اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

"الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي" للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك (متجدد)


Recommended Posts

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

 

الحلقة السادسة والعشرون:

تفاوت العقول في النظر إلى الحقائق والتشريعات

 

 

 

 

لا شك أن الناس يتفاوتون في نظرتهم إلى حلول المشاكل، وتقنين تلك الحلول، فلو سألت الناس عن رأيهم بالحل الأمثل لعلاقة الرجل بالمرأة، لوجدت تنوعا في الإجابات يتشكل نتيجة تدخل الثقافات، والعادات والبيئة، والأهواء والرغبات، والنظرات الآنية للمصالح، وتفاوت قدرات العقول قوة وضعفا، وتقديرها للضرر والنفع، وتفاوت تقدير العقول للكيفيات التي تحقق المصالح، وتفاوت فهم العقول لانسجام القوانين مع نسيج القانون العام في الدولة وتحقيقه لمنظومة القيم والمقاصد التشريعية، وغير هذا من العوامل التي لا ينكر وجودها،

 

وبالتالي فإنه من المستحيل أن يجمع البشر، أو أغلبهم، على تشريع قانون واحد، علاوة على مجموعة قوانين تحكم كل جوانب حياتهم، وهنا يترك موضوع سن القوانين للدولة، والتي بدورها تترك موضوع سن القوانين للفقهاء القانونيين، فالتشريع في الأنظمة الوضعية على الحقيقة هو نتاج عقول قِلَّةٍ من المحامين والقضاة وفقهاء القانون، لا نتاج إرادة الشعب، ولا نتاج ما تراه الجماعة أو أكثرها محققا لمصالحها، وسننظر الآن في قدرة تلك القلة

 


 

[1] ألا ترى معي مقدار الخطورة في وضع سن دستور الدولة، وتحديد المقاصد التي يرادها للمجتمع، وسن القوانين التي تخضع لهذا كله في يد قلة من المحامين، والقضاة وفقهاء القانون؟ تحدد هذه المجموعة القليلة للناس شكل مجتمعهم ودولتهم القانوني، والقيم التي يريدون لهم أن يعيشوا لها، ويأتي غيرهم من القضاة بعد حين، فيكتشفون أخطاء وقع بها الأولون، فيغيرون، وهكذا وضعت أخطر مسألة في يد قلة تتقلب ذات اليمين وذات الشمال! ثم يأتيك علماني يقول لك: ننادي بتحكيم القوانين البشرية! فتلك القلة لديه أقدر على التشريع من رب العالمين! ﴿سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾! ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾!

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة السابعة والعشرون:

الزوايا والاعتبارات التي يجب بحثها حين الإجابة على السؤال:

لمن الحق بالتشريع؟ - ج1

 

 

 

 

إن إنتاج الأفكار وحكم الإنسان على الأشياء والأفعال، يأتي من حيث فهم واقعها ما هو؟ ومن ثم من حيث وجهة النظر في الحياة التي تحدد للإنسان موقفه تجاه الأشياء والأفعال، ومن غير وجهة النظر عن الحياة هذه فإن الإنسان لا يكون ناهضا، فيستوي عنده أكل كل شيء ما دام يشبع جوعة المعدة، فيستوي الأكل بطريق السرقة، مع الأكل بطريق العمل الشاق، ويستوي القتل، فلا قيم تردع الإنسان ولا تحدد سلوكه!

 

لذلك فلا يكتفي الإنسان الناهض المتحضر بأن يدرك واقع التفاحة بأنها تشبع الجوع، وأنها ليست فجة، ولا غير ناضجة، كي يأكلها، بل يسبق فعله هذا وجهة نظر في الحياة تبين له أسباب امتلاكها، وما تعلق بحكمها، فإن كانت حلالا أكلها!

 

ولتحديد الموقف من الفعل: هل يتركه الإنسان أم يفعله، أم يخير بين الفعل والترك، ولتحديد موقفه من الأشياء المتعلقة بها أفعاله، هل يأخذها أو يتركها، أم يخير، نجد أن الموقف هذا يتوقف على النظر إليه من خلال الزوايا التالية: واقع الشيء أو الفعل، الحسن والقبح، الخير  والشر، المدح والذم، الثواب والعقاب.

 

أ‌-  نظرته للشيء أو للفعل، (ما هو واقعهما؟)، هل يظهر في واقع الفعل أو الشيء الكمال والنقص؟

 

ب‌-                ومن زاوية: الحسن والقبح، أي من خلال الاعتبارات التالية:

 

الاعتبار الأول: الملاءمة لطبع الإنسان، وللميول الفطرية لدى الإنسان، ولأغراضه أو المنافرة لها، فالحُسْن قيل: هو ملاءمة الطبع، والقُبْح قيل: هو منافرته كقولنا: إنقاذ الغريق حسن، وإتهام البريء قبيح!، وما وافق الغرض كان حسناً وما لم يوافق الغرض كان قبيحاً، كقتل زيد بالنسبة لأعدائه وأوليائه فإنه بالاعتبار الأول حسن أى ملائم للغرض وبالاعتبار الثاني قبيح أي غير موافق لغرضهم.

 

الاعتبار الثاني: أن الحُسْن هو الكمال، والقُبْح هو النقص كقولنا: العلم حسن، والجهل قبيح، بمعنى أنها صفة كمالٍ توجبُ ارتفاع شأن صاحبها والقبح كون الشيء صفة نقصان بمعنى أنها توجب انحطاط شأن صاحبها المتصف بها.

الاعتبار الثالث: أن الحُسْن هو استحقاق الثواب والمدح، والقُبْح استحقاق العقاب والذم.

 

قيل بأن الاعتبارين الأول والثاني للعقل!، لكن هذا وإن انطبق على بعض الأفعال وبعض الأشياء، فإنه لا ينطبق على الكل، فالعبرة كما اتضح لك من النقاش في البابين السابقين ليست لمجرد إصدار الحكم، أي حكم، وإنما لصوابية الحكم، ومقدرته على معالجة المشكلة معالجة صحيحة!

 

 أما وصف الأفعال بالحسن والقبح فإنه من حيث الحكم عليها من قبل الإنسان، ومن حيث العقاب والثواب عليها، فالإنسان أعطى نفسه صلاحية الحكم على الفعل بأنه حسن أو قبيح قياساً على الأشياء، فإنه لما وجد أنه استطاع أن يحكم على الشيء المر بأنه قبيح وعلى الشيء الحلو بأنه حسن، وعلى الشكل البشع بأنه قبيح وعلى الشكل الجميل بأنه حسن رأى أنه يستطيع الحكم على الصدق بأنه حسن وعلى الكذب بأنه قبيح وعلى الوفاء بأنه حسن وعلى الغدر بأنه قبيح، فأعطى نفسه صلاحية الحكم على الأفعال بأنها حسنة أو قبيحة بغض النظر عن موضوع الخير والشر فإنه ليس وارداً عنده في هذه الحالة، (أي أن البحث هنا من زاوية الحسن والقبح لا الخير والشر) وبناء على حكمه هذا وضع العقوبات على الفعل القبيح ووضع المكافآت على الفعل الحسن.

 

فجاء التصحيح لهذا الحكم بأن الفعل لا يقاس على الشيء، فإن الشيء يدرك الحس فيه المرارة والحلاوة والبشاعة والجمال فيمكنه أن يحكم عليه، بخلاف الفعل فإنه لا يُوجَد فيه شيء يحسه الإنسان حتى يحكم عليه هو بالقبح أو الحسن، فلا يتأتى أن يحكم عليه بالحسن أو القبح مطلقاً من نفس الفعل (وكون الظلم مما يمدح أو يذم ليس مما يحسه الإنسان؛ لأنه ليس شيئاً يحس، فلا يمكن أن يُعقَل، أي لا يمكن للعقل إصدار حكم عليه.)

 

ويتم الحكم على الفعل أو الشيء بالإحساس به، وينقل هذا الإحساس للدماغ ليصدر الحكم عليه، فما لم يكن الفعل أو الشيء محسوسا، فلا يمكن إصدار الحكم عليه، فلا يكفي لإصدار الحكم على الفعل أن يشعر الإنسان بفطرته بالنفور منه، أو الميل له، (فبعض العقول تميل للزنى، ولشرب الخمر فهل يكفي ميلها دليلا على صحة القيام بالفعل أو تحسينه؟ أين المقياس وأين الميزان؟!! والفطرة قد تتأثر بعوامل خارجية مثل الثقافة، فالغربي لا يرى "بفطرته" ما يراه المسلم "بفطرته" وذلك جراء تغير الموازين والأحكام جراء الثقافة الخارجية!، وتأثير الفطرة يتفاوت في العقول قوة وضعفا، دقة في الفهم وضبابية!، ثم لو سلمنا جدلا بصلاحية الفطرة لأن تكون مقياسا ومصدرا لوصف الفعل بالحسن والقبح، كما هو قولهم: العلم حسن، والجهل قبيح، فهاتوا بينوا لنا كيف ستحكم الفطرة على تقبيح أو تحسين تعلم الفلسفة الإلحادية؟ أو على تقبيح أو تحسين حكم أو قانون يتعلق بالشركات المساهمة؟) فلا يتأتى للعقل الحكم عليه بالحسن أو القبح، وبالتالي فلا يصح له الحكم على الفعل بالمدح أو الذم، فلا بد أن يأخذ هذا الحكم من غيره وهو الله تعالى. فهنا البحث من حيث الحكم على الفعل وليس من حيث مقياسه وهنا البحث من حيث العقوبات على الأفعال والإثابة عليها وليس من حيث الإقدام عليها والإحجام عنها، ولذلك كان هناك فرق بين الخير والشر وبين الحسن والقبح، وكانا بحثين منفصلين تماماً.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

 

الحلقة الثامنة والعشرون:

الزوايا والاعتبارات التي يجب بحثها حين الإجابة على السؤال:

لمن الحق بالتشريع؟ - ج2

 

 

 

 

أما وصفها من ناحية العقل وحده فباطل؛ لأنّ العقل عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض واتباع الأهواء ومراعاة مصالح جزئية أو عرضية لا يلبث أن يتبين أنها مفاسد، إذ قياسات العقل للحسن والقبح قد تتأثر بالبيئة التي يعيش فيها بل تتفاوت وتختلف بالعصور على تعاقبها، فإذا ترك قياس القبح والحسن للعقل كان الشيء قبيحاً عند فئة من النّاس وحسناً عند آخرين، بل قد يكون الشيء الواحد حسناً في عصر، قبيحاً في عصر آخر.

 

أما جعل الشرع دليلاً على ما دلّ عليه العقل فهو يقضي بجعل العقل حكماً في الحسن والقبح، وقد بينّا بطلانه، وأما جعل العقل دليلاً على ما دلّ عليه الشرع فهو يقضي بجعل العقل دليلاً على الحكم الشرعي مع أن الحكم الشرعي دليله النص وليس العقل، ومهمة العقل هي فهم الحكم الشرعي لا جعله دليلاً عليه. ومن هنا كان الحسن والقبح شرعيين فقط وليسا عقليين، ليس فقط من زاوية الاعتبار الثالث بل أيضا بالاعتبارين الأول والثاني!.

 

أوّلاً: أن العقل قد يدرك حسن وقبح بعض الأفعال بالضرورة والبداهة. مثال: حسن العدل وشكر المنعم والصدق النافع، وقبح الظلم وكفران المنعم والكذب الضار.

 

ثانياً: أنه قد يدرك حسن وقبح بعض الأفعال بالتفكّر والتأمّل. مثل: حسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع.

 

ثالثاً: والعقل لا يدرك حسن وقبح جملة من الأفعال لا ضرورة ولا بالتفكّر والتأمّل، و بالتالي فلا يكون للعقل سبيل لمعرفة حسن و قبح هذه الأفعال إلاّ عن طريق تحسين وتقبيح الشارع كالعبادات. مثال: تحسين الشارع صوم شهر رمضان، وتقبيحه صوم يوم عيد الفطرـ تحسين الشارع لقتال الكفار دفاعا أو نشرا للدين وبسطا لسلطان الإسلام، وتقبيحه عدم إجابة النفير، مع وجود ما يحتج به الإنسان للقعود مثل حر الصيف الشديد، ووعورة مسالك الطريق كما حدث في تبوك!

