اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

غاية الخلق


Recommended Posts

الفقه الأكبر

غايـــــــــــة الخلـــــــق

أبو مالك الأنصاري

إن عدم وجود غرض يعود إليه تعالى لا يعني عبثية الخلق والتي تنافي الحكمة الإلهية، قال تعالى: " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً "، والعبث يطلق على الشيء الذي لا غاية حقيقية له، وهو يأتي في قبال الحكمة. إن الإنكار هنا بمعنى أنكم حسبتم أن لا حكمة في خلقكم، وأن ليس هناك غاية حكيمة.

إن أي فعل - نركز عليه - لا بدّ أن يكون باتجاه هدف معين، وطبيعيٌّ أنَّ بعثة الأنبياء كانت تستهدف تكميل الإنسان، ومما صرحت به الشرائع أن الأنبياء جاؤوا ليعينوا الإنسان، ويأخذوا بيده إلى الكمال.

إن في حياة الإنسان - في الواقع - نوعاً من الخلل والنقص لا يمكن للإنسان الفردي، بل وحتى الإنسان الاجتماعي أن يَسُدَّه بمعونة طاقات الأفراد العاديين، فيتعين عليه أن يستعين بالوحي.

ويلزمنا حينئذ أن نعود إلى القرآن ليحدثنا بشكل أكثر تفصيلاً وأشد تعييناً عن هدف الإنسان، وهل تحدث عن الهدف من خلق الإنسان؟ وهل ذكرنا الهدف من بعثة الأنبياء؟ وهل تحدث عن الهدف الذي يعيش له الإنسان؟

أي أن غاية خلق الإنسان والموجود الآخر المسمى بالجن هي العبادة.

فما معنى هذا الهدف؟ وما هي الفائدة التي تعود بها العبادة على الله؟ وهي حتماً ليست بذات فائدة له، لأن الله غني عن العالمين، لكن ما هي فائدتها العائدة على البشر ليخلق البشر لأجل العبادة.

وفي "التوحيد" بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر: ما معنى قول رسول الله: "اعملوا فكلٌّ ميسّر لما خلق له" فقال: "إن الله خلق الجن والإِنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه، وذلك قوله: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " فيسَّر كلاً لِما خُلِقَ له، فويلٌ لمن استحبَّ العمى على الهدى.

وفي "العلل" بإسناده إلى أبي عبد الله قال: خرج الحسين بن علي على أصحابه فقال: "إنَّ الله ما خلق العبادَ إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه".

والجدير بالذكر أنَّ هناك إشارات وردت في آيات عديدة من القرآن تبين الهدف من خلق الإنسان أو الكون، وقد تبدو مختلفة، ولكن بالنظرة الدقيقة نلاحظ أنها ترجع إلى حقيقة واحدة:

1- في الآية 56 من سورة الذاريات: يعتبر "العبادة" هي الهدف من خلق الجن والإنس " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ".

2- وفي الآية 7 من سورة هود يضع امتحان الإنسان وتمحيصه كهدف لخلق السموات والأرض " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا "

3- في الآية 119 من سورة هود يقول: إن الرحمة الإلهية هي الهدف " إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم "

4- وفي الآية 12 من سورة الطلاق اعتبر العلم والمعرفة بصفات الله هي الهدف " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا "

إن تدقيقا بسيطاً في هذه الآيات يرينا أن بعضها مقدمة للبعض الآخر، فالعلم والمعرفة مقدمة للعبودية، والعبادة هي الأخرى مقدمة للامتحان وتكامل الإنسان، وهذا مقدمة للاستفادة من رحمة الله.

فإذن الخلق مخلوقون لغاية، ما هذه الغاية؟

هي ما بيَّنها الله في قوله: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ". فالله ما خلقَ الجن والإنس إلا لغاية واحدة وهي الابتلاء: " ليبلوكم أيكم أحسن عملاً "

