والإله هو المعبود، المتوَجَّهُ إليه بالعبادةِ، والاحتياجِ، والسؤالِ والدعاء.

وتكرر لفظُ الناس في كلتا الآيتين، ولم يستغنَ عنهما بضميرِهما، أي لم يقل: (أعوذُ بربِّ الناسِ، ملكِهم، إلهِهم) وذلك لغرضين: أولهما زيادةُ البيانِ المناسبِ لعطفِ البيانِ، وثانيهما: لمناسبةِ خواتيمِ الآياتِ ووحدةِ الفاصلةِ القرآنية، فالأولُ له قيمةٌ معنويةٌ توكيدية، والثاني له قيمةٌ صوتيةٌ تأثيريةٌ في القلوب والنفوسِ.

 

أبو محمد خليفة 22-12-2013

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

سورة الناس (2)

 

 

نواصلُ ما بدأناه في الحلْقةِ السابقةِ مع سورة الناسِ، التي هي جملة واحدةٌ كبرى.

منْ شرِّ الوسواسِ الخنِّاسِ:

منْ: حرفُ جرٍّ مبنيٌّ على السكون، ومعناه هنا الابتداء المجازي، أيْ أنّ التعوّذ المقصودَ هنا يبدأً من شرِّ الوسواس الخناس.

شَرِّ: اسمٌ مجرورٌ بحرفِ الجرِّ (من)، وهو مضافٌ، وهو كلُّ ما يرغبُ عنه البشرُ، ويهربون منه ويتعوذون منه.

الوسواسِ: مضافٌ إليهِ مجرورٌ، على وزنِ فَعْلال، يفيدُ المبالغةَ والتكثيرَ، صيغةٌ سماعيةٌ غيرُ قياسيةٍ للمبالغة، وهو كثيرٌ الوسوسةِ.

والوسوسةُ: هي الهمس والكلامُ الخفيُّ.

وقد ذكرَ القرطبيُّ أنّ الوسواس على تقديرِ حذف مضافٍ، والتقدير: من شرِّ ذي الوسواسِ، أي صاحبِ الوسوسةِ. والذي دفعَه وغيرَه من المفسرين إلى هذا التقدير ما وردَ في الآيةِ الأخيرةِ من السورة: (من الجنةِ والناسِ)، فلم يقدروا أنه صفةٌ لموصوفٍ محذوف محددٍ، كالشيطانِ مثلاً، أو الإنسانِ، لأنه كائن منهما، فلم يخصصوا تقديرَ المحذوفِ بأنه موصوفٌ أي الشيطانُ الوسواس، رغمَ أنّ الوسواسَ موصوفٌ بأنّه خَنّاس، أي كثيرُ الاختفاءِ، والصفة ملازمةٌ للشيطانِ أكثر من الإنسانِ الموسوِس، مع أنّ الإنسانَ الموسوِسَ يتحيّنُ الفرصةَ المناسبةَ للوسوسة، فلا يتمكّنُ منها في كل حينٍ، فإنْ أتيحتْ فرصةُ الوسوسةِ وسوسَ، وإنْ ظهر مانعٌ منها خنسَ وامتنعَ عن الوسوسةِ. ولعلَّ هذا ما يرجّحُ تقديرَ الإمامِ القرطبيّ رحمه الله.

الخنّاس: نعتٌ للوسواسِ، مجرورٌ، وهو صيغةٌ مبالغةٍ، مشتقٌ من الفعل (خَنَسَ) الذي معناهُ الاختفاءُ والاختباءُ، وعُبِّرَ بصيغةِ المبالغةِ لكثرةِ خنسِه، أي كثرةِ اختفائه واختبائه وهربه حين يسمعُ ذكرَ الله تعالى.

الذيْ: اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ جرٍّ، صفةٌ أخرى للوسواسِ، والاسمُ الموصولُ سمي بهذا الاسمِ لعدم استغنائه عن جملةِ الصلةِ بعده، وهي التي توضّحُ معناهُ، و(الذي) للمفردِ المذكّر.

