اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

سلسلة حلقات للدكتور إياد القنيبي


أبو عائشة

Recommended Posts

الحلقة الأولى: لمن يقول: يجب حل مشاكل المجتمع قبل تطبيق الشريعة

 

هذه السلسلة هي صوت من الأصوات المنادية لإخواني العاملين للإسلام في البلدان التي سقطت فيها الأنظمة فأُعطوا فيها الفرصة لقيادة الشعوب، أن أيها العاملون للإسلام احذروا من الانزلاق وتقديم التنازلات. وكذلك صوت أن أيتها الشعوب الإسلامية: الإسلام لم يدخل المعركة بعد في كثير من الساحات التي ينادى فيها بطروحات يقال أنها إسلامية. فإذا ما أخفق الإسلاميون في محاولاتهم لإنقاذكم فلا تقولوا (جربنا الإسلام فيما جربنا ولم ينفعنا)! فكثير من هذا الذي ترون ليس تمثيلا صحيحا للإسلام، وإخفاقه ليس إخفاقا للإسلام.

 

دفعني إلى البدء في هذه السلسلة ما نسمعه من بعض العاملين للإسلام هدانا الله وإياهم من أنهم إن وصلوا إلى الحكم فلن يفرضوا أحكام الشريعة دفعة واحدة بل سيتدرجون في تطبيقها. وهذا الظن أن لإنسان أن يتدرج في تطبيق الشريعة مما لا نرتضيه لمسلم أن يعتقده فضلا عن أن يقول به العاملون للإسلام. لذا فهذه مناصحة لإخواني أسأل الله تعالى أن يهدينا فيها إلى الصواب وأن يأخذ بنواصينا إلى الحق أخذا رفيقا.

 

وكون الموضوع متشعبا جدا فإني سأعالج في كل حلقة نقطة واحدة بإذن الله. وأتوقع أن تطول السلسلة لكنها نافعة بإذن الله. فلن يجد القارئ أو السامع مبحثا متكاملا في كل حلقة على حدة، ولا بد أن تثار لديه أسئلة كثيرة. لكن كل ما يثار عادة سيتم الإجابة عنه في حلقات أخرى بإذن الله.

 

1) الذين يقولون بالتدرج في تطبيق الشريعة من حججهم أنه لا بد بداية من القضاء على الفقر والبطالة والفساد وانعدام الأمن: أطعم الناس ووفر لهم الأمن ثم طبق الشريعة.

هذا الطرح مثخن بالجراح والتناقضات.

فأولا: نحن كمسلمين نؤمن بأن الفقر والبطالة والفساد هذه كلها من نتائج تغييب الشريعة. قال تعالى:

((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)) من معاني الفساد كما ذكر المفسرون قلة البركة وضيق العيش وكساد السلع وغلاء الأسعار. ما المطلوب حتى يُرفع هذا الفساد؟ ((لعلهم يرجعون)) أي إلى شريعة الله كاملة.

وقال تعالى: (

وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون

)). وتغييب شريعة الله من الكفر بأنعمه...يتقلب العبد في نعم الله ثم لا ينصاع لأمره. هذا هو سبب الخوف والجوع.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه ابن ماجة والحاكم والبزار والمنذري:

((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا.

ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم

ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا

ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم

وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتحروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم))

انظر إلى الحال الموصوفة في هذا الحديث: كلها أشكال من تعطيل الشريعة: ظهور الفاحشة من نتائج تعطيل حد الزنا والسماح بما يسمى الحريات الشخصية، منع الزكاة لأن الدولة ليست إسلامية تفرض الزكاة على من تجب عليه، نقض عهد الله وعهد رسوله أوضح أشكاله ترك تطبيق الشريعة بشموليتها، ثم نص النبي على الحكم نصا فقال (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله)...هذه المقدمات كلها هي أشكال من تعطيل الشريعة. ما نتائجها؟: الأمراض، جور السلطان (يعني الدكتاتورية)، منع المطر، احتلال البلاد وضياع الثروات، أن يكون بأس المسلمين بينهم، يعني الخوف والحروب وقطع الطرق وضياع الأمن.

هذه كلها نتائج تعطيل الشريعة...ما نعانيه اليوم هو من تعطيل الشريعة. وهؤلاء يقولون: أبق الشريعة معطلة إلى أن نتخلص من الفقر والفساد وانعدام الأمن! يريدون مداواة المرض بسببه!

في حديث ((إذا تبايعتم بالعينة)) الذي نعرفه كلنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم))...هذا هو الحل: أن نرجع إلى ديننا، أن نرجع إلى شريعتنا، وإلا سنبقى ندور في حلقة مفرغة، نريد علاج مشاكلنا بما يزيد هذه المشاكل! كالمستجير من الرمضاء بالنار.

 

ما الحل؟ الحل في إقامة شريعة الله. قال الله تعالى: ((ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ( 96 ) )) (الأعراف). وقال تعالى:

((ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ( 64 ) ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ( 66 ) )) (المائدة).

 

فإذا كنا نريد القضاء على الفقر والبطالة والفساد والخوف والفوضى فليس لنا إلا شريعة الله تعالى، وإلا فالسراب والركض وراء الجزرة المربوطة بالعصا!

 

الخلاصة: لن تحل مشاكل المجتمع قبل تطبيق الشريعة.

 

وإلى لفتة أخرى في الحلقة القادمة بإذن الله.

 

[media=]

[/media] تم تعديل بواسطه ورقة
تصحيح كتابة الآية عملا بملاحظة بعض الاخوة بارك الله فيهم
رابط هذا التعليق
شارك

لا تغضوا من قيمة الشريعة

 

ثم هذا الطرح: أن (دعونا نعالج مشاكل المجتمع ثم نطبق الشريعة)، فيه غض من قيمة دين الله تعالى! فإن كانت القوانين الوضعية والحلول البشرية المناقضة للشريعة...إن كانت تصلح حياة الناس وتقضي على مشاكله، فما فائدة الشريعة إذن؟ هل يقصد بهذا الطرح أن علينا أن نصلح دنيانا بالقوانين الوضعية ثم نصلح آخرتنا بتطبيق الشريعة؟ وهل جاءت الشريعة إلا لصلاح الدنيا والآخرة؟ أليس مُنزل الشريعة سبحانه وتعالى هو الأعلم بما يحتاجه عباده في دنياهم؟ ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)). ألم ينزل الله الشريعة رفقا بالناس ومراعاة لضعفهم ولعلمه تعالى بأنهم لا يستطيعون ان يسوسوا حياتهم دون هديه؟ قال تعالى بعدما فصل احكاما من الشريعة في سورة النساء: ((( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ( 26 ) والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ( 27 ) يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ( 28 ) ))

- الله تعالى ينقذ عباده بالشريعة من قوانين وأهواء الذين يتبعون الشهوات فيقودون الناس إلى جحيم الدنيا قبل جحيم الآخرة. ويميلونهم عن صراط الهدى والبركة واليسر والخير ميلا عظيما. ثم قال تعالى: ((يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ( 28 ) )) أنزل الشريعة لعلمه بأن الإنسان ضعيف. فأراد تعالى أن ينقذه من عنت ومشقة القوانين الوضعية والأحكام البشرية. قال تعالى:

- ((( واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ( 7 ) )) هذا الخطاب موجه إلى الصحابة، أنقى الناس قلوبا وأرجحهم عقلا وأقلهم هوى. ومع ذلك يقول الله لهم أنه لو ترك نبيه يطيعهم في اختياراتهم لعنتوا، أي لأصابتهم المشقة في الدنيا. فما بالك بقوانين وضعية صاغها أناس لا نقاء قلب ولا تقوى لا يصوغون إلا عن هوى ومصالح شخصية. أنريد إصلاح أوضاع المجتمع بقوانين هؤلاء؟! ثم قال تعالى: ((ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم))، ما هو الإيمان؟ دين الله، شريعة الله.

الخلاصة: القول بعلاج مشاكل المجتمع قبل تطبيق الشريعة فيه غض من قيمة الشريعة.

نقولات: اذا كان القصد –كما يقول أصحاب هذا الاتجاه-اعداد المجتمع الاسلامي وتهيئته ليكون مجتمعا صالحا في جميع نواحيه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية .... قبل تطبيق الشريعة فلا شك أنه على الفرض الوهمي لو تحقق ذلك بدون تطبيقها فما مبرر تطبيقها اذن-فيما بعد- في نظر هؤلاء؟ (د. مفرح قوصي)

 

رابط هذا التعليق
شارك

المعنى الخطير للتدرج في تطبيق الشريعة

(نريد أن نحكم بغير ما أنزل الله لفترة من الزمن). هل هذه عبارة يقولها مسلم؟ هذه العبارة لا تختلف أبدا عن عبارة "نريد أن نتدرج في تطبيق الشريعة"، لأن هذا التدرج يعني: (نريد ألا نحكم بما أنزل الله في عدد من المسائل لفترة من الزمن)، وهي لا تختلف أبدا عن عبارة (نريد أن نحكم بغير ما أنزل الله لفترة).

فالذي سيصل إلى سدة الحكم لن يصل إلى فراغ. لو كان يصل إلى فراغ ليس فيه أنظمة ولا قوانين ولا أحكام لتصورنا أنه سيُطبق بداية 10% شريعة ثم 20% شريعة وهكذا إلى أن يصل إلى 100% شريعة، ودون أن يطبق قوانين وضعية خلال هذه الفترة. ولكان يمكن أن يقال هو يتدرج في تحكيم الشريعة ولا يَحكم بغيرها.

لكن الذي يصل إلى سدة الحكم سيصل إلى منظومة كاملة من القوانين الوضعية المحكَّمة في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والجنائي، وهذه القوانين الوضعية مخالفة لشريعة الله تعالى. فالذي يقول "أريد أن أتدرج في تطبيق الشريعة" كلامه يعني أنه سيحكم بداية بقوانين موافقة للشريعة بنسبة 50% مثلا بينما سيحكم بالقوانين الوضعية بنسبة 50%. هل لكلامه معنى آخر؟ أين يذهب حينئذ من قوله تعالى ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون))؟ ((فأولئك هم الظالمون))؟ ((فأولئك هم الفاسقون))؟

لن أدخل هنا في حكم من يحكم بغير ما أنزل الله ولن أناقش الاستحلال الفعلي والقولي ومسألة كفر دون كفر والفرق بين القضاء في المسألة مع الاعتراف بمرجعية الشريعة وتبديل الشرائع. بغض النظر عن ذلك كله، ألسنا نتفق على أن الحكم بغير ما أنزل الله حرام على الأقل، وبكل أشكاله؟ هل يقبل الإسلاميون أن يقولوا هذه العبارة؟ "نريد أن نحكم بغير ما أنزل الله لفترة من الزمن"؟ هل هناك آية تثني عليهم حينئذ؟ هل هناك آية تقول: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم المحسنون أو المعذورون؟

هل الحكم بغير ما أنزل الله كان حراما على حسني مبارك ثم أصبح حلالا للإسلاميين لأن قصدهم شريف؟ ولأن نواياهم طيبة؟ ولأنهم في المقابل يحكمون بشيء مما أنزل الله؟

أليس منهم من كان ينادي بأن من حكم بغير ما أنزل الله فهو طاغوت جعل نفسه مشرعا ليتخذه الناس أربابا من دون الله؟ إن حكم الإسلاميون بغير ما أنزل الله مرحليا بنسبة مئوية معينة فما الذي يعفيهم من هذه الأوصاف؟ هل النية الطيبة وبعض الشريعة الذي يحكمون به كاف في أن يعفيهم؟

- إذن إخواني عندما نسمع هذه العبارة "نريد أن نتدرج في تطبيق الشريعة" دعونا نفهم معناها ولوازمها. لا تختلف أبدا عن عبارة (نريد أن نحكم بغير ما أنزل الله لفترة من الزمن نقدرها نحن بناء على المعطيات).

الخلاصة: القول بالتدرج في تطبيق الشريعة معناه الحكم بغير ما أنزل الله

 

رابط هذا التعليق
شارك

قبل متابعة السلسلة أود أن أوضح مقصودي بالتدرج في تطبيق الشريعة حتى لا يحصل لبس. فبعد الحلقات الثلاثة الأولى جاءتني استفسارات واعتراضات يتلخص كثير منها في:

الاستدلال بشواهد صحيحة من الشريعة والسيرة على التدرج غير الشرعي المطروح هذه الأيام.

فالإخوة المعترضون يسمون هذه الشواهد تدرجا ويستدلون بها على صحة التدرج المطروح. وكأنني برفضي للتدرج أخالف هذه الشواهد التي يأتون بها.

بتفصيل أكثر:

مجمل ما يورده الإخوة من شواهد ويعتبرونه دليلا على التدرج إما أنه في الواقع دليل على ترتيب للأولويات في عرض الشريعة وبيانها للناس، أو دليل على وقف لحكم شرعي معين عملا بالشريعة، لأن شروط هذا الحكم الشرعية لم تتحقق فوجب العمل بحكم آخر.

أما ترتيب الأولويات في عرض الشريعة وبيانها فكاستدلالهم بحديث إرسال النبي معاذا إلى اليمن وتوجيهه أن يدعو الناس إلى الشهادتين أولا ثم الصلاة ثم الزكاة.

وأما وقف الحكم الشرعي عملا بالشريعة، فكوقف حد السرقة في حق السارق الجائع الفقير، أو كإسقاط بعض أشكال إنكار المنكر عن الحكومة الإسلامية لعجزها عنه وعدم قدرتها.

إخواننا يسمون ذلك تدرجا ثم يستدلون به على صحة التدرج المطروح في الساحة الإسلامية. ثم يقولون لي ما مفاده: إن كنت تنكر التدرج المطروح فأنت:

1) تنكر مراعاة ترتيب الأولويات في عرض الشريعة

2) تنكر وقف العمل بأحكام إسلامية عند عدم وجود شروطها

3) تنكر سقوط وجوب أحكام على الدولة لعدم قدرتها على تنفيذها

فتوضيحا لإخواني أود أن أبين أني لا أنكر أيا من هذه الأمور الثلاثة بل سأبين مشروعيتها في الحلقات القادمة بإذن الله. أنا لا أقول أن على الدولة الإسلامية الناشئة أن تبني المجتمع بناء إسلاميا في اليوم الأول وتقضي على المنكرات كلها بجرة قلم وتدخل في صراع على كل الجبهات دفعة واحدة.

لكنني في الوقت ذاته أقول: كل ما يطرحه إخواني ليس دليلا على التدرج غير الشرعي المطروح.

لأن التدرج المطروح والذي ننتقده ونقول بعدم مشروعيته في هذه السلسلة قد تحقق فيه واحد أو أكثر من المشاكل التالية:

1) لا تعلن فيه السيادة للشريعة بحيث تعتبر المرجعية العليا الحاكمة على القوانين من البداية أو

2) يُستأذن فيه مجلس الشعب في تطبيق الشريعة أو

3) تُقر فيه مرحليا قوانين وضعية مخالفة لأحكام الشريعة أو

4) تنفذ فيه قوانين مخالفة لأحكام الشريعة موروثة من الحكم غير الإسلامي أو

5) يقال فيه بالتدرج في التشريع وكأن الشريعة تتنزل من عند الله تعالى من جديد أو

6) يربط فيه تطبيق الشريعة بحل مشاكل الناس الاقتصادية أو الأمنية أولاً أو

7) يقال فيه أن علينا ترسيخ العقيدة والأخلاق الإسلامية لدي الناس قبل تطبيق الشريعة أو

8) يُربط فيه تطبيق الشريعة برضا القوى الداخلية أو الخارجية المعارضة للشريعة أو

9) يقدم فيه الإسلاميون في سبيل الوصول إلى الحكم تنازلات ستبقى آثارها وتمنعهم من تطبيق الشريعة إن وصلوا إلى الحكم

هذه هي المشاكل في التدرج المطروح. وسنفرد حلقة خاصة لبيان عدم مشروعية كل منها بإذن الله.

تبقى هنا نقطة:

موضوعنا هذا ضخم ومتشعب للغاية. فلا بد من تفكيكه لعناصر صغيرة للرد على الشبهات واحدة تلو الأخرى ومن ثم بيان الحل الشرعي الذي على الأمة أن تنتهجه. وأنا الآن أسير بخطة معينة لذلك. فأتمنى على إخواني الذين يوردون الاعتراضات أن يناقشوا الجزئية التي أطرحها تحديدا بدلا من أن يستعجلوا الأمور بإيراد شبهة جديدة. فمثلا، في الحلقة الأولى بينت أنه لا يمكن حل مشاكل المجتمع قبل تطبيق الشريعة. هل هناك خلاف على ذلك؟ أتوقع ممن سيناقشني أن يناقش هذه النقطة بالذات، بأن يقول لي –مثلا-: (ما أوردته من أدلة لا يشهد لصحة استنتاجك، بل هناك ما يدل على أنه يمكن حلها قبل تطبيق الشريعة). لكن إخواني يتركون هذه النقطة ويقولون: (لكن عمر رضي الله عنه عطل حد السرقة عام المجاعة). إخواني هذه شبهة أخرى تماما سيأتي دورها إن شاء الله. إن ناقشتها مع المعترض على شكل رد مجتزأ فلن نوفي الموضوع حقه وسيختل الترتيب ويخرج القطار عن السكة!

كذلك في الحلقة الثانية بينت أن القول بحل المشاكل قبل تطبيق الشريعة فيه غض من قيمة الشريعة. هل طرحي هذا كان خاطئا؟ دعونا نناقش هذه الجزئية. في الحلقة الثالثة بينت أن الذي يصل إلى الحكم لن يصل إلى فراغ بل سيحتاج إلى إنفاذ أحكام اجتماعية واقتصادية وسياسية وجنائية. فإن حكم بأحكام موافقة للشريعة في بعض ذلك فهو في المقابل سيحكم بغير ما أنزل الله في البعض الآخر. أتوقع من المعترض أن يناقش هذه الجزئية بالذات.

إخواني بغير ذلك لن نصل إلى عرض مرتب متكامل مؤسس على أسس صحيحة. وللمستعجلين جدا أقول: كنت قديما قد خطبت في سلسلة بعنوان (فقه التنازلات)، والسلسلة موجودة على موقع الفرقان. فللأخ المتعجل أن يرجع إليها وإن كانت لا تغطي جميع ما أود عرضه، لكنها قد تطمئنه إلى أن هناك جوابا لما يورد من شبهات.

إخواني الموضوع متعلق بأزمة الأمة وسبيل خلاصها وتحقيق عبوديتها لله بإخضاع الحياة لشرعه...المسألة متعلقة بسعادة الدارين. فتستحق منا بذل الجهد وطول النفس بارك الله فيكم.

فخطتنا المرحلية للحلقات القادمة بإذن الله أن نوضح أولا أن ما يطرحه إخواننا المدافعون عن التدرج هو في الحقيقة دليل على ترتيب للأولويات في بيان الشريعة أو سقوط أحكام شرعية معينة وعمل بأحكام شرعية أخرى من الشريعة، وليست أدلة على التدرج الذي يدافعون عنه. ثم نبين نقاط الخلل في التدرج المطروح نقطة بقطة بإذن الله.

 

والسلام عليكم ورحمة الله.

 

رابط هذا التعليق
شارك

الحلقة الخامسة: تقديم الأولويات في بيان الشريعة

 

يحتج إخواننا المدافعون عن التدرج في تطبيق الشريعة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب)). الحديث صحيح رواه البخاري.

لكن إخواني أين الدلالة فيه على التدرج المطروح في تطبيق الشريعة؟

هذا الحديث إنما يعلمنا مراعاة الأولويات في بيان الشريعة للناس. فالشهادتان أصل الإسلام وأساسه، فليس من الحكمة مخاطبة الناس بالصلاة وهم لم يقروا بالشهادتين. ثم الصلاة أهم الأركان وهكذا.