 

إنّ الكذب كفعل قبيح عقلا قد يحسن فيما لو اشتمل على مصلحة عامة من قبيل إنقاذ نبي من يد ظالم.وإنّ الصدق كفعل حسن عقلا قد يقبح فيما لو اشتمل على مفسدة عامة من قبيل هلاك نبي على يد ظالم. فلو كان الحسن والقبح ذاتيين، لما زال هذا الحسن والقبح، وبالتالي فما حسن الكذب وقبح الصدق أبداً، ولما كان الموضوع لمن الحكم في كل الأفعال والأشياء، فإننا سنجد العقل عاجزا عن تحسين وتقبيح جل الأشياء والأفعال، فالاعتبارات الخارجية التي تكتنف الفعل تجعل الزوايا التي يجب مراعاتها عند الحكم بالحسن أو القبح كثيرة قد لا يحيط العقل بأكثرها فيصدر حكما ثم يتبين له نقص ذلك الحكم لاعتبارات أخرى لم يحسب لها حسابا، فيعيد النظر وهكذا! ثم إننا وجدنا أن الحكم لا يقتصر على فعل واحد أو شيء واحد، بل إنه يقوم في إطار تحقيق "مقاصد كلية" ويقوم في إطار تحقيق "قيم مجتمعية" معينة، وهذه لها أثر كبير، وهي كلها خارجية عن الفعل أو الشيء، مما يعني عدم قدرة العقل على الحكم بالحسن والقبح بمجرد "مقومات ذاتية في الفعل أو الشيء تجعل الحكم عليه واضحا لا لبس فيه"!.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

 

الحلقة التاسعة والعشرون:

الزوايا والاعتبارات التي يجب بحثها حين الإجابة على السؤال:

لمن الحق بالتشريع؟ - ج3

 

 

 

 

 ومن زاوية الخير والشر، أي من زاوية أثرها في نظر الإنسان، ومن حيث الإقدام عليها والإحجام عنها،

فزاوية التحسين والتقبيح هي من باب الكمال والجمال، وأما زاوية الخير والشر فهي من باب النظرة العقائدية، أو الأخلاقية، أي تسليط قيم الإنسان على الفعل والشيء لوصفه بالخير والشر،

 

فالإنسان أطلق على ما يضره أو ما يكرهه من الأفعال بأنه شر، وأطلق على ما ينفعه وما يحبه من الأفعال بأنه خير من أثر ذلك عليه بغض النظر عن الحسن والقبح، فإنه ليس وارداً عنده في هذه الحالة، (أي الزاوية التي ينظر من خلالها هنا هي زاوية أثر قيمه في صف الفعل، لا زاوية كمال الفعل أو نقيض كماله) وبناء على هذه النظرة يُقْدِمُ على الفعل ويُحْجِمُ عنه، فجاء التصحيح لهذه النظرة بأن الفعل لا يقال إنه خير أو شر حسب الكراهية والحب أو النفع والضر، وإنّما قياس كونه خيراً أو شراً هو مرضاة الله تعالى، وتسليط القيم على ذلك الفعل لوصفه بالخير أو الشر، وهذه القيم تتفاوت، وهي خارجية عن الفعل لذلك فالفعل بنفسه لا يحمل صفات الخير أو الشر، فالقتل هو القتل يوصف بالخير أو بالشر بما يكتنفه من عوامل خارجية، كقتل العدو والصديق، وبما تسلط القيم على ذلك الفعل مثل التفريق بين قتل الذمي والمعاهد، وبين قتل الحربي، وبين قتل من يسمون اليوم بالمدنيين في دار الحرب وبين قتل المقاتلين في ساحة القتال، فهذه كلها تتسلط عليها قيم أتت من الخارج لوصف بعضها بالخير والآخر بالشر، وليست من ذات الفعل فتأمل!.  لذلك فالقيم هي التي يوصف من خلالها الفعل بالخيرية أو الشرية، وهذه القيم هي عين قولنا: الشرع هو من يحكم بالخير أو الشر، أما القيم البشرية، فإن جعلها أساسا للحكم بالخير أو الشر هو دور، وهو باطل، لأنها هي نفسها بحاجة لتوصف بالخير أو الشر، يعني لو فرضنا أن القيم الرأسمالية هي التي ستسلط على الفعل لوصفه بالخير أو الشر، وهذه القيم نتاج العقل، وقد اتفقنا على أن العقل لا يستطيع الحكم على الفعل بالخير أو الشر إلا بتسليط قيم خارجية، فهذه القيم الخارجية إن أتت من العقل نفسه فهي بحاجة لما يصفها بالخير أو الشر أو يجعلها صالحة لوصف الفعل بالخير أو الشر وهذا دور والدور باطل ومستحيل! فوجب أن يؤخذ الحكم بالخير أو الشر من الشرع لا من العقل!

 

فهنا البحث من حيث مقياس الخير والشر الذي تعارف النّاس عليه وليس من حيث الفعل نفسه. والحقيقة أن الأعمال التي تقع من الإنسان، لا توصف بأنها خير أو شر لذاتها، لأنّها مجرد أفعال فقط ليس لها وصف الخير أو الشر باعتبار ذاتها، وإنّما جاء كونها خيراً أو شراً بناء على اعتبارات خارجة عن ذات الأعمال، فقتل النفس الإنسانية لا يسمى خيراً ولا شراً، وإنما يسمى قتلاً فقط. وكونه خيراً أو شراً إنّما جاء من وصف خارج عنه. ولذلك كان قتل المحارب خيراً، وقتل من يحمل التابعية أو المعاهد أو المستأمن شراً، فيكافأ القاتل الأول، ويعاقب القاتل الثاني، مع أنهما عمل واحد ليس فيه تمييز. وإنّما الخير والشر آت من العوامل التي تسير الإنسان للقيام بالعمل والغاية التي يهدف إليها من القيام به. فالعوامل التي سيرت الإنسان للعمل والغاية التي يهدف إليها هما اللذان عيّنا وصف العمل بالخير والشر، سواء أحب الإنسان أو كره، وسواء أصابه منه نفع أو ضرر. إذن، فوصف الفعل بالخير أو بالشر للشرع لا للبشر، ويصدق ذلك قول الله تبارك وتعالى:  ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة]، فالحق سبحانه سيحاسب الناس يوم القيامة على مثقال الذر من أعمالهم بوصفها خيرا أو شر، وهو من قرر لهم ابتداء خيرها من شرها، وسيحاسبهم على اتباع ما أمر والانتهاء عما نهى، فالوصف والحكم بالخير والشر إذن للشرع لا للعقل.

 

ث‌-  ومن زاوية المدح على الفعل أو الذم عليه، في الدنيا، ومن زاوية الثواب والعقاب عليه في الآخرة.

 

وأيضاً، فإنه لو ترك للإنسان أن يحكم على الأفعال والأشياء بالمدح والذم، لاختلف الحكم باختلاف الأشخاص والأزمان، إذ ليس في مقدور الإنسان أن يحكم عليها حكماً ثابتاً. ومن أجل ذلك يحكم فيها الله وليس الإنسان، يحكم فيها الشرع وليس العقل، إذ لا دخل للعقل بهذا الحكم من هذه الجهة. على أن المشاهد المحسوس، أن الإنسان يحكم على أشياء أنها حسنة اليوم، ثم يحكم عليها غداً أنها قبيحة، ويحكم على أشياء أنها قبيحة أمس، ويحكم عليها نفسها اليوم أنها حسنة، وبذلك يختلف الحكم على الشيء الواحد، ولا يكون حكماً ثابتاً، فيحصل الخطأ في الحكم؛ ولذلك لا يجوز أن يجعل الحكم بالمدح والذم للعقل، ولا للإنسان.

 

ولا يجوز أن يجعل إصدار الحكم بالمدح والذم لميول الإنسان الفطرية؛ لأن هذه الميول تصدر الحكم بالمدح على ما يوافقها، وبالذم على ما يخالفها، وقد يكون ما يوافقها مما يذم، كالزنا، واللواط، واستعباد الناس، وقد يكون ما يخالفها مما يمدح، كقتال الأعداء، والصبر على المكاره، وقول الحق في حالات تحقق الأذى البليغ. فجعل الحكم للميول والأهواء يعني جعلها مقياساً للمدح والذم، وهي مقياس خاطئ قطعاً؛ ولذلك كان جعل الحكم لها خطأً محضاً؛ لأنه يجعل الحكم خاطئاً مخالفاً للواقع، علاوة على أنه يكون الحكم بالمدح والذم حسب الهوى والشهوات، لا حسب ما يجب أن يكون عليه؛ ولهذا لا يجوز للميول الفطرية أن تصدر حكمها بالمدح والذم. وما دام لا يجوز للعقل أن يصدر حكمه بالمدح والذم، ولا يجوز للميول الفطرية أن تصدر حكمها بالمدح والذم؛ فلا يجوز أن يجعل للإنسان إصدار الحكم بالمدح والذم، فيكون الذي يصدر حكمه بالمدح والذم هو الله وليس الإنسان، وهو الشرع وليس العقل.

 

وعليه فالتشريع وسن القوانين لا بد أن يكون لله تعالى لا للإنسان ولا للعقل! ثبت ذلك بدليل الشرع، وثبت ذلك بالحجة العقلية،

 

والحمد لله رب العالمين.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

 

الحلقة الثلاثون:

كيف يعالج الإسلام مشاكل الإنسان علاجا لا يتغير عبر الزمان والمكان – ج1

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على محمد النبي الهادي الأمين

 

سنؤصل هنا لطريقة الإسلام في معالجة المشاكل التي تعترض الإنسان في الحياة علاجا جذريا وواسعا لجميع مشاكله.

 

وضعت الشريعة الإسلامية الحلول لمشاكل الناس باعتبارهم أناسا تدفعهم الطاقة الحيوية، المتمثلة بالغرائز والحاجات العضوية، لإشباع هذه الحاجات والغرائز، على نحو يضمن حسن الإشباع، فالإنسان إما أن يشبع الغريزة أو الحاجة العضوية إشباعا صحيحا أو خاطئا أو شاذا، وكل فرد من أفراد هذه الحاجات العضوية أو مظاهر الغريزة يمكن أن يشبع بأحد هذه الطرائق الثلاث للإشباع، لا يتعداها لغيرها، فمثلا: من مظاهرِ غريزةِ النوعِ الجنسُ، يمكن إشباع هذا المظهر إما بالزواج، أو بالزنا أو بالشذوذ، أو أن لا يشبع إطلاقا بأن يعزف المرء عنه إلى مظهر آخر من مظاهر غريزة النوع، كالانصراف عن الزوجة إلى حنان الأم، هذه هي الإمكانيات التي يمكن أن يشبع هذا المظهر لغريزة النوع من خلالها، ولا يوجد أبدا غيرها، وهنا جاءت الشريعة وبينت أن الإشباع الصحيح لا يكون إلا من خلال الزواج، والزواج علاقة الرجل بالمرأة الأجنبية عنه، فيمنع زواج المحارم، ويمنع إشباع الغريزة عن طريق الشذوذ مع ذات الجنس أو مع البهائم، ويمنع الإشباع من خلال الزنا، ويفصل الإسلام أحكام هذا كله، فيضع عقوبة للزنا أكان الزاني متزوجا أم غير متزوج، ويضع العقوبات على من يقوم بالشذوذ، وبذا يكون التشريع متناولا للمشكلة من جذورها بغض النظر أتعلقت بزيد أم بعبيد، وبالتالي فكل إنسان في الدنيا يواجه دوافع تدفعه لحل مشكلة الجنس فهذه المشكلة وهذا علاجها، ومثل هذا العلاج لا يتبدل بتبدل الزمان أو المكان وهو وحده الصحيح لأنه من لدن عليم خبير، قال تعالى ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾!!

 

وبالمثل، فالإنسان دائما بحاجة لإشباع جوعة البطن، فجاء الإسلام وأباح كل الأشياء التي في الكون، واستثنى من هذه الإباحة أصنافا معينة فصَّلها، منها الميتة والدم ولحم الخنزير، وما إلى ذلك، فصَّل ما حرم علينا تفصيلا شاملا، ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 119]، فحيثما حل الإنسان أو ارتحل يكون الخنزير حراما عليه ويكون الخمر حراما عليه، لا يتبدل ولا يتأثر بزمان أو مكان.

 

هذا وقد راعى الإسلام الأحوال غير الطبيعية التي يمر بها الناس، كالمجاعات والإشراف على الهلاك، فأباح ما حرم علينا في حالة الاضطرار إن ظن الإنسان الهلاك إن لم يأكل المحرم، أما إن غلب على ظنه الهلاك وأشرف عليه ففرض عليه أن يأكل من المحرم، عملا بالقاعدة الشرعية الوسيلة إلى الحرام محرمة، وهكذا فقد سد الإسلام كل ثغرة وعالج كل وضع مصاحب للإنسان في سيره في الحياة، سواء أشارف على الهلاك تيها في الصحراء أم شارف عليه وهو في بيته أو في عصر الصحابة أم في قابل الزمان فالحكم لا يتغير.

 

وعلى الصعيد الاقتصادي مثلا، بينما نرى المفكرين الرأسماليين لا يفرقون بين النظام الاقتصادي وبين علم الاقتصاد، فالاقتصاد عندهم هو الذي يبحث في حاجات الإنسان ووسائل إشباعها، فيجعلون إنتاج السلع والخدمات التي هي وسائل إشباع الحاجات مع توزيع هذه السلع والخدمات على الحاجات بحثاً واحداً؛ وبالتالي ينطوي لديهم توزيع السلع والخدمات في بحث إنتاج هذه السلع والخدمات.

 

وبناء على ذلك ينظرون إلى الاقتصاد نظرة واحدة تشمل المادة الاقتصادية وكيفية حيازتها، دون فصل بينهما ودون تمييز أحدهما عن الآخر؛ أي ينظرون إلى علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي نظرة واحدة دون فرق بينهما، مع أن هنالك فرقاً بين النظام الاقتصادي وعلم الاقتصاد.

 

فالنظام الاقتصادي هو الذي يبين توزيع الثروة وتملّكها والتصرف بها وما شاكل ذلك، وهو في بيانه هذا يسير وفق وجهة نظر معينة في الحياة.

 

بخلاف علم الاقتصاد، فإنه يَبحث في الإنتاج وتحسينه وإيجاد وسائله وتحسينها، وهذا عالمي عند جميع الأمم لا يختص به مبدأ دون آخر، كسائر العلوم، فالإسلام عند معالجته للاقتصاد، فصل بين النظام الاقتصادي وبين علم الاقتصاد، وبالتالي فلم يحجر على تفكير البشر في إبداعاتهم في علم الاقتصاد وطريقة تحسين الإنتاج مثلا، فاختراع خط الإنتاج مثلا من قبيل الأمريكي فورد، سرع في عملية إنتاج السيارات وسهلها كثيرا، فهذا الأمر عالمي وليس نابعا من وجهة النظر في الحياة، وبالتالي فالإسلام يأخذه كما يأخذ نظرية فيثاغوروس في الرياضيات لأنها غير نابعة من وجهة النظر في الحياة فهي ليست خاصة باليونانيين.

 

بخلاف النظام الاقتصادي، فالملكيات العامة مثلا، والتعامل بالربا، أو المعاملات التي يترتب عليها حقوق مالية لا بد من ضبطها بناء على وجهة النظر في الحياة أي على العقيدة الإسلامية، من هنا فالنظام الاقتصادي الإسلامي قام بوضع قواعد تناول فيها توزيع الثروة وتملكها والتصرف بها وما شاكل بنظام ثابت لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه من لدن عليم خبير.

