اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

أبو حنيفة النعمان – لمحات رائعة من حياته


Recommended Posts

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

أبو حنيفة النعمان – لمحات رائعة من حياته

قال عنه يزيد بن هارون: "لم أرَ أعقل ولا أفضل ولا أورع من أبي حنيفة".

 

وقال عنه بعضهم: "كل الفقهاء عالةٌ على أبي حنيفة" فهو بحق سيد الفقهاء. كان أبو حنيفة حسن الوجه، وسيم الطلعة، عذب المنطق، حلو الحديث، ليس بالطويل البائن (الشديد الطول)، ولا بالقصير الذي تنبو عنه العيون (تعرض عنه الأنظار ولا ترتاح لرؤيته). وهو إلى ذلك لبَّاسٌ أنيق الثياب، بهيُّ الطلعة، كثيرُ التعطر، إذا طلع على الناس عرفوه من طيبهِ قبل أن يروه، ذلكم هو (النعمان بن الثابت بن المرزبان)، المكنى بأبي حنيفة، أول من فتَّق أكمام الفقه واستخرج أروع ما فيها من طيوب (أي أخصب الفقه وكشف عن روائعه).

 أدرك أبو حنيفة طرفاً من آخر عصر بني أمية، وآخر من أول عصر بني العباس، وعاش في زمنٍ أغدق فيه الخلفاء والولاة على أصحاب المواهب إغداقاً حتى صار رزقهم يأتيهم رغداً من كل مكان، وهم لا يشعرون، بيد أنّ أبا حنيفة أكرم علمه ونفسه عن ذلك، وحزم أمره على أن يأكل من كسب يمينه، وأن تكون يده هي العليا دائماً...

دعاه المنصور ذات مرة إلى زيارته، فلما صار عنده بالغ في إعظامه و إكرامه و الترحيب به، و أدنى مجلسه منه، و جعل يسائله عن كثير من شؤون الدين والدنيا، فلما أراد الانصراف دفع إليه بكيس فيه ثلاثون ألف درهم، على ما كان معروفاً من إمساك المنصور، فقال له أبو حنيفة: "يا أمير المؤمنين إني غريب في بغداد، و ليس لهذا المال موضع عندي، و إني لأخشى عليه، فاحفظه لي في بيت المال عندك، حتى إذا احتجته طلبته منك"، فأجابه المنصورُ إلى رغبته، غير أن الحياة لم تطل حينئذ بأبي حنيفة، فلما وافاه الأجل وُجدت في بيته ودائع للناس تزيد عن أضعاف هذا المبلغ، فلما سمع المنصور بذلك قال: "يرحم الله أبا حنيفة، فقد خدعنا، أبى أن يأخذ شيئاً منا، وتلطف في ردنا".

 

لقد كان أبو حنيفة يوقن أنه ما أكل امرؤٌ لقمة أزكى ولا أعز من لقمة ينالها من كسب يده، لذلك نجده يخصِّص شطراً من وقته للتجارة، فقد جعل يتَّجر بالخز وأثوابه (الخز هو ما نسج من صوف وحرير)، وكانت تجارته ذاهبة آيبة بين مدن العراق. وكان له متجر معروف يقصده الناس، فيجدون فيه الصدق في المعاملة، والأمانة في الأخذ والعطاء، ولا ريب في أنهم كانوا يجدون فيه الذوق الرفيع أيضاً، ولقد كانت تجارته تدرُّ عليه خيراً وفيراً، وتحبوه (تعطيه) من فضل الله مالاً كثيراً، فكان يأخذ المال من حِلِّه ويضعه في محله. فلقد عُرف عنه أنه كلما حال عليه الحول أحصى أرباحه من كل تجارته واستبقى منها ما يكفيه لنفقته، ثم يشتري بالباقي حوائج القراء والمحدثين والفقهاء وطلاب العلم وأقواتهم وكسوتهم، ويخصص لكل منهم مبلغاً من النقد العين ويدفع ذلك كله إليهم ويقول: "هذه أرباح بضائعكم أجراها الله لكم على يدي، واللهِ ما أعطيتكم من مالي شيئاً، وإنما هو فضل الله علي فيكم، فما في رزق الله حول لأحد غير الله".