الاختبار اختبار في أي شيء؟

في عبادته هل يعبد وحده لا شريك له أم يتخذُ المخلوقُ هذا آلهةً أخرى مع الله؟ وهذه مسألة ولا شك عظيمة. الإنسان خُلق لهذه الغاية، لكن يحتاج إلى من يُبَصِّره بهذه الغاية، ويعلّمه القصدَ من خلقه، ويعلِّمُه كيف يصل إلى عبادة ربه على الوجه الذي يرضى به اللهُ عنه، فبعث الله رسلاً مبشرين ومنذرين يَدَلُّون الخلقَ إلى وعلى خالقهم، يُعرِّفونهم بمن يستحق العبادة وحده، ويعرفونهم بالطريق التي أَذِنَ مَن خَلقهم أن يعبدوه بها؛ قال تعالى لنبينا محمد: " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً " ، وقال: " إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم " ، وكلُّ أمة قد خلا فيها نذير، كما قال تعالى: " وإن من أمة إلا خلا فيها نذير "، نذير ينذرهم ويبشرهم؛ يبَشِّر من أطاع وينذر من النار، ويخوف من النار: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً منهم أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " ، فثبت بهذه النصوص أن الله لم يترك الخلق وشأنهم بعد أن خلقهم، بل بعث لهم رسلاً يعلمونهم ويهدونهم ويبصّرونهم الطريق التي يرضى الله أن يعبدوه بها دون ما سواها من الطرق الموصلة، وتلكم الطريق طريق واحدة، ليست بطرق متعددة كما قال تعالى: " اهدنا الصراط المستقيم " فهو صراط واحد، وهناك صُرُطٌ أخرى، هي صُرط أهل الضلال والجهل والغِواية والهوى، أما الطريق الموصلة إلى الله فهو طريق المرسلين الذي جاءوا به من عند الله ؛ وهو دين الإسلام العام، كما قال سبحانه: " إن الدين عند الله الإسلام " ، أي الاستسلام لله جل وعلا بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.

والرسل بينوا للناس هذه الغاية، ودلُّوهم على عبادة الله وحده دون ما سواه، فقامت العداوةُ بين الرسل وبين أقوامهم في هذا الأصل؛ حيث إن الخلق يريدون أن يعبدوا الله بالطريقة التي يحبون لا بالطريقة التي يحبها الله ، ولهذا قال بعض أئمة السلف: "ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب"؛ ليس الشأن أن تحب الله، فإنَّ محبة الله يدعيها المشركون، يدعيها الضالون، كل قومٍ بُعث فيهم الرسل يدعون أنهم يريدون وجه الله، يريدون ما عند الله يحبونه - ربما يتصدقون ويُصَلُّون ويدعون ويَصِلُون ويتقربون - وما فِعل أهل الجاهلية جاهلية العرب مِنَّا ببعيد، لكن ليس الشأن أن يُحِب المحبُّ ربَّه، ولكن الشأن أن يُحِب العبدَ ربُّه؛ الشأن أن يحب الله العبد متى يكون ذلك؟ لابد أن يبحث العبد عن سبيل محبة الله له، هذا السبيلُ بيَّنه الله في قوله " قل إن كنتم تحبون الله " زعمًا " فاتبعوني " طاعةً " يحببكم الله ".

فإذن سبيل محبة الله للعبد هي طاعة الرسل، واتباع الرسل وخاتم المرسلين نبينا محمد- الذي ببعثته وبرسالته نُسخت جميع الرِّسالات ونسخت جميع الكتب من قبله عليه الصلاة والسلام- فبقي للناس طريق واحد يصلون به إلى ربهم؛ ألا وهو طريق محمد عليه الصلاة والسلام، إذ هو الواسطة العملية للاتباع؛ للوصول إلى الله، فمن اتبع واهتدى بغير هدي النبي عليه الصلاة والسلام- هذا النبي الخاتم- فهو من الضالين الذين تنكبوا سبيل الحق.

هذا الأصل الأول، وهذه المسألة الأولى عظيمة جداً؛ لأنها إذا استقرت في قلب العبد قادته إلى كل خير، يعلم أنه ما خُلِقَ إلا لغاية. ما هذه الغاية؟ هي عبادة الله وحده دون ما سواه. كيف أعرف طرق هذه العبادة؟ باتباع النبي عليه الصلاة والسلام.

فتلخص الدين في هذه المسألة العظيمة، وما أحسن قول ابن القيم في نونيته بعدة أبيات قال:

" فَلِواحدٍ كُن واحداً في واحدٍ ... أعني سبيلَ الحقِّ والإيمانِ"

لواحدٍ: لله جل وعلا وحده دون ما سواه

كن واحداً: في قصدك وإرادتك وتوجهك وطلبك

في واحدٍ: في طريق واحد، قال بعدها:

أعني سبيل الحق والإيمان: الذي هو سبيل النبي عليه الصلاة والسلام.

وسائل الوصول للغاية من خلق الإنسان

الوسيلة الأولى: فاعلموا أن أكبر وسيلة، وهي شرط أساسي لنيل هذه الغاية، هي العرفان الصحيح بالله والإيمان بالإله الحق. ذلك أن الإنسان إذا أخطأ في اتخاذ أول خطوة. كأن اعتبر مثلاً الطيرَ أو البهائم أو العناصر الكونية، أو ابنَ الإنسان إلهًا.. فكيف يُرجى منه سلوكُ الصراط المستقيم في خطواته التالية؟ إنَّ الإلهَ الحقَّ يهدي - يُعينُ - الذين يبحثون عنه هو، وأمّا الميت فأنّى له أن يساعد الميتَ؟ ولقد ضرب الله في هذا المعنى مثالاً رائعاً حيث قال: " لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ " أي أن الإله القدير على كل شيء هو الأحق بأن يدعوه الإنسان. أما الذين يعبدهم الناس من دون الله فهم لا يستطيعون جواباً لهم، ومثالهم مع آلهتهم كمن هو باسط كفَّيه إلى الماء ليبلغ فمه.. فهل يدخل الماء هكذا إلى فمه؟ كلا. فالذين يجهلون الإله الحق أدعيتهم كُلها باطلة.