والاسمُ الموصولُ هو مثل (ال) الموصوليةِ المتصلةِ بالمشتقاتِ، فكأنَّ التقديرَ: (من شرِّ الوسواسِ الخناسِ الموسوسِ في صدورِ الناسِ).

يوسوسُ: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ، لم يسبقه ناصبٌ ولا جازمٌ، وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ تقديرُهُ (هو) يعودُ على الوَسواسِ الخنّاس. والذي يوسوسُ هو الذي يقومُ بفعل الوسوسة، والوسوسةُ وصفٌ لحالةِ الكلامِ أو الحديثِ، وليستْ هي مضمونَ الكلام أو الحديث، ولكنها أطلقت ليراد بها مضمونُ الكلامِ والحديثِ لكثرةِ استخدامها في السيءِ من الكلام والحديث، فلا يقالُ وسوسَ له بالخير. وإنما الوسوسةُ تكونُ غالباً في الشرِّ والسيء من الأفعال والأعمالِ والأقوالِ. يقول سبحانه في سورة ق: (ولقد خلقنا الإنسانَ ونعلمُ ما توسوسُ به نفسُهُ)، فالحديث عن الوصف المطلقِ للإنسان بوصفِهِ إنساناً، أي المندفعِ في سلوكه بدافع الحاجات العضوية والغرائز، وليس ذلك المؤمن الذي اهتدى إلى الحق بإذن الله، فلا يندفع بمجرد دافع الحاجات العضوية والغرائز، وإنما هُذِّبَتْ دوافعُه السلوكية لتتناسبَ مع مفاهيمِه المنبثقةِ والمبنيةِ على العقيدةِ الصحيحةِ، فوسوسةُ الإنسانِ بوصفهِ إنساناً ليست خيراً، ولا تكون خيراً إلا بتدخّلِ العقيدةِ والمفاهيم الصحيحة المنبثقة عنها والمبنية عليها.

في صدورِ الناسِ:

في: حرفُ جرٍّ مبنيٌّ على السكونِ، لا محل له من الإعراب، ومعناه هنا الظرفية، إذ الصدورُ هي محلُّ الوسوسةِ.

صدورِ: اسمٌ مجرورٌ بحرف الجر (في)، وهو مضافٌ.

الناسِ: مضافٌ إليه مجرورٌ.

والصدور جمعُ صَدْر، وهو محلُّ القلبِ الذي هو محلُّ الوسوسةِ، ومحلُّ المشاعر والأحاسيس والدوافعِ النفسية، قال تعالى: (فإنها لا تعمى الأبصارُ ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور).

والجارُّ والمجرورُ (في صدور) متعلقانِ بالفعلِ المضارعِ (يوسوسُ).

من الجنةِ والناسِ:

منْ: حرفُ جرٍّ مبنيٌّ على السكونِ، تحركَ بالفتحِ نطقاً لالتقاء الساكنينِ، نونِ (منْ)، ولام (الجنة)، فتحركت النونُ الساكنةُ إلى الفتحِ لأنه أخفّ الحركاتِ، والألف في أول كلمة (الجنة) ألفُ وصلٍ، أتيَ بها للتوصلِ إلى النطقِ بالساكنِ وهو لام التعريفِ.

الْجِنَّةِ: اسمٌ مجرورٌ بحرفِ الجرِّ (من)

والجارُّ والمجرورُ متعلقانِ بصيغةِ المبالغةِ (الوسواس)، لأنّ الجارّ والمجرورَ يتعلقانِ بالفعلِ أو بما يعملُ عملَه، وصيغةُ المبالغةِ من المشتقاتِ التي تعملُ عملَ فعلها. أو متعلقانِ بمشتقٍ محذوفٍ صفةٍ للوسواس، والتقدير: (من شرِّ الوسواسِ الخناس... الكائنِ من الجنةِ والناسِ).