 

من هنا تزول الشبهة التي تدور في أذهان بعض المسلمين من موقف الإسلام إزاء تقدم البشرية في الأرض علميا وصناعيا، فالإسلام لا يحجر العقول ولا يمنع الإبداع في مجال الأشكال المادية والصناعية والعلمية.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

 

الحلقة الحادية والثلاثون:

كيف يعالج الإسلام مشاكل الإنسان علاجا لا يتغير عبر الزمان والمكان – ج2

 

 

أما الواقع الفاسد، فقد جاءت الشريعة لتغيره تغييرا جذريا انقلابيا، فتعاملت مع الواقع لا على أساس جعله مصدر التفكير ولكن على أساس جعله محل التفكير، فالمجتمع الغارق في الفساد، لم تأت الشريعة لتلتقي معه في منطقة الوسط، بل فاصلت الجاهلية مفاصلة تامة، منطقها: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ [الكافرون]، ومنطقها: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون]، ومنطقها: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾ [الإسراء]، ومنطقها: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ [هود: 88].

 

وهنا نجد أن الإسلام ليس بمسؤول عن كل المشاكل التي نتجت عن تطبيق غيره سواء الاشتراكية أو الرأسمالية، فالإسلام ليس بمسؤول عن إيجاد حل مرحلي لمشكلة فرض التأمين على المسلمين إجباريا مع أنه يتناقض مع شريعتهم، وليس بمسئول عن إيجاد حل مرحلي لمشكلة الفقر التي ألجأت بعض المسلمين إلى الربا، فلو كان الإسلام مطبقا لمنع التأمين ولمنع الربا ولمحا الفقر، فهو لا يتخذ الواقع مصدرا للتفكير بل يُغَيِّرُ الواقعَ بمفاهيمه الجذرية الانقلابية فيمحو الكفر ويضع الإسلام موضع التطبيق فورا.

 

كذلك فإن الإسلام راعى في تشريعه تحقيق العبودية لله وحده، فالإنسان الذي يقنن لغيره إنما ينصب نفسه إلها من دون الله، وبالتالي فالإسلام هو إخراج للعباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العالمين، وهنا تجد بعض التشريعات إنما جاءت لتختبر طاعة العباد لربهم بغض النظر أصطدمت مع مصالحهم الآنية ونظرتهم الضيقة للأمور أم توافقت معها، فالغربي يبحث عن علة لتحريم الخنزير، فلا يجد، ومقياسه النفعية وبالتالي لا يقف على حقيقة تحقيق العبودية لرب العالمين، وهي من أهم مطالب الشرع، فالتزام ما أمر الله ورسوله فيه تحقيق العبودية لله وحده وفيه تسليم له تعالى بأنه أحق بالحاكمية، وأنه وحده العليم بما يصلُح للبشر وما يُصلحهم.

 

وأخيرا فقد منح الشريعة ما لا يوجد في غيرها من التشريعات، فقد جعلها مقاييس مبنية على الاعتقاد، فكانت وازعا عقديا يزع الانسان للالتزام بها مخافة الله، ومحبة في الله، ورجاء في جنب الله، مما يجعل الإنسان ليس بحاجة إلى قوة مصلتة عليه لتردعه ليلتزم القانون، بل تجعله يخضع لسلطان الله في السر والعلن، فلا يرى الإفلات من عقوبة الحاكم في الدنيا غنيمة ولا مكسبا، فهو يعلم أن الله يراقبه، ولكنها أيضا وضعت العقوبة الحكيمة المناسبة للمخالفة لهذه الأوامر، فكانت العقوبات زواجر جوابر، تردع من تسول له نفسه التهاون في تنفيذ أوامر الله تعالى.

 

فهذه أمثلة ستة تضع خطوطا عريضة لطريقة الإسلام في علاج المشاكل، وهي: أن الإسلام عالج المشاكل علاجا جذريا متعلقا بجنس الإنسان، وثانيها أنه راعى الظروف غير الاعتيادية والتي يظهر فيها اضطرار المسلم لما حرم عليه من مأكل ومشرب، وثالثها: تعلق نظام الإسلام بأمور معينة هي ما نبع من وجهة النظر في الحياة، وما يدخل في مفهوم الحضارة، وأما الجانب المتعلق بالمدنية فقد تركه للإنسان يبدع فيه كيف شاء، ورابعها أنه لم يجعل الواقع مصدر تفكيره ولكن محل تفكير من أجل تغييره بالمفاهيم الصحيحة لا الالتقاء معه في منتصف الطريق، وخامسها تحقيق العبودية لله وحده سبحانه لأنه الحاكم وحده، وسادسها أنه وضع آلية لتطبيقها وتنفيذها تضمن التنفيذ الذاتي لها في غياب السلطان، ولكنها أيضا وضعت العقوبات الزواجر الجوابر للخارجين عليها لتضمن حسن تطبيقها.

 

لقد اختلف الإسلام في طريقته في حل المشاكل كليا عن القوانين الوضعية، فقد كان حلا مخالفا للتشريع الذي يحل مشاكل الناس باعتبارهم فلانا أو علانا، يريد هذا تقنينا يبيح له الزنا وذاك يبيح له الخمر، فيفصَّلُ التشريعُ على كيف المتشرِّعين أو المحسوبين عليهم من أرباب الصناعات ورأس المال، أو على أساس المحسوبيات والنفعيات والأهواء مما يجعل التشريع قاصرا عن الصمود أياما علاوة على أن يصلح للبشرية في رحلة الحياة الدنيا.

 

ولقد تناولت الشريعة الإسلامية مشاكل الإنسان لتنظم سلوكه، فراعت التحقق من أن يكون الحل هو الحسن وما سواه هو القبيح على الحقيقة، ولقد راعت إحقاق الحق والعدل، وضمنت أن يؤدي السلوك إلى إعمار الأرض بالعمل الصالح لا العيث في الأرض فسادا، فكان الشرع متجنبا الأهواء والمصالح الآنية الضيقة، راقيا بالإنسان عن درجة البهيمية في إشباع غرائزه وحاجاته العضوية، مراعيا إنسانيته وعقله، محققا مصلحته على الحقيقة لا على التخريص، رحمةً لسائر الناس، مبنيا على نظرة صحيحة للكون والإنسان والحياة قائمةٍ على حلٍ صحيحٍ للعقدة الكبرى مبنيةٍ على العقل متوافقةٍ مع الفطرة.

 

وعلى صعيد آخر في البحث، فإن الشريعة الإسلامية جاءت باللغة العربية، فوسعت علاج المشاكل التي كانت في زمن المصطفى e، والتي ستطرأ إلى يوم الدين، فقد أكمل الله الدين، وهذا محور له بحثه الطويل، وقد تناولنا بالبحث والتأصيل لهذه الموضوعات في كتابنا: لا يصلح الإنسان في أي زمان أو مكان إلا بالإسلام، فراجعه ففيه تكملة واستقصاء للأبحاث المتعلقة بهذا الموضوع. والحمد لله رب العالمين.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة الثانية والثلاثون:

استنباط الحكم الشرعي في الخلافة

 

 

هل الخلافة من العقيدة؟ وهل هي من أصول الدين والشريعة؟

 

 

لقد بلغت أدلة وجوب إقامة الخلافة ونصب الخليفة حدًا أضحت معه موضع إجماع الصحابة والأمة والأئمة على مر العصور، بحيث اعتبر من شذ عن هذا الإجماع أصما عن الشريعة، وارتفعت عن أن تكون موضع جدل أو نقاش، بل كثيرا ما ألحقت بمسائل أصول الدين وأصول الشريعة، إذ أنك تجد علماء الأصول يبحثونها في كتب أصول الدين، جنبا إلى جنب مع أبحاث العقيدة، ومن أمثال ذلك: الإيجي في المواقف في علم الكلام[2].

 

وكلام الشهرستاني في خطورة الخطأ فيها يذكرنا بكلام الجويني نفسه أعلاه فراجعه، فالخطر في إنكارها، - بحجة أنها ليست من أصول الاعتقاد - مساو للخطر  في الخطأ في أي أصل من أصول الاعتقاد

 


 

[2]  نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني – القاعدة العشرون، ص 216

 

[3] يعني: يستوي خطأ من شك في الجنة والنار بخطأ من لم ير فرض الخلافة، فالمخطئ في الجنة والنار أخطأ في الاعتقاد، والمخطئ في شأن فرض الخلافة كأنه يقول: كل ما نزل من الأحكام لم ينزل للتطبيق! فقطع يد السارق ليس الحل الأمثل أو أن الأمة قد تستغني عن النظام الاقتصادي الإسلامي وتستعير الرأسمالية، فهل تجد فرقا بينهما؟ كلاهما رد على الله أحكامه، سواء المتعلقة بالاعتقاد، أو بعدم اعتقاد فرض ما أنزل من الأحكام! أو بأن الحكم قد يكون لغير الله! وحين أَحَلَّ الرُّهبانُ والأحْبَارُ الحَرامَ (أي غيروا الأحكامَ الشرعيةَ وفق اهوائهم) واتبعهم أهل الكتاب في ذلك، وصف الله ذلك الفعل بأنهم اتخذوهم أربابا من دون الله! فالحجة بالغة!

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

 

الحلقة الثالثة والثلاثون:

انعقاد الإجماع على وجوب الخلافة، أي أن إقامة الخلافة فرض بالإجماع، وهو قطعي وإقامة الخلافة فرض قطعي ثبت أيضا بالتواتر المعنوي – ج1

 

 

 

 

 

الطرق التي يحصل بها القطع

 

القطع يفضي إلى العلم أي إلى اليقين، أي أن الإيمان به واجب[2] ونظري[4]، والاستدلال القائم على موجبات العقول ضروري أيضا، قال بدر الدين الزركشي في البحر المحيط: "وَقَضَايَا الْعُقُولِ ضَرْبَانِ: مَا عُلِمَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَهُوَ مِمَّا لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ بِهِ كَالتَّوْحِيدِ[6]  إذن إن حصل العلم به بدليل العقل، أضحى قطعيا، كاستدلالنا على نبوة محمد ‏ﷺ بدليل العقل، معتضدا بالدليل القطعي النقلي القائم أساسا على العقل (وبالمعجزة)[8]

 

 

وأما النقل، فالقطع يحصل بالدليل القطعي الثبوت، القطعي الدلالة، وسبيل القطع تحصَّل بدليل قطعي الدلالة من الكتاب، إذ الكتاب كله قطعي الثبوت (لنقله بالتواتر، وحفظه في الصدور لدى عدد بلغ وفاض عن حد التواتر)، فالربا قطعاً حرام بنصٍّ قطعي الدلالة، منكر حرمته كافر، والصلاة فرض بنص قطعي الدلالة من الكتاب، ومنكر أنَّ الصلاةَ فرضٌ كافر[10] اللفظي أو المعنوي، فأما التواتر اللفظي[12]، ‎وحديث «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» من رواية اثنين وسبعين صحابيا وقيل مائة وقيل مائتين، فجمع هنا بين تواتر الرواة (الثبوت)، وتواتر الدلالة

 


 

[2] وَهُوَ مَا (يُعْلَمُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ) كَتَصَوُّرِنَا مَعْنَى النَّارِ، وَأَنَّهَا حَارَّةٌ (ضَرُورِيٌّ) أَيْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْتِفَاتِ النَّفْسِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَاكْتِسَابٍ؛ وَقَالَ الأَكْثَرُ: الضَّرُورِيُّ مَا لا يَتَقَدَّمُهُ تَصْدِيقٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، (حاشية العطار، وشرح الكوكب المنير للفتوحي)، وَهُوَ مِمَّا لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ بِهِ (بدر الدين الزركشي في البحر المحيط) يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ لا بِدَلِيلِهِ، والمعلوم بالضرورة بنفسه، وهو المتواتر، أو بموافقة العلم الضروري، وهي الأوليات، كقولنا: الواحد نصف الاثنين.

 

[4] يعني، لو دللت على قضية ما بمقدمات معينة، وربطت تلك المقدمات أو البراهين ببديهية مثل لكل فعل فاعل، فإن البرهان يأخذ صفة القطع، على أن يكون الربط بالبديهية محكما وصحيحا.

 

[6] البحر المحيط للزركشي باب أقسام الدليل.               

          

[8] انظر: خبر الآحاد بين فخ السؤال وإشكالية المنهج. لعلي عقيل الحمروني، وانظر: موقف العقل والعلم من وجود من بيده ملكوت السموات والأرض لثائر سلامة.

 

[10] الخبر المتواتر في اصطلاح الأصوليين هو خبر جماعة بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم، ولا يحصل العلم بقول هذه الجماعة ولا يكون متواتراً إلا إذا كانوا عالمين بما أخبروا لا ظانين، وأن يكون علمهم مستنداً إلى السمع والمشاهدة لا إلى دليل الاستنتاج، وأن يكون جماعة، مستوفية هذه الشروط في عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابعي التابعين، بأن يستوي طرفا الخبر ووسطه، وعليه فإن الخبر المتواتر هو ما رواه في العصور الثلاثة جمع غفير يستحيل معه عادة تواطؤهم على الكذب، والحديث المتواتر قطعي الثبوت عن النبي ﷺ، فيفيد علماً يقينياً ويجب العمل به في كل شيء، سواء أكان من السنة القولية أو الفعلية أو السكوتية، الشخصية الإسلامية، الجزء الثالث: أصول الفقه، تقي الدين النبهاني 75-79.