- لكن هل قال النبي لمعاذ: لا تعلن سيادة الشريعة على أهل اليمن لأن فئات منهم سترفض هذا الإعلان؟

- هل قال له: إلى أن يتعلم أهل اليمن الصلاة ويؤدوا الزكاة أبق قوانينهم المخالفة للشريعة على ما هي عليه واحكم بينهم بما تعارفوا عليه من هذه القوانين؟

- هل قال النبي لمعاذ: إن لم يطيعوك ولم يصلوا فتدرج معهم وفق جدول زمني مرسوم وأكد لهم أنك لن تفرض عليهم الشريعة فرضا بل ستستشيرهم في ما يأذنون بتطبيقه من الشريعة؟

- هل قال له: أعطيك الصلاحية بتقدير الوقت المناسب لإلغاء القوانين المعمول بها في اليمن وإحلال قوانين الشريعة بدلا منها؟

- هل قال له: بما أن القرآن لم يحرم الخمر دفعة واحدة فأنت كذلك لا تمنعها عن أهل اليمن دفعة واحدة؟

- هل قال له: إذا وجدت فقرا وقلة أمن في اليمن فوفر الطعام للمحتاجين وفرص العمل للعاطلين عن العمل وأثبت جدارتك الاقتصادية قبل تطبيق الشريعة؟

- هل قال النبي لمعاذ: ركز في البداية على الجانب العقدي والأخلاقي ولا تطبق الحدود لأن أهل اليمن قد يستثقلونها؟ فإن سرق سارق أو زنى زان فاحكم بينهم بأحكامهم التي تعارفوا عليها؟

- هل قال النبي لمعاذ: احرص على رضا أهل اليمن ولو على حساب الشريعة وأكد لهم أنك تحترم رأي أغلبيتهم لئلا ينقضوا عليك أو يتعاونوا مع الفرس والروم ضدك؟

هل قال له: طمئن أهل اليمن بأن الرافضين منهم للشريعة سيكونون فئة محترمة مصونة سيتم إشراكها في بناء المجتمع اليمني الجديد واتخاذ القرارات؟

هل هناك رواية من روايات الحديث لا نعرفها قال فيها النبي شيئا من ذلك؟ وهل يُتصور أن يأمر النبي معاذا بشيء من هذا؟

- ثم إن الحديث لم يذكر الصيام. فلو أن النبي أرسل معاذا في رمضان فهل يعني كلامه لمعاذ ألا يطالِب أهل اليمن بالصيام ذلك العام من قبيل التدرج؟ وهل لو طالبهم لأثم على اعتبار أنه خالف أمر النبي بالتدرج على حد تعبيرهم؟

- هل لو أُرسل معاذ قبيل شهر رمضان فإنه متروك له الحرية في تقدير أن يفرض عليهم صيام رمضان من ذلك العام أم لا لأنه المخول بتحديد سرعة التدرج؟

- ثم إن شرائع الإسلام كثيرة جدا، والنبي لم يذكر منها إلا الشهادتين والصلاة والزكاة. فماذا عن باقي الأوامر والاحكام؟ هل يُعقل أن النبي ترك لمعاذ تقدير الوقت المناسب لفرض الصيام والحج ونصرة المظلوم ومنع الربى والخمر والسرقة والتبرج والاحتكار والرشوة؟

ثم إن المنادين بالتدرج يقولون أنه ينبغي التركيز على الجانب العقدي بداية قبل تطبيق الأحكام والجوانب التشريعية من الشريعة، والنبي لم يذكر من الجانب العقدي إلا الشهادتين. فلو كان ما ذكره على سبيل الحصر، فإنه يعني أنه كان على معاذ أن يأمر أهل اليمن بالصلاة والزكاة قبل الإيمان باليوم الآخر والكتب والملائكة والقدر. فهل يعقل هذا؟

- ثم هل في الحديث ما يدل على ان أهل اليمن لو لم يجيبوا معاذا إلى الإقرار بالشهادتين فإن النبي كان سيقرهم على ذلك ويدعهم؟

إذن إخواني الحديث لا علاقة له بالتدرج المطروح. والمسألة واضحة بشيء من التدبر. وردت أحاديث كثيرة يأمر فيها النبي أقواما أسلموا بأمور وينهاهم عن أمور. ونلاحظ أنه نوع في أوامره ونواهيه. فمثلا عندما وفد عليه وفد عبد القيس أمرهم بِأَرْبَعٍ وَنَهاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالإِيمانِ بِاللهِ وَحْدَهُ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الإِيمانُ بِاللهِ وَحْدَهُ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: شَهادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقامُ الصَّلاةِ وَإِيتاءُ الزَّكاةِ وَصِيامُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمغنَمِ الْخُمُسَ. وَنَهاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الْحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالمُزَفَّتِ (وهي أوعية كان النبيذ يصنع فيها). والحديث متفق عليه. فهنا ذكر النبي الصيام وإعطاء الخمس من المغنم ونهى عما يُصنع فيه الخمر بخلاف ما فعل مع معاذ. فهل هذا يدل على أنه تدرج بالتشريع أو التطبيق لوفد عبد القيس تدرجا مختلفا عما تدرجه مع أهل اليمن؟ المسألة لا علاقة لها بالتدرج. وهذه الأوامر والنواهي ليست على سبيل الحصر.

الحديث إنما يعلمنا أنك إذا أتيت أناسا يجهلون شرائع الإسلام فإنك ترتب الأولويات في عرض هذه الشرائع عليهم، حتى لا تزدحم عليهم هذه الشرائع فلا يستطيعوا تعلمها والعمل بها. فالصلاة أمر آني فوري يحتاجه أهل اليمن فلا بد لهم من تعلمه، أما الصيام فيمكن تأخير تعليمه وتعليم نواقضه إلى قبيل رمضان، وكذلك الحج فإنه واجب على التراخي مرة في العمر. ومن قواعد الأصوليين أنه يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة إليه.

كذلك نفهم من الحديث مسألة مهمة جدا، وهي أن أهل اليمن بمجرد أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإنهم قد أعلنوا العبودية المطلقة لله وأقروا وخضعوا لسيادة الشريعة. فلا يؤمرون بأمر إلا ويمتثلون له لأنه أمر الله، ولا تستجد قضية بعد ذلك إلا ويحكم فيها معاذ بحكم الله. فأين هذا من التدرج الذي ينادي به البعض؟ إنما هو ترتيب في بيان وتعليم فرائض الإسلام، لا تدرج في العبودية لله والخضوع لأحكامه، فمن لحظة إعلان العبودية والخضوع المطلق بالشهادتين فقد طبقت الشريعة.

فإن لم يحج أحد من أهل اليمن بعد ذلك الإعلان لأن موسم الحج لم يأت بعدُ، وإن لم يزنِ أحد منهم فيقام عليه الحد، فهل نقول أن الشريعة لم تطبق بشكل كامل بعد؟ لا طبعا بل هي مطبقة تطبيقا كاملا. أين هذا من المناداة بإبقاء القوانين الوضعية على ما هي عليه والاحتكام إليها إلى حين أسلمتها من خلال العملية الديمقراطية؟!

ثم إخواني عبر تاريخ الفتوحات الإسلامية في عهد النبي والخلفاء الراشدين ومن بعدهم، هل ورد أنه حصل تدرج في تطبيق الإسلام بحيث يُسمح لمن دخل في الإسلام أن يشرب الخمر أو يزني سنة مثلاً ثم بعد ذلك يُمنع؟! بل كانت الأحكام تطبق كلها. وهذا متواتر مستفيض في تطبيق الأحكام على البلاد المفتوحة. هل عند أحد مثال من التاريخ لا نعرفه؟ فليأتنا به.

 

بقيت فائدة عظيمة في الحديث أود الحديث عنها. لكن حتى لا أطيل عليكم سنناقشها في الحلقة القادمة بإذن الله.

خلاصة الحلقة:

حديث معاذ دليل على ترتيب الأولويات في بيان شرائع الإسلام لأناس خضعوا لأحكام الله واستعدوا لتنفيذها، وليس دليلا على التدرج في تطبيق الشريعة.

 

رابط هذا التعليق
شارك

الحلقة السادسة : لماذا قضيتنا رابحة؟

في الحلقة الماضية ذكرنا فوائد من حديث معاذ رضي الله عنه. واليوم نحن مع فائدة مهمة جدا.

المتابع لهذه الحلقات عندما يسمع أننا نطالب الإسلاميين بعدم تقديم التنازلات عن شيء من الشريعة قد يظن أننا نطالبهم بأن يخرجوا على الناس ويقولوا لهم:

"نحن إذا حكمناكم فسنفرض الحجاب على النساء ونمنع الخمر ونقطع يد السارق ونجلد الزاني".

في الواقع نحن نحذر إخواننا أصحاب المشروع الإسلامي من أن يُجَروا إلى نقاش الفرعيات بدلا من الأصوليات...من أن يُجروا إلى نقاش الأحكام بدلا من بيان العقيدة. نحن كأصحاب مشروع إسلامي لسنا مكلفين الآن أن نرد على توجسات الناس حتى نقنعهم باختيار الشريعة. قضيتنا الكبرى الآن هي أن نبين للناس أنهم عباد لله وحده...لا تحرر لهم إلا إذا عبدوا الله وحده. وهذه العبودية لا تتحقق إلا بتطبيق الشريعة بمفهومها الشامل.

قضيتنا الكبرى هي أن نبين للناس أنه لا يصح إسلامهم إلا إذا خضعوا لشريعة الله، وأن قبول الاحتكام إلى غير الله شرك أكبر.

نحن إذا أغرقنا في الحديث عن تفاصيل الشريعة وفي الدفاع أمام العلمانيين عن نظام العقوبات الإسلامي...إذا استطردنا في الحديث عن الحلول التي تقدمها الشريعة لمشاكل الناس الاقتصادية والاجتماعية... فإننا نضيع قضية العبودية هذه...لأننا سنبدو حينئذ كتاجر يروج سلعته ويحاول إقناع الزبائن بميزاتها أو الدفاع عن عيوبها...كأننا نكرس لدى الناس مفهوم أن الشريعة خيار من الخيارات المطروحة يمكن مقارنته بالخيارات الأخرى بناء على ميزاتها الدنيوية... بينما علينا في الواقع أن نقول للناس: ألستم مؤمنين بالله؟ فليس لكم حينئذ إلا قوله تعالى:

((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم))...فأيتها الشعوب... الشريعة لا غنى عنها ولا خيار غيرها!

نحن لا نبيع سلعة لنجد أنفسنا مضطرين أن نبين لزبائننا ما فيها حتى يشتروها على نور ولا يقولوا لاحقا أننا خدعناهم! نحن بالمناداة بالشريعة نطالب الشعوب الإسلامية أن تلتزم بتبعات (لا إله إلا الله) التي نطقت بها، والتي تعني الرضا بالله ربا ومشرعا وحاكما...((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما))...نحن لسنا في مأزق حتى ندافع عن طرحنا، بل الذي يدعي الإسلام ثم يرفض الشريعة هو الذي في مأزق الازدواجية والنفاق والتناقض.

هذه الفائدة من حديث معاذ نفهمها من أنه عليه الصلاة والسلام لم يوجه معاذا أن يعرض تكاليف الشريعة كاملة على أهل اليمن ليدرسوها كخيار ويقارنوها بالخيارات الأخرى ثم يقبلوها او يرفضوها. إن شهدوا الشهادتين فليس من ثَم إلا الخضوع والتنفيذ.

إذن إخواني: نقطة مهمة جدا...لا ينبغي استخدام الحلول التي تقدمها الشريعة للمشاكل، والرفاهية التي تحققها للمجتمعات كميزة تسويقية للشريعة. هذه إنما هي بركات وهدايا تأتي تبعا...ميزة الشريعة أنها دين الله...((الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء)) هل العلمانيون يخلقون أو يرزقون أو يميتون أو يحيون؟ هل البرلمانات تفعل من ذلك شيئا؟ فكيف يشرعون؟

((الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون)).

ثم هنا مسألة مهمة جدا... نحن إن نادينا بتطبيق الشريعة على اعتبار أنها تحل مشاكل المجتمع وتحقق الرفاه الدنيوي، إذا استجاب الناس لدعوتنا هذه وقبلوا بتطبيق الشريعة... هل نكون قد حققنا المقصود حقيقة؟ أبدا! فالمقصود من تطبيقها هو العبودية لله تعالى. فإن اختارتها الشعوب لميزاتها الدنيوية فإنها لا تحقق معنى العبودية. ثم إن اختيار تطبيق الشريعة بصدق في بلد ما يتوقع أن يعقبه فترة من التضحيات أمام أعدائها في العالم، وهي فترة كفيلة بأن تجعل من اختار الشريعة للدنيا ينكص على عقبيه.

إخواني هذا دين الله! أجلُّ من أن يعرض على الرف مع غيره ويعدَّل فيه ليوافق أهواء الزبائن!

في هذه السلسلة سأبين –بإذن الله- أنه ليس هناك شيء من الشريعة نستحيي منه. بل والله كل جانب منها بحد ذاته مفخرة نرفع بها رؤوسنا. وبإذن الله سأبين جمال نظام العقوبات الإسلامي ورحمته! نظام العقوبات! نعم نظام العقوبات. لكن علينا أن نعلم أن هذا كله ليس ما نُقنع به الشعوب. لا يجوز أن نعرض هذه المفاضلة على أنها ميزتنا التسويقية! نقارن شريعة الله بحثالات أفكار واضعي القوانين الوضعية الوضيعة؟!

ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا!

إنما ميزة الشريعة أنها دين الله...((أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا)).

طيب إذا سأل المماحك حول نظام العقوبات مثلا: ماذا تفعلون بمن يخالف الشريعة؟ يقال له: ولماذا يخالفها؟ من يسأل سؤالا كهذا فهو دلالة أنه يبطن سوءا، لأنه يريد مخالفة أحكام الله. فلماذا يخالفها؟ إخواني، الذين كانوا يبايعون النبي على الإسلام ما كانوا يسألونه (ماذا ستفعل بنا إن خالفنا أوامر الشريعة، بين لنا قبل أن نبايعك) لأنهم يعلمون أن هذا سؤال لا يُسأل بل هو يدل على عدم الجدية في المبايعة.

ونحن يُراد لنا من مناوئي الشريعة أن نُغرق في الردود على الشبهات المثارة عن الشريعة ونلتهي عن طرح ميزتها العظمى...ألا وهي أنها شريعة الله، خالق الإنسان والأعلم بما يَصلح له ويُصلحه. هذه هي الميزة التي تجعل قضيتنا هي الوحيدة الرابحة والتي ينبغي أن نركز عليها.

إذن عند الحديث عن الشريعة كنظام يجب أن تحتكم إليه الشعوب الإسلامية علينا أن ننتبه إلى عدم الانشغال بالدفاع عن جزئيات الشريعة أمام الشبهات. قد تقول: لكن المعارضين للشريعة سيتهموننا حينئذ بأننا نخبئ أجندة سرية...أيها الإخوة! المعارضون للشريعة لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم. إن رفضنا الانشغال بالردودوركزنا على العبودية فسيقولون: أجندة سرية، والذي يرد على الشبهات يجادلونه فيها جدالا يضيع قضية العبودية، والذي يعدهم باحترام رغباتهم حال استلام الحكم سيقولون أنه يبطن غدرا فيدعي احترام قواعد اللعبة الديمقراطية لكنه سينقلب عليها إذا مُكن. ولن يرضوا عن أحد حتى يتبع ملتهم. فلنلزم الحق لنكسب معية الله.

خلاصة الحلقة: الشريعة ليست خيارا يقارَن بالأنظمة الوضعية، وميزتها هي أنها دين الله، خالقنا ورازقنا ومميتنا ومحيينا.

 

من النقولات: (ان تطبيق الشريعة الإلهية لا يراد منه اصلاح المجتمع الانساني فحسب بل هوتنفيذ أمر الله وتحقيق العبودية له فالمسلم لا ينظر الى تطبيق الشريعة على أنه مجرد احلال نظام جديد صالح محل نظام ثبت عدم صلاحيته بل ينظر اليه-أيضا-نظرة ايمانية وهي : أنه أمر من الله تعالى واجب التنفيذ لا يصح التوقف فيه لأي مبرر كان سواء كان المجتمع مهيئا أو غير مهيئ كما أن الأخذ به وتطبيقه من لوازم الايمان بالله تعالى ومن لوازم الاقرار بحاكميته على عباده والانقياد له فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه) (د. مفرح القوصي).

 

رابط هذا التعليق
شارك

شبهة تعطيل حد السرقة عام المجاعة

السلام عليكم ورحمة الله. إخوتي متابعي سلسلة (نصرة للشريعة)، دعونا نرتب أفكارنا. في الحلقة الرابعة بعنوان (عن أي تدرج نتكلم) وهي حلقة مهمة أرجو متابعتها مرة أخرى، ذكرت أن مجمل ما يورده المدافعون عن التدرج في تطبيق الشريعة هو أحد اثنين:

-إما أنه في الواقع دليل على ترتيب للأولويات في عرض الشريعة وبيانها للناس، لا على التدرج، وقد بينت ذلك في الحلقتين السابقتين.

- أو أنه دليل على وقف لحكم شرعي معين عملا بالشريعة، لأن شروط هذا الحكم الشرعية لم تتحقق فوجب العمل بحكم آخر.

هذا ما سنبدأ بنقاشه في هذه الحلقة.

إخواني، أكثر اعتراض وردني إلى الآن على هذه السلسلة هو أن عمر رضي الله عنه أوقف حد السرقة عام المجاعة. كيف يفهم الإخوة هذه المسألة؟ أن عمر عندما رأى الناس قد أصابهم الفقر والجوع فسرقوا لينقذوا حياتهم حكَّم عقله ونحى جزءا من الشريعة جانبا لأنه رأى أن الظرف لا يسمح بتطبيق هذه الجزئية من الشريعة.

طبعا هذا الفهم خاطئ جداً!

بداية، أود أن أنبه إلى أن هذا الأثر في أن عمر أوقف حد السرقة في عام المجاعة لم يثبت عنه أصلا. فقد رواه ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناد فيه مجهولان كما قال الألباني في (إرواء الغليل).

وعلى كل، فهذا لا يؤثر في مسألتنا لأنه لو حصل فعلا أن الناس سرقوا عام المجاعة مضطرين فإن عمر ولا بد لم يكن لينفذ فيهم حد السرقة. لماذا؟ لأن الشريعة تأمره بألا ينفذ حد السرقة في هذه الحالة.

فلا بد من توافر شروط دلت عليها الأدلة الصحيحة لتطبيق حد السرقة:

أن يكون أخذ الشيء على وجه الخِفْيَةِ، وأن يكون المسروق مالا محترماً لا عينا محرمة، وأن يبلغ المسروق النصاب وأن يأخُذَ السارق ما سرقه من حرزه الذي يحفظ فيه عادة وثُبُوتِ السرقة بشهادة عَدْلَيْنِ أو بإقرار السارق على نفسه مرتين وأن يطالب المسروق منه بماله وألا يكون للسارق شبهة في المال.

إذا لم تتوفر هذه الشروط فلا يجوز للحاكم شرعا أن يقطع يد السارق.

- إذن قلنا من الشروط أن يبلغ الشيء المسروق النصاب، وهو ربع دينارِ ذهب. دينار الذهب 4.25 غرام ذهب. فربع الدينار حوالي غرام ذهب، يعني أكثر من 300 جنيه، أو أكثر من 50 دولار أمريكي هذه الأيام. فالذي يسرق ليأكل لن يحتاج أن يسرق هذا المبلغ أو طعاما بهذه القيمة. والشريعة لا تأمر بالقطع على سرقة ربطة خبز أو دجاجة أو ما يُسد به الجوع.

دعونا نفترض أنه في عام المجاعة غلت الأطعمة جدا وسرق الفقير مضطرا ما يبلغ النصاب، سرق طعاما أو ثمن طعام يبلغ غرام الذهب. هنا الشريعة تمنع من إقامة الحد على هذا السارق لأن من شروط الحد ألا يكون للسارق شبهة في المال. والسارق مضطر فهذه شبهة تمنع إقامة الحد عليه بأمر الشريعة.

إذن إخواني المسألة ببساطة أن الشريعة هي التي منعت عمر رضي الله عنه من إقامة الحد على السارق المضطر، فليس له إلا أن يذعن للشريعة فلا يقطع في هذه الحالة. هذا حكم من داخل الشريعة، لا أن عمر عطل الشريعة وعمل برأيه. فالحد لم يجب أصلا ليسقطه عمر أو يعطله.

فعمر لم يقل سنقنن أو نطبق قانونا بشريا من خارج الشريعة هذه السنة لأن الوضع لا يسمح بتطبيق الشريعة! بل هو طبق الشريعة لا شيء غير الشريعة. فإن الله تعالى لم يجعل حد السرقة لمن سرق حتى ينقذ نفسه من الهلاك أو مشقة الجوع الشديدة. ومعلوم أن الضرورة الملجئة تبيح للإنسان ما لا يباح لغير المضطر, فالذي لا يجد ما يأكله له أن يأكل الميتة والدم ولحم الخنزير! وإن لم يعطه الغني طواعية جاز لهذا الجائع الفقير أن يسرق ما ينقذ به نفسه.

بمعنى آخر، لو أقام نظام مسلم الحد في هذه الحالة لأثم! لاحظ: لو أقام نظام مسلم الحد في هذه الحالة لأثم! لأنه لو أقام الحد فإنه عمل بخلاف الشريعة.

الآن لو قتل مسلمٌ مسلما آخر خطأ. فما حكمه في الشريعة؟ عليه الكفارة وعلى عاقلته الدية. هل يُقتل؟ طبعا لا يقتل لأنه قَتل خطأ. إذا جاء الحاكم وقتله، هل يكون مصيبا؟ لا طبعا بل يأثم ويكون قد ارتكب جريمة قتل تعاقب عليها الشريعة. فهل نقول: على الحاكم أن يعطل حكم الشريعة في الاقتصاص من القاتل؟ لا طبعا! هو لا يعطل حكم الشريعة. بل نقول أن شرط تعمد القتل لم يتحقق حتى يسمح الحاكم بالقصاص. فهذا القاتل له حكم آخر من الشريعة ذاتها. حكمه الكفارة والدية على عاقلته. وهكذا مسألتنا هذه. السارق المضطر ليس حكمه القطع في الشريعة، بل الشريعة تمنع من إقامة الحد عليه.