وحرف الجرِّ (من) معناهُ التبيين، أي بيان النوع، أي بيان لنوع الوسواس أنه كائن من نوع الجنة ونوع الناس.

والجنة: اسمُ جمعِ جِنِّيٍّ بياءِ النَّسَبِ إلى نوعِ الجنِّ، فالجني الواحد من نوع الجن، كما يقال : إنسي للواحد من الإنس.

والناس: الواوُ حرفُ عطفٍ، و(الناسِ) معطوفٌ على (الجنةِ)، مجرورٌ. والعطفُ عادةً على نيةِ تكرارِ العاملِ كما يقولُ النحويون، والتقدير: (من الجنة، ومن الناسِ).

ونظمُ السورةِ عجيبٌ، فهي خمس آياتٍ، فيها إحدى وعشرونَ كلمة مع التكرار، استخدِمَ فيها واحدٌ وعشرونَ حرفاً، تكررت ثمانين مرة، لكنا نجدُ منها خمسة تكررت أكثر من خمسين مرة، وهي (الألف، والسين، واللام، والنون، والواو) فالألف والواوُ حروف علّة، وهي أسهلُ الحروفِ نطقاً، واللامُ والنونُ من حروف الذلاقةِ، وهي سهلة النطقِ، يشترط وجود حروف الذلاقة في الكلمات الطويلة لتسهيل اللفظ بها، وحرف السين الأسناني المهموس، سهل النطق، المناسب للوسوسة المستعاذِ منها في السورة. ترتّبت هذه الحروفُ ترتيباً عجيباً تجري على اللسانِ بسلاسةٍ ويسرٍ، يتلوها الطفلُ الصغيرُ بسهولةٍ ويسرٍ.

وهي جملةٌ واحدةٌ كبرى، تضمنت جملة صغرى، ضمت فكرةً عظيمةً وهي الاستعاذة الخاصة بشرّ الوسوسةِ، والتعوّذُ بثلاث صفاتٍ عظيمة لله تعالى (الرب، الملك، الإله)، من ثلاث صفاتٍ خطيرةٍ للمستعاذِ منه (الوسواس، الخناس، الموسوسِ في صدور الناس)، وثلاثة مصادرَ للوسوسة (وسوسة الشيطان الذاتية، ووسوسة الشيطان للغير لإيقاع الشر بالمستعيذ، ووسوسة نفوس الناس الآخرين لإيقاع الشر بالمستعيذ).

ولكنّ المقامَ لا يتسّعُ لحصرِ عجائبِ نظمِها، وأسرارِ إعجازِها، لكنها من حكيمٍ حميدِ، جُمِعَتْ فيها المحامدُ النظميةُ بشكلٍ عجيب، يعجزُ كل البشرِ عن الإتيانِ بمثله، مع أنها جملةٌ واحدةُ من إحدى وعشرين كلمة وواحدٍ وعشرين حرفاً.

يتبع إن شاء الله.

 

أبو محمد خليفة

23-12-2013

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

سورة الناس (3)

 

 

وقد تكرر في السورةِ استخدام الإضافة، ونقف مع معاني الإضافة التي استخدمت فيها في اللغة:

 

فالإضافةُ في لغةِ العربِ قسمانِ: الإضافةُ المَحْضةُ، أو المعنوية، والإضافةُ غير المحضةِ، أو اللفظية.

 

فالإضافةُ غيرُ المحضةِ هي التي يكونُ المضافُ فيها مشتقاً، كاسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ، كقولِهِ تعالى: (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ) وقولِه تعالى: (فَالِقُ الإِصْبَاحِ). ففيها معنى الْحَدَث، ومن حيثُ المعنى هنا فيها إضافة الفاعلِ إلى مفعولِه. وكقولنا (حَسَنُ الوجهِ) وقولنا: (مهضومُ الحقِّ) أو (مضروبُ الأبِ) فيضافُ العاملُ إلى معمولهِ، وهناك تفصيلٌ في كتبِ النحوِ حولِ اكتسابِ المضافِ التعريفَ أو التخصيصَ لا مقامَ له هنا.