 

[12] أنظر كتابنا: أدلة الاعتقاد ففيه استفاضة كبيرة في الحديث عن كل هذه المسائل

 

[13] تماما كما نفرق بين ما كان ظني الدلالة من القرآن، وما هو قطعي الدلالة، مع أن القرآن كله قطعي الثبوت، فكذلك هنا من المتواتر لفظا ما وصل للقطع بالدلالة، ومنه ما لم يصل للقطع في الدلالة، فالأول اجتمع فيه القطع في الثبوت والدلالة، فلا مجال لتكذيبه لفظا أو دلالة، ونتذكر هنا بحث: تعارُض ما يُخِل بالفَهم، وتجد تفاصيله في كتابنا: أدلة الاعتقاد، ومبحثه في الاحتمالات التي يجب رفعها عن الخطاب حتى يفيد القطع دلالة.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

 

الحلقة الرابعة والثلاثون:

انعقاد الإجماع على وجوب الخلافة، أي أن إقامة الخلافة فرض بالإجماع

وهو قطعي وإقامة الخلافة فرض قطعي ثبت أيضا بالتواتر المعنوي – ج2

 

 

 

وأما التواتر المعنوي، فهو أن يصل المعنى للتواتر من مجموعة أدلة لم تصل في آحادها للقطع في الثبوت، أو أن تثبت بالقطع (مثل نقلها جيلا عن جيل، بشروط سيرد ذكرها لاحقا بإذن الله) لكنها لا تتوحد في اللفظ، فإن المعنى الذي حصل التواتر فيه يكون قطعيا، ففصل الرجال عن النساء في الحياة الخاصة مسألة ثابتة بالتواتر المعنوي وهي قطعية، وثبوت الصلوات الخمس وعدد ركعاتها، قطعي، وثبوت ركعتي سنة صلاة الفجر متواتر نقل بالإجماع طبقة عن طبقة، وهو قطعي، فمن لم يُصَلِّهِمَا لا شيء عليه، ولكن إنكارهما إنكار للقطعي، بخلاف ركعتي سنة المغرب فإنهما لم يثبتا بالتواتر، بل بأخبار الآحاد فقط، فلا يدخل إثباتهما في الاعتقاد، وهذه القضايا علاوة على ثبوتها بالتواتر، فإنها أيضا ثابتة بالإجماع في الوقت نفسه، فقد وجدنا الأمة مجمعة على أن الصلوات خمس وأن صوم رمضان واجب، فهذه الأمور حصلت بالأمرين معاً: بالتواتر  وبالإجماع مقارنةً أو مرتبةً بمعنى أنه حصل الإجماع والتواتر معاً، أو حصل التواتر ثم الإجماع، أو حصل الإجماع ثم التواتر  فالمقصود هو أنه حصل فيها الإجماع وهو المطلوب.

 

وما يهمنا من الإجماع بعد عصر الصحابة هو استمرار نقل الخبر المتواتر بطريق الإجماع، (فالإجماع من طرق نقل المتواتر، وهذا الإجماع أشد إثباتا من التواتر المستفاد من أعداد الرواة في كل عصر إذ يبلغون مبلغ التواتر) أو الكشف عن تواتر الخبر بالاستقراء لما أجمع عليه المسلمون، علما بأن الحكم الشرعي لا يثبت إلا من طريق الوحي كما سيأتي، فما أجمعوا عليه إنما هو كشف عن دليل متصل بالوحي يتعلق بالمسألة.

 

وأما الإجماع، فإن وجود الإجماع على موضوعٍ مع وجود أدلة قاطعة عن ذلك الموضوع الذي حصل الإجماع فيه يجعل حكم ذلك الموضوع قطعيا، قال العلامة النبهاني: "فيكون اعتبار أقوالهم أمراً مقطوعاً به، فإذا أجمعوا على أمر كان إجماعهم إجماعاً مقطوعاً بصدقه"[2]،

 


[2] أنظر تيسير الوصول إلى الأصول للعلامة عطاء أبو الرشتة، الجزء الأول ص 82.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

 

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

 

الحلقة الخامسة والثلاثون:

  القوة النظرية الكامنة وراء الإجماع، والتي تعطيه خاصية القطع   – ج1

 

 

وتكمن القوة النظرية في هذا الإجماع، والتي تعطيه خاصية القطع وعدم احتمال الخطأ في حيازته على جملة من الأوصاف، التي يمكن إجمالها فيما يلي:

 

  1. أولا: إن ثبوت الحاجة إلى الرسل لنقل شرائع المولى عز وجل ودينه الذي ارتضى لعباده قطعي، فلولا الرسل لما نقلت لنا رسالة الله، وقد اختار الله تعالى الرسل لنقل رسالته وكانوا بشرا، وزودهم بالمعجزات، وهذا كله قطعي، وقد بلغ هؤلاء الرسل الرسالات، وختمهم بسيدنا محمد ﷺ، فَبَلَّغَ الرسالةَ وسمعها منهُ الصحابةُ الذين عاصروه، وقد كُتب القرآن في عهده، وسمع الصحابة السنة، والدينُ هوَ القرآنُ والسنَّةُ، فثبت بالقطع الحاجة إلى نقل هذا الكتاب والسنة للأمة جيلا عن جيل، إما تدوينا أو سماعا وتعليما، وقد أخذ هذا النقل عن الصحابة صورتين: صورة فردية أو آحاد، ومبلغ مثله الظن لاحتمال النسيان والخطأ، ولاحتمال ورود الدس والكذب في سلاسل من نقل عنهم من بعدهم، ولاحتمال النسخ وغيره، فبقي النقل الفردي أو الآحاد بدرجة الظن،

 

والصورة الثانية: النقل الذي تواتر، وأقواه وأعلاه: ما أجمعوا عليه، وهذا لا مجال للكذب فيه، وهو امتداد للحاجة للرسل لنقل الشرائع، فبالصورة الجماعية نقلوا لنا القرآن وحفظوه لنا، ونقلوا لنا الدين وحفظوه لنا، وهذا دليل قطعي على حجية إجماعهم لأن به حفظ للدين، وحفظ للقرآن ونقلٌ لشريعة الله،

 

فإن الدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة أثنى عليهم وبيَّن رِضى الله عنهم، والثناء يدل على الرضوان والتزكية الجماعية لهم ومن مقتضيات التزكية: الصدق فتكون أقواهم التي أجمعوا عليها مقطوعا بصدقها، وهذا دليل قطعي على صدقهم مجتمعين، أما ثناء القرآن على أفرادهم ففيه دلالة ظنية على صدق أولئك الأفراد، وبالتالي فثبوت صدق جماعتهم مقطوع به، فثناء الله تعالى على الصحابة ثبت بالدليل القطعي الثبوت والدلالة، وثناء رسوله ﷺ على الصحابة ثبت، وهذا الثناء ورد من غير قيد، وتكريمهم أيضا، مما يدل على أن صدقهم (إن أجمعوا) أمر مقطوع به.

 

  1. ثانيا: من المقطوع به شرعا أن الله حفظ القرآن الكريم، فقد حفظ الله جل جلاله القرآنَ الكريمَ بوعدِهِ، وجعل إليه ﷻ جمعه وحفظه، وهو ما قام به الصحابة، وإلى الصحابة أيضا نقله، وصيانته من الضياع أو التحريف أو التغيير، فنقلوا القرآن، عين القرآن الذي نزل على محمد ﷺ، فوعد الله بحفظ كتابه أي ما ورد في الآية ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وهي قطعية الدلالة، وفيها دليل على صدق إجماعهم، لأن من وعد بحفظ الكتاب، جعل وسيلة تحقيق ذلك الحفظ للصحابة، والصحابة هم من نقل لنا القرآن، والآية التي وعد الله بها بحفظ القرآن قطعية الدلالة، ولا أحد ينكر أن الصحابة هم من حفظ الله بهم القرآن بجمعهم إياه وحفظه من التحريف والضياع والنسيان، فيكون هذا دليلا قطعيا شرعيا على أن إجماعهم قطعي لأن معنى عدم قطعية إجماعهم تسرب الشك للقرآن، وهدم الإسلام، فيؤخذ هذا دليلا شرعيا على أنهم هم من بهم حفظ الله كتابه ودينه، فلا بد أن يكون إجماعهم قطعيا، ودليلا شرعيا، 

 

فالخطأ في القرآن مستحيل، وبالتالي فيستحيل خطأ إجماعهم الذي كان هو سبب حفظ القرآن،

 

وبقيام الدليل القطعي على أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيكون قد قام الدليل القطعي على أن إجماع الصحابة حجة شرعية.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

 

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

 

الحلقة السادسة والثلاثون:

القوة النظرية الكامنة وراء الإجماع، والتي تعطيه خاصية القطع – ج2

 

 

3) وبالمثل فقد نقل الصحابة الكرام لنا الدين الذي نزل على محمد ﷺ وعنهم أخذته الأمة كابرا عن كابر، وبما أن الخطأ مستحيل على الدين، إذ قام الدليل القطعي على صحته، وقال تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: 42]، فيكون إجماع الصحابة يستحيل عليه الخطأ شرعاً لنقلهم الدين، فيكون هذا دليلا قطعيا شرعيا على أن إجماعهم قطعي لأن معنى عدم قطعية إجماعهم تسرب الشك للدين، فيؤخذ هذا دليلا شرعيا على أنهم هم من بهم حفظ الله كتابه ودينه، فلا بد أن يكون إجماعهم قطعيا، ودليلا شرعيا، وتفصيل ذلك يأتي من النقاط القطعية التالية:


1- أن الله تعالى حصر حق التشريع به وحده، لتحقيق العدل وإقامة ميزان القسط في الأرض، فإن خلت مسألة من تشريعٍ متصل بالوحي فإن هذا مدخل لوجود الظلم بالتشريع البشري في تلك المسألة، فلا بد أن تحفظ الشريعة بقرآنها وسنتها لإتمام النعمة بإقامة ميزان العدل والقسط، وقد علمنا أن في السنة بيان، فالسنة مبينة وموضحة وشارحة للقرآن وملحقة الفروع بأصولها ومشرعة أحكاما جديدة ليس لها في القرآن أصول، فلو فقد بعض السنة لفقد شيء من التشريع!


2- أن الله تعالى وعد بالحساب على مثقال الذر من العمل، فقال تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8]، وهذه الآية تقتضي أن يكون على مقدار الذر من العمل نذارة ليحاسب بناء عليها، وتقتضي أن يكون وصف مثقال الذر من العمل بالخير أو بالشر إلى الله تعالى، ويحاسب عليه!


3- والله تعالى لم يترك الناس سدى1 أي من غير أمر ولا نهي ولا في مسألة واحدة مما سيحاسبهم عليه، قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: 36]، فلو خلت أية مسألة من أمر أو نهي لثبت أن الإنسان ترك سدى فيها، ولما أمكن محاسبته على فعلها بأي صورة من الصور إذ لم يثبت لها وصف الخير أو الشر حين خلوها عن أمر الوحي، فلا يصلح الحساب عليها، وهذا كله نقيض الآيات القطعية التي تثبت وجود الأمر والنهي في كل مسألة، ووجود الحساب على مثقال الذر من العمل، ووصف ذلك المثقال من الذر بالخير والشر بناء على مرجعيته للوحي، وقد أذن الوحي بقيام بعض الأوامر والنواهي على الظن في الثبوت أو الدلالة، وجعلها من الدين، فلا يخرجها عن وصف الدين تسرب الظن لثبوتها، فمثلا لو اختلف مجتهدان، فاستنبط أحدهما من الأدلة الشرعية أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، فإن حكمه شرعي، وهو من الدين، ولو استنبط الآخر من الأدلة الشرعية نفسها نقيض ذلك الحكم، أي أن اللمس ينقض الوضوء لكان حكمه شرعيا أيضا، والأول يدين الله بما بلغ على ظنه أنه حكم الشرع في المسألة كما يفعل الثاني، فكلاهما وجد أمرا ونهيا متعلقا بالمسألة، وسيحاسب على اتباعه ما وصل إليه اجتهاده،


4- فالدين نفسه كامل، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، والدين نفسه ثابت النسبة للوحي من خلال الأدلة،


5- النذارة لا تكون إلا بالوحي، حصرا، والنهي قطعي في اتباع ما شُرع من دونه، فاقتضى حفظ الوحي لتقوم النذارة التي تقوم بها الحجة على الخلائق، وليقطع الطريق على شرائع الغير، وليمكن عباده من أن لا يتبعوا من دون الوحي أولياء: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّك﴾ [الأنعام: 106]، ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3]، ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ﴾ [الأنبياء: 45]،


6- قيام الحجة على الناس، فلا عذر للناس على الله بعد الرسل، وهذا يقتضي أن الحجة قائمة إلى يوم الدين، ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ النساء 165، فإن ضاع من الدين شيء خلا من حجة في تلك الجزئيات، وهو ما يتنافى مع قيام الحجة، وإمكانية المحاسبة عليه،


7- ضياع شيء من السنة يقتضي ضياع كونه بيانا على شيء من الدين الذي نزل في القرآن، وهذا يعني أن القرآن لم يعد مبينا (فقد جعل القرآن السنة بيانا)، ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: 54]، وكلمة المبين وصف مفهِمٌ، ولذلك تكون قيداً للتبليغ، فالبلاغ لا يكون مبينا، ولا تكتمل أسباب الهداية بفقدان البيان والاقتصار على المبيَّن أو المجمل الذي في القرآن، في جزئيات فقدت، فلا تقوم في تلك الجزئيات الحجة بالاقتصار على المجمل الذي في القرآن!


وهذا يعني أن الدين محفوظ من الضياع ومنه الدليل على أن السنة محفوظة من الضياع، نقلت لنا كلها، لأن بها بيان القرآن، وتَفصيلُ مُجْمَلِهِ، وتقييد مطلقه، وشرح ألفاظه، وتوضيح أحكامه ومعانيه، وبها اكتمل الدين، ومهمتنا أن ننقي صحيحها من ضعيفها، حيث أن معظم الأحكام الشرعية أخذت من السنة، باعتبار أن السنة مبينة وموضحة وشارحة للقرآن وملحقة الفروع بأصولها ومشرعة أحكاما جديدة ليس لها في القرآن أصول، وبها تم الدين واكتملت النعمة، وارتضى الله لنا الإسلام دينا بما فيها وما في القرآن من أحكام، قال الحق سبحانه وتعالى ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وقال: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾،


مع وجود أصول دقيقة لبلوغ الحكم الشرعي أذنت بوجود طريق الظن في بلوغ الأحكام الشرعية، وبالتالي أذنت بوجود الظن في آحاد الأدلة التي أتت من السنة في ثبوتها أو دلالتها، تماما كما أذنت بظنية بعض الآيات القرآنية في دلالتها، وبالتالي فالدين بمجمله، وفق أصول الفقه، يحقق وعد الله تعالى بوجود أوامر ونواه متعلقة بكل فعل من الأفعال، وكل مسألة من المسائل، وكل نازلة، ويحقق إمكانية الحساب على مثقال الذر، وإطلاق الخير أو الشر عليه، فمن نقل لنا هذا الدين يجب أن يكون إجماعه مقطوعا به، وإلا تحصل الشك في ثبوت الدين، وثبوت اكتمال الدين، وثبوت شمول الدين لكل صغيرة وكبيرة، ولما وصل إلينا الأمر والنهي ولما تحقق إمكانية الحساب، فمن بهم ثبت الدين ونقلوه لنا كاملا يحصل القطع بأن إجماعهم مقطوع بصدقه.