فالمسألة إخواني مسألة فقهية بحتة، لا إعمالٌ للعقل بدلا من الشريعة. سؤال يطرح نفسه: بيننا وبين عمر أكثر من 14 قرنا. هل قال عالم واحد من علماء الأمة عبر هذه القرون أن رواية عمر هذه دليل على جواز التدرج في تطبيق الشريعة؟ هل فهم عالم واحد هذا الفهم الذي أصبحنا نسمعه في هذه الأيام؟

هل قال عالم من سلفنا الصالح أن عمر أوقف العمل بشيء من الشريعة؟ هل قال بذلك أبو حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد أو ابن تيمية أو الغزالي أو أي واحد من علماء الأمة؟

بل انظروا كيف يعرض العلماء هذه المسألة:

قال ابن القيم في إعلام الموقعين: (فإن السَّنة إذا كانت سنة مجاعة وشدةٍ غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه. ويجب على صاحب المال بذل ذلك له، إما بالثمن أو مجانا، على الخلاف في ذلك; والصحيح وجوب بذله مجانا; لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج، (إذن يجب على الغني أصلا أن يبذل المال للفقير عند المجاعة) وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج، لا سيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه (أي يجوز للفقير أن يأخذ المال او الطعام من الغني عنوة في هذه الحالة). وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه، فدُرئ. (أي أنه على فرض أن عمر لم يقطع يد أي سارق عام المجاعة فإن هذا لأنه كان يصعب عليه أن يعرف من يسرق مضطرا ممن يسرق غير مضطر). (ثم قال ابن القيم): نعم، إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قُطع)...لاحظ! إذن المسألة ليست إيقافا للعمل بالحد عموما. إنما أوقف العمل به لتعذر معرفة المضطر من غيره. لكن لو بان أن شخصا بعينه غير مضطر ولا حاجة به إلى السرقة وتحققت الشروط الأخرى فإنه حينئذ يقام عليه الحد.

-إخواني، لقد جعل الله تعالى شريعته سمحة تراعي أحوال الناس. تراعي الاضطرار والإكراه والجهل الذي يُعذر الإنسان به. فالرفق بالناس إنما هو بإعمال الشريعة على ما هي عليه.

فالذي يريد أن يعطل الشريعة إشفاقا على الناس من شدتها إما أنه يجهل أحكام الشريعة ومراعاتها للاضطرار والإكراه والعذر بالجهل، وإما أنه يسيء الظن بالشريعة ويظن نفسه أرفق بالعباد من ربهم سبحانه وتعالى.

- هناك بيئات لا تصلها الأحكام الشرعية. رأينا مثلا كيف أن هناك مناطق في صعيد مصر لا يعرف الواحد أن يقرأ الفاتحة ولا يعرف اسم النبي صلى الله عليه وسلم نتيجة التجهيل الذي مارسه النظام العفن لعقود طويلة. الآن لو قام حكم إسلامي وأتى إلى هذه المناطق فرأى الناس يشربون الخمر ويتعاطون الحشيش ويتعاملون بالربا وهم يجهلون حرمة هذه الأشياء، هل يقيم عليهم حد الخمر ويعزرهم على تعاطي الحشيش والربا؟ لا طبعا! لأن الناس جهلوا حرمة هذه الأشياء جهلا لعل كثيرين منهم معذورون به لأنهم نشأوا في بيئات مجهلة فقيرة نائية عن العلم. ومن شروط العقوبة على العمل المحرم أن يعلم فاعله أنه محرم. فإنما يجب على الدولة حينئذ أن تُعلم الناس في هذه المناطق حرمة هذه المنكرات. فإن شرب أحد الخمر بعدئذ جلد لان شروط الحد مستكمَلة.

فلو تصورنا أن نظاما أتى وقطع يد السارق المضطر وجلد شارب الخمر الجاهل المعذور بجهله فإننا سنكون أول من يقف في وجه هكذا نظام ونؤلف فيه سلسلة بعنوان (نصرة للشريعة) أيضا لأنه لا يعمل بالشريعة! فإعمال حكم لم تتحقق شروطه وترك الحكم المناسب للحالة هو أيضا تعطيل للشريعة. عدم أخذ الاضطرار والإكراه والجهل بعين الاعتبار هو مخالفة للشريعة. جلد من لا ينبغي جلده وعقاب من لا يستحق العقاب هو من تعطيل الشريعة.

 

خلاصة الحلقة: لم يقم عمر حد السرقة عام المجاعة عملا بالشريعة، لأن شروط الحد الشرعية لم تتوفر. ولم يعطل عمر شيئا من الشريعة أو يعمل رأيه بدلا منها.

 

 

تطبيق الشريعة وقصة الرجال الثلاثة

السلام عليكم ورحمة الله.

إخوتي الكرام تصوروا معي ثلاثة رجال عادوا إلى بيوتهم فرآوا فيها نارا! والوضع في كل بيت من البيوت الثلاثة على النحو الآتي: الماء في الحديقة قليل، بينما من أضرموا النار يمدونها بالوقود ليزيدوا اشتعالها. الجيران لا يريدون أن يساعدوا، وصلت النار إلى غرفة الأولاد وهم محاصرون بها. الزوجة تكاد تختنق من الدخان، والنار في طريقها إلى الخزانة التي فيها تحويشة العمر.

أصيب كل رجل من الثلاثة بالذهول! فهو لا يعرف ماذا يفعل! أيبدأ بإطفاء النار؟ وأيَّة نار يطفئ بالماء القليل؟ أم هل ينشغل بقتال الذين يصبون الوقود على النار؟ أم بإسعاف زوجته؟ أم بإخراج أولاده من غرفتهم؟ أم بإنقاذ تحويشة العمر؟ أم بإقناع جيرانه القساة واسترحامهم ليهبوا لنجدته؟

هنا تصرف كل رجل من الثلاثة بطريقة مختلفة:

الأول رأى زوجته المختنقة في رمقها الأخير فأخرجها من البيت ليسعفها بملابسها البيتية والرجال حوله يشاهدونها، كما أنه ترك النار تأكل الخزانة التي فيها تحويشة العمر لأنه انشغل بإخراج أولاده المحاصرين بالنار. هل هذا الأول مسيء ؟ لا طبعا ليس مسيئا. فهو انشغل بالأهم عن المهم. فحفظ نفس زوجته مقدم على سترها، وحفظ نفوس أولاده مقدم على حفظ المال.

الثاني انشغل بإطفاء النار المتوجهة إلى خزانة ماله وترك زوجته المختنقة وأولاده المحاصرين، ثم صلى ركعتي نافلة وأطال السجود ودعا الله أن يطفئ النار بخارقة من عنده! هل هو مسيء؟ طبعا مسيء! لأنه انشغل بحفظ المال عن حفظ النفس. ومع أن الصلاة أحب القربات إلى الله، لكنها في هذه الحالة شغلته عن واجب الوقت الذي لا يجوز الانشغال عنه، ألا وهو إنقاذ زوجته وأولاده. فلا يجوز له أن يصلي في هذه الحالة.

الثالث كانت زوجته في الأصل مدخِّنة وأولاده يضيعون أوقاتهم على ألعاب الكمبيوتر وجيرانه يكرهونه لأنه لم يكن يسمح لهم بإقامة حفلات رقص وغناء وشرب في بيته. والآن، العصابة التي تصب الوقود على النار تطالبه بأن يعيرهم زوجته ليلة واحدة. فقبل أن يدخل البيت نادى زوجته وقال لها: يا زوجتي تعاوني معي في إخراج نفسك وأعدك ألا أمنعك من التدخين، يا أولادي اسمحوا لي أن أساعدكم وأعدكم بالسماح لكم باللعب على الكمبيوتر كما تشتهون. يا جيراني، تعالوا ساعدوني في إطفاء الحريق وسأعطيكم نسخة من مفتاح البيت تفعلون فيه ما تشاؤون. أيتها العصابة الموقدة للنار توقفي وسأدرس موضوع إعارة زوجتي لكم ليلة واحدة!

ما رأيكم في تصرف هذا الرجل الثالث؟ ألا يبدو فعله هذا سخيفا مستهجنا؟!

ما المقصود بالرجل الأول والثاني والثالث؟ دعونا اليوم نبدأ بالأول.

ما نطالب به أي إسلاميين يمكن ان يحكموا بلدا من بلاد المسلمين في يوم من الأيام هو أن يكونوا كالرجل الأول.عندما يستلم إسلاميونَ الحكمَ في بلد ما يوما ما سيكون عليهم كم هائل من المسؤوليات:

مقاومة العدو الخارجي وكبت المناوئين للشريعة من العلمانيين والمنافقين والعملاء، و القضاء على الفتن والتنازعات الداخلية وبناء نظام اقتصادي إسلامي قوي وإبطال العقود المخالفة للشريعة ووقف تعاطي الربا و وتربية الجيش تربية إيمانية وتغيير قياداته الفاسدة وصناعة الأسلحة وإعداد العدة وتأسيس جهاز قضائي يحكم بالشريعة وإطعام الجياع وتوفير العلاج ومنع الاحتكار والرشوة والغش وتوفير العمل للعاطلين عن العمل والقضاء على الخمر والمخدرات والحشيش ومنع الاختلاط في أماكن التعليم والعمل وإشاعة أجواء عامة نظيفة لا تستثار فيها الغرائز وإعادة صياغة المناهج التعليمية والإعلام صياغة إسلامية صحيحة وإيقاف الجرائم وإقامة نظام العقوبات الإسلامي للمخالفين ورد المنتهبات التي انتهبتها الطبقة الفاسدة إلى المجتمع وتعليم الناس ما يلزمهم في دينهم ودنياهم وغير ذلك الكثير. هذا كله داخل في مصطلح تطبيق الشريعة. هذا كله من تطبيق الشريعة.

هل يستطيع أي نظام إسلامي أن يفعل ذلك كله دفعة واحدة؟ وفي اليوم الأول من استلام الحكم؟ طبعا لا. إذن ما المطلوب منه؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.

 

رابط هذا التعليق
شارك

هل نطالب الحركات الإسلامية بأكثر من وسعها؟

تكلمنا في الحلقة الماضية عن مثال الرجال الثلاثة الذين عادوا إلى بيوتهم فوجدوها تحترق. وقلنا أن على من يصل إلى الحكم أن يكون كالرجل الأول الذي انشغل بالأهم عن المهم.

وكذلك سيجد العاملون للإسلام أنفسهم لا محالة منشغلين بواجبات عن واجبات، لكن لا تثريب عليهم... قال تعالى: ((ما على المحسنين من سبيل))...وقال تعالى: ((وما جعل عليكم في الدين من حرج))، وقال تعالى: ((فاتقوا الله ما استطعتم)). والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الأحزاب قال : ((ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا! شغلونا عن الصلاة الوسطى –يعني صلاةَ العصر- حتى غابت الشمس)).

فما المطلوب إذن؟ على الإسلاميين أن يعلنوا من اللحظة الأولى أن الحكم لله. وأن ما خالف الشريعة من القوانين فهو تحت الأقدام. فالسيادة المطلقة التامة للشريعة منفردةً لا تنازعها سيادة أبدا. فإن عجزوا عن فريضة من الفرائض فإن فرضيتها تسقط عنهم ولا تكون واجبة في حقهم إلى حين تحقق القدرة والاستطاعة...((لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)). ما دام القانون إسلاميا والدولة تطبق ما تقدر عليه فالشريعة مطبقة. قد يقول قائل: ألا يسمى ذلك تدرجا؟ نقول: أبدا! لا علاقة له بالتدرج. وسنبين لماذا بإذن الله.

تعالوا بداية إلى تطبيقات عملية مهمة حتى تتضح المسألة:

1) قد -و(قد) هذه لها قصة تأتي بإذن الله- قد لا يطالَب العاملون للإسلام بإعلان الجهاد لتحرير بلاد المسلمين المحتلة من اليوم الأول من استلامهم للحكم...لكن افترض أن شبابا تسللوا من الدولة الإسلامية إلى فلسطين وجاهدوا المحتل ثم عادوا إلى حمى الدولة الإسلامية. هل ستنفذ الدولة الإسلامية ضدهم قانون مكافحة الإرهاب الذي يقضي في هذه الحالة بتجريمهم وحبسهم؟ طبعا لا. فقانون مكافحة الإرهاب ومعاهدة كامب ديفد وكل قانون أومعاهدة تمنع من نصرة المسلمين وتذل رقابهم لعدوهم ستكون لاغية بإعلان تطبيق الشريعة من اللحظة الأولى وسيحل محلها قانون: ((وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين)). أن تنفذ الدولة هذا القانون الجديد بحسب الوسع والطاقة شيء، وأن تعمل بضده شيء آخر.

قد يأتي الحاكم في هذه الحالة بالشاب المجاهد ويقول له في رفق: (لماذا يا بني استعجلت؟ نحن في طور إعداد العدة وترتيب الصف ووأد الفتن الداخلية ونريد همتك معنا في ذلك ولا والله لن يهدأ لنا بال حتى نحرر بلاد المسلمين. لا تفتح علينا يا بني جبهة جديدة الآن)، وقد يعزره إذا أضر فعله بالدولة الناشئة، أما أن تنفذ الدولة فيه قانون مكافحة الإسلام فماذا بقي لها حينئذ من اسم الإسلام؟! قد لا تكون لديها الاستطاعة لتحرير بلاد المسلمين، لكن يجب حينئذ أن لا تكون لديها الاستطاعة لعقوبة المجاهدين أيضا.

2) إذا استلم العاملون للإسلام الحكم في بلد فيها عدد كبير من دور المجون والخمارات ومحلات الفيديوهات المحرمة وأشرطة الأغاني ومقاهي الإنترنت التي يُعمل فيها بالمعصية والسينماهات وصالونات النساء التي يعمل بها الرجال ومحلات المساج الماجنة ومحلات بيع التماثيل المحرمة والمكتبات التي فيها كتب إباحية أو كفرية وغيرها...قد لا يكون لديهم الاستطاعة لإغلاق ذلك كله دفعة واحدة. لكن بمجرد إعلان تطبيق الشريعة فإن حكم هذه الأشياء كلِّها واضح...كانت في القانون الوضعي أماكن قانونية محمية باسم القانون يُجرم من يعتدي عليها، والآن أصبحت أماكن ممنوعة لا حرمة لها، بل تنتظر إغلاقها بمجرد استطاعة الدولة لذلك، وما عادت تستطيع أن تستعز بالدولة أو تحتمي بالقانون.

3) المنافقون والعلمانيون، وبتحريض من الدول المعادية، قد يتعمدون التهجم على الشريعة والسخرية من أحكامها، بل والاستهزاء بالله تعالى وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقد لا يكون لدى الدولة الاستطاعة أن تستتيب هؤلاء كلهم أو تقضي عليهم كلِّهم دفعة واحدة. لكن بمجرد إعلان تطبيق الشريعة فإن هؤلاء-إن لم يتوبوا- سيكونون بانتظار الجزاء العادل الذي شرعه الله لمن يرتد عن دينه أو يسخر منه، وسيحاسبون على كلامهم فور استطاعة الدولة لذلك. ما عادت زبالات أفكاره هؤلاء العلمانيين والمنافقين حرية تعبير كما كانت في ظل الدول التي تعطي الحرية لهم وتحرم منها الدعاة إلى الله. بل إيقافهم عند حدهم سيعطى أولوية قصوى في دولة مبنية على تعظيم الله والعبودية له سبحانه.

4) في بعض البلاد عدد كبير من الأضرحة والمقامات التي يزورها الناس ويتبركون بها ويمارسون عندها طقوسا بدعية أو شركية، وكانت تتمتع بحماية الدولة التي كانت تُعَيِّن سَدَنةً وحراسا لهذه المقامات! بمجرد إعلان تطبيق الشريعة فإن هذه الأضرحة تنتظر إزالة الدولة لها وتحويلها إلى قبور عادية، وليس حراستها.

5) على الدولة الإسلامية أن تحقق الرعاية الصحية لشعبها وأن تقوم بمشاريع زراعية وحيوانية تحقق لها اكتفاء ذاتيا عن عدوها بحيث لا يحاول ابتزازها والتحكم بسياساتها من خلال امتلاكه للقمح والحليب وغيرهما، كما أن عليها القيام بمشاريع الصناعات الثقيلة التي تحقق لها استقلالها أيضا. فهذا كله من تطبيق الشريعة ومن حفظ النفس والنسل والمال التي هي من مقاصد الشريعة. لكن كما لا يخفى فإن تحقيق ذلك كله لا يتم من اليوم الأول. لكن إعلان تطبيق الشريعة يتضمن ألا تلتزم الدولة بأية اتفاقية تحظر عليها زراعة القمح و تجعل قوتها بيد أعدائها.

6) قد تجد الدولة الإسلامية نفسها أمام آلاف من الفاسدين الذين كانوا منتفعين بالنظام غير الإسلامي. هؤلاء الفاسدون قد انتهبوا خيرات البلاد فتملكوا أراضيها ومشاريعها الحيوية وخصخصت القطاعات العامة لهم وغمروا الناس في قروض ربوية من خلال بنوك لهؤلاء الفاسدين. قد لا تستطيع الدولة الناشئة رد ما في أيدي هؤلاء من منتهبات إلى عامة الناس دفعة واحدة. لكن لو جاء بنك من بنوكهم يقول: فلان اقترض مني مئة ألف قبل سنوات فتراكمت عليه الفوائد وعجز عن السداد فلم يسدد إلا أصل الدين. تعالي يا دولة اطرديه من بيته المرهون لأبيعه وأحصل فوائدي. هل تعينه الدولة؟ طبعا لا تعينه. فـ"فوائده" هذه أصبحت رباً محرما باطلا بإعلان تطبيق الشريعة.

وعلى ذلك فقس. هناك دروس كثيرة يمكن استنباطها من هذه الأمثلة. ما هي هذه الدروس؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة بإذن الله. فتابعوا معنا.

 

رابط هذا التعليق
شارك

أهمية إعلان سيادة الشريعة منذ البداية

السلام عليكم ورحمة الله.

إخوتي الكرام ذكرنا في الحلقة الماضية أن من يحمل مشروعا إسلاميا إن استلم الحكم فلا مناص له من إعلان السيادة لمطلقة الكاملة المنفردة للشريعة ومن اللحظة الأولى. وذكرنا أن هذا لا يعني بالضرورة إتيانه بالواجبات وإلغاء المنكرات دفعة واحدة، لكن ما دام القانون إسلاميا محضيا والدولة تطبق ما تقدر عليه فالشريعة مطبقة. وذكرنا أمثلة عملية للنقلة الكبيرة التي يُحدثها إعلان سيادة الشريعة. ثم وعدتكم باستخلاص دروس من هذه الأمثلة. تعالوا أحبتي الكرام نستعرض بعض هذه الدروس:

1) لاحظنا أن إعلان سيادة الشريعة يؤثر في كل شيء في المجتمع. فالمجتمع يصبح مبنيا على العبودية المطلقة لله. بهذا الإعلان فإن أعمالا كانت تُجرم في ظل القوانين الوضعية أصبحت مسموحة، وأخرى كانت مسموحة أصبحت جرائم، أشخاص وأملاك فقدت حصانتها وأخرى اكتسبتها، قضايا كانت رابحة تخسر وأخرى كانت خاسرة تربح، اتفاقيات تُلغى وأخرى تبرم...كل هذا بإعلان تطبيق الشريعة ومن اللحظة الأولى.

حتى إن لم تستطع الدولة إنفاذ هذه الأحكام مرة واحدة فإن تسميتها وتوصيفها الشرعي يبقى ذا أثر كبير. فرق كبير بين أن يعرف الفرد أنه يفعل شيئا محضوضا عليه تشجعه الدولة وأن يفعل شيئا ممنوعا يستوجب العقوبة. حتى إن تأخرت المثوبة والعقوبة إلى حين قدرة الدولة واستطاعتها فتوصيف الأفعال يبقى ذا أثر كبير في سلوك المجتمع.

2) لاحظنا أن البديل عن إعلان سيادة الشريعة هو أن تحكم الدولة الإسلامية بالقانون الوضعي الجاهلي!

عندما نقول: (إسلاميون في الحكم)...فهم دولة، ليس لهم أن يقفوا موقف المحايد من التصرفات والأشخاص والقضايا. إما أن يحكموا بالإسلام وإما أن يحكموا بالجاهلية، جاهلية القوانين الوضعية...((أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)). ولبيان ذلك أكثر أرجو مراجعة الحلقة الثالثة بعنوان (المعنى الخطير للتدرج).

فيا من تطالبون بعدم إعلان سيادة الشريعة من اللحظة الأولى، اعرفوا ما يؤدي إليه ذلك: أن تصبح الدولة "الإسلامية" حارسة للقوانين الوضعية، منفذة لها، معاقبة لمن يخالفها، مثيبة للعاصي، معاقبة للمطيع.

ماذ بقي لها من اسم الإسلامية حينئذ؟! هل تقبلون للدولة الإسلامية أن تفعل ذلك ولو ليوم واحد يا أصحاب التدرج؟!