 

والقسم ُ الثاني، الإضافةُ المحضةُ، وتأتي لواحدٍ من ثلاثةِ معانٍ: إما بمعنى اللام، أو بمعنى من، أو بمعنى في، وبالمثالِ يتضحُ الْمَقالُ، ففي قولِهِ تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) جاءت إضافةُ المكرِ إلى الليلِ بمعنى في، أيْ: مكرٌ في الليلِ والنهارِ، إذ الليلُ والنهارُ ظرفانِ، والظرفُ هو محلُّ الْحَدَث، أيْ محلُّ المكرِ الذي مَكَروه، وفي قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) فإنّ معنى الإضافةِ هنا اللامُ، فاليدان اللتان حُكمَ عليهما بالهلاكِ هما لأبي لهب، وهنا مجازٌ مرسلٌ، حيثُ أطلقَ الجزءَ وأرادَ الكلَّ، أطلقَ اليدينِ وأرادَ أبا لهبٍ، وخصَّ اليدينِ بإسنادِ الهلاكِ إليهما لكثرةِ الأذى الصادرِ من أبي لهب وبخاصةٍ أذى اليدينِ. أما قولُنا: (ثوبُ حريرٍ) أو: (خاتمُ ذهبٍ)، فالإضافةُ هنا بمعنى (من)، والتقديرُ: ثوبٌ من حريرٍ، وخاتمٌ من ذهبٍ.

 

والإضافةُ المعنويةُ أو المحضةُ، تُكْسِبُ المضافَ تعريفاً إنْ كانَ المضافُ إليهِ معرفةً كقولنا (ربّ الناس)، أمّا إن كانَ المضافُ إليه نكرةً فإنَّ المضافَ يتخصص، أيْ: يكتسبُ تخصيصاً، كقولنا (كتابُ نحو).

 

والمضافاتُ في سورةِ الناسِ: (رب الناس)، (ملك الناس)، (إله الناس)، جاءت الإضافةُ فيها بمعنى اللامِ، فهو سبحانه ربٌ للناسِ، وملكٌ للناس، وإلهٌ للناسِ، معَ أنه ربٌ لغيرهم، وملكٌ لغيرهم، وإلهٌ لغيرهم، وقد سبق ذكرُ ذلك.

 

اشتملت هذه الإضافات الثلاثُ على قواعد الإيمان، وتضمَّنت معاني أسمائه الحسنى، أما تضمُّنها لمعاني أسمائه الحسنى، فإنَّ الربَّ هو القادر، الخالق، البارئ، المُصور، الحيُّ، القيوم، العليم، السميع، البصير، المحسن المنعم، الجوَّاد، المُعطي، المانع، الضَّار، النافع، المُقدِّم، المؤخِّر، الذي يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقّه من الأسماء الحُسنى.

 

وأما المَلك، فهو الآمر، الناهي، المعز، المذل، الذي يصرِّف أمور عباده كما يحب، ويقلِّبهم كما يشاء، وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى كالعزيز، الجبّار، المتكبّر، الحَكم، العدل، الخافض، الرافع، المُعز، المذلّ، العظيم، الجليل، الكبير، الحسيب، المجيد، الوالي، المُتعالي، مالك المُلك، المُقسط، الجامع، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك.

وأما الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحُسنى.

 

وإن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحُسنى والصفات العُلى، لكنّه لم يردْ في هذه السورةِ للاستغناء بالأسماءِ الثلاثة (رب، ملك، إله) عن استخدامه، فقد تضمَّنت هذه الأسماء الثلاثةُ جميع معاني أسمائه الحُسنى، فكان المُستعيذ بها جديراً بأن يُعاذ، ويُحفظ، ويُمنع من الوسواس الخنَّاس، ولا يسلَّط عليه.

 

أبو محمد خليفة

26-12-2013

 

عن صفحة:

 

 

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...