4) امتناع تواطؤ الجموع الغفيرة، من الصحابة على الكذب، والغش، والتزوير.


5) امتناع وقوعهم جميعاً في الخطأ، والسهو، والغفلة، والنسيان أو في الجهل جميعاً دفعة واحدة بلا معقب، رغم كونهم الواسطة الوحيدة لبلوغ الشريعة لمن بعدهم.


6) امتناع وجود مصلحة ظاهرة، أو مزاج عام يمكن أن يدفع هذه الجموع للتواطؤ، والانصراف عن مقتضى الحقيقة.


7) وجود أعداء للأمة من الكفار والمنافقين متربصين بها، بلغوا أعدادا كبيرة، ممن يمكن لهم معارضة هذا التواتر أو النقل الجماعي بما عايشوه من وقائع، وحيث أنه لم ينقل عنهم شيء من هذا فإن هذا يعني أن ما صح بالتواتر أو الإجماع يمتنع أن يكون نتاج مزاج عام أو تواطؤ على ما يخالف الحقيقة.


8) تحقق شروط التواتر فيما أجمعوا عليه في طبقتهم، والتواتر قطعي بلا شك ولا مخالف، فإذا نقل إجماعهم في طبقة التابعين وتابعي التابعين محققا شروط التواتر كان الخبر متواترا وقطعيا.


هذه هي القوة النظرية الداعمة، لقبول هذا الإجماع2.

 

 

 

1- جاء في كتاب أحكام القرآن للشافعي أن الشافعي قَالَ: حُكْمُ اللَّهِ، ثُمَّ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَنْ اسْتَأْهَلَ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا أَوْ مُفْتِيًا أَنْ يَحْكُمَ وَلَا أَنْ يُفْتِيَ إلَّا مِنْ جِهَةِ خَبَرٍ لَازِمٍ وَذَلِكَ الْكِتَابُ، ثُمَّ السُّنَّةُ أَوْ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، أَوْ قِيَاسٌ عَلَى بَعْضِ هَذَا. وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ وَلَا يُفْتِيَ بِالِاسْتِحْسَانِ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِحْسَانُ وَاجِبًا وَلَا فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَذَكَرَ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [ قَالَ ] فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ ﴿السُّدَى﴾ الَّذِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى. وَمَنْ أَفْتَى أَوْ حَكَمَ بِمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، فَقَدْ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَعَانِي السُّدَى وَقَدْ أَعْلَمَهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَمْ يُتْرَكْ سُدًى وَرَأَى أَنْ قَالَ أَقُولُ مَا شِئْتُ، وَادَّعَى مَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ. قَالَ اللَّهُ ( جَلَّ ثَنَاؤُهُ ) لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّك﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ﴾، ثُمَّ { جَاءَهُ قَوْمٌ، فَسَأَلُوهُ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهِمْ: فَقَالَ أُعْلِمُكُمْ غَدًا يَعْنِي أَسْأَلُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ أُعْلِمُكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾. { وَجَاءَتْهُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ تَشْكُو إلَيْهِ أَوْسًا، فَلَمْ يُجِبْهَا حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾، وَجَاءَهُ الْعَجْلَانِيُّ يَقْذِفُ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: لَمْ يُنْزَلْ فِيكُمَا وَانْتَظِرَا الْوَحْيَ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ: دَعَاهُمَا، وَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ، فِي رَدِّ الْحُكْمِ بِمَا اسْتَحْسَنَهُ الْإِنْسَانُ دُونَ الْقِيَاسِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاع" أحكام القرآن للشافعي > فصل في إبطال الاستحسان.

2- أنظر:  تيسير الوصول إلى الأصول للعلامة عطاء أبو الرشتة، الجزء الأول ص 82، والشخصية الإسلامية الجزء الثالث باب الإجماع. وانظر خبر الآحاد بين فخ السؤال وإشكالية المنهج. لعلي عقيل الحمروني بتصرف شديد.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة السابعة والثلاثون:

أهمية استخلاف الله للأمة الإسلامية وقوة الخلافة

لتكون سببا أساسيا في حفظ الدين - ج1

 


مكن الله تعالى لرسوله في حياته ولأمته من بعده في الأرض وكانت الخلافة قوية عزيزة، وقد استخدم المسلمون هذه القوة والعزة والتمكين في خدمة القرآن والسنة، فجرى جمع القرآن مباشرة بعد وفاة الرسول ﷺ وتم نسخه وتوزيعه في الأمصار في عهد سيدنا عثمان وتم نسخ كافة المصاحف في العالم الإسلامي في حينه من المصحف الإمام المكتوب زمن سيدنا عثمان وانتشرت المصاحف.


ثم تطورت في العصرين العصر الأموي والعباسي علوم وأدوات ووسائل ساعدت في خدمة الدين: القرآن والسنة، منها اكتشاف الورق ووجود الوراقين والنساخين والمُجَلِّدين ووجود المكتبات وانتشار العلم ووجود طلاب للعلوم الشرعية، وتكفل الدولة بهم وبنفقاتهم، وتشجيعها لهم، واهتمامها بهم، وبناء المدارس لهم، فتفرغت أروع العقول الذكية عند المسلمين في خدمة العلوم القرآنية والسنة وجميع مايلزم لها من أصول فقه وفقه وعلم كلام وكذلك اللغة والعلوم اللغوية وعلم الخط العربي الخ.


إن وجود المذاهب الفقهية والعقائدية المختلفة في عصر التدوين الأول لم يكن صدفة بل كان بسبب حاجةٍ، والحاجةُ هي أم الاختراع وقد تطلبت الحاجة جمع وتدوين هذه العلوم والتي كان من أهمها علوم القرآن والسنة والفقه والأصول واللغة.


فوجود النهضة الفكرية وكون الخلافة كانت الدولة الأولى في العالم واهتمام الخلفاء بالعلم والعلماء ووجود العلماء النوابغ وطلاب العلم واكتشاف الورق والتدوين والمكتبات كلها ساعدت في جمع السنة واللغة، ونسخ عشرات الآلاف من المصاحف في العالم الإسلامي، وحفظ القرآن في الصدور، مما أدى إلى حفظ القرآن وكذلك جرى تدوين السنة ووجود علوم السنة كمصطلح الحديث وعلم الرجال والطبقات وتم تنقيح السنة من الدس والكذب والوهم فتم بذلك حفظ السنة بتدوينها وتمييز الصحيح والضعيف منها.


قارن هذه الأمور مع ما جرى للأديان السابقة مثل اليهودية والنصرانية من ضياع لكتبها، حيث عذب أصحابها وقتلوا وشردوا في الأرض فضاعت التوراة والإنجيل والروايات عن سيدنا موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فغدت عملية النقل والكتابة والتوثيق لما جاء به هؤلاء الأنبياء مشكوكا في صحتها كتابة ومشافهة، حتى عند أصحاب وأتباع هذه الأديان فهم متشككون مختلفون فيما بينهم في العقائد والأحكام، وتنازعوا وافترقوا فرقا مختلفة بسبب ذلك، أما السبب الرئيسي فهو عدم تهيئة الله لهذه الأديان والكتب من يحفظها وينقلها لمن بعده بسبب عدم وجود دولة تحافظ عليها وترفع وتشجع العلماء والدعاة لهذه الأديان!


ولكن ما حصل للمسلمين والإسلام فهو شيء مختلف تماما حيث يسر الله لهذا الحفظ أسبابه وأدواته من جيل الصحابة والتابعين ومن بعدهم حتى يومنا هذا، وهذا هو الفرق بين القرآن والسنة وغيرهما من كتب الأديان السابقة، وهذا أمر يغفله الكثير من العلماء والمفكرين والمؤلفين ولا تجد أحدا منهم يلفت النظر إليه وإلى أهمية الدولة كطريقة لحفظ الدين والمبدأ الإسلامي.


فالحمد لله على حفظه لكتابه وسنة نبيه بالصحابة ومن بعدهم في ظل دولة الخلافة العزيزة الممكنة في الأرض، لتبقي القرآن والسنة وعلومهما محفوظة ومنقولة إلى يوم الدين دون شكوك.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة الثامنة والثلاثون:

أهمية استخلاف الله للأمة الإسلامية وقوة الخلافة لتكون سببا أساسيا في حفظ الدين1 - ج2

 

 

وإليك التفصيل، ولنبدأ بالإجماع، ثم التواتر المعنوي:

 

الإجماع في اللغة: العزم على الشيء والتصميم عليه، أو الاتفاق.

 

أما الإجماع في اصطلاح الأصوليين فهو الاتفاق على حكم واقعة من الوقائع بأنه حكم شرعي، في عصر غير عصر الرسول ﷺ، فالإجماع يقوم مقام الدليل الشرعي (من السُّنَّةِ)2 والإجماع بعد عصر الصحابة: هو اتفاق المجتهدين في عصر التابعين أو تابعيهم وهكذا، من أمة محمد ﷺ على أمرٍ من الأمور، 

 

ولا بد من التفريق بين الإجماع، وبين الحكم الشرعي الذي يتوصل إليه بالاجتهاد، إذ أنه في عقلية كثير من العلماء اليوم، وكذلك في السابق فكرة الاجتهاد الجماعي، بحيث تعطي كثرة الآراء قوة للاجتهاد، فيتصورون الإجماع بهذه الصورة، كأنه اجتهاد جموع كثيرة، أو إطباق المجتهدين في عصر على حكم شرعي معين، فلذلك هو حكم شرعي يتميز بقوة كثرة من استنبطوه، فهم بهذا التصور يخرجون الإجماع عن صفة الدليل، إلى وصف الحكم الشرعي! فيصبح الإجماع أداة لترجيح الاجتهاد لا أكثر بفعل كثرة من اتفقوا على ذلك الرأي!

 

وهذا التصور ليس هو مفهوم الإجماع، فالإجماع نقلٌ لحكم، أو بصورة أدق: الاتفاق على حكم واقعة من الوقائع بأنه حكم شرعي، فحجيته في المحصلة بمعنى نصب الاتفاق الحاصل في أي عصر على أمر، أو أمر ديني أو حكم تكليفي دليلا شرعيا على الأحكام! فما أجمع عليه الصحابة، أو ما أجمع عليه علماء الأمة- عند من يقول بهذا الشكل من الإجماع- ينصب دليلا على الأحكام! فيستنبط منه، كما يستنبط من القرآن أو السنة، فهو يكشف عن وجود دليل، فالإجماع دليل من الأدلة يستنبط منه، فهذا ما يفرقه عن الحكم الشرعي الذي وصلنا إليه بالاجتهاد!

 

تذكر يا رعاك الله أن الحكم لله وحده، ولا يؤخذ الحكم إلا من الوحي، ولا تقوم النذارة إلا بالوحي، ولا يوصف مثقال الذر من العمل بالخير والشر ويصلح الحساب عليه إلا أن يكون مستندا إلى الوحي، ولا تقوم الحجة على الناس إلا بما نزل في الوحي، ولم يترك الناس سدى، وهذا كله يدل على أننا لا ننتظر من البشر أن يجمعوا على أمر "أغفلته الشريعة" أو "نسيته"، وعليه فالإجماع لا بد أن يصل الرأي بالوحي حتى يكون مشروعا، والوحي قد انقطع بعد الرسول ﷺ، فيبقى أن يكون معنى الإجماع فقط: الكشف عن دليل، أو نقل دليل من السنة!

 

ولعل أهم الإشكاليات المتعلقة بالإجماع هي: 

 

  1. ما هو الإجماع المعتبر؟ (إجماع الصحابة، إجماع الأمة، إجماع العترة، إجماع مجتهدي عصر...)

  2. بمن ينعقد الإجماع؟ وكيفية اعتبار رأي المخالف.

  3. هل الحكم الناشئ عن الإجماع هو بيانٌ أو نقلٌ لدليلٍ على حكمٍ شرعيٍّ مُتَّصِلٍ بالوحي أم إنشاءٌ لحكمٍ جديدٍ مصدرُهُ آراءُ وعقولُ المجمعينَ؟

 

1- الأستاذ المفكر يوسف الساريسي.

2- أنظر تيسير الوصول إلى الأصول للعلامة عطاء أبو الرشتة، الجزء الأول ص 82. وكما أسلفنا نقل الصحابة القرآن والسنة، فالقرآن الكريم لا شك أنه نقل كاملا، لذلك فمادة الاجتهاد لاستنباط الأحكام منه متوفرة في نصوصه، يستطيعها أي مجتهد في أي عصر، ليس فيه باطن مجهول، والسنة نقلوها لنا قولا وفعلا وتقريرا، وبعض هذه السنة تمثل في قضايا أضحت من البدهيات في المجتمع بحيث لا يحتاج معها إلى القول قال رسول الله ﷺ كذا وكذا، فنقلت على صورة إجماع كشف لنا عن وجود دليل من السنة استند إليه الصحابة حين إجماعهم!

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة التاسعة والثلاثون: الإجماع المعتبر

 

 

 

والإجماع المعتبر على أنه تشريعٌ هو إجماع الصحابة لا غير، لاتصالهم بالرسول ﷺ ونقلهم لدليل من السنة عاصروه من خلال عيشهم مع نزول الوحي، فالسنة هي الدليل، وهم إنما ينقلون السنة التي عاصروها، فإجماعهم كشف عن دليل، وأما من جاء بعدهم فلم يعاصر، فليس لديهم شبهة الاتصال بالرسول ﷺ.