آلمني ما سمعته من أحد الدعاة وهو يقول لمستمعيه في المسجد: (متظنوش إن الإسلاميين إذا وصلوا الحكم حيغيروا كل حاجة مرو وحده. يمكن مفيش حاجة من القوانين حتتغير أول سنتين تلاتة، لكن الناس حتبأى نضيفة)! وهذا كما ترون إخواني كلام خطير للغاية يدل على عدم وعي لمعنى أن تكون في الحكم أو على تجويز أن يسوس مسلمون المجتمع بقوانين جاهلية وضعية. إن لم يتغير شيء من القوانين فستبقى الأماكن التي تمارس فيها المحرمات قانونية كما كانت في القانون الوضعي، وتستحق من الدولة الحماية والرعاية ضد من يريدون إنكار منكرها. فهل يُتصور أن تعين الدولة الإسلامية في النهاية حراسا ملتحين على أبواب الخمارات والنوادي الليلية؟ ((ما لكم كيف تحكمون))؟!

فيا من تدافعون عن التدرج اعرفوا عن ماذا تدافعون!

3) الحق واحد والباطل متشعب! إن لم يلتزم الدعاة بإعلان سيادة الشريعة، فإنهم سيتخبطون في البديل عن ذلك...لأنهم فقدوا البوصلة بالتنازل عن الحق...((فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنا تصرفون))

فترى هذا "الداعية" يقول: قد لا نغير شيئا من القوانين أول سنتين او ثلاثة، آخر يقدرها بأشهر، والثالث بمدة أكثر أو أقل، آخر يقول: سنبدأ بأحكام الشريعة التي يتقبلها الشعب ونؤخر ما لا يتقبلها، وآخر يقول: نبدأ بالأحكام المتعلقة بالأخلاق والسلوك ونؤخر الحدود، آخر يقول نقوي الاقتصاد ثم نطبق الشريعة...أصبحت المسألة خاضعة لتقديرات البشر...أهم مسألة، مسألة العبودية لله تعالى بتطبيق شرعة والخلافة في الأرض أصبحت خاضعة للأهواء والتخمينات والتخريصات والظنون.

((وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا)).

هل يُظن بالله تعالى أن يترك هذه المسألة المصيرية، مسألة العبودية لله بتطبيق شريعته، أن يتركها لظنون البشر هكذا؟!

فالحق واحد، وهو في إعلان السيادة المطلقة التامة للشريعة من اللحظة الأولى. ومن تخلى عن ذلك دخل في تشعبات ومتاهات وتخبطات الباطل.

4) إعلان السيادة للشريعة من اللحظة الأولى هو عقد بين الحاكم والمحكوم ملزم للطرفين يمنع أيا منهما من التلاعب. وبه تسقط الحصانات الزائفة حتى عن الحكام. لأنهم إن زاغوا عن تبعات هذا الإعلان فإن على الشعب أن يحاسبهم ويقيس أفعالهم إلى هذا المسطرة الواضحة، مسطرة الشريعة.

فالإسلاميون ليسوا معصومين. إن وصلوا إلى الحكم فما الذي يضمن ألا تصيبهم لوثة السلطة والأبهة التي أصابت من شغل المناصب قبلهم؟ معقول؟ لا عصمة لأحد. إن كنا نرى تنازلات قدمت من البعض ومبالغات تفخيمية في الحملات الانتخابية كنا نبغضها من غيرهم، فما الحال عندما تُذاق حلاوة الألقاب والمشي على السجاد الأحمر؟!

ونحن مأمورون أن نأخذ بظواهر الناس في الخير والشر. أما النوايا فأمرها إلى الله.

لذلك فنحن لا نقبل أبدا هذه العبارات المائعة الرمادية التي تُستخدم هذه الأيام بديلا عن عبارة "تحكيم الشريعة ومن اللحظة الأولى"، كعبارة "أجندة واضحة للتدرج في تطبيق الشريعة"، أو: "فلان لديه توجه نحو تطبيق الشريعة"، أو "سنطبق ما يتوافق مع روح الشريعة"، أو "سنسن القوانين بما يحقق مقاصد الشريعة"، أو"الحزب الفلاني سيسعى بخطوات حثيثة إلى تطبيق الشريعة"، أو "عليه أن يكون لديه نية جازمة لتطبيق الشريعة" أو "رؤية صادقة لتطبيق الشريعة" أو "جدية في الوصول بالمجتمع إلى تطبيق الشريعة"، أو: "ستكون الدولة ذات مرجعية شرعية".

هذه العبارات كلها هلامية مائعة تهرُّبية. حتى وإن استخدمت فيها كلمات الجدية والحزم والعزم والصدق.

إخواني، تطبيق الشريعة عقد! هل تقبل أن تكتب مع مالك شقة عقد إيجار صيغته: اتفق الطرفان على أن يدفع المستأجر 500 دينار شهريا مقابل أن يكون لدى المؤجِّر توجه واضح نحو تأجيره الشقة؟! هل تقبل في عقد زواجك أن يُكتب: اتفق الطرفان على أن يدفع الرجل المهر مقابل أن يكون لدى ولي المرأة نية جازمة لتزويجه إياها؟!

هل تقبل بذلك؟ هل تغني عندك النوايا حينئذ شيئا؟ كذلك تطبيق الشريعة عقد بين الحاكم والمحكوم. المحكوم يبذل الطاعة والولاء ويتعبد لله بطاعة هذا الحاكم مقابل أن يلتزم الحاكم بتطبيق الشريعة، ثم هو قبل ذلك وفوق ذلك عقد مع الله عز وجل، عقد عبودية وخضوع بتطبيق شرعه تعالى، لا تنفع فيه مثل هذه العبارات الهلامية. إن كنت لا تقبل هذه العبارات في عقد زواج أو استئجار فمن باب أولى ألا تقبلها في أخطر ما تعيش من أجله: العبودية لله تعالى بتطبيق شرعه.

كلمة "تطبيق الشريعة" منضبطة يمكن قياسها، وعبارات التوجه والموقف والتدرج والنية والرؤية والمرجعية ليست منضبطة ولا يمكن قياسها.

إذا استلم من يرفعون مثل هذه الشعارات الحكم في يوم من الأيام ثم قست قلوبهم وأصابتهم لوثة الكرسي، وأرادوا مداهنة الغرب لا خوفا على شعبهم بل خوفا على كراسيهم. فكيف سيحاسبهم شعبهم؟ إن فرطوا في أوامر الشريعة فطالبهم البعض بتنفيذها فما الذي يمنع هؤلاء الحكام الـ"إسلاميين" من أن يقولوا: (نحن لدينا التوجه الحقيقي والنية الصادقة لتطبيق الشريعة لكن في تقديرنا أن الشعب غير مهيأ، والمرحلة لا تناسب، ونرى من المصلحة أن لا نطبق هذه الجزئية من الشريعة الآن، ونحن ما زلنا نتدرج في تطبيق الشريعة حسب أجندة واضحة، وفي أجندتنا أن علينا البقاء عند هذه المرحلة للأشهر القليلة القادمة)؟

إذا طرأ الانحراف على الحكام الـ"إسلاميين" وبرروا بهذه المبررات فما الذي يمنعهم؟ خاصة وأن عقدهم مع شعوبهم كان هلاميا من البداية.

سندخل حينئذ في معركة الحكم على النوايا والاختلاف في تقدير الوضع يسمح أو لا يسمح، وما إلى ذلك.

هل بقيت هناك دروس من الأمثلة التي ذكرناها في الحلقة الماضية؟ نعم. لكن حتى لا أطيل عليكم دعونا نناقشها في الحلقة القادمة.

اسمحوا لي أن ألخص الدروس الأربعة الأولى:

1) إعلان سيادة الشريعة يحدث انقلابا في موازين ومفاهيم وقوانين المجتمع من اللحظة الاولى.

2) البديل عن هذا الإعلان هو أن تحكم الدولة بالقانون الوضعي الجاهلي!

3) من تخلى عن إعلان سيادة الشريعة فسيدخل في متاهات الباطل المتشعب.

4) إعلان سيادة الشريعة عقد لا تقبل فيه العبارات الهلامية.

خلاصة الحلقة: إعلان تطبيق الشريعة من اللحظة الأولى هو الحق الأوحد، وهو المفهوم المنضبط المحدد المقيس شرعا والذي يحاسب عليه كل من الحاكم والمحكوم. وما عداه حكم جاهلية وباطل متشعب ومفاهيم غير منضبطة ولا محددة تؤدي إلى انحراف الحاكم والمحكوم.

 

رابط هذا التعليق
شارك

الأهداف السامية تفجر طاقات الشعوب

السلام عليكم ورحمة الله. أحبتي هل تذكرون في الحلقة التاسعة عندما قلت لكم:

"قد لا يطالَب العاملون للإسلام بإعلان الجهاد لتحرير بلاد المسلمين المحتلة من اليوم الأول من استلامهم للحكم" وقلت لكم في حينه: "(قد) هذه لها قصة تأتي"... ما قصة "قد"؟

عندما استلم صلاح الدين الأيوبي حكم مصر كان وضعها أليما قد لا يختلف كثيرا عن وضعها الحالي. فقد كانت ترزح تحت احتلال الدولة العبيدية المسماة بالفاطمية 200 سنة، وهي دولة مارقة من الإسلام عملت على طمس عقيدة أهل السنة والجماعة في مصر وعلى نشر الفسق والفجور. وكانت بلاد المسلمين الأخرى تتعرض لحملات الصليبيين. وعندما استلم صلاح الدين الحكم بدأ الصليبيون يشنون الحملات على مصر. ماذا فعل صلاح الدين؟ هل هادن الصليبيين وقال أتدرج في تعليم الناس الدين فقد طمست معالمه أثناء حكم العبيديين؟ بل أعلن الجهاد ووضع لشعب مصر هدفا واضحا: تحرير القدس وباقي بلاد المسلمين المحتلة. كان نور الدين قد صنع منبرا ليوضع في الأقصى. فأصبح لدى أهل مصر هدف سام عال واضح هو وضع المنبر في الأقصى.

شعب مصر المنهك المجوَّع المروَّع الممزق نتيجة حكم دولة الزندقة العبيدية لمئتي عام، عندما وضع له هدف سام عظيم: (تحرير بلاد المسلمين) أصبح شعبا عظيما، تطلعاته عظيمة، اهتماماته عظيمة، معنوياته عظيمة...فتلاشت آثار الحكم العبيدي، وكان خلاص القدس على يد هذا الشعب...فجيش حطين كان معظمه من المصريين.

هذا درس عظيم لأي حكم إسلامي سيقوم يوما من الأيام: ضع للناس هدفا عظيما تتلاشى المشاكل الصغيرة.

الطرح السائد هذه الأيام أن أي حكم إسلامي يقوم عليه أن يصلح الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي ويتدرج في فطم الناس عن عاداتهم المحرمة قبل أن يخطو أية خطوة عسكرية.

بينما التاريخ يعلمنا أن ما يحصل عادة هو العكس! الهدف العظيم يشحن همم الناس ويفجر الطاقات ويستخرج مذخور القوى.

أبو بكر رضي الله عنه، عند وفاة النبي ورِدة القبائل...وضع لأهل مكة والمدينة والطائف، وكثيرٌ منهم حديث عهد بكفر لم يمر على إسلامه سوى سنتين، وضع لهم هدفا عظيما...بعْثَ أسامة لقتال الروم عملا بأمر رسول الله. قال له الصحابة: (يا أبا بكر رُد هؤلاء توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة؟!) فقال: (والذي لا إله إلا هو، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم). فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبت على الإسلام كثير ممن فكر في الردة.

هدف عظيم: الطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

لم يكن هدفا واقعيا ولا منطقيا بحسابات البشر، لكنه فجر الطاقات وشحن العزائم.

تصور معي لو قام حكم الشريعة في مصر وأطلق الحكام شعار: (مصر أمل الأمة)، أو (خلاص الأمة على أيدينا)، أو (لن ننكسر لغير الله)، أو (سنعيدها خلافة على منهاج النبوة)...شعار أخروي عظيم عال على مستوى الأمة ... كم سيكون لذلك من أثر في نفوس أهل مصر أو أي بلد؟!

هل يُتوقع حينئذ أن يطالب أحد من شعب مصر حكامه بإعطاء الحرية للفنانين والمغنين؟! هل ستطالب المتبرجة بإعطائها الحق أن تلبس ما تشاء؟! هل ستثار قضية السياحة والشواطئ والدخل الذي تدره السياحة؟! هل ستثار قضية حرية التعبير في نقد الإسلام؟! بل بمجرد وضع هدف سام فإن الناس سينسون هذه الترهات والسخافات والرأي العام سيحتقر هذه الطروحات. نريد إنقاذ أمة الإسلام وأنت تقول غناء! تريدين أن تتبرجي في دولة تطمح لإقامة الخلافة من جديد؟!

أصحاب هذه الطروحات الهزيلة سيصبحون منبوذين لأنهم يتكلمون في الدون أمام شعب يطلب المعالي. بل إن الناس سيشكون في دوافعهم ويتهمونهم بالعمالة للقوى الخارجية ولأعداء الأمة، لأنهم بطروحاتهم هذه يوهنون الروح الجهادية في الأمة ويتلفون أخلاق شبابها، وهو ما يريده الأعداء. فلا خيار للعلمانيين والمنافقين ومتبعي الأهواء والشهوات...لا خيار لهم إلا أن يتبنوا الشعارات العالية، أو أن يلجموا أفواههم ويخفوا بضاعتهم الكاسدة المقيتة. فالمجتمعات عالية الطموح تنبذ مثل هذه الطروحات.

هل كان المنافقون يثيرون مثل هذه الطروحات في عهد النبي؟ طبعا لا، لأن المجتمع الجهادي المنشغل بالمعالي سينظر إليهم باشمئزاز واستهجان.

ثم هنا نقطة مهمة جدا...عندما يضع الحكم الإسلامي هدفا عظيما فإن الترهات والمحرمات التي كانت هدفا في ذاتها تصبح في نظر أصحابها عوائق تعيقهم عن هدفهم العظيم. فبدلا من أن تبدد الدولة جهدها في إقناع الناس بترك الاختلاط والتبرج والأغاني والدخان والموضات والتشبه بالكفار في اللباس وقصات الشعر، وتخاف ردة فعل الناس من فطمهم عن معتاداتهم دفعة واحدة، يصبح المسلمون ينظرون إلى هذه الترهات على أنها تعيقهم عن الهدف الأسمى الذي وُضع لهم. فيدوسونها ويمضون إلى هدفهم. كانت بحد ذاتها أهدافا عندما كان الشعب ضعيفا اهتماماته دونية وتطلعاته دونية. أما الآن فقد تحولت إلى عوائق عن الهدف السامي، فلا يجد أية صعوبة في التخلص منها بل يمقتها ويزدري نفسه إن زاولها.

والناس إن لم تشغلهم الدولة بالحق شغلوها بالباطل! الناس إن لم تشغلهم الدولة بالحق شغلوها بالباطل.

إخواني هذا الكلام ليس ضربا من الخيال، بل انظر كيف أن شعوبا كافرة وضعت لها أهداف كبيرة باطلة، ومع ذلك فجرت طاقاتها...القادة الشيوعيون وضعوا لشعب روسيا هدف القضاء على الطبقية فأصبحوا دولة عظمى مع أنه كان شعبا كافرا في معظمه والهدف في حقيقته باطل.

الشعوب الإسلامية نفسها عندما رفعت فيها شعارات كبيرة من قيادات ليست أهلا لها كانت ذات أثر كبير. انظر إلى أثر شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) عندما رفع في مصر مع أنه اقترن بالتغرير والانتفاش بالباطل وبأهداف قومية دونية. فكيف لو رفعته بصدق دولة إسلامية صادقة؟!

عندما يوضع نصب العيون هدف عظيم ويقف أمامك الأعداء في الطريق وتسقط الأقنعة ويظهر وجههم الكالح ويبدأ الشعب بتقديم التضحيات...حينئذ تشتعل روح التحدي والإصرار ويصبح ممنوع الأعداء مرغوبا. تأمل البلاد التي قامت فيها أنظمة إسلامية أو ترفع شعار الإسلامية بغض النظر عن صحة مناهج هذه الأنظمة...تأمل غزة وأفغانستان والصومال، على التباين بين هذه النماذج فقد قامت فيها جميعا نماذج هي في عرف الناس إسلامية. قامت الدنيا ولم تقعد، وضرب الحصار وكُثف القصف واستعلمت صنوف الأسلحة واستُعين بالطابور الخامس، ومع ذلك كله ما زاد ذلك شعوب هذه البلاد إلا إصرار على التمسك بمن رفع شعارا إسلاميا. وضع أمام هذه الشعوب الخيار: أسقطي هذه الأنظمة لتنالي الحياة والدعم والسلام، وإلا فالجوع والحرمان والذعر...فاشتعلت روح التحدي والتفت هذه الشعوب حول قياداتها التي نظرت إليها على أنها إسلامية، مع التباين بين هذه النماذج. المهم ان الشعب أحس أنه يتحدى في دينه ويساوم عليه ويُبتز. هذا مع ان هذه البلدان المذكورة ممزقة بالمجاعات والفقر والحروب الأهلية. لكن التحدي فجر طاقاتها.

المختصون بإدارة الذات يقولون ضع لنفسك رؤية ملهمة حالمة غير واقعية حتى تشحذ همتك. ولا يتأهل لقيادة الأمة إلا من لديه رؤية كذلك! حالمة في نظر القاصرين غير واقعية بمقياس البشر، لكنه يوقن أن الإيمان يصنع الأعاجيب، فكيف في هذا الزمان الذي سقط فيه الخوف وارتفعت فيه الهمم وقامت الحجة على المتخاذلين؟!

إذا لم يكن أصحاب المشروع الإسلامي واثقين من قدرة دينهم على تفجير طاقات الشعوب وتحقيق العجائب فهم ليسو أهلا بعدُ لقيادة هذه الشعوب ولن تسمح سنة الله لهم بقيادتها. لا بد أن يكون الإسلام عظيما في نفوسهم ليكون عظيما في نفوس الشعوب التي يقودونها، وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه.

كانت هذه دروسا من الرجل الأول في قصة الرجال الثلاثة. الرجل الأول كان صاحب طموح عظيم، يريد أن ينقذ زوجته وأولاده من النار وأن يقاتل أعداءه، فأعلن ذلك وسعى فيه بوسعه وطاقته. ماذا عن الرجل الثاني؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة بإذن الله.

خلاصة الحلقة: لأي حكم إسلامي يقوم...وضع هدف عظيم سيكون خير وسيلة لاستخراج طاقات الشعوب وتربيتها والتخلص من مشاكلها وفطمها عن عاداتها السلبية وتوحيدها على هذا الهدف.

 

رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم ورحمة الله. أحبتي الكرام لا زلنا نسير مع قصة الرجال الثلاثة. انتهينا في الحلقة الماضية من الوقفة مع الرجل الأول. اليوم نحن مع الرجل الثاني.

دعوني أذكركم بالذي فعله الثاني عندما رأى بيته يحترق:

قلنا أنه انشغل بإطفاء النار المتوجهة إلى خزانة ماله وترك زوجته المختنقة وأولاده المحاصرين، ثم صلى ركعتي نافلة وأطال السجود ودعا الله أن يطفئ النار بخارقة من عنده!

ما المقصود بالرجل الثاني في واقعنا؟ المقصود ببساطة أنه لا يكفي إعلان تطبيق الشريعة. نحن نطالب أصحاب المشروع الإسلامي بإعلان سيادة الشريعة من اللحظة الأولى، لكن مما لا شك فيه أن هذا الإعلان وحده لا يكفي.

تحت هذه الصورة الرمزية تندرج عدة أمثلة:

المثال الأول: إعلان تطبيق الشريعة مع إهمال الأخذ بالأسباب الدنيوية لرعاية مصالح الناس. لا ينبغي للدولة الإسلامية أن تظن أنها بالتزام الشريعة ستنجح وسيكون الله تعالى معها وهي مهملة للأخذ بأسباب النجاح الدنيوية من حسن سياسة لأمور الناس وهمة ونشاط وسعي دؤوب في بناء الدولة اقتصاديا وعسكريا وتبني أصحاب التخصصات في المجالات المختلفة ومن يقيمون الفروض الكفائية، والتخطيط الدقيق وتوظيف علوم الإدارة والاتصال والإعلام والعمل المضني لتوفير احتياجات الناس الأساسية من مسكن ومأكل ورعاية صحية وتوفير فرص عمل. هذا كله من تطبيق الشريعة. وإن قصرت الدولة في استكماله حسب وسعها وطاقتها فليس لها أن تتوقع نصر الله لها.

أرأيت كيف أن الرجل الثاني ترك بيته يحترق وصلى ركعتي نافلة وأطال فيهما السجود وسأل الله أن ينقذ زوجته وأولاده بخارقة من عنده؟! أليس بذلك آثما مسيئا؟ فأصحاب المشروع الإسلامي عليهم أن يستنفدوا الوسع والطاقة ويُعدوا ما استطاعوا ثم الله بعد ذلك يبارك في جهودهم بركة عظيمة.