الوسيلة الثانية: والوسيلة الثانية لتحقيق غاية الحياة هي الوقوف على حسن وجمال الله المتصف بهما لكونه الكامل الأتم فإن الحُسن بطبيعته شيء تنجذب إليه القلوب تلقائيًا، ويحب الإنسان بطبعه رؤيتَه. وحُسن الله هو وحدانيته وعظمته وجلاله وصفاته.. كما يقول تعالى: " قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولَد * ولم يكن له كفواً أحد " أي أن الله في ذاته وصفاته وجلاله أحد متفرِّد.. لا شريك له في ذلك أصلاً. الجميع محتاجون إليه. كل ذرّة من الكون تستمد منه الحياة. إنه تعالى أساس \ مبدأ \ الفيض للكل، أما هو فلا ينال أي فيضٍ من أحد. إنه ليس بولد لأحد، ولا بوالدٍ لأحد. وكيف يكون كذلك.. وليس لأحدٍ ذاتٌ مثل ذاته؟ لقد عرض القرآن الكمالَ الإلهي والعظَمة الإلهية مرة بعد أخرى لتنبيه الناس أن انظروا: مِثلُ هذا الإله يكون غاية القلوب ، لا مَنْ هو ميت وضعيف وقليل الرحمة والقدرة.

الوسيلة الثالثة: وأما الوسيلة الثالثة.. للوصول إلى المقصود الحقيقي، وهي فوق السابقة.. فهي الاطلاع على إحسان الله تعالى، ذلك لأن للحب دافعين فقط: الحُسن والإحسان. وقد تضمنت سورةُ الفاتحة خلاصة صفات الله التي تُظهر الحمد كما يقول تعالى: " الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين " وواضح أن الإحسان الكامل إنما يتحقق إذا كان الله يخلق عباده من العدم المحض، ثم لا يزال يشملهم بربوبيته على الدوام، وكان هو نفسه محوراً – مداراً - لكل شيء، ثم كانت

رحمته بكل أنواعها قد ظهرت لهم، وكان إحسانه وفضله عليهم عظيماً بحيث لا يمكن لأحد تقديره ولقد عدَّد الله علينا في القرآن المجيد هذا الإحسان مرة بعد أخرى، كما قال سبحانه: " وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ".

الوسيلة الرابعة: والوسيلة الرابعة التي جعلها الله لنيل المقصود الحقيقي هي الدعاء.. كما يقول تعالى: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " وقد رغَّب الله الإنسانَ في الدعاء مرة بعد أخرى لينال هذه الغاية بقوة الله لا بقوته هو فقط.

الوسيلة الخامسة: والوسيلة الخامسة التي وضعها الله للفوز بالمرام الأصلي هي المجاهدة.. أي أن نطلب لله بإنفاق أموالنا في سبيله، وتسخير قوانا من أجله، والتضحية بنفوسنا، وبذل عقولنا في سبيله، كما يقول تعالى: " ومما رزقناهم ينفقون " ، " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " ، " جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله " أي ابذلوا في سبيل الله أموالكم وأنفسكم بجميع ما فيها من قوى وملكات، وأنفقوا في سبيله كل ما أعطاكم من عقل وعلم وفهم ومهارة وغيرها. والذين يسعون بكل طريق في سبيلنا فإننا لا بد أن نَدُلهم عليه- نهدينهم سبلنا-

الوسيلة السادسة: والوسيلة السادسة التي بينها الله للظفر بالمقصود الحقيقي هي الاستقامة؛ وهي ألا يصيب السالك في هذا الطريق تعبٌ ولا وهن ولا ملل ولا خوف من ابتلاء.. كما يقول الله: " إن الذين يقولون ربنا الله تتنزل عليهم الملائكة ألا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.. " أي أن الذين قالوا ربنا الله وتخلَّوا عن الآلهة الباطلة، ثم استقاموا، أي ثبتوا في أنواع الاختبارات وصنوف البلايا، تتنزل عليهم الملائكة قائلين: لا تخافوا ولا تحزنوا، بل ابتهجوا وافرحوا لأنكم أصبحتم ورثةَ تلك السعادة التي وُعدتم بها. إننا أولياؤكم في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة أيضاً. ولقد نبه بهذه الكلمات إلى أن الاستقامة تُكسب رضى الله تعالى.

من مجلة منهاج النبوة العدد الثاني

رابط المقال:

http://mnhajalnbooa.com/vb/showthread.php?t=3

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...