 

وأيضا: إجماع الأمة الذي صورته أن تنقل لنا الأمة عمليا جيلا بعد جيل حكما شرعيا كوجوب الحجاب، وعدد ركعات الصلاة، فمرد هذا الإجماع إلى نقل حكمٍ شرعيٍ، أي إلى الوحي، فهو أيضا ليس من باب نقل الأمة لعاداتها[2]، وذلك أن التشريع لله ولرسوله ﷺ، ليس لأحد من البشر أن يشرع، والصحابة إنما يكشفون بإجماعهم عن دليل من سنة المصطفى ﷺ، من فعل الرسول ﷺ أو قوله أو سكوته "وقد نقلوا الحكم ولم ينقلوا الدليل فكان نقلهم للحكم كاشفاً عن أن هناك دليل على هذا الحكم، فليس معنى إجماعهم هو اتفاق آرائهم الشخصية على رأي واحد فإن آراءهم ليست وحياً وكل واحد منهم ليس معصوماً عن الخطأ فلا يكون رأيه دليلا شرعياً وكذلك لا يكون اتفاقهم على رأي دليلا شرعياً، لأن الدليل الشرعي لا بد أن يكون قد جاء به الوحي حتى يعتبر شرعياً، وآراء الصحابة ليست كذلك فلا تعتبر دليلا شرعياً، لا الآراء التي اختلفوا فيها ولا الآراء التي اتفقوا عليها،.. ومن هنا كان إجماع الصحابة إنما يكشف عن دليل."[4]، إذ أن الشارع لم يترك الناس سدى ولا في قضية من القضايا كما تقرر، وأن العقل ليس بمشرع كما تقرر، سواء أكان عقل واحد من العلماء أم كان اجتماع عقول الأمة!  أو اجتماع عقول علمائها!

 

مفهوم الإجماع "سلب الخطأ" لا إضفاء "حقّ التشريع"

ومفهوم إجماع الأمة في هذه الحالة مفهومه "سلب الخطأ" عن الصحابة فيما أجمعوا عليه، أو عن الأمة فيما أجمعت عليه من نقلها لحكم شرعي، وليس في مفهومه: "إضفاء حق التشريع" لها بعد انقطاع الوحي


 

[2] لشدة اشتهار الدليل بينهم وجريانه في حياتهم، سوغ نقله نقلا عمليا منطوقا أو مفهوما، وقد لا يحتاج إلى نقله قولا!

 

[4] لا يوجد قطعا أي "فراغ تشريعي" ولا "مصالح مرسلة" من الدليل، ولا يحق للبشر أن يشرعوا أمرا مهما دق، وتجد تفصيلا واسعا لهذا في كتابنا: لا يصلح الإنسان في أي زمان أو مكان إلا بالإسلام وفي كتاب المصالح المرسلة لمحمود عبد الكريم حسن فراجعهما.

 

[5] أنظر: إشكاليات الإجماع لعلي عقيل الحمروني.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة الأربعون: بمن ينعقد الإجماع؟

 

 

هذا والمراد بالمجتهدين الذين يجب اتفاقهم، من كان موجوداً وقت وقوع الحادثة، أو طرح المسألة، ولا عبرة بمن سيوجد في المستقبل من المجتهدين، بل عليهم إن وجدوا: الاتباع، ولا عبرة بالمخالف بعد انقضاء مدة كافية للتقليب والنظر وانتشار الخبر عن الحادثة، ولأن النصوص المتلقاة عن الرسول ﷺ سبقت الإجماع، فإنه لا يتصور وجود أدلة من السنة تنسخ أو تعارض الإجماع1، كما وأن ما ينتقض به الإجماع ليس الرأي الشخصي لصحابي أو مجتهد حتى يقال: لم تصلنا كافة آرائهم، بل ينتقض بخبر (أي بحديث) لأن الإجماع يكشف عن دليل، فلا ينتقض حصول الإجماع إلا بوجود دليل نقيض2 أو اجتهاد راجع لدليل ناقض، وحينها فلا بد من وصول خبر عن انتقاض الإجماع ورجوع الصحابة إلى الدليل، أو تمسكهم بما نقلوه إجماعا3 كونهم يرونه هو الدليل المعتبر، وعليه فإن عدم نقل معارضة إجماعهم بدليل يكفي للتدليل على حصول الإجماع وقطعيته.

 

وعلى الرغم من هذا فإن الإجماع على وجوب نصب الخليفة، وعلى حرمة خلو الأرض من خليفة، تم في عصر الصحابة في وقائع مختلفة، وعلى مدى الأعصر اللاحقة لعصر الصحابة، لم يشذ عنه رجل يعتبر من أهل ذلك الفن (السياسة والفقه) ولم يشذ عنه من يُعتَبَرُ رأيُه، "فلا اعتبار لرأي من ثبت عليه الفسق أو الجهل أو لم يكن أهلا للفتيا، والحديث والآثار4"، خصوصا وأن هذا الإجماع مستند إلى أدلة متينة من الكتاب والسنة تشهد على وجوب ما حصل الإجماع عليه، فلا يعتد برأي مخالف لأن رأيه إنما يخالف الكتاب والسنة القطعيتين، وقد نقل لنا الإجماع على هذه المسألة علماء أكثر من أن يُحْصَوا، بل لم يَنْقُل أحدٌ من العلماء قولا يعتد به يخرم حصول هذا الإجماع، ولله الحمد في الأولى والآخرة.

 

وعليه، فإن إجماع الصحابة لا يعني إجماع آرائهم أو اتفاقها على أمر، وإنما في أحد وجوهه يعني كشفهم عن دليل لم يرووه لنا نقلا شفويا، أي لم يقولوا لنا (مجتمعين أو فرادى) قال ﷺ كذا وكذا، بل لشدة وضوح المسألة التي أجمعوا عليها، لم يحتاجوا إلى نقلها عبر نقل الحديث الدال عليها، ومثال ذلك: 

 

لو شاهدت أحدهم يتكلم بجهاز الاتصال النقال اليوم، فأنت لن تشرح لشخص ثالث ما يفعله ذلك الشخص، بينما لو كان لدى شخصٌ جهاز اتصال نقالٌ قبل مائة سنة، وكان يتكلم فيه، فإن المسألة من الإبهام للناس بحيث يحتاج معها لشرح، لكنها اليوم لشدة وضوحها لا تحتاج لشرح، ويعتبر شرحها تكلفا، فهذه أولا.

 

ثانيا: ليس المعنى إجماع آرائهم، لأن الشرع لا يؤخذ إلا من الكتاب والسنة، فإجماعهم مستند إلى الكتاب والسنة وإنما طريقة النقل كما أسلفنا في النقطة الأولى.

 

ثالثا: والفرق بين إجماعهم واعتباره معتبرا وإجماع غيرهم مما لا يعتبر هو شبهة الاتصال بالرسول ﷺ لنقل الحكم عنه، لذلك فهم حصل لهم الاتصال، فنقلهم حجة، وما بعدهم من القرون لم يحصل الاتصال، فإجماع ما بعدهم من القرون متوقف على إجماعهم، فإن نقلوا الإجماع كابرا عن كابر، فبها ونعمت، مثلما نقلت الأمة جيلا عن جيل أن الرجال في الحياة الخاصة منفصلون عن النساء، ومثلما نقلت الأمة كابرا عن كابر جيلا عن جيل أن عدد ركعات الصلاة كذا، وأن سنة الفجر مؤكدة.

رابعا: الذين يحصل بهم الإجماع هم الصحابة الذين تواجدوا عند وقوع الحادثة، بشرط أن يكونوا من أهل الفن والصنعة المتعلقة بالحادثة، فمثلا إن كان الإجماع متعلقا بإقامة خليفة بعد رسول الله ‏ﷺ، وتقديم ذلك على سائر الفروض، فإن من تواجد في ذلك الموقف من أهل الفقه والدراية أجمعوا، ولم ينقل النكير عليهم من غيرهم، ولم يرد اعتراض على فعلهم على الرغم من أهميته، وبلوغه سائر الصحابة، وبيعة الصحابة للخليفة في المسجد بعد ذلك، فلم نجد نكيرا ولم نجد من يرو حديثا يخالف، لذلك يقال بأن الإجماع قد انعقد،

 

لذلك فالشاهد هنا حصول الإجماع ممن حضر الواقعة، ومن ثم هذه الواقعة من الأهمية والشهرة بمكان بحيث انتشر خبرها، ولم يرو عن أحد من الصحابة ما ينقضها أو يثبت حكما مغايرا لها، لذلك يقال في مثل هذه الأحكام أن الإجماع قد حصل فيها5.

 

 

1- اختلف الصحابة زمن الطاعون في دخول الأرض الموبوءة أو عدم دخولها، فتنازعوا في مفهوم القدر في ذلك، ثم عضد رأي بعضهم بعدم الدخول خبرٌ عن النبي ﷺ رواه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فبمجرد رواية الخبر اجتمع قول الصحابة على اتباع النص، فلا يتصور أن يجمعوا على خلاف ما ورد، وبالتالي فلا يتصور أن يأتي خبر بنقيض ما أجمعوا عليه بعد عملهم بحين، ثم لا يرجعوا عما أجمعوا عليه! فإذا ما عدمت هذه الصورة، فإن الباقي هو أن الإجماع لا ينخرم.

2- من ناحية نظرية بحتة، لو تصورنا معارضة نقل جموع الصحابة لدليل من خلال إجماعهم، من خلال دليل آخر يخالف أتى به أحدهم، فإن ما يحصل هو فقط أن لا يسبغ على ما نقلوه صفة القطعية، ويقارع الدليل المخالف بالدليل الذي كشفوا عنه إجماعا، ويحصل الترجيح.

3- ويستحيل حصول الإجماع على رأي وعلى نقيضه، وبالتالي فلا يقال: ينسخ الإجماع بإجماع!

4-  مراتب الإجماع لابن حزم الأندلسي ص4

5- لم يختلف الصحابة في السقيفة على وجوب نصب الخليفة، وإن اختلفوا ابتداء على أنه واحد، وقد ردوا رأي صاحب المشورة بالأميرين ولم يعملوا به، واختلفوا من هو الخليفة، أقرشي أم مدني، أبو بكر أم عمر أم أبو عبيدة، أم سعد، لكنهم لم يختلفوا في وجوب أن يكون على المسلمين خليفة، فافهم جيدا مناط الحكم الذي عليه حصل الإجماع والقطع.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة الواحدة والأربعون: إجماع الصحابة على وجوب إقامة الخلافة ونصب خليفة! – ج1

 

 

وقد حصل إجماعهم على وجوب إقامة الخلافة لم يشذ عن ذلك أحد، وهذا النقل عن حصول هذا الإجماع في هذه المسألة نقل إلينا نقلا متواترا، فهو قطعي، هذا وسنضرب قليلا من الأمثلة مما قرره بعض العلماء: 

 

أ- قال ابن خلدون (في المقدمة): "إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛ لأن أصحاب رسول الله ﷺ عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك ولم يترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام". أي أن الأمة نقلت هذا الإجماع واستقر لديها كابرا عن كابر، وطبقة عن طبقة، فوجود الإجماع متواتر.

 

ب- قال الخطيب البغدادي - رحمه الله - أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر قالوا له: يا خليفة رسول الله ولم يسمَّ أحدٌ بعده خليفة، وقيل: إنه قبض النبي ﷺ عن ثلاثين ألف مسلم كُلٌ قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله ورضوا به من بعده رضي الله عنهم1. انتهى 

 

الصور التي تثبت حصول الإجماع وتحققه:

 

أقول: أولا: فهذه صورة من صور تحقق الإجماع، فقد بويع أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة، ولم يرد عن أحدهم ما يدل على أنه منصب محدث في الدين مثلا (بدعة، بدليلٍ يُبَيِّنُ بدعية المنصب)، أو أنه يعارِضُ أدلة شرعية، أو أن ترد أدلة حول طريقة أخرى لخلافة الرسول ﷺ، وانقادَ الصحابةُ لأبي بكر رضي الله عنه وعنهم، وأطاعوه، وصدروا عن رأيه حتى فيما "رأوا رأيا غيره، مثل بدء المرتدين بالقتال"، وهذا كله يبين أنهم مجمعون على أن ما يجب لرئيس الدولة، وولي الأمر من طاعة وحقوق ومسئوليات، وجبت لأبي بكر رضي الله عنه بصفته خليفة، فأجمعوا على صحة إنزال الأحكام المتعلقة برئيس الدولة، ولي الأمر وعلاقتهم به، وعلاقته بهم على من قلدوه هذا المنصب، فهذا كله دليل تحقق الإجماع على منصب الخليفة! بل وأن يصار إليه ما كان لرسول الله ﷺ من الأحكام الشرعية المتعلقة برئيس الدولة، كأن يُعْطَى الزكاةَ، فكان أن قاتل مانعيها، بوصفه خليفة لرسول الله ﷺ في رئاسة الدولة تجب له مثل هذه الأمور مثل ما وجبت للرسول ﷺ، وقاتلَ الصَّحَابةُ مِنْ خَلْفِهِ المرتدينَ ومانعي الزكاةِ على ذلك الحق، وبهذه الصفة، أي صفة الخليفة، فكان هذا دليلا على انعقاد الإجماع باستحقاق صاحب هذا المنصب ما يحق لرئيس الدولة شرعا!

 

ثانيا: وليست العبرة ببيعة آحاد المسلمين كلهم له2، بل العبرة بإجماعهم على حرمة خلو العصر من إمام، وعلى فرضية خلافة رسول الله ﷺ، فالرسول ﷺ إذ قال: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، يفهم من هذا أن المطلوب هو وجود خليفة له في الأعناق بيعة لا أن يبايعه كل مسلم، وبالتالي فلو كان عدد المسلمين ملياراً فليس المطلوب أن يبايع المليار، بل أن يكون على المليارِ خليفةٌ أخذ البيعة بالتراضي من الأمة أو ممن يمثل الأمة!.

 

 

 

 تاريخ بغداد (10/130-131).