لذا فهذه تذكرة لمن يطالب بتحكيم الشريعة بينما تراه في كثير من أوقاته سبهللا لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة، ولا يحسن صنعة ولا حرفة. فشلُك في حياتك العلمية أو العملية يخذل الناس عن دعوتك إلى الشريعة مهما جملت لهم المقال وحشدت لهم الأدلة. فالناس لن يتصوروا أن رجلا عالة على مجتمعه سيقيم دولة قوية ترعى أبناءها. ولن يستطيع نؤوم الضحى أن يخرج الأمة من ليلها إلى فجر جديد.

فمن يدعون إلى الشريعة لا بد أن يكونوا أصحاب همة تحيي الأمة، جادين مخلصين في مجالهم أيا كان مجالهم، الدعوة أو العلوم أو الحرف أو غيرها.

المثال الثاني: من يعلن تطبيق الشريعة ويكون صادقا في تطبيقها آخذا بالأسباب المادية لكنه يسيء التعامل مع الناس ويستثير حفيظتهم أو يسيء ترتيبَ الأولويات ويتوقع لصدقه في تطبيق الشريعة أن يرقع كل خرق، وهذا يخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما: ((يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا))، وإذ قال لمعاذ: ((وإياك وكرائم أموالهم)). فنحن وإن كنا نطالب أصحاب المشروع الإسلامي أن يقيموا دين الله ولا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يتعذروا بردة فعل الشعب، إلا ان هذا لا يعني العنف في سياسة الناس. بل هم أولى الناس بالرفق والتلطف بالرعية. والقوةُ في إقامة الدين لا تعارض حسن سياسة الناس وتألُّفَ قلوبهم ومداراة سفيههم ضمن حدود الشريعة. بل انظر كيف جعل الله المؤلفة قلوبهم ممن تصرف إليهم الزكاة على الرغم من قيام الحجة وقوة الدين في ذاته...((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)) (مسلم).

وبما أننا ذكرنا أن إعلان سيادة الشريعة وحده لا يكفي فقد بقي مثال ثالث أقل تعلقا بقصة الرجال الثلاثة لكن يحسن ذكره هنا تأكيدا على أنه ليس الإعلان وحده هو المطلوب.

هذا المثال الثالث: من يعلن تطبيق الشريعة لكنه في الواقع غير صادق في تطبيقها أبداً. وهذا من نواحٍ عدة لا يقل سوءا عن الاستعلان بعدم تطبيق الشريعة...فهذا طريق الهلاك...(( إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)).

لا يكفي إعلان تطبيق الشريعة. فما الفائدة من هذا الإعلان إن كانت ثروات الأمة تُعطى لأعدائها تحت غطاء عقود استثمار أجنبية جائرة وصفقات أسلحة لا تجرب إلا على أبناء المسلمين؟! ما فائدة إعلان تطبيق الشريعة في بلد إن كان يزود طائرات أعداء الشريعة بالوقود ويفتح لهم الأراضي ليقيموا فيها معسكراتهم ويعربدوا فيها وينطلقوا منها لقتل المسلمين وانتهاك أعراضهم والدوس على كرامتهم؟! ما الفائدة من هذا الإعلان إن كان الدعاة الغيورون على دين الله وعلى رسول الله الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر يُسجنون وينكل بهم، بينما يفتح المجال لكل أفاك ليتطاول على الشريعة ويبث سمومه؟! ما الفائدة منه إن كانت مساجد الله تُسلب دورها ويمنع حتى من الدعاء للمسلمين المستضعفين على منابرها إلا من سمح أعداء الأمة بالدعاء له؟! ما الفائدة منه إن كان معلنها يتخوض في مال الأمة بغير حق والملايين من المسلمين يموتون جوعا وعطشا ومرضا؟!

أليس هذا كله تعطيلا للشريعة بل حربا على الشريعة؟!

لا يرضى الله تعالى لإعلان تطبيق الشريعة أن يكون عباءة تمارس تحتها المعاصي. إنما يرضى عن هذا الشكل الممسوخ أعداء الله الصرحاء من الصليبيين وغيرِهم. فما دامت مصالحهم محفوظة وثروات المسلمين نهبا لهم وشباب الإسلام مكبلين في السجون فلا يضيرهم أبدا أن تطبق الدولة حد السرقة على الضعفاء باسم الشريعة!

بل إن هذه النماذج الممسوخة تُتخذ فزاعة للتنفير من تطبيق الشريعة، بحيث عندما ندعو إلى تطبيقها يُعيرنا البعض بهذه النماذج وكأننا نعترف بها!

ومن "يطبق الشريعة" بهذا الشكل يبرر القعود عن نصرة المسلمين، بل والمساهمة في البطش بهم، بعبارات شرعية متعلقة بحفظ الثروات والمصالح، كما التهى الثاني بإنقاذ خزانة المال عن إنقاذ زوجته وأولاده حتى احترقوا.

كانت هذه الوقفة مع الرجل الثاني في قصة الرجال الثلاثة. وقفتنا الأهم بإذن الله ستكون مع الرجل الثالث، وهي مليئة بالدروس والعبر، بغض النظر عما آلت وستؤول إليه الأحداث في البلاد التي أعطي فيها أصحاب المشاريع الإسلامية الفرصة ولكن عددا منهم فعل ما فعله الرجل الثالث، والله المستعان. فتابعوا معنا ففيها فوائد بإذن الله.

خلاصة الحلقة: لا يكفي إعلان تطبيق الشريعة، بل لا بد من الصدق في تطبيقها، وحسن سياسة الناس، والأخذ بالأسباب المادية للنجاح.

 

رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم ورحمة الله. أحبتي الكرام لا زلنا مستمرين مع قصة الرجال الثلاثة. في الواقع أعلم أن كثيرين قد يقولون: ما الفائدة من الاستمرار في القصة بل وفي السلسلة كلها وقد تحول الربيع العربي إلى خريف ومات الأمل في تطبيق الشريعة؟

 

 

أقول إخواني وبالله التوفيق: بل نحن الآن أحوج ما نكون إلى الحديث عن هذا الموضوع. قال الله تعالى: ((وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا)). وها نحن نرى كيد المتآمرين على الإسلام يضر الحركات الإسلامية في دينها ودنياها. إذن، فبنص الآية، هناك مشكلة لدينا نحن العاملين للإسلام في الصبر وفي التقوى. لم يصبر الكثيرون على سلوك طريق النبي وتحمل عواقبها، ولم يحصلوا التقوى المطلوبة في التعامل مع الواقع وامتثال أمر الله في منهج النهوض بالأمة. ولهذا ضرنا كيد الكائدين جدا.

 

 

يا إخواني تعلمنا من كتاب ربنا ومن الأمثلة المتكررة في التاريخ الماضي والواقع المعاصر أن كيد الكفار والمنافقين لا يخيف ((إن كيد الشيطان كان ضعيفا))...أنا لست خائفا من مكر أمريكا والصهاينة وعملائهما في بلاد المسلمين ولا من الجيوش العميلة والمجالس العسكرية وغيرها...فالله قد حقر أمر هؤلاء في القرآن كثيرا...((ومكر أولئك هو يبور))، ((فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم))، ((ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله))، ((وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون))، ((إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون))...هذا مع أن لديهم مئات مراكز التخطيط الاستراتيجي، وآلاف العلماء في علوم النفس والاجتماع والسياسة والإعلام والحرب لا هم لهم إلا المكر بنا، وآلاف المحطات والإذاعات والمجلات والبرامج التي تهدف إلى هدم إسلامنا...ومع ذلك كله فلا والله لا يهمني كيدهم...لأن الله تعالى وهن من شأنهم وحقر من جهودهم وأمرنا بألا نخاف منها: ((فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين))، ((فلا تخشوا الناس واخشون))

 

 

إذن من ماذا الخوف؟ من أننا فقدنا معية الله! نعم، عموم الحركات الإسلامية فقدت معية الله. فأقل مكر حينئذ يؤذيها...قال تعالى ((ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون))...ولا والله ما اتقى كثير منا الله في هذه الفترة الحرجة من حياة الأمة ولا أحسن اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم...فخسر معية الله.

 

 

قال تعالى: ((ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا))...وقد رأينا للكافرين علينا ألف سبيل، ولا يخلف الله وعده، فأين الخلل إذن؟ في إيماننا! إنما الوعد للمؤمنين...وكثير منا ضعف إيمانه بوعد الله وتعلق بالأسباب الأرضية وقدم التنازلات الذريعة واستطال طريق النبي وحرق المراحل واستعجل قطف الثمار وركن إلى الذين ظلموا...فكان ما كان من تردٍّ وفشل... ((وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون () يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا))...تعلقنا بالأسباب الأرضية الدنيوية الظاهرة وتركنا ما نضمن أن ينجز الله به وعده لنا.

 

وكَلَنا الله إلى أعدائنا فلم يقف مكرنا أمام مكرهم، فنحن دون معية الله أضعف منهم بكثير. ليس لدينا مركز تخطيط استراتيجي واحد وهم عندهم مئات! وليست هناك ولا دولة واحدة إسلامية الحكم وهم عندهم دول، وليس لدينا جيش إسلامي واحد وهم عندهم جيوش. ولو أننا ضمنا معية الله لكاد لنا ومكر لنا وكفانا شرهم. قال تعالى: ((إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا))...ولم يقل (إنهم يكيدون وتكيدون)...وقال تعالى: ((ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين))...ولم يقل: (ويمكرون وتمكرون)...يعلم تعالى أنا أضعف من أن نقف أمام كيدهم ومكرهم.. ((إن الله يدافع عن الذين آمنوا))، ((أليس الله بكاف عباده))...فليس لنا إلا أن نكون من الذين آمنوا ومن عباد الله بحق حتى يكيد لنا ويمكر لنا ويدافع عنا...

 

الخلل فينا ومنا نحن العاملين للإسلام...فالله لا يخلف الوعد، وكيد الكفار لا يضر المؤمنين، فليس لنا إلا أن نراجع أنفسنا. كثيرون الآن يمضون أوقاتهم في لطميات وتحسرات ويتفننون في لعن وشتم العساكر والمتآمرين ويجعل المشكلة في تآمرهم وكيدهم...لا يا أخي...((يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم))...لو كنا على هدىً فإن هؤلاء الضلال لن يضرونا. فلا تشغل نفسك بضلالهم بل اشغل نفسك باتباع الهدى لئلا يضرك ضلالهم.

 

كثيرون ينتقصون الشعب وتخاذله عن نصرة الإسلاميين وانخداعه بالإعلام الموتور...لا يا أخي...الخلل فينا. لو أننا انتهجنا منهج النبي في التغيير لأحبنا الله ولو أحبنا الله لوضع لنا القبول في الأرض كما في حديث مسلم...قال تعالى: ((إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)). وقد رأينا هذا القبول للدعاة والعاملين للإسلام إلى أن تعلقوا بالأسباب الدنيوية وقدموا التنازلات فخسر كثير منهم معية الله ومحبة الشعب له.

 

 

أيها العامل للإسلام لا تضيع وقتك ولا تبحث عن شماعة تعلق عليها أخطاءك ودعك من عبارات اليأس والقنوط والإحباط...واجه نفسك، الخلل منك وفيك...((قل هو من عند أنفسكم))...فقدنا معية الله ولهذا ضرنا كيد أعدائنا في الدين والدنيا...

 

ولهذا كله أقول: نحن الآن أحوج ما نكون إلى الاستمرار في السلسلة، وإلى فهم الشريعة فهما صحيحا، وإلى معرفة منهجية التغيير التي يرتضيها الله تعالى، وإلى معرفة الأسباب التي نحصل بها معية الله لنا في معركتنا مع أعدائنا...فإنَّ قيام الشريعة في قلوب العاملين للإسلام ضروري ليقيمها الله تعالى في واقعهم...كيف؟ بالطريقة التي يدبرها الله لنا...رأينا في الربيع العربي كيف أن الله يقلب الموازين ويعطينا فرصة من حيث لا نحتسب.

 

أما عندما يكون فهمنا للشريعة مشوها، ونتصور أن لإنسان أن يتحكم فيما يطبقه أو لا يطبقه منها، عندما نتصور أنه يمكن الوصول إلى تطبيقها بوسائل غير شرعية، عندما ينفر من يرى نفسه عاملا للإسلام من بعض أحكامها...عندما نتنازل عن ثوابتها مجانا ومقدما قبل الوصول إلى الحكم...فحينئذ لن يمنحنا الله شرف أن تقام الشريعة على أيدينا..فالدعاة للشريعة ينبغي أن يكونوا ورثة الرسل...((الله أعلم حيث يجعل رسالته))...لا يختار لرسالته إلا كفئا، وكذلك لا يختار لتطبيق شريعته إلا الأكفاء.

 

إخواني، تعظيم الشريعة في نفوسنا هو أهم أهداف هذه السلسلة...بغض النظر قامت دولة الإسلام في زماننا أو لم تقم. أهم أهداف السلسلة أن نلقى الله بقلب سليم ليس فيه شائبة تجاه شريعته تعالى الذي تعبدنا بالإيمان بها وحبها وفهمها والقناعة بكل تفاصيلها.

كان هذا استطرادا لا بد منه قبل تفكيك رمزية الرجل الثالث.

 

خلاصة الحلقة: نحتاج فهم الشريعة عبادةً لله تعالى ولنحصل معيته وتقوم دولة الإسلام على أرضنا.

 

رابط هذا التعليق
شارك

14) نجحت العملية ومات المريض!

السلام عليكم ورحمة الله

إخوتي الكرام ذكرنا في الحلقة الثامنة قصة الرجال الثلاثة الذين عادوا إلى بيوتهم فرأوها تحترق، وقلنا أن كثيرا من العاملين للإسلام فعلوا كما فعل الرجل الثالث. ما الذي فعله الثالث؟

الثالث كان أولاده في الأيام الماضية يضيعون أوقاتهم في اللعب، وجيرانه يكرهونه لأنه لم يكن يسمح لهم بإقامة حفلات رقص وغناء وشرب في بيته. والآن، العصابة التي تصب الوقود على النار تطالبه بأن يعيرهم زوجته ليلة واحدة مقابل الكف عن صب الوقود على النار. فصاحبنا هذا قبل أن يدخل البيت نادى أولاده وقال: يا أولادي اسمحوا لي أن أساعدكم وأعدكم بالسماح لكم باللهو واللعب كما تشتهون. يا جيراني، تعالوا ساعدوني في إطفاء الحريق وسأعطيكم نسخة من مفتاح البيت تفعلون فيه ما تشاؤون. أيتها العصابة الموقِدة للنار توقفي وسأدرس موضوع إعارة زوجتي لكم ليلة واحدة!

 

ما الذي يفعله هذا الثالث؟ يقدم تنازلات ذريعة مقابل مكتسبات موهومة...يبيع عائلته نسيئة، فيسلم البضاعة إلى مشترٍ كذاب دون أن يقبض الثمن...يقبل المساومة فيما لا يساوَم عليه، ويبيع الهدف سلفا من أجل الوصول إليه!

 

فالعصابة لن تكف عن إضرام النار...((ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا))، والجيران لن يصالحوه ولا يساعدوه حتى يرتع في حمأتهم وإلا فقولهم: ((أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون))، وأولاده لن يروه مخلِّصا إن أرضاهم بسخط الله...فمن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. فمكتسباته كلها موهومة، لكنه قدم ثمنا باهظا مقابل هذا اللاشيء حين قبل المساومة على زوجته وحرمة بيته وأخلاق أولاده.

 

هل لا زال هناك داعٍ لتفكيك رمزية القصة؟ الزوجة ترمز للشريعة، والأولاد للشعب، والعصابة للدول الغربية، وجيران السوء هم العلمانيون والمنافقون وأعداء الشريعة من بني جلدتنا الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا.

 

صاحبنا زعم في البداية أنه يريد إنقاذ زوجته وبيته وأولاده. رأى الهدف مستحيلا بالمقاييس المادية، فتنازل عن الهدف في سبيل الهدف! باع زوجته وأولاده ليحصل -بزعمه- ما ينقذ به زوجته وأولاده. وليحصل السلم دفع الهدف ثمنا للسلم! حتى إذا ما صعد السلم لم يجد إلا فراغا لأنه باع ما صعد من أجله. ماذا استفاد صاحبنا إن سُمح له بالفعل بدخول البيت وتهدئة الحريق إذا كان المقابل أن يسلم الزوجة للأعداء والأبناء للأهواء وحرمة البيت لمن ينتهكها؟!

 

وكذلك ماذا يستفيد الإسلاميون إن وصلوا إلى الحكم بعد أن كان الثمن التخلي عن الشريعة، وإشراك العلمانيين في الحكم والنزول عند الرغبات الفاسدة لطبقة من الشعب؟!

ماذا يستفيدون من الوصول حينئذ إلا كما قيل: نجحت العملية ومات المريض؟!

 

عندما نقول: "إسلاميون" أو "أصحاب المشروع الإسلامي" فما الذي يميزهم؟ ما بضاعتهم، ما هدفهم؟ قال الله تعالى: ((الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)) كل معروف وكل منكر...وما هذا إلا إقامة الدين...إقامة الشريعة.

((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم))...هذا المطلوب: الاستخلاف وتمكين الدين.

 

فما الفائدة إن سوومنا على هذا الهدف الذي من أجله نريد الحكم وبعناه من أجل الوصول إلى الحكم؟ هل يُقبل أن نبيع الهدف من أجل الوسيلة؟

تريد مثالا آخر؟ تصور أنك علمت بدار أيتام مدراؤها لئام، لا يكسون هؤلاء الأيتام بل يتركونهم عراة. أشفقت عليهم فذهبت ومعك كيس من الملابس لتكسوهم وأنت تنشد أناشيد المجد في نصرة المظلوم ونجدة الأيتام. على باب دار الأيتام قيل لك ممنوع إدخال الأكياس. ساومت وحاورت فأصر المدراء اللئام. قلت: لا بأس، أدخل وأكسوهم من ملابسي. فرضيت وتركت الكيس على الباب. دخلت وظننت أن الأيتام بالانتظار فإذا بباب آخر يقول لك حارسه: ممنوع الدخول لمن يرتدي معطفا. فخلعت المعطف وتنازلت عنه، فسمح لك بدخول الباب، فإذا بباب آخر وآخر وآخر. ووصل بك الأمر أن ليس هناك إلا ما تستر به عورتك المغلظة فقلت في نفسك: لا زال هناك ما يمكن أن أقدمه للأيتام، فلعلهم يرونني أستر عورتي فتتوق أنفسهم إلى الستر فيسعون معي إلى الثورة على هذه الإدارة الجائرة اللئيمة. أصبح هذا هو سقف الطموحات للذي كان ينشد على باب الدار أناشيد المجد. فهل يا ترى لو علم من أول باب حجم ما سيتنازل عنه وحجم ما سيكسبه لقبل الصفقة؟ أم أنه خالف قول الله إذ قال: ((ولا تتبعوا خطوات الشيطان))، الشيطان الذي ((يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)).

 

إخواني، المكتوب مقروء من عنوانه. أعداء الشريعة عراة عن طاعة الله والعبودية له، فيغيظهم أن يروا مستورا، ولن يدخل في سدة حكمهم من خلالهم إلا من اتبع ملتهم وأصبح عاريا مثلهم يقف حارسا على الباب معهم ليمنع دخول المستورين. فما الفائدة إن وصل الإسلاميون إلى الحكم وتركوا على الباب الشريعة التي من أجلها أرادوا الحكم؟

فأيها العاملون للإسلام: حددوا هدفكم: أتريدون الدولة لأجل الدولة أم تريدونها لإقامة الشريعة وتحقيق العبودية لله؟ إن كنتم تريدونها لإقامة الشريعة فإياكم أن تتنازلوا عن الهدف من أجل الوسيلة.

 

أعلم أن كلامي هذا سيثير كثيرا من الاعتراضات. فهناك من سيقول: نحن بدخولنا في العملية السياسية لم ندَّع أننا نريد إقامة الشريعة بل نريد تحسين الوضع ما استطعنا، وقائل سيقول: لماذا اعتبرت المكتسبات موهومة، وليست حقيقية؟ وقائل سيقول: لماذا تقول أننا تنازلنا عن الشريعة؟ نحن لم نتنازل عنها.

الإجابة عن هذا كله ستأتي بالتفصيل في الحلقات القادمة بإذن الله. لكن حتى ذلك الحين أتمنى من العاملين للإسلام الذين دخلوا العمل السياسي البرلماني وممن يؤيدون مسلكهم هذا أن يجيبوا في أنفسهم عن الأسئلة التالية:

1) ما هو هدفكم تحديدا من الدخول في هذه العملية؟

2) ما هي التنازلات التي قدمتموها في البداية، أو بلغة البعض المفاسد التي قبلتم بها؟

3) ما هي المكتسبات أو المصالح التي من أجلها رضيتم بهذه المفاسد؟

4) هل لا زالت المكتسبات التي رجوتموها في البداية قائمة أم أنها بدأت تتساقط والطموحات تضيق؟

5) إن كان الجواب عن السؤال السابق أن المكتسبات المرجوة تدنت، فهل عدلتم في التنازلات بما يتناسب مع حجم المكتسبات؟

6) هل تعتبرون أنفسكم كإسلاميين في العمل السياسي حاليا ممكنين أم مستضعفين؟

 

هذه أسئلة أتمنى من كل عامل للإسلام انخرط في العمل البرلماني والانتخابي وممن يؤيد دخوله فيها أن يجيب عنها لنتعاون معا في الحلقات القادمة على معرفة إلى أين يسير العمل الإسلامي الحالي وهل لا زال محافظا على البوصلة أم لا؟

 

 

خلاصة الحلقة: الوصول إلى الحكم ينبغي أن يكون وسيلة ،تُتخذ بطريقة شرعية، الهدف منها تطبيق الشريعة وإقامة الدين. فمن الخطورة أن نتنازل عن الهدف من أجل الوسيلة.

 

رابط هذا التعليق
شارك

15 ) العمل الإسلامي وفقدان البوصلة!

السلام عليكم ورحمة الله

إخوتي الكرام من المعلوم أن من أهم أسباب النجاح لأي مشروع وضوحَ هدفك ومعرفةَ حجم قدراتك ومتابعة الإنجاز ثم التعديل في وسائلك وتخطيطك بحسب هذا الإنجاز. ولذا فقد ختمت الحلقة الماضية بأسئلة ستة موجهة للإسلاميين المنخرطين في العمل البرلماني الانتخابي الدستوري ولمن يؤيد مسلكهم لنعرف إلى أين يسير هذا العمل.

دعونا الآن نتعاون معا في مناقشة الأسئلة الستة:

السؤال الأول: ما هو هدفكم تحديدا من الدخول في العملية الديمقراطية؟

المتتبع لتصريحات الإسلاميين البرلمانيين يلاحظ ارتباكا في تحديد الهدف. فمرة يكون الهدف المعلن "إعادة الخلافة الإسلامية التي ستكون عاصمتها القدس الشريف، وأن نعيد للأمة هيبتها". ومرة يكون الهدف "تقليلَ الشر والمحافظة على بقايا الهوية الإسلامية ومنع فلول الأنظمة الفاسدة من استلام الحكم مجددا لأنها إن استلمت فلن يعبد الله في الأرض". مرة يكون الهدف "إقامة الشريعة وأسلمة مؤسسات الحكم ومؤسسة الجيش" ومرة يكون مجرد "الصدعِ بالحق في البرلمان وتدريب الكوادر الإسلامية على العمل السياسي وتخفيف الضغط على الدعوة وأخذ حصتنا من الكعكة مع إقرارنا بأن البرلمان ليس هو الطريق إلى إقامة الشريعة".

فهل الهدف فعليا هو إقامة الشريعة والخلافة أم مجرد إصلاحات جزئية؟

الحاصل أن كثيرا من الإسلاميين البرلمانيين إذا ما أرادوا حشد التأييد الشعبي لهم فإنهم يبرزون ويرفعون الشعارات الرنانة والأهداف العظيمة (كالخلافة وتحكيم الشريعة). ثم عندما يواجَهون بالحقيقة المرة أنكم قد أضعتم أوقاتكم وشتتم جهودكم وميعتم قضيتكم بسلوككم طريق البرلمانات والانتخابات يكون ردهم: نحن لم ندَّع أصلا أننا نريد تحكيم الشريعة من خلال هذا الطريق، إنما نريد تقليل المفاسد وإتاحة مساحة من الحريات لدعوتنا.

هذه الازدواجية غير مقبولة. عليهم أن يحددوا الهدف من البداية بدلا من دغدغة مشاعر الناس بشعارات وطموحات يقرون هم أنفسهم أحيانا أنها لا تنال من خلال الديمقراطية.

ثم لا يُقبل من صاحب المشروع الإسلامي أن يكون كمن يخرج من بيته ويسير هائما على وجهه لا يدري إلى أين يتجه...((أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم)). فلا بد ابتداء من تحديد الهدف، لأسباب، منها:

أولا: أن الارتباك في تحديده يمنع الإسلاميين من مراجعة حساباتهم ومعرفة مدى نجاحهم المرحلي في تحقيق هدفهم، إذ أن هذا الهدف الذي يريدون تحقيقه غير محدد.

ثانيا: أن كثيرا من الذين قعدوا وأصلوا للمشاركة البرلمانية اشترطوا لجوازها أن يكون الهدف منها تحقيق مصلحة عامة كبرى شمولية ووضعوا ضوابط للتنازلات التي يمكن أن تقدم في المقابل. وإذا بنا نرى الإسلاميين الذين يحتجون بفتاوى هؤلاء العلماء يتحللون من الضوابط ويقدمون التنازلات دون حد ولا قيد، وفي مقابل ماذا؟ في مقابل مصالح –أي أهدافٍ- جزئية ثانوية مظنونة، لا عامة ولا كبرى ولا شمولية.

إذن مطلوب من الإسلاميين البرلمانيين الإجابة بوضوح عن هذا السؤال: ما هو هدفكم تحديدا من الدخول في العمل البرلماني الرئاسي الدستوري؟

وهذا السؤال ينبني عليه ما بعده.

السؤال الثاني: ما هي التنازلات التي قدمتموها في البداية، أو بلغة البعض المفاسد التي قبلتم بها؟

لا يخفى أن العمل الإسلامي البرلماني قدم تنازلات ذريعة كالاعتراف بقواعد اللعبة الديمقراطية واحترام دساتير تجعل حق التشريع لغير الله تعالى وإشراك العلمانيين ورهن تطبيق الشريعة بموافقة البرلمان والتأكيد على أنها لن تطبق دفعة واحدة، إلى غير ذلك مما سيأتي بيان عدم مشروعيته بالتفصيل إن شاء الله.

يأتي السؤال الثالث: ما هي المكتسبات أو المصالح التي من أجلها رضيتم بهذه المفاسد؟

في الواقع، حتى يبرر الإسلاميون البرلمانيون لأنفسهم ولمؤيديهم ولخصومهم التنازلات المذكورة فإنهم كثيرا ما أعلنوا أهدافا أو مكتسبات ومصالح عامة شمولية كبرى كتطبيق الشريعة وأسلمة نظام الحكم وإعادة عزة الأمة، إلى غير ذلك.

ومع قناعتنا بأن الأهداف العظيمة لا تنال بالتنازلات إلا أن عظم الهدف برر في أنظار الإسلاميين البرلمانيين عظم التنازلات، فأصبحت التنازلات صغيرة نسبيا ومسوغة في أنظارهم. واجتهدوا في التقليل من شأن هذه التنازلات والاستهانة بخطورتها وحاديهم في ذلك: عظم الهدف. كالاستهانة بالقسم على المحافظة على دستور يجعل التشريع لغير الله ما دام الهدف إقامة الشريعة؟!

مرت الأيام ولم تبدُ أية بادرة لتحقق الأهداف، لكن بقي الأثر المشؤوم وهو الاستهانة بالتنازلات...فتكرس هذا الاستخفاف في نفوس الإسلاميين البرلمانيين ومن يؤيدهم في مسلكهم. وهذا ينقلنا إلى:

الرابع: هل لا زالت المكتسبات التي رجوتموها في البداية قائمة أم أنها بدأت تتساقط والطموحات تضيق؟

طبعا عندما نرى أن العمل البرلماني فشل في فرض أية إرادة على مؤسسة الجيش، وأن البرلمانيين لم يستطيعوا بالطرق الرسمية ولا حتى إخراج أخواتنا النصرانيات الواتي أسلمن من جدران الحبس الكنسي في بلادهم فإنه يصبح من الهراء والهزل والضحك على النفس أولا ثم على الناس أن يُتكلم عن إقامة الخلافة الإسلامية وإعادة الهيبة إلى الأمة وإخراج الأمة باكملها من سجن التبعية للغرب بالطرق الرسمية ذاتها! إذن فالواقعية تقتضي منهم أن يعترفوا بأن المكتسبات تتساقط والطموحات تضيق.

فنتوقع من الإسلاميين البرلمانيين أن يقولوا الآن هدفنا هو إتاحة بعض الحريات للدعوة، وعدم ترك مؤسسة الحكم للعلمانيين والفلول، ومنع الفساد الإداري والمالي وإجراء بعض الإصلاحات الاجتماعية. وهذه مكتسبات جزئية ثانوية مظنونة غير قطعية، تنقلنا إلى:

السؤال الخامس: هل عدلتم في التنازلات بما يتناسب مع حجم المكتسبات الجديدة الثانوية نسبيا؟

نذكر الإسلاميين البرلمانيين: أنتم عندما قدمتم التنازلات الكبرى بداية، قدمتموها من أجل أهداف كبرى. بعبارة أخرى: رضيتم بمفاسد كبرى من أجل مصالح كبرى.

تدنت المصالح جدا، فهل قللتم التنازلات جدا في المقابل؟

للأسف، ما نراه هو العكس: زيادة التنازلات جريا وراء هذا السراب المسمى بالمكتسبات والمصالح. وكلما انتبه الإسلاميون إلى اختلال التوازن الذي افترضوه بين المكتسبات والتنازلات خدر شعورهم أمران:

الأول هو الاستهانة التي تكرست في نفوسهم بالتنازلات التي قدموها، فبعد أن كانت تنازلات صغيرة نسبيا أصبحت صغيرة بشكل مطلق.

والثاني: هبَّات الادعاءات غير الواقعية بأنه لا زال من الممكن تحقيق الهدف العظيم (إقامة الشريعة) بهذا الطريق الذي سلكوه. وهذه الهبات ناتجة عن التخبط والارتباك المذكور آنفا في تحديد الهدف.

بل العجيب أنه بعد ظهور فشل التنازلات في تحقيق حتى هذه الأهداف الجزئية الثانوية استننتج كثير من الإسلاميين البرلمانيين أن ما عليهم فعله هو زيادة التنازلات!! كمن يشرب من ماء البحر ولا يرتوي. بانَ لهم أن عدوهم لن يسمح لهم بالتغلغل في أجهزة الحكم وهم يحملون أية صبغة إسلامية فكان الاستنتاج: إذن فلنتخفف من حِمل الهوية الإسلامية حتى نشارك في الحكم، فباعوا الهدف من أجل الوسيلة وفعلوا كما فعل صاحبنا الذي أراد أن يكسو الأيتام كما ذكرنا في الحلقة الماضية.

وصدق الله تعالى إذ قال: ((ولا تتبعوا خطوات الشيطان)).

إذن كما رأينا ازدواجية وارتباكا في تحديد الهدف، فهنا أيضا ازدواجية وارتباك في الموازنة بين التنازلات والمكتسبات:

عندما يُعترض على التنازلات الخطيرة التي يقدمها الإسلاميون البرلمانيون يبررونها بأنها تُبذل من أجل أهداف عظيمة، ثم عند مواجهتهم بعدم جدوى المسلك البرلماني يتمسكون باحتمالية تحقق الأهداف الجزئية الثانوية!

أخيرا: السؤال السادس: هل تعتبرون أنفسكم كإسلاميين في العمل السياسي حاليا ممكنين أم مستضعفين؟

وهنا نرى ازدواجية أيضا! فعند الحديث عن المكتسبات المرجوة من الخوض في العمل البرلماني, يتكلم الإسلاميون البرلمانيون بنبرة الممكَّن...فهم يتكلمون عن انقلابة في الدستور وأسلمة مؤسسات الحكم وتغيير القيادات الفاسدة في الجيش...وهذه جميعا لا يقوم بها إلا ممكَّن. وعند لومهم على التنازلات وعلى تصريحاتهم بعدم نية تطبيق الشريعة من اللحظة الأولى يتعذرون بالاستضعاف. فلنحدد قدراتنا وإمكانياتنا كإسلاميين، هل نحن ممكنون أم مستضعفون؟ الممكن له دوره و واجباته ووسائله. والمستضعف له دوره و واجباته ووسائله، ولا ينبغي الخلط بين الوضعين. لا ينبغي أن تخوض هذا المخاض البرلماني زاعما أنك ستحدث انقلابا كبيرا في الأوضاع ثم إذا بك تضفي شرعية على النظام الجاهلي وتنفذ أجندته وتفقد هويتك وتميزك ثم تتعذر بالاستضعاف.

لا يخفى أن ما سبق جميعا يمثل حالة من الارتباك وفقدان البوصلة التي أصابت العمل الإسلامي كانت بدايتها القبول بتقديم تنازلات عن ثوابت منهجية باستدلالات غير منضبطة كما سيأتي بإذن الله.

كانت هذه إضاءات سريعة أتمنى من كل من يؤيد الخوض في اللعبة الديمقراطية أن يتأملها. ويستحضر أثناء ذلك قول الله تعالى: ((وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله))، وما رواه البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: ((لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به. فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ)).

وأظن أن هذه الحلقة تحتاج أن تعيد قراءتها مرة أخرى في ضوء هذه الآية وهذا الأثر.

في الحلقة القادمة سنتعاون معا بإذن الله لنحدد الهدف الذي ينبغي أن نسعى من أجله جميعا كعاملين للإسلام.

خلاصة الحلقة: القبول بالتنازل عن الثوابت جر العمل الإسلامي إلى متاهات خسائرها كثيرة مقابل مكاسب موهومة. فعلى الإسلاميين تحديد هدفهم ومعرفة أنه لا ينال بالتنازلات.

 

رابط هذا التعليق
شارك

17) عبودية الديمقراطية وبداية الزلل

السلام عليكم ورحمة الله.

إخوتي الكرام في الحلقات الماضية كنا نقول: الإسلاميون البرلمانيون تنازلوا تنازلات ذريعة مقابل مكتسبات موهومة. ما هي هذه التنازلات.

 

التنازل الأول والأكثر خطورة: الانخراط في اللعبة الديمقراطية التي تجعل التشريع لغير الله تعالى.

لذا فعندما نقول أن البرلمانيين تنازلوا فإن أول تنازل هو دخولهم البرلمان أصلا وقبولهم بالشروط التي أدخلتهم البرلمان. تركوا الشريعة على الباب قبل دخول البرلمان.

 

فكرة البرلمان تقوم على أن الشعب ينتخب من يمثله ليقوم بتشريع القوانين له. وطبعا القوانين التي نتكلم عنها ليست محصورة في أمور إدارية وفنية تركها الشرع لتقدير البشر، بل هي استفتاء للبشر في أمور حكم فيها رب البشر سبحانه وتعالى. وهذا مستند إلى مبدأ أن الشعب هو الذي له الحق أن يشرع لنفسه من القوانين ما يريد. لذا فالديمقراطية هي نقض للإسلام. فالإسلام هو الاستسلام والخضوع التام لحكم الله عز وجل، والاعتراف بأن حق التشريع هو له وحده سبحانه، وهذا من توحيد الربوبية، فكما أنه هو الخالق فهو صاحب الأمر المطاع: ((ألا له الخلق والأمر)). وطاعته في تشريعه سبحانه هي من توحيد الألوهية، فتوحيد الألوهية يقتضي إفراده تعالى بالعبادة، التي هي الطاعة والمحبة.

والديمقراطية نقض لهذا كله، فهي تجعل التشريع لغير الله وتوجب الطاعة لغير الله.

 

- في دين الله تعالى:

((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا))

وفي دين الديمقراطية:

(إذا قضى الله ورسوله أمرا فيعرض هذا الأمر على البرلمان ليختار. وللبرلمان الحق الكامل في أن يقبل حكم الله أو أن يرده. فإذا عصى البرلمان الله ورسوله فرأيه محترم لأنه يمثل الأغلبية).

- في دين الله تعالى:

((إنما كان قولَ المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا))

وفي دين الديمقراطية:

(إنما كان قول الديمقراطيين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا: سنعرض حكم الله على البرلمان، فإن أذن البرلمان لحكم الله أن ينفذ نفذ).

- في دين الله تعالى:

((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما))

وفي دين الديمقراطية:

(فلا وربك لا يؤمنون بالديمقراطية إيمانا صادقا حتى يحكموا البرلمان فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم نية لاستغلال اللعبة الديمقراطية أو التخلي عنها مستقبلا لفرض الشريعة. بل عليهم أن يسلموا بقواعد اللعبة الديمقراطية تسليما).

- في دين الله تعالى:

((إن الحكم إلا لله))

وفي دين الديمقراطية:

(إن الحكم إلا للبرلمان، يحكم حتى على حكم الله).

فالديمقراطية مناقضة للإسلام حيث أن تعريف الإسلام هو: الاستسلام والانقياد التام والإذعان لحكم الله تعالى، وتطبيق أمر الله تعالى لأنه أمر الله.

والديمقراطية هي جعل البرلمان حكما على كل شيء، حتى على شريعة الله. فإن طبق حكم من الأحكام فلا يُطبق لأنه واجب التطبيق من حيث هو حكم الله، بل لأن البرلمان أذن لهذا الحكم أن يُطبق. وهذا لا يمكن بحال تسميته انقيادا واستسلاما لله.

وهنا إخواني ينبغي أن ننتبه إلى أن الغرب ما صدر الديمقراطية إلى العالم الإسلامي إلا ليطمس بها الدعوة إلى تطبيق الشريعة مرحليا. حتى إذا نال هذه الغاية انقلب على الديمقراطية ودعم أنظمة مستبدة تنفذ أجنداته غير ملتفتة إلى إرادة الشعب ولا حريته ولا كرامته.

ترى البلد من بلاد المسلمين يرزح تحت نظام مجرم يستبيح الأرواح والأموال والأعراض عقودا طويلة بدعم من أمريكا والدول الأوروبية، حتى إذا سقط هذا النظام وتعالت الأصوات بإقامة دولة إسلامية وتطبيق الشريعة أسرعت الدول الغربية للتدخل في المشهد السياسي وحركت أذنابها في الداخل لينادوا بالديمقراطية، وانضم إليهم بقصد أو غير قصد بعض المنتسبين إلى العمل الإسلامي. ثم ترى متابعة أمريكية حثيثة لإجراء الانتخابات وتغطية للعرس الديمقراطي وثناء أمريكيا على نزاهة الانتخابات واحترام إرادة الشعب! هذه الإرادة التي كانت أمريكا ذاتها تقدم الرشاوى للأنظمة الفاسدة بمقدار ما تقمع الشعب وإرادته كما بين المؤلف نعوم تشاومسكي في كتابه (What Uncle Sam Really Wants ) (ما يريده العم سام في الواقع).

http://www.thirdworldtraveler.com/Chomsky/WhatUncleSamWants.html

 

 

كل هذا لطمس الدعوة إلى تحكيم الشريعة تحكيما صحيحا يقوم على أساس أنها شريعة الله، وليس استنادا لأهواء البشر. حتى إذا ما تم للغرب وأذنابه ذلك وسحب اعترافات من الإسلاميين المغرر بهم ومن جماهير الناس بالديمقراطية ومبدئها الشركي واستدرجهم لمواقف معادية لتطبيق الشريعة انقلب الغرب ذاته على الديمقراطية ودعم رئيسا أو جيشا يتفنن في قمع الشعب واحتقار إرادته ويسخر البلاد والعباد لخدمة المصالح الأجنبية. فلم يكن للشعب إلا مرارة الديمقراطية التي فوتت عليه الشريعة، ولم يجن من حلو حريتها شيئا.

وإن لم يتدخل الغرب بشكل سافر كما فعل في الجزائر، فإنه يسعى على الأقل أن توصل الديمقراطية إلى الحكم نماذج ممسوخة تستعلن بعدم نية تطبيق الشريعة أو تضحي بالشريعة من أجل الحكم في طريقها الديمقراطي الذي سلكته.

 

 

لذا فعلينا أن ننتبه نحن الذين نعارض الديمقراطية وننقضها إلى أن خطابنا للشعوب يشوه من الآلة الإعلامية ومن أذناب الغرب الذين يقولون للشعوب: هؤلاء يريدون فرض الشريعة عليكم، هؤلاء لا يريدون الحرية لكم، لا يحترمون إرادتكم، هؤلاء يرروجون لشكل آخر من أشكال الاستبداد الذي ثُرتِ عليه أيتها الشعوب. يعني باختصار: يظهروننا أعداء للشعب وحريته.

 

 

ينبغي أن نركز في خطابنا على أنه لا حرية حقيقية لك أيتها الشعوب إلا بالعبودية المطلقة لله تعالى بتطبيق شرعه، وهذا يخلصك من العبودية للغرب وأذنابه.

 

نحن دعاة الشريعة دعاة حرية وكرامة وسيادة للشعوب الإسلامية، سيادةٍ على أهل الأرض بالشريعة التي يحملونها. قال تعالى: ((لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون)) يعني فيه شرفكم وعزكم بين الأمم. بينما الديمقراطية هي عبودية دنسة لغير الله، فهي في الظاهر عبودية العبيد للعبيد، فعبيد يشرعون لعبيد، وفي الحقيقة عبودية للغرب الذي يستخدم الديمقراطية لتمرير مخططاته الاستعبادية للعالم الإسلامي.

في الحديث الذي حسنه الألباني أن عديا بن حاتم جاء إلى النبي و كان قد عدي دان بالنصرانية قبل الإسلام. فلما سمع النبيَّ يقرأ قوله تعالى: ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم))

قال: يا رسول الله إنهم لم يعبدوهم. فقال رسول الله: ((بلى. إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم))

 

 

فما استقر في ذهن الكثيرين من المسلمين أن الديمقراطية هي الحرية، هذا وهم. بل الصحيح أنها عبودية، بدلا من أن تكون عبودية لدكتاتور واحد فإنها تصبح عبودية لمجموعة من المشرعين وللغرب الذي يحرص على ألا يستعز المسلمون بعبوديتهم لله تعالى.