 فمثلا لم تبايع السيدة فاطمة الزهراء، عليها سلام الله، لا لإنكارها وجوب إقامة الخليفة، ولا لقولها بجواز خلو الأرض من خليفة، فلا يقال بأنها خرمت الإجماع رضي الله عنها  وأرضاها، ولم تمت ميتة جاهلية، لأن الزمان وقتها لم يخل من إمام مستحق البيعة، وهو مفهوم حديث «ومن مات وليس في عنقه بيعة»، أي ليس المطلوب أن يبايع بشخصه، بل المطلوب أن يُوجَدَ في زمانه خليفةٌ يستحقُّ البيعَةَ في الأعناق، ومن المعلوم أن الإسلام انتشر في أسقاع الأرض أيام الخلفاء الراشدين، فلم نسمع أنهم فهموا من الحديث أن على كل مسلم من المغرب إلى خراسان أن يقدم لبيعتهم بشخصه! بل مفهوم الحديث وجود خليفة في الأرض يستحق البيعة في الأعناق.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة الثانية والأربعون:

إجماع الصحابة على وجوب إقامة الخلافة ونصب خليفة! – ج2

 

 

ج- وقال أبو الحسن الأشعري: أثنى الله -عز وجل- على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال عز وجل: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [سورة الفتح: 18]. قد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وسمّوه خليفة رسول الله وبايعوه وانقادوا له وأقروا له بالفضل وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي وسياسة الأمة وغير ذلك(1). 

 

دـ- وقال عبد الملك الجويني: أما إمامة أبي بكر رضي الله عنه فقد ثبتت بإجماع الصحابة فإنهم أطبقوا على بذل الطاعة والانقياد لحكمه... وما تخرص به الروافض من إبداء علي شراساً2، وشماساً3 في عقد البيعة له كذب صريح، نعم لم يكن رضي الله عنه في السقيفة وكان مستخلياً بنفسه قد استفزه الحزن على رسول الله ﷺ ثم دخل فيما دخل الناس فيه وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد.4

 

هـ - وقال أبو بكر الباقلاني في معرض ذكره للإجماع على خلافة الصديق رضي الله عنه: وكان رضي الله عنه مفروض الطاعة لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته وانقيادهم له حتى قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه مجيبا لقوله رضي الله عنه لما قال: أقيلوني فلست بخيركم، فقال: لا نقيلك ولا نستقيلك قدمك رسول الله ﷺ لديننا ألا نرضاك لدنيانا يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره وإستنابته في إمارة الحج فأمَّرَكَ علينا وكان رضي الله عنه أفضل الأمة وأرجحهم إيماناً وأكملهم فهماً وأوفرهم علماً.65

 

و – قال الشهرستاني: (واصفا حال الصحابة حين اقتربت وفاة أبي بكر رضي الله، واختياره لعمر رضي الله عنه) "وما دار في قلبه (أي أبي بكر) ولا في قلب أحد أن يجوز خلو الأرض عن إمام، فدل ذلك كله على أن الصحابة، وهم الصدر الأول كانوا على بكرة أبيهم متفقين على أنه لا بد من إمام، فذلك الإجماع على هذا الوجه، دليل قاطع على وجوب الإمامة"7

 

ز– قال الإيجي في المواقف في علم الكلام: وأما وجوبه علينا سمعا فلوجهين: الأول: أنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول من وفاة النبي ﷺ على امتناع خلو الوقت عن إمام، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته: ألا إن محمدا قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به، فبادر الكل إلى قبوله، وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله ﷺ، ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر، فإن قيل: لا بد للإجماع من مستند ولو كان لَنُقِلَ، لِتَوفُّرِ الدَّوَاعِي، قلنا: استغني عن نقله بالإجماع أو كان من قبيل ما لا يمكن نقله من قرائن الأحوال8 التي لا يمكن معرفتها إلا بالمشاهدة والعيان لمن كان في زمن النبي ﷺ.

 

الثاني: أن فيه دفع ضرر مظنون وأنه واجب إجماعا. 

 

بيانه: أنا نعلم علما يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات والمناكحات والجهاد والحدود والمقاصات وإظهار شعار الشرع في الأعياد والجمعات إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشا ومعادا، وذلك لا يتم إلا بإمام من قبل الشارع يرجعون إليه فيما يَعِنُّ لهم، فإنهم –مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء، وما بينهم من الشحناء – قلما ينقاد بعضهم لبعض فيفضي ذلك إلى التنازع والتواثب، وربما أدى إلى هلاكهم جميعا.9

 

ح - وقال الماوردي (في الأحكام السلطانية): "وعقدها لمن يقوم بها واجب بالإجماع10 وإن شذ عنهم الأصم".

 

ط - قال النووي 12/205 شرح صحيح مسلم: "أجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة"

 

 

 

1- الإبانة عن أصول الديانة، ص66.

2-  الشراس: شدة المعاملة. مختار الصحاح، ص346.

3-  وشماساً: أي صعب الخلق. لسان العرب (6/111).

4-  كتاب الإرشاد، ص361.

5- الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، ص65.

وتجدر الإشارة إليه أن الذي ذكرت فيه النصوص التي فيها الإشارة إلى خلافة الصديق من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وذكر الإجماع اختصرتها من كتاب عقيدة  أهل السنّة والجماعة في الصحابة الكرام للدكتور ناصر بن عائض حسن الشيخ.
6-  علي الصلابي: الخليفة الأول: أبو بكر الصديق: شخصيته وعصره ص 119
7-  النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس ص 133، نقلا عن نهاية الإقدام للشهرستاني ص 480.
8-  وكما أسلفنا: لم يحتج للنقل لبداهة المسألة في ذلك الزمن، وضربنا مثالا بالحديث في الهاتف النقال اليوم حيث يعتبر شرح ذلك من التكلف، بينما لو كان قبل مائة عام لاحتيج للشرح!
9-  الإيجي في المواقف في علم الكلام: المرصد الرابع في الإمامة ومباحثها ص 396
10-  يعني إجماع الأمة عصرا بعد عصر، لأن الأصم لم يكن في عصر الصحابة، وكان الأصم عن الشريعة أصما كما وصفه القرطبي!
رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة الثالثة والأربعون:

التواتر المعنوي

 

 

وعندي أن نصب الخليفة بلغ القطع بالتواتر المعنوي أيضاً، وبيان ذلك:

 

نبدأ بتبيان مفهوم التواتر، بشقيه اللفظي والمعنوي، وكيف يتحققان، وأنبه إلى ندرة الأبحاث التي تدرس التواتر المعنوي وشروطه، وكيفية تحققه، 

 

شروط التواتر اللفظي

 

أما التواتر اللفظي فلتحققه شروط حتى يفيد المتواترُ العلمَ: منها ما يرجع إلى المخبرين، ومنها ما يرجع إلى السامعين:

 

فالتي ترجع إلى المخبرين أربعة: الأول: أن يكونوا عالمين بما أخبروا به غير مجازفين، فلو كانوا ظانين لذلك فقط لم يفد القطع.

 

الشرط الثاني: أن يعلموا ذلك عن ضرورة من مشاهدة أو سماع، أي أن يكونوا مستندين إلى الحس، لأن ما لا يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه، وأيضاً لا بد أن يكونوا على صفة يوثق معها بقولهم.

 

الشرط الثالث: أن يبلغ عددهم إلى مبلغ يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب، ولا يقيد ذلك بعدد معين بل ضابطه حصول العلم الضروري به،1 فإذا حصل ذلك علمنا أنه متواتر وإلا فلا، وهذا قول الجمهور.

 

الشرط الرابع: وجود العدد المعتبر في كل الطبقات، فيروي ذلك العدد عن مثله إلى أن يتصل بالمخبر عنهم، وقد اشترط عدالة النقلة لخبر التواتر، فلا يصح أن يكونوا أو بعضهم غير عدول2.

 

وأما الشروط التي ترجع إلى السامعين فلا بد أن يكونوا عقلاء، إذ يستحيل حصول العلم لمن لا عقل له، وأن يكونوا عالمين بمدلول الخبر وأن يكونوا خالين عن اعتقاد ما يخالف ذلك الخبر لشبهة تقليد أو نحوه3.

 

 

 

1- أنظر: أدلة الاعتقاد للمؤلف، باب: أخبار الآحاد لا تفيد العلم بذواتها، توطئة ضرورية جدا: مفاتيح التعامل مع المسألة: أولا: ليس المراد بالقبول التصديق: الشهادة مثالاً، هل ثمة من عدد يفصل بين التواتر والآحاد؟

2- قال ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة: ولا يقال يستفاد من هذه الأخبار التواتر المعنوي لأن التواتر لا يشترط ثقة رجاله ولا عدالتهم وإنما العمدة على ورود الخبر بعدد يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب فإن اتفقت ألفاظه فذاك وإن اختلفت فمهما اجتمعت فيه فهو التواتر المعنوي.

3-  راجع كتاب: أدلة الاعتقاد للمؤلف ففيه تفصيل واسع للموضوع. 

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة الرابعة والأربعون:

طرق التواتر المعنوي – ج1

 

 

 

حين نقول: تواترٌ معنويٌ، فإننا نستمده من عمليةِ نقلٍ بلغت التواتر، تأتي من خلال الاستقراء، 

 

والاستقراء كما قال فيه الشاطبي: "هكذا شأنه؛ فإنه تصفُّح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكمٌ عامٌ، إما قطعي، وإما ظني، وهو أمر مُسَلَّمٌ عند أهل العلوم العقلية والنقلية"1

 

والنقل المفيد للتواتر المعنوي على ثلاثة ضروب:

 

أولها: إما من خلال نقل مجموعة أخبار آحاد، (روايات حديث) 

 

وثانيها: أو من خلال نقلٍ عمليٍ جماعيٍ أفادَ معنىً معيناً، 

 

وثالثها: أو باستقراء تضافر اشتراك أدلة في أداء معنى واحد، 

 

أما الضرب الأول: فالأخبار، فأن يؤتى فيها بذكر معنى مشترك بالاستقراء يستمد من الصيغ ومعاني تلك الصيغ، أي أَنْ يَتَوَاتَرَ "المَعْنَى الْمُشْتَرَكُ" بِطَرِيقِ اللُّزوم فِي ضِمْنِ أَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، بحيث تسد اجتماع تلك الأخبار على معنى مشترك فجوة الظنية التي في الآحاد، فيؤخذ التواتر المعنوي، بشروط أربعة:

 

الشرط الأول: بلوغ جمع من الرواة لآحاد الأخبار مبلغاً يستحيل معه اتفاقهم على الكذب2، أي أنك لو درست مجموع الأخبار دراستك لحديث متواتر واحد، وجدت العدد في مجموعها مما يحيل اتفاق رواة كل الأخبار على الكذب، ووجود التواتر في كل الطبقات التي روت الأحاديث بنفس الطريقة التي تحققنا فيها من بلوغ جمع الرواة مبلغا يستحيل معه اجتماعهم على الكذب، 

 

الشرط الثاني: بِأَنْ يَتَوَاتَرَ مَعْنًى فِي ضِمْنِ أَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ فِيهِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، لَكِنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنًى مُشْتَرَكٍ مُتَحَصّل بالاستقراء بَيْنَهَا يفيد دلالة على المعنى بِجِهَةِ التَّضَمُّنِ أَوْ الالْتِزَامِ.

 

قال محمد النجار الفتوحي في شرح الكوكب المنير: وَأَمَّا التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ مِنْ السُّنَّةِ، وَهُوَ بِأَنْ يَتَوَاتَرَ مَعْنًى فِي ضِمْنِ أَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ فِيهِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ فَكَثِيرٌ (وَ) قِسْمٌ (مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ تَغَايُرُ الأَلْفَاظِ مَعَ الاشْتِرَاكِ فِي مَعْنًى كُلِّيٍّ) وَلَوْ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَلِكَ (كَحَدِيثِ الْحَوْضِ، وَسَخَاءِ حَاتِمٍ) وَشُجَاعَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهَا. وَذَلِكَ إذَا كَثُرَتْ الأَخْبَارُ فِي الْوَقَائِعِ وَاخْتُلِفَ فِيهَا، لَكِنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا بِجِهَةِ التَّضَمُّنِ أَوْ الالْتِزَامِ، حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ مَثَلا الشَّجَاعَةُ أَوْ الْكَرَمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيُسَمَّى الْمُتَوَاتِرَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَذَلِكَ كَوَقَائِعِ حَاتِمٍ فِيمَا يُحْكَى مِنْ عَطَايَاهُ مِنْ فَرَسٍ وَإِبِلٍ وَعَيْنٍ وَثَوْبٍ وَنَحْوِهَا. فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ جُودَهُ فَيُعْلَمُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْقَضَايَا بِعَيْنِهِ، وَكَقَضَايَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حُرُوبِهِ مِنْ أَنَّهُ هَزَمَ فِي خَيْبَرَ كَذَا وَفَعَلَ فِي أُحُدٍ كَذَا، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِالالْتِزَامِ عَلَى شُجَاعَتِهِ.3

 

الشرط الثالث: أن يكون المعنى عاما غير مخصَّصٍ، مطلقا من غير تقييد، وأن يفيد ذلك المعنى أي يتوارد على شيء واحد، لا مجموعة أشياء متفرقة لا تدل على ذلك المعنى بدلالة التضمن أو الالتزام، قال الشاطبي: "والثاني: أن التواتر المعنوي هذا معناه، فإن جود حاتم مثلاً إنما ثبت على الإطلاق من غير تقييد، وعلى العموم من غير تخصيص، بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر، مختلفة في الوقوع، متفقة في معنى الجود، حتى حصّلت للسامع معنى كلياً حكم به على حاتم، وهو الجود، ولم يكن خصوص الوقائع قادحاً في هذه الإفادة،4

 

الشرط الرابع: أن لا يعارض المعنى المستفادُ من التواتر دليلا قطعيا سواء أتعارض بالكلية مع الدليل، أم استفدنا من الدليل القطعي معاني تعارضت مع أو قدحت في المستفاد من التواتر المعنوي وأثارت حوله علامات شك، تهبط به عن درجة القطع. (فلا بد أن يتوافق المعنى مع المستفاد من الأدلة القطعية، فمثلا أخبار الآحاد التي استفدنا منها القول بعذاب القبر نزلت عن درجة التواتر المعنوي قليلا بسبب تعارضها مع ما قد تؤديه بعض الآيات من معان نحتاج معها إلى التأويل والتعليل الذي يعسر معه فهمها على ما هي عليه بشكل يفضي للقطع، مثل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 55 – 56]5، وهذا نوع يدخل تحت ما سماه الشاطبي: " ولم يكن خصوص الوقائع قادحاً في هذه الإفادة"

 

ملاحظة مهمة: في التواتر اللفظي كما وفي المعنوي نرى أن بلوغ الجمع حدا يحيل اجتماعهم على الكذب يحتاج أن تضاف له شروطٌ حتى يفيد اليقين سواء في التواتر اللفظي، أو  في التواتر المعنوي إذ في المعنوي يحتاج لعدم المعارضة الواردة في رابعا أعلاه، وذلك لأنهم لم يجتمعوا على رواية حديث واحد حتى يقال: يفيد القطع بعددهم، بل بروايات مختلفة كل رواية فيها ما فيها من دوافع الظنية، وكذلك في التواتر اللفظي، لا يكفي شرط بلوغ العدد حدا يستحيل معه تواطؤهم على الكذب ليفيد القطع، بل يجب أن يضاف إليه شروط أخرى منها أن يكونوا عالمين بما أخبروا به، وأن يعلموا ذلك عن ضرورة من مشاهدة أو سماع، فتنبه لهذا يرحمك الله!