الإسلاميون عندما انخرطوا في العملية الديمقراطية قبلوا بقواعد هذه اللعبة الاستعبادية، الاستعبادية للبشر في ظاهرها وللغرب في حقيقتها. ولنأخذ مثالا لذلك الحالة المصرية. قبل سقوط رمز النظام السابق كان كثير من الإسلاميين يقرون بحرمة المشاركة في برلمان قائم على جعل حق التشريع للشعب، ومحتكم في تشريعاته إلى دستور وضعي. ثم بعد الثورة افترضوا حدوث حالة من الفراغ التشريعي الدستوري. وبالتالي فقد اعتبروا أنهم لم يعودوا مطالبين بالتنازلات التي منعت من مشاركتهم في العمل البرلماني من قبل.

 

 

فسادت في أذهان البعض صورة مبسطة جدا وهمية للمشاركة البرلمانية على النحو التالي:

البلد في حالة من الفوضى. الشعب متعارض المطالب، فمنه المسلم والنصراني والعلماني، وكل واحد يريد أن يُحكم بغير ما يريده الآخر. إذن فليس هناك طريقة للخروج من الخلاف إلا بأن يقوم الناس بترشيح نواب، هؤلاء النواب سيجتمعون تحت قبة البرلمان ليوصل كل منهم صوت شريحة من الشعب. والمأمول أن يغلب الصوت الإسلامي لأن الأكثرية تدعمه، فيُتخذ القرار بكتابة دستور إسلامي صرف يجعل الشريعة المصدر الوحيد للتشريع. فتقوم دولة إسلامية، ويخضع الجيش ويسلم الإسلاميين مقاليد الحكم. ويقتصر دور الناس والبرلمان بعدها على الخضوع والانقياد للشريعة من حيث هي حكم الله عز وجل. وتتحقق هذه المصلحة العظيمة دون مفاسد تذكر.

 

 

فدخول البرلمان في هذه الحالة لا يعني الإقرار بالمبادئ الشركية للديمقراطية، بل إنما تُفَرَّغ الديمقراطية من مضمونها وتتخذ كوسائل وآليات، والنائب الإسلامي دوره إنما هو إيصال صوت الشعب أننا نريد تحكيم الشريعة، والنائب لن يلتزم بدستور وضعي، بل الإسلاميون هم الذين سيكتبون الدستور.

طبعا هذا التبرير الذي سنظهر بطلانه احتفى به من كان يرى أصلا حرمة سلوك طريق البرلمان وأنه مزلة عقدية، وإلا فهناك أحزاب إسلامية كانت منخرطة في العمل البرلماني ومقدمة للتنازلات قبل الثورات ولا ترى فيما سبق جميعا أية مزلة عقدية.

وعلى كل فالصورة الساذجة المذكورة قد توهمها البعض عند الحديث عن الفراغ الدستوري. فهل هذا هو الذي حصل بالفعل؟

بل الذي حصل أن الإسلاميين الجدد على العمل البرلماني ومن اللحظة الأولى التزموا قواعد اللعبة الديمقراطية، مهما رقعوا لذلك بمواقف ثانوية وتصريحات عاطفية لا تغير حقيقة الأمر.

فأولا: التزموا المادة الرابعة من الإعلان الدستوري والتي جاء فيها: (ولا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أساس ديني). حتى قال قائلهم: (أرى أنه ما داموا قد اتفقوا على أنه لا تكون هناك أحزاب دينية لأن هذا قد يؤدي إلى احتقان طائفي خلاص يبقى ما فيش أحزاب دينية. لا أرى أن تكون الأحزاب دينية)!

 

وهذا بداية الزلل! تفاديا لإغضاب حفنةٍ من النصارى المتغطرسين وعملا بإعلان دستوري قائم على الديمقراطية وافقوا على ألا يكون الحزب دينيا. وبالتالي، تبعه الانصياع للقانون الوضعي الذي يحرم استخدام شعارات دينية في الحملات الانتخابية. إذن ما توهمه البعض من أن دورهم مقتصر على إيصال رغبة الشعب في تحكيم الشيعة هذا لا علاقة له بالواقع. لو كان هذا دورَهم فإن الحزب لن يكون إلا دينيا شعاره المعلن تطبيق الشريعة، إذ أنه ما أنشئ بزعمهم إلا من أجل ذلك.

 

 

لكن الإسلاميين خلعوا الشريعة على أعتاب البرلمان! فإنه في الحالة الوهمية الافتراضية التي تصورها البعض كانت الشريعة سبب وجود البرلمانيين كممثلين للشعب وكانت الشريعة هويتهم وقضيتهم وسبب شرعيتهم، يستمدون شرعيتهم من الشريعة التي يحملونها ويريدون تطبيقها...مرة أخرى: يستمدون شرعيتهم من الشريعة. لكن بخضوعهم لهذه المواد فإنهم يستمدون شرعيتهم من الشعب الذي انتخبهم، وليس من الشريعة. وهذا تسليم منهم بمبدأ الديمقراطية.

 

يعني تصور النائب الإسلامي واقفا على باب البرلمان يريد الدخول، فيقال له: بأية صفة تريد أن تدخل؟ فيقول: باسم الشريعة التي نريد أنا ومن انتخبوني تطبيقها، فيقال له: لا! هذا لا يعطيك شرعية لدخول البرلمان. عليك أن تقر بأنك إنما تدخل البرلمان باسم الشعب الذي انتخبك، وتستمد شرعيتك من انتخاب الشعب لك كمشرع، لا من الشريعة. لن يُقبل تصويتك على تشريع ولن يسمح لك باقتراح قانون إلا بصفتك ممثلا عن الشعب المشرع.

فيخلع النائب الإسلامي الشريعة على الباب ويدخل البرلمان بهذا الشرط. ويصول من ثم ويجول باسم الشعب الذي يستمد وجوده في البرلمان منه. تماما كما ترك صاحبنا الملابس على باب دار الأيتام في حلقة (نجحت العملية ومات المريض).

 

 

هذا الفرق الذي يراه البعض ثانويا هو مربط الفرس وأصل المسألة وبداية الانحراف وصرف حق التشريع من الله إلى عبيده. بل إن بعض الدول العربية عدلت بعد الثورات العربية في قوانين الأحزاب بحيث تمنع الاحزاب الدينية. وهذا استكمال لأركان دين الديمقراطية.

ومع ذلك فالذين حبكوا النظام البرلماني سدا منيعا أمام تطبيق الشريعة لم يكتفوا بذلك. بل وضعوا أمام النائب أبوابا أخرى ليضمنوا أن يخلع عندها أية بقية من دعوى تطبيق الشريعة قبل أن يجلس تحت قبة البرلمان. ما هي هذه الأبواب؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة بإذن الله.

 

خلاصة الحلقة: الديمقراطية تجعل النائب يستمد شرعيته من البشر، لا من شريعة رب البشر. وتمعن في استعباد الغرب للعالم الإسلامي.

 

رابط هذا التعليق
شارك

) فستذكرون ما أقول لكم 16

السلام عليكم ورحمة الله.

إخوتي الكرام ذكرنا في الحلقة الماضية أن على الإسلاميين الذين خاضوا اللعبة الديمقراطية أن يحددوا هدفهم من مسلكهم هذا بوضوح: هل هو تطبيق الشريعة أم إصلاحات جزئية؟

 

 

 

أما إن كان الهدف تطبيق الشريعة وأسلمة المجتمع فإنه ليس من سنة الله تعالى أن يأذن للمؤمنين بالوصول إلى هذا الهدف العظيم من خلال التنازلات والمشاركة في لعبة تجعل التشريع لغير الله تعالى. والله تعالى هو الذي قرر أنهم ((ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا))، وهم –كأسيادهم من اليهود والنصارى- لن يرضوا عن أحد حتى يتبع ملتهم. وقد مكروا مكر الليل والنهار وحبكوا دساتيرهم وقوانينهم وسدوا منافذها أمام من يحلم بأن يطبق الشريعة من خلالها...

 

 

 

• وقد كان من أكبر الأخطاء التي وقع فيها بعض الإسلاميين في أيامنا هذه الغفلةُ عن هذه الحقائق وتوهم أن الجاهلية تهادنهم إذا هادنوها والاغترار بوعود أعداء الشريعة الذين أوهموا الإسلاميين بإمكان الوصول إلى تطبيق الشريعة بالطرق الرسمية.

 

 

وأود هنا أن أذكر معنى كلام سيد قطب رحمه الله في ظلال قوله تعالى:

((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْلَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) ))

 

 

 

(هنا تتجلى حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإسلام والجاهلية...إن النظام الجاهلي -بطبيعة تركيبه العضوي- لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله, إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب النظام الجاهلي, ولتوطيد جاهليته! والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في التجمعات الجاهلية, والتميع في تشكيلاتها وأجهزتها هم ناس لا يدركون الطبيعة العضوية لهذه التجمعات، هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل هذه التجمعات أن يعمل لحسابها ولحساب منهجها وتصورها...لذلك يرفض المؤمنون أن ينخرطوا في الأنظمة الجاهلية...

وهنا يفصل الله بين المؤمنين والطغاة الذين يقفون في وجه الدعوة:

((فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين () ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد)).

ولابد أن ندرك أن نصر الله للمؤمنين على الطغاة إنما يكون بعد تمايز المؤمنين ومفاصلتهم للطغاة على أساس العقيدة، ولا يكون هذا النصر أبدا والمؤمنون متميعون في النظام الجاهلي, عاملون من خلال أوضاعه وتشكيلاته, غير منفصلين ولا متميزين عنه).

 

 

 

إذن كما قال الإمام مالك: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قبل: (فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله). ولم يعز الله أول هذه الأمة بالتنازلات بل بالثبات والتضحيات.

 

 

 

لقد صدَّر الغرب الديمقراطية إلى العالم الإسلامي لا لتكون بديلا عن الديكتاتورية، بل لتكون بديلا عن الإسلام. لذا فهي ديمقراطية مشروطة بألا توصل الإسلاميين إلى الحكم، بل هذا هدفها! وقد صرح الساسة الأمريكان وأذنابهم بذلك مرارا، أن الديمقراطية ليست لأعداء الديمقراطية.

الديمقراطية لا توصل إسلاميا إلى الحكم، وإن أوصلته فبعد أن تنزع منه إسلاميته. كما تعرى صاحبنا الذي أراد إنقاذ الأيتام، وإن بقي في هذا الإسلامي بقايا هوية إسلامية فسينقلب عليه أرباب الديمقراطية ويكفرون بديمقراطيتهم كما كان أهل الجاهلية يصنعون الصنم من العجوة ثم يأكلونه إذا جاعوا.

 

 

 

ونذكر الإسلاميين البرلمانيين بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه العراقي وحسنه الألباني: ((تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج نبوة)).

لاحظ...بعد الملك العاض لم يقل النبي أنه سيكون هناك إسلام ديمقراطي ثم خلافة على منهاج النبوة. هذا لن يكون. ستبقى الأمة ترزح تحت الملك العاض والحكم القهري إلى أن يشرِّف الله ثلة صافية المنهج بأن تعيدها خلافة على منهاج نبوة.

 

 

 

ليست الديمقراطية هي الطريق. وإن كان بعض الإسلاميين يستسهلها ويراها طريقا محفوفة بالورود قليلة التضحيات فيسلكها من أجل ذلك فهو كرجل أراد الوصول إلى قمة، لكنه رأى طريقها وعرة موحشة.

ورأى في المقابل طريقا ممهدة محفوفة بالورود فيها من يأنس بهم، لكن عيبها الوحيد أنها ليست مؤدية إلى القمة، بل عكس اتجاه القمة فما تزيده عن القمة إلا بعدا. فآثر صاحبنا أن يسلك هذه الطريق! وما الفائدة في السير سريعا وبسهولة إذا كان عكس الاتجاه المطلوب؟!

 

 

 

ونسأل الإسلاميين البرلمانيين: هل لديكم مثال واحد من التاريخ أتى فيه فقه التنازلات بدولة إسلامية وتحكيم الشريعة؟ استعرضوا التاريخ وأتونا بمثال واحد. وبعد هذا كله فالواقع يشهد وستتكشف الحقيقة أكثر فأكثر يوما بعد يوم، أنه لن تقوم للإسلام قائمة بطريق التنازلات والبرلمانات والدساتير الوضعية بل لن تزيد هذه الطريق المشروع الإسلامي إلا بعدا عن إقامة الدين.

((فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله)).

ستبدي لك الأيام ما كنت خافيا ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ

 

 

إذن، نقول للإسلاميين البرلمانيين: كونوا واضحين وصرحاء مع أنفسكم وقولوا: إنما هدفنا إجراء بعض الإصلاحات وتقليل المفاسد.

حينئذ نقول: العمل الإسلامي والمشروع الإسلامي أجل من أن يكون ترقيعيا ترميميا يرتق فتق النظام الجاهلي. ثم لو كانت إصلاحاتكم الجزئية هذه دون تقديم تنازلات عن ثوابت عقدية ودون المفاسد الخطيرة الكارثية التي نتجت عن تنازلاتكم، لقلنا لا بأس. أما أن تعملوا من داخل النظام الديمقراطي وتضفوا عليه الشرعية وليس من ثم إلا مكاسب ثانوية هزيلة، ويكون هذا كله باسم الإسلام، فهذا إسفاف بالإسلام وتهزيل لصورته.

 

 

الأنظمة الجاهلية هي كأبنية أسست على شفا جرف هارٍ، آيلةٍ للسقوط. دورنا نحن العاملين للإسلام أن نقول للشعوب: (هذه الأبنية آيلة للسقوط، اخرجوا منها، لا تشتركوا أيها الناس في العملية الديمقراطية). ليس دورنا أن ندخل في هذه الأبنية ونجري ترقيعات وإصلاحات جزئية ونسد الشقوق. فالبناء فاسد غير قابل للإصلاح. وترميماتنا هذه خداع للشعوب وتلبيس عليها وتضييع لوقتها في هذا البناء الذي سينهار. ولذلك فعندما ينهار ستزدرينا الشعوب وتلقي بنا في زوايا التاريخ المعتمة مع الهيكليات المهترئة التي سعينا إلى ترميمها.

 

 

أما لو حذرنا هذه الشعوب من هذا البناء وقلنا لها تعالي أيتها الشعوب فهذا البناء الجاهلي سينهار، تعالي لنبني بناء جديدا على أسس سليمة، فإنه بمجرد أن ينهار البناء الجاهلي سيصدقنا من كان يتشكك وينضم إلينا من كان يخالفنا ويثق بنا من كان سماعا لكذب أعدائنا ويزيد التفاف الشعوب حولنا. هذا دورنا، ليس دورنا أن نكون ورقة توت تستر عورات الهيكليات الجاهلية وتطيل بقاءها.

 

 

 

ختاما، فليتذكر الإسلاميون أنهم عندما أعلنوا هويةً إسلاميةً في عملهم السياسي المتعلق بحُكم الناس فإن ذلك يتضمن أن تكون أهدافهم هي أهداف الإسلام الذي يحملونه. فهل يرتضون للإسلام الذي أنزله الله نظام حياة شاملا يخضع الناس لسلطان الله فحسب أن يكون هذا الإسلام ترقيعيا ترميميا؟

 

 

خلاصة الحلقة: إن كان هدف الإسلاميين من التنازلات واللعبة الديمقراطية تطبيقَ الشريعة فهذا الهدف أجل من أن ينال بهذه الوسيلة، وإن كان الهدف ترقيعات جزئية فالإسلام أجل من أن يكون هذا هدفه.

رابط هذا التعليق
شارك

18) هل المادة الثاني من الدستور المصري تؤسلمه؟

 

السلام عليكم ورحمة الله. إخوتي الكرام ذكرنا في الحلقة الماضية أن الديمقراطية تفرض على النائب الإسلامي أن يستمد شرعيته من الشعب لا من الشريعة، وأن قوانين الأحزاب والانتخاب تكرس ذلك. فخضوع النائب الإسلامي لهذه القوانين هو تخلٍّ عن الشريعة من الخطوة الأولى.

 

وقلنا أنه مع ذلك فإن الذين حبكوا النظام البرلماني وضعوا أمام النائب أبوابا أخرى ليضمنوا أن يخلع عندها أية بقية من دعوى تطبيق الشريعة. الباب التالي هو القسم على احترام الدستور الوضعي. ففي مصر مثلا، المـــادة 42 من الإعلان الدستوري تقول:

يقسم كل عضو من أعضاء مجلسي الشعب والشورى أمام مجلسه قبل أن يباشر عمله اليمين الآتية :

"أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصاً على سلامة الوطن والنظام الجمهوري، وأن أرعى مصالح الشعب، وأن أحترم الدستور والقانون".

طبعا الدستور الأخير هو دستور 1971 الذي جرت عليه تعديلات عديدة ومن ثم تبعه الإعلان الدستوري ولواحقه. تعالوا الآن نرى بنودا من الإعلان بصيغته الأخيرة التي أقسم النواب الـ"إسلاميون" على احترامها:

 

مادة 1: جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم على أساس المواطنة

إذن فالنظام ديمقراطي يقوم على جعل التشريع للبرلمان، لا لله، ويقوم على أساس المواطنة، إذن لا اعتبار للدين في حقوق وواجبات حكم الشرع بالتفريق فيها، وبالتالي فالدستور يمَكِّن النصراني والمرتد أن يتولى الحكم أو القضاء مع الإجماع الشرعي على عدم جواز ذلك. وهذه المخالفة الصارخة تؤكدها مرة أخرى المــــــادة 7 التي تقول:

المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة ، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.

 

نتجاوز المادة الثانية لنعود إليها بعد قليل.

المادة الثالثة:

(السيادة للشعب وحده و هو مصدر السلطات –أي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية).

هذه المادة تأكيد على أن السيادة ليست للشرع والخضوعَ ليس لله، بل الشعب هو الذي يشرع لنفسه.

 

مــــــادة 24: (تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب)...لاحظوا، لاتنفذ من حيث هي حكم الله بل لأن الشعب أرادها. أي يكون صدور الاحكام تابعا لسلطة الشعب واستقلاله بحق التشريع من دون الله.

 

مـــــادة 33: (يتولى مجلس الشعب فور انتخابه سلطة التشريع):

تأكيد رابع على أن المشرع ليس ربَّ الشعب سبحانه، بل الشعب ومن ينوب عنه.

 

 

إخواني هذه المواد هي أحجار الأساس في النظام الديمقراطي، هي أركان دين الديمقراطية المصادم لدين الله تعالى القائل: ((أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله))،

والقائل: ((ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون))

تحكيم الشعب والبرلمان هو اتباع لأهواء البشر الذين إن انقطعوا عن الوحي فهم لا يعلمون.

 

 

وهذا هو الدستور الذي يقسم النائب الإسلامي على احترامه. يعني مؤدى قسمه: أقسم بالله العظيم أن أحترم جعل التشريع للشعب بدلا من الله العظيم!

قسمٌ بالله على احترام دين غير دين الله! قسم بالله على احترام اشتراك بشر مع الله في صفتة من صفات ألوهيته وربوبيته، وهي التشريع ووجوبُ الطاعة لهذا التشريع. هذا هو مؤدى القسم.

بل قد أقر البرلمانيون "الإسلاميون" الإعلان الدستوري ووافقوا عليه بصورته هذه والله المستعان!

 

 

وطلب القسم هذا من التناقض العجيب في دين الديمقراطية، فهي تمنع النائب من الانتساب لحزب ديني أو رفع شعار ديني في حملته، ثم لتضمنَ الديمقراطية لنفسها التزام النائب بها تجعله يقسم قسما دينيا!

 

سيقول قائل: لكن المادة الثانية من الدستور المصري ذاته، وكذلك من الإعلان الدستوري تنص على أن (الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع).

 

 

فنقول إخواني هذه المادة إمعان في الضلال. لماذا؟ دعونا بداية نتناول نص المادة فقرة فقرة بمعزل عن الدستور، ثم نضعها في سياق الدستور المصري لنرى هل هذه المادة موافقة لدين الله تعالى:

أولا: نص المادة:

أما (الإسلام دين الدولة) فمعروف أن هذه العبارة لا تحمل عند أرباب الدستور أي معنى تشريعي، بل هي ديكور وتلبيس وإلجام للأفواه وضحك على الذقون. إذا أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى من يسب الله جهارا في وضح النهار في بلاد المسلمين ومن يسخر من أحكامه... في هويته عبارة: (الديانة: الإسلام). لو تقدمنا بشكوى ضده في المحاكم فهل تستطيع أن تقنعها ولو بحذف هذه العبارة من هويته؟ لن تستطيع. إذا مات أبوه فهل تستطيع أن تقنع المحاكم بألا تورِّثه لأن الكافر لا يرث المسلم؟ لا تستطيع. إذا أراد الزواج بمسلمة هل تمنعه الدولة؟ لا تمنعه...لماذا كل هذا؟ لأن دين هذا الرجل رسميا عندها الإسلام. بل لعلك إن اتهمته بالكفر والردة وقدم ضدك دعوى تشهير فإنه يكسب القضية!