 

قال الشاطبي في الموافقات: والثاني: أن التواتر المعنوي هذا معناه، فإن جود حاتم مثلاً إنما ثبت على الإطلاق من غير تقييد، وعلى العموم من غير تخصيص، بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر، مختلفة في الوقوع، متفقة في معنى الجود، حتى حصّلت للسامع معنى كلياً حكم به على حاتم، وهو الجود، ولم يكن خصوص الوقائع قادحاً في هذه الإفادة،.6

 

 

 

1- الموافقات للشاطبي كتاب الأدلة الشرعية

2- فمثلا: روايات عذاب القبر بلغت في عصر الصحابة حوالي سبعين حديثا بمختلف رواياتها، رواها حوالي ستة وعشرون صحابيا

3- محمد النجار الفتوحي في شرح الكوكب المنير باب في الإجماع

4- الموافقات للشاطبي كتاب الأدلة الشرعية

5- راجع كتابنا: أدلة الاعتقاد ففيه فصل كامل حول هذه الآيات وهذه المسألة 

6- الموافقات للشاطبي كتاب الأدلة الشرعية

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة الخامسة والأربعون:

طرق التواتر المعنوي – ج2

 

 

وأما الضرب الثاني: وأما النقل العملي، فيتحصل باستقراء وقائع وعادات1 مستقرة عند الأمة، ومثاله اللغات: إذ أن مما يدخل في التواتر المعنوي استعمال العرب للغات، فإنها تعارفت على ألفاظ معينة تؤدي معان معينة، فاللفظ حتى يعتبر لفظا عربيا لا بد أن يُروى عن العرب الرواية الصحيحة إما بنقل الأشعار، أو من خلال استعمال من تقوم بهم الحجة من العرب للغات (وهذا شكل يتراوح ما بين التواتر المعنوي واللفظي).

 

ومن الأمثلة الأخرى: استقراء ما وصل إلينا من إجماع المسلمين على أمر يرجع أصله لإجماع الصحابة، ثم نقل في العصور التالية إجماعا على حكم ما، كثبوت أن الصلوات خمس، وركعاتها، وسنة الفجر، وانعقاد الخلافة.

 

وأما الضرب الثالث: فأن يستفاد التواتر المعنوي من خلال النظر واستقراء اشتراك النصوص، والوقائع والألفاظ والقرائن والأدلة والأمارات والأحكام الكلية والقواعد واتفاقها على "معنى كلي" من خلال عملية استقراء، والنظر في إمكان الإفادة منها في تأكيد معنى واحد مشترك، وقاطع، 

 

فمثلا: باستقراء العلاقات بين الرجال والنساء في الإسلام نجد: تحريم النظر للعورات، وغض البصر، وحرمة السفر للمرأة مسيرة معينة دون مَحْرَمٍ، ‎وجعل صفوف النساء في الصلاة في المسجد العام خلف صفوف الرجال منفصلة عنهم، وقالت النساء للرسول ﷺ قد غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما، ولم يجز شهادة المرأة في الجنايات،‎ وأدلة هذه الأحكام تدل دلالة التزام على فصل النساء عن الرجال، وأن الرجال لا يجتمعون بالنساء. ثم إن واقع حياة المسلمين في عهد الرسول ﷺ هي فصل النساء عن الرجال، ‎وهذا الفصل معناه منع اجتماع الرجال بالنساء، والشرع جعل البيوت حياة خاصة، وجعل الاستئذان دليلاً على كونها حياة خاصة، فلا تدخل إلا باستئذان، فمنع الدخول ومنع ما يترتب عليه إلا وفق أحكام معينة، فالأدلة العامة للأحكام الشرعية المتعلق بالمرأة تجاه الرجل تدل دلالة قاطعة وليست ظنية على فصل النساء عن الرجال، لأنها جاءت بأدلة قطعية الثبوت قطعية الدلالة من آيات قرآنية وأحاديث متواترة2، فهذا الاستقراء للأحكام الشرعية يفضي إلى تواتر معنى‎ فصل الرجال عن النساء عند المسلمين في الحياة الخاصة وأضحى هذا مما هو معلوم من الدين بالضرورة، لقوة ثبوته وبداهته.

 

ومن الأمثلة الأخرى: استقراء ما وصل إلينا من النظر في الآيات والأدلة الدالة على وجوب الخلافة! وهو ما سنفعله في هذا الفصل ان شاء الله تعالى.

 

 

 

1- جاء الشرع ليبين للناس الحسن والقبح والخير والشر والثواب والعقاب، فالخلق الكريم حكم شرعي يجب أن يتصف به المسلم لكونه أمر بالاتصاف به، لا لأنه صفة حسنة في ذاتها، وبالمثل فإن ما اعتاده الناس إنما نزلت الشريعة لضبطه بالأحكام الشرعية، فيستحيل عقلا أن تكون الأمة أجمعت -على اختلاف مشاربها وأصولها وأعراقها وشعوبها- على عادة معينة مستقرة إلا أن يكون أصلها الشرع! 

2- جواب سؤال لحزب التحرير بتاريخ: 11 من شهر رجب 1393هجري 9/8/1973 بتصرف.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة السادسة والأربعون:

رأي الإمام تقي الدين النبهاني في التواتر المعنوي

 

 

وقد استقرأت رأي العلامة تقي الدين النبهاني في التواتر المعنوي وخلصت إلى أنه يقول بالتواتر المعنوي، قال في جواب سؤال بتاريخ 1973 ما نصه: ثم إن واقع حياة المسلمين في عهد الرسول ﷺ هي فصل النساء عن الرجال، أي فصل المرأة عن الرجل، ‎وهذا الفصل معناه منع اجتماع الرجال بالنساء، أي منع اجتماع الرجل بالمرأة. فالأدلة العامة للأحكام الشرعية المتعلق بالمرأة تجاه الرجل تدل دلالة قاطعة وليست ظنية على فصل النساء عن الرجال، لأنها جاءت بأدلة قطعية الثبوت قطعية الدلالة من آيات قرآنية وأحاديث متواترة، حتى أصبح فصل الرجال عن النساء عند المسلمين مما هو معلوم من الدين بالضرورة، لقوة ثبوته وبداهته1. انتهى، فالشاهد هنا قوله: أحاديث متواترة، ومعلوم أنها متواترة معنى، 

 

كما ورد في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الأول: فصلاة ركعتي سنة الفجر سنة لو لم يصلّها لا شيء عليه، ولو صلاها له ثواب مثل ركعتي المغرب سواء بسواء من حيث الحكم الشرعي، أما من حيث العقيدة، فالتصديق بركعتي الفجر أمر حتمي وإنكارهما كفر، لأنهما ثبتتا بطريق التواتر. انتهى، ومعلوم أن أحاديث ركعتي الفجر في كتب السنن آحاد، إلا أن القطع بثبوتهما كان من طريق التواتر المنقول بالإجماع.

 

وهذان المثالان يبينان أن الإمام النبهاني رحمه الله يرى أن التواتر المعنوي قد يحصل بالاستقراء، كاستقراء فصل الرجال عن النساء في الحياة الخاصة من تاريخ الإسلام، ولعلنا نصف ذلك بأنه نقل للحكم بتواتر معنوي نُقل لنا "عمليًا" من خلال عمل الأمة عليه في العصور الأولى. 

 

التواتر المعنوي على وجوب نصب الإمام

 

وقد ارتبط هذا التواتر المعنوي للقطع بوجوب نصب الخليفة بالإجماع عليه، ارتباط الإجماع عليه بأنه متواتر معنى، نقلته لنا الأمة كابرا عن كابر، فحصل المقصود وهو ثبوت القطع بوجوب نصب الخليفة، وبالتالي وجوب أن يحكم المسلمين خليفةٌ يكون رئيسا لدولة إسلامية تقيم فيهم أحكام الإسلام، أي القطع بوجوب إقامة الخلافة، وحرمة خلو الزمان من إمام يحكم بشرع الله، وهو المطلوب.

 

قال الإيجي في المواقف في علم الكلام: "وأما وجوبه علينا سمعا فلوجهين: الأول: أنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول من وفاة النبي ﷺ على امتناع خلو الوقت عن إمام". 

 

هذا وقد سبق وبينا إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وكثرة النقولات عن أهل العلم في هذه القضية، وهذا الإجماع نقل لنا عبر التواتر، فهو تواتر معنوي على وجوب نصب الإمام وهو المطلوب.

 

التواتر المعنوي على وجوب الخلافة.

 

وقال الشيخ الطاهر بن عاشور في (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام): "فإقامة حكومة عامة وخاصة للمسلمين أصل من أصول التشريع الإسلامي ثبت ذلك بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة بلغت مبلغ التواتر المعنوي."

 

 

1- جواب سؤال لحزب التحرير بتاريخ: 11 من شهر رجب 1393هجري 9/8/1973 بتصرف.

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة "الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي"

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة السابعة والأربعون:

هل إقامة الخلافة فرض قطعي؟

هل نصب خليفة فرض قطعي؟

 

 

هل حرمة خلو الأرض من خليفة يقيم أحكام الإسلام قطعية؟

 

كما أسلفنا من قبل، فإننا سنقوم -بحول الله تعالى- بدراسة واستقراء الآيات والأحاديث والأدلة والأمارات والقرائن التي ترتبط بالخلافة، لنخلص منها إلى وجود التواتر المعنوي على وجوب الخلافة وهو المفضي للقطع.

 

وسنضرب الصلاة مثالا توضيحيا على كيفية إثبات تواتر فرضها المعنوي، ثم نطبق الأمر ذاته على الخلافة، بحول الله تعالى،

 

اعلم، يرحمك الله، أنه إلى جانب تقرير فرضية الأفعال (كالصلاة مثلا) بأوامر وقرائن، وجدنا أن الشارع قد حف تلك الأفعال التي أراد إظهار وجوبها بقرائن تبين مدى أهميتها أيضا، أو لإثبات أن ذلك الفرض قطعي لا يصح الاختلاف فيه، ووجدنا أن بعض هذه الأفعال بلغت مبلغ التواتر المعنوي من مجموع هذه الأدلة والقرائن التي حفتها، ويستنبط وجود التواتر المعنوي من تلك الأدلة والقرائن بدلالة الالتزام بأنواعها الاقتضاء والتنبيه والإيماء، وأمثالها وبعضها بالتضمن، مما يجعل مجموع الأدلة تفيد التواتر المعنوي، وذلك طبعا إلى جانب استنباط فرضية الصلاة مباشرة من الأمر بإقامتها والقرائن التي حفته، فليس معنى استنباطنا التواتر أنه الدليل الوحيد على الفرض، بل إننا نستأنس به للدلالة على قطعية الفرض أيضا، وعلى درجة أهميته، فمن ذلك أمرُهُ جل وعلا بإقامة الصلاة: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ﴾، 

 

ومن ذلك سؤال الكفار بعضهم في سقر: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾، فَعَدَّ الشارعُ تركها سببا في دخول النار، فاستنبطنا أن ذلك الأمر كان على سبيل الفرض أي الوجوب، وقال: ﴿فوَيلٌ لّلْمُصَلّينَ ۝ ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاٰتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 4 – 5]، فحذر من مجرد السهو عن الصلاة، وقوله ﷺ « إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ». رواه النسائي كتاب الصلاة. وابن ماجه، فعد إقامتها حدا فاصلا، وتركها جريمةً تضاهئُ جريمةَ الكفرِ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 277]، ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18]، فأضافها، وعطفها على الإيمان والأعمال الصالحة، واختصها والزكاة من جملة الأعمال الصالحة لأهميتها، 

 

وروى الإمام أحمد رضي الله عنه والترمذي واللفظ له: حَدَّثنا ابنُ أَبي عُمَرَ، أخبرنا عَبْدُ الله بنُ مُعَاذٍ الصَّنْعَانِيُّ عن مَعْمَرٍ عن عَاصِمِ بنِ أَبي النُّجُودِ عن أَبي وَائِلٍ عن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النبيِّ في سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْماً قَرِيباً مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عنِ النَّارِ، قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله عَلَيْهِ: تَعْبُدُ الله وَلاَ تُشْرِكْ بِهِ شَيْئَاً، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوفِ الَّليْلِ، قَالَ: ثُمَّ تَلاَ ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿يَعْمَلُونَ﴾ ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإسلام، وَعُمودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ. ثمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أمّك يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلاَ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ». قال أبو عِيسَى: هَذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. 

 

وهكذا تجد الإسلام قد حف الصلاة بقرائن تبين عظيم قدرها في الإسلام، لذلك نجد فرضها من أعظم الفرائض وأهمها في الإسلام، ومن هذه الأدلة وجدنا تواتر فرضها معنويا، أي قطعية الفرض، فلا خلاف في ثبوته. فلنطبق العملية ذاتها على الخلافة لنثبت تواترها معنويا1:

 

 

 

1- راجع فصل: التشريع حق لله وحده تعالى، وعلاقته بفرض الخلافة، مفهوم الحاكمية، والمفاصل الثلاثة المذكورة فيه، وقد تم استنباط وبيان ثبوت التواتر المعنوي باجتماع الأدلة والقرائن منها!

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...