 

 

فالدولة التي تصر على أن دين هذا الرجل رسميا هو الإسلام هي ذاتها التي تكتب في دستورها (الإسلام دين الدولة). ومدلول كلمة

دين في هوية هذا الرجل هو كمدلولها في الدستور. فهذه الفقرة لا تحمل أية أهمية تشريعية أو غير تشريعية.

 

 

الشق الثاني من المادة:

ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. إذا علمنا أن رد التشريع إلى الله

هو من توحيد الربوبية وتوحد الألوهية كما أسلفنا، فإن معنى هذه المادة بالضبط: (الله هو الإله الرئيسي)، أو: (لا إله رئيسي إلا الله)! وهذا لا يختلف كثيرا عن منطق العرب في الجاهلية حين كانوا يرون ان الله إله رئيسي لكن معه آلهة أخرى!

قال تعالى: ((ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير))...إذا دعي إلى تحكيم الشريعة فحسب رفضوا، وقالوا بل لا بد من إشراك مصادر أخرى معها.

((وإذا ذُكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون))

 

 

هذا النص (المصدر الرئيسي) يعني بأن مبادئ الشريعة معروضة ضمن تشريعات أخرى أمام البرلمان المشرع الذي ادعى لنفسه صفة من صفات الربوبية والألوهية. فيتنقي البرلمان من الشريعة ما يعجبه ويرد ما يعجبه. وينتقي من غير الشريعة من قوانين البشر ما يراه أصلح من الشريعة في جانب من الجوانب...وهذا إشراك لمصادر أخرى مع الله في التشريع...والله أغنى الشركاء عن الشرك وهو القائل: ((ولا تشرك في حكمه أحدا)).

 

فإن قال قائل: لماذا لا تحمل هذه العبارة على الاستفادة من مصادر أخرى فيما لم تحكم به الشريعة؟ فالجواب أن الشريعة ذاتها تقرر كيفية الاستفادة من المصادر الأخرى بما لا يخالف أحكامها، فما الحاجة لكلمة (الرئيسي) إذا؟!

جنكيز خان في ياسقه ونابليون بونابرت في حكمه لمصر وغيرهما كانوا يأخذون من أحكام الشريعة الإسلامية ضمن شرائع أخرى. فهل جعل ذلك حكمهم إسلاميا؟!

 

كان هذا بالنسبة لعبارة (المصدر الرئيسي للتشريع). هل انتهت القضية عند هذا الحد؟ لا! بل إمعانا في الضلال تقول المادة: (مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع)

ما هي مبادئ الشريعة عندهم؟ العدالة والرحمة والكرم والسماحة والتقدم والرقى والحضارة وحفظ النفس والمال. وهذه هي أيضا المبادئ المعلنة للنصرانية والبوذية والهندوسية والكنفوشية والبهائية والقاديانية بل والاشتراكية والشيوعية! نص هلامي لا يسمن ولا يغني من جوع!

 

وعندما اقتُرح تغيير النص إلى (أحكام الشريعة الإسلامية)، اعترض بعض الـ"إسلاميين" المصرين على ترك الأمور هلامية مائعة مطاطة، وهو ذاته الفصيل الذي قال قائله: (إنما سنسعى إلى تطبيق مبادئ الشريعة التي لا تتعدى أصابع اليد الواحدة)!

 

إذن ففي هذه المادة (الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع)، لا كلمة دين لها دلالة ولا أثر، ولا كلمة مبادئ لها دلالة ولا أثر، ولا عبارة (المصدر الرئيسي للتشريع) تعني إفراد الله عز وجل بحق التشريع.

 

إذن فقد بينا أن أرباب الدستور حبكوا المادة الثانية في مفاصلها الثلاثة لتمنع تطبيق الشريعة وتبقى مع ذلك زخرفا من القول تذر الرماد في العيون وتضحك على الذقون!

 

سيقول قائل: (لقد غابت عنك حقيقة مهمة جدا!) ما هي؟ أن المحكمة الدستورية العليا قضت بقرار يجعل لهذه المادة أهميتها، بحيث إذا أحسن الإسلاميون استغلالها فإنها تؤسلم الدستور والقانون بالفعل. هذا القرار هو: (لا يجوز لنص تشريعي أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية فى ثبوتها ودلالتها)...أقول إخواني: لم يغِب عنا ذلك. بل هذا القرار لا قيمة له مطلقا! لماذا؟ هذا ما سنعرفه بإذن الله في الحلقة القادمة عندما نضع المادة الثانية في سياق الدستور المصري لنرى أن هذه المادة لا تصلح متعلقا لغريق أبدا ولنرى مدى الغفلة أو التغافل الذي أصاب الإسلاميين البرلمانيين المتمسكين بهذه المادة.

 

خلاصة الحلقة: نص المادة الثانية من الدستور المصري هلامي متضمن لإشراك البشر في التشريع مع الله تعالى.

رابط هذا التعليق
شارك

الحلقة 19

 

المادة الثانية وإخضاع الشريعة للبشر

السلام عليكم ورحمة الله.

أحبتي الكرام في الحلقة الماضية رأينا أن نص المادة الثانية من الدستور المصري لا يصلح أبدا كمدخل لمن يريد تطبيق الشريعة من خلاله. ثم قلنا سيعترض معترض بأن هناك ما يجعل لهذه المادة أهميتها، وهو قرار المحكمة الدستورية العليا القائل: (لا يجوز لنص تشريعي أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية فى ثبوتها ودلالتها).

 

نقول إخواني: هذا القرار لا يغير من واقع المسألة شيئا لسببين، سنفرغ بداية من الأقل أهمية منهما:

السبب الأول: هو إبقاء المحكمة الدستورية مفهوم الشريعة عاما غير محدد، حيث فسرت الأحكام الشرعية بأنها: (تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية، وأصولها الثابتة التى لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً)ـ

إذن لاحظ: مبادئها الكلية، وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلا.

فإذن عدنا إلى كلمة (مبادئ)، التي بينا عموميتها في الحلقة الماضية.

أما كلمة (الثابتة)، فمن الثبوت، أي أن تكون قطعية الثبوت.

 

ومعلوم أن العلمانيين والحداثيين في مصر ما فتئوا، وبدعم من وزارة الثقافة المصرية، يطعنون على السنة النبوية وينكرون ثبوتها وحجيتها، لكي يخلصوا من ذلك إلى ترك أحكام القرآن دون دلالة وهم يعلمون قاعدتنا...(إذا حاجك أهل الأهواء بالقرآن فحاججهم بالسنة فإن القرآن حمال وجوه).

 

لدينا القرآن والسنة. عندما يقول قرار المحكمة: (أصولها الثابتة) يُخرجون السنة، ثم عندما يقول: (لا تحتمل تأويلا) يخرجون القرآن الذي يتأولونه ألف تأويل بعيدا عن السنة.

 

وزيادة في تضييع الشريعة نصت المحكمة الدستورية في حكمها أنه: (ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره، وربما كان أضعف الآراء سندا، أكثرها ملائمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفا لآراء استقر عليها العمل زمنا). وهذا النص يُمَكِّن من الاعتماد على رأي شاذ مخالف للإجماع.

وعند الحاجة يمكنهم طبعا الرجوع إلى آراء الشيعة، معتمدين على ما قاله الدستوري المستشار عبد الرزاق السنهوري في كتابه (الوسيط في القانون المدني للسنهوري): (ومذهب الإمامية، يمكن الانتفاع بها إلى حد بعيد)!

 

بعد هذا كله، هل هناك كتاب معتمد لدى المحكمة الدستورية اسمه (مبادئ الشريعة الإسلامية الكلية، وأصولها الثابتة التى لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً)؟ هل لديها كتاب كهذا يمكن أن نتصفحه لنعرف ما هي هذه المبادئ والأصول؟ بالطبع لا. فالأمر يراد له أن يبقى هلاميا عاما.

سيقال: لكن حصل أن يستفاد من هذا القرار، عندما قُضي لصالح موظفين في مصر للطيران بعد أن فُصلوا لامتناعهم عن تقديم الخمور. فأقول إخواني: الباطل يعلق الناس بأمل وهمي حتى يبقوا مخدوعين به تائهين في دهاليزه بدلا من أن يبين لهم قبحه فييأسوا منه ومن دهاليزه ويبحثوا عن المخرج الحقيقي. وإلا فماذا استفاد البرلمانيون "الإسلاميون" من هذا القرار طوال السنوات الماضية؟ هل استطاعوا أن يأسلموا القوانين من خلالهما؟ ألم يكن القرار موجودا والخمارات وبيوت البغاء مفتوحة على مصراعيها بقوة القانون؟ والكتب تؤلف والإعلام ينضح بالسخرية من الله وكتابه ورسوله؟ والدعوة تحارب والأنفاق تُردم على أهل غزة والمسلمات يُسلَّمن للكنيسة...هل استفاد الإسلاميون من قرار المحكمة الدستورية في وقف هذا كله؟ بل سُنت قوانين جديدة مخالفة للشريعة في ظل وجود هذا القرار, وبقيت الشريعة غائبة عن القوانين الجنائية والسياسية والعسكرية والتجارية والإدارية. فلِمَ لم تُستخدم هذه المادة لإبطال هذه القوانين المخالفة لشرع الله؟

 

فموافقة حكم شرعي في حادثة أو حادثتين لا يزيد عن أن يكون استنزافا لطاقات الإسلاميين وإيهاما لهم بوجود أمل في أسلمة الواقع من خلال الدستور الوضعي المهترئ...

 

كان هذا السبب الأول لقولنا أن حكم أو قرار المحكمة الدستورية لا يعين أبدا على تطبيق الشريعة. السبب الثاني والأهم:

هو أن الدستور والمحكمة الدستورية يُخضعان الشريعة لحكم البشر! فما يطبق من أحكام الشريعة لا يطبق لأنه حكم الله، بل لأن الدستور ومحكمته ومن ثم البرلمان أذنوا لهذا الحكم بالتطبيق. وهذا ليس من الإسلام في شيء، بل هو تأليه للبشر بجعلهم حكاما على شريعة رب البشر متحكمين بها.

 

إن المادة الثانية لا تُعرض من الناحية الدستورية البحتة على أنها (حكم الله أو شرعه) الذي لا راد له ولا معقب، بل تعرض على أنها (اختيار وحكم الشعب) القابل للأخذ والرد والتعديل، لأن سلطة الشعب والبرلمان فوق الشريعة وحاكمة عليها! ومن حق البرلمان أن يعدلها أو يلغيها في أي وقت متى توفرت الأغلبية اللازمة لذلك بموجب الدستور، وبالتالي فهي لم تُـشـرع على أنها تعبد لله أو إذعان لحكمه أو تسليم له ولشريعته، بل شرعت لأنها توافق هوى البرلمان وحكمه واختياره!

 

فالدستور يخضع الشريعة لأهواء البشر في كل المراحل:

فأولا: وجود المادة الثانية منوط بإرادة البرلمان. فالمادة 189 من دستور 71 تقول: (لكل من رئيس الجمهورية ومجلس الشعب طلب تعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور)، وهذا طبعا يشمل المادة الثانية. وكذلك المادة 60 من الإعلان الدستوري تعلق العمل بالدستور بموافقة الشعب عليه، دون أدنى إلزام بوجوب موافقته للشريعة. وبالتالي فليس في الدستور ما يُلزم ببقاء المادة الثانية.

 

ثانيا: قررت المحكمة الدستورية أن تأثير المادة الثانية يقتصر على (القوانين التي صدرت بعدها فقط)! أما القوانين القديمة فلا تأثير للمادة الثانية عليها.

 

ثالثا: لا سيادة للمادة الثانية على بقية مواد الدستور، فتأثيرها يقتصر على (القوانين) فقط، وليس على (مواد الدستور) الأخرى. بل نص من يُسمون فقهاء الدستور على تقييد مادة الشريعة الإسلامية بباقي مواد الدستور المخالفة للشريعة، فقد قال السنهوري في وسيطه: (يراعى في الأخذ بأحكام الفقه الإسلامي التنسيق ما بين هذه الأحكام والمبادئ العامة التي يقوم عليها التشريع المدني في جملته، فلا يجوز الأخذ بحكم في الحكم الإسلامي يتعارض مع مبدأ من هذه المبادئ، حتى لا يفقد التقنين المدني تجانسه وانسجامه) [الوسيط في القانون المدني للسنهوري 1 / 48 - 49]ـ

وقال المستشار حامد الجمل: (والمادة الثانية لا يمكن تفسيرها وحدها، بمعزل عن المواد الأخرى فى الدستور، ومنها ما يتعلق بالمساواة، وعدم التمييز بين المواطنين).

يعني إذا خالف حكم من أحكام الشريعة مبدأً من مبادئ الدستور كسيادة الشعب والمدنية والمواطنة وحرية الردة وولاية الكافر وغيرها، فما الحل؟ الحل أن يرد حكم الله ويُعمل بحكم الدستور، إذ لا يجوز عندهم أن يُعمل بحكم الله في هذه الحالة...((كبرت كلمة تخرج من أفواههم)).

 

رابعا: تحديد ما إذا كانت القوانين الجديدة موافقة أو غير موافقة للمادة الثانية لا يخضع لأية أسس شرعية. فالجهة المخولة بتحديد ما إذا كان القرارات الجديدة مخالفة للمادة الثانية أم لا هي المحكمة الدستورية، التي ليس لأعضائها أهلية شرعية بل يحكمون بإعمال الدستور ولا يخضعون في تقييمهم لأية معايير شرعية. وبالتالي فتفسيرهم للمادة الثانية، والذي فرح به الإسلاميون البرلمانيون، هذا التفسير قابل للطعن، والمحكمة قد تغير رأيها، وأعضاؤها قد يتغيرون، وليس هناك ما يلزم ببقاء قرارها ما دام أن المحكمة ذاتها لا تتخذ الشريعة مرجعية بل تُخضع الشريعة لقواعد الدستور الوضعي.

 

خامسا: المادة الثانية ليس لها أي تأثير أو سلطة أو سيادة على البرلمان في عملية إصداره لقراراته، ولا تجبره على قبول أي حكم شرعي.

فإذا كان القانون المراد تشريعه أمراً من الفرائض أو الواجبات الشرعية مثل فرض الزكاة مثلا. فمن حق البرلمان دستوريا حينئذ أن يرفض حكم الله طبقا لرأي الأغلبية. فإن رفضت الأغلبية حكم الله فلا أحد يجبرهم عليها، ولا حتى المحكمة الدستورية.

 

سادسا: على فرض أن البرلمان وافق على حكم من أحكام الله، فإنه لا يصدر إلا بعد أن يُنزع عنه صفة أنه حكم الله ويُكسى بصفة (حكم الشعب)، ليعطيه صفة برلمانية دستورية. وهذا هو حرفيا معنى المادة الثالثة التي تقول:

(السيادة للشعب وحده)، والمادة الرابعة والعشرين التي تقول: (تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب)، أي لأن الشعب أرادها، إذ هو في الدستور يحكم لا معقب لحكمه.

قال المستشار حامد الجمل: (وهناك مسألة مهمة ترتكز على أن الشريعة الإسلامية لا تطبق بقوة نصوص الدستور، ولكن تطبق بإرادة المشرع المصري) [جريدة "الأهرام اليوم" الجمعة 1 ابريل 2011]ـ

أي أنها لا تطبق لأنها شريعة الله، ولا لأن الدستور اعتبرها مصدرا، ولكن يطبق منها ما يأذن البرلمان المشرع بتطبيقه من حيث هو حكمه لا من حيث هو حكم الله.

- وهذا هو نص فلاسفة الدولة المدنية كتوماس هوبز الذي قال: (إنَّ الكتابَ المقدسَ لا يصبحُ قانونًا إلَّا إذا جعلَتْهُ السُّلطةُ المدنيَّةُ الشرعيَّةُ كذلِكَ) (ص/258).

 

سابعا: المادة الثانية لا سلطان لها على القضاة في المحاكم وإنما هي تخاطب "المشرعين" في البرلمان. وبهذا أفتت المحكمة الدستورية العليا واستندت إلى المادة (165) في الدستور التي تنص على أن (الحكم في المحاكم بالقانون)، وشبيه بها مـــــادة 46 من الإعلان الدستوري التي تنص على أن (السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفق القانون). ولهذا يمنع أي قاضٍ من أن يحكم بالشريعة بدلاً من القانون الوضعي، ومعروف في ذلك حادثة القاضي المصري المستشار محمد محمود غراب الذي حكم بالحد الشرعي على رجل ضبط بحالة سكر بَيِّن بالطريق العام، فنُقض حكمه بموجب الدستور وتم عزله من العمل القضائي.

 

ملخص القول أن الشريعة الإسلامية في الدستور المصري ليست حاكمة بل هي محكومة. وتجدر الإشارة أني في هذه الحلقة أنقل كثيرا عن مبحث على الإنترنت بعنوان (المادة الثانية في ميزان الإسلام، حقائق مغيبة)، لم يُحدد كاتبه, وهو مبحث عظيم النفع جدا، من أرقى ما قرأت في طريقة توثيقه وعرضه وتأصيله، جزى الله كاتبه خير الجزاء، وأنصح إخواني جميعا بقراءته والاستفادة من منهجيته التوثيقية التحليلية.

 

هذه هي المادة الثانية وهذا هو تفسير المحكمة الدستورية لها في سياق الدستور...مادة مقيدة قاصرة مموهة مبتورة مزوية محكومة ذليلة، بينما شريعة الله عزيزة قاهرة مطلقة واضحة حاكمة.

 

إخواني، وأنا أحضر هذه المادة ماعت نفسي وكدت أصاب بالغثيان لما أراه من تجرؤ البشر على ربهم. ألا لعنة الله على الظالمين ((الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا))... والله إن هجران شريعة الله بالكلية لأقل وقاحة من العبث بها والتعالي عليها وإخضاعها لأهواء البشر بهذا الشكل. ألا لعنة الله على قلوب تشمئز إذا ذكر الله وحده، وشاهت وجوه ترفع جبهتها رفضا لشريعته، وذلت نفوس تستعلي على رب العزة.

 

ثم ماذا أصابكم أيها "الإسلاميون" البرلمانيون؟ أهذه المادة التي تصرون على بقائها وتعتبرونها خطا أحمر؟! أهذه المادة التي تريدون تفعيلها لا تعديلها؟! أهذه المادة التي تبررون بها قسمكم على احترام الدستور؟! أهذا الدستور الذي يسميه بعضكم دستورا محافظا وجيدا؟! أهذا الدستور الذي لا يحتاج سوى تعديلات طفيفة؟!

 

هل أسمى أمانيكم أن تعرض أحكام الله على البرلمان حكما حكما، ثم تلتمس أعذار لهذه "الأحكام" من القوانين الوضعية، فيستمع البرلماني صاحب البول والغائط لهذا الحكم وهو ساحل في كرسيه واضع رجلا على رجل يهز قدمه ويتثاءب. ثم يصوت، فإن لم يعجبه حكم الله هز حاجبه ورفع يده بالرفض، كصورة دكتاتور يأمر بأخذ سجين للإعدام! وإن وافق فلسان الدستور يقول: ليس لأنه حكم الله بل لأنه حكم البرلمان؟!

 

والله لو لم يكن من مفسدة لتنازلاتكم إلا تهزيل صورة الشريعة بهذا الشكل لكفى. شريعة الله أيها البرلمانيون لا تطبق من خلال ثغرة في الدستور والقانون فاربأوا بها عن هذا المقام الدنيء. ولا والله لا معنى للتشبث بهذه المادة وسط ركام من جعل البشر أربابا يشرعون من دون الله وتجب لهم الطاعة بنص الدستور.

-لم تغيِّر المادة ولا تفسيرها من حقيقة الدستور المصري شيئا، بل بقي الدستور تمرغا في وحل العبودية للبشر. حاكها أرباب الدستور وقيدوها بمواده لتكون ((كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب () أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض)) ظلمات في نصها وظلمة في سياقها وظلمة في تقييدها وظلمة في قصورها وظلمة في تفعيلها ((إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور))

هذا الدستور لم يجعل الله له نورا، فما له من نور، فوالله أيها البرلمانيون، لو أوقدتم له ألف شعلة ورقعتم له ألف خرق فما له من نور ولا لجيفته إلا القبور. فبطلانه بطلان أصلي لا يُصلح، وكسره لا ينجبر وما بني على باطل فهو باطل.

 

خلاصة الحلقة: المادة الثانية موجودة في الدستور باسم الشعب، وهي قابلة للإلغاء، ولا تفعَّل في القوانين السابقة لها، وهي مقيدة بمواد الدستور غير الشرعية، وتفسيرها لا يخضع لأسس شرعية، ولا تجبر البرلمان على القبول بحكم شرعي، وإن تسبت في إصدار قانون فإنما يُصدر باسم الشعب لا لأنه حكم الله.

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...