ولقد شرَّقت أخبار جود أبي حنيفة وسماحته وغرَّبت، وبخاصة مع جلسائه وأصحابه. من ذلك أن أحد جلسائه جاءه إلى متجره يوماً وقال له: "إني بحاجة إلى ثوبِ خزٍ يا أبا حنيفة"، فقال له أبو حنيفة، "ما لونه؟" فقال: "كذا و كذا"، فقال: "اصبر حتى يقع لي فآخذه لك"، فما إن دارت الجمعة حتى وقع له الثوب المطلوب، فمر به صاحبه، فقال له أبو حنيفة: "قد وقعت لي حاجتك"، وأخرج إليه الثوب و أعجبه وقال: "كم أدفع لغلامك ثمنه"، قال: "درهماً"، فقال الرجل في استغراب: "درهماً واحداً؟‍!"، فقال أبو حنيفة: "نعم"، فقال له الرجل: "ما كنت أظنك تهزأ بي يا أبا حنيفة"، فقال أبو حنيفة: "ما هزئت بك، و إنما اشتريت هذا الثوب و آخر معه بعشرين ديناراً ذهباً و درهم من الفضة، و قد بعت أحد الثوبين بعشرين ديناراً ذهباً، و بقي عليّ هذا بدرهم واحد، وما كنت لأربح على جليسي".

وجاءته امرأة عجوز تطلب ثوبَ خزٍ، فأخرج لها الثوب المطلوب، فقالت له: "إنني امرأة عجوز ولا علم لي بالأثمان، وإنها الأمانة، فبعني الثوب بما قام عليك وأضف إليه قليلاً من الربح، فإني ضعيفة"، فقال لها: "إني اشتريت ثوبين اثنين في صفقة واحدة، ثم إني بعت أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم، فخذيه بها، ولا أريد منك ربحاً".

وقد رأى ذات يوم ثياباً رثة على أحد من جلسائه، فلما انصرف الناس و لم يبقَ في المجلس إلا هو والرجل قال له: "ارفع هذا المصلى وخذ ما تحته"، فرفع الرجل المصلى فإذا تحته ألف درهم، فقال له أبو حنيفة: "خذها و أصلح بها من شأنك"، فقال الرجل: "إني موسر، و قد أنعم الله علي، و لا حاجة لي بها"، فقال له أبو حنيفة: "إذا كان الله قد أنعم عليك فأين آثار نعمته، أما بلغك أن النبي صلى الله عليه و سلم يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ) ، فينبغي عليك أن تصلح من شأنك حتى لا تُغمَّ صديقك".

لقد بلغ من جود أبي حنيفة و بره بالناس أنه كان إذا أنفق على عياله نفقة تصدَّق بمثلها على غيرهم من المحتاجين، وإذا اكتسى ثوباً جديداً كسى المساكين بقدر ثمنه، و كان إذا وُضع الطعام بين يديه غرف منه ضعف ما يأكله عادةً ودفع به إلى الفقراء، و مما يُروى عنه أنه قطع عهداً على نفسه ألا يحلف بالله في أثناء كلامه إلا تصدق بدرهم فضة، ثم تدرَّج في الأمر فجعل على نفسه عهداً إن حلف بالله ليتصدقن بدينار ذهباً، إن حلف صادقاً، فكان إذا حلف صادقاً تصدَّق بدينار، لأن الله عز وجل يقول ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾.

 ولقد كان (حفص بن عبد الرحمن) شريكاً لأبي حنيفة في بعض تجارته، فكان أبو حنيفة يجهِّز له أمتعة الخز و يبعث بها معه إلى بعض مدن العراق، فجهَّز له ذات مرة متاعاً كثيراً، وأعلمه أن في الثياب كذا و كذا عيوباً، و قال له: "إذا هممت ببيعها فبيِّن للمشتري ما فيها من عيب"، فباع حفص المتاع كله و نسي أن يعلم المشتري بما في الأثواب المعينة من عيوب، و لقد أجهد نفسه في تذكر الرجال الذين باعهم الثياب المعيبة فلم يفلح، فلما علِم أبو حنيفة بالأمر، و لم يتمكن من معرفة الذين وقع عليهم الغبن لم يستقر قراره، ولم تطب نفسه حتى تصدق بأثمان المتاع كلها.

لقد كان أبو حنيفة فوق ذلك كله طيب المعاشرة، حلو المؤانسة، يسعد به جليسُه، ولا يشقى به من غاب عنه، ولو كان عدوًّا له. حدَّث أحد أصحابه فقال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول لسفيان الثوري: "يا أبا عبد الله ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة، فإني ما سمعته يذكر عدوًّا له بسوء قط"، فقال له سفيان: "إنّ أبا حنيفة أعقل من أن يسلِّط على حسناته ما يذهب بها".

 وكان أبو حنيفة كيِّساً في اقتناص ود الناس، حريصاً على استدامة صداقتهم، ولقد عُرف عنه أنه ربما مر به الرجل من الناس فقعد في مجلسه من غير قصد ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه، فإن كانت به فاقة وصله، وإن كان به مرض عاده، وإن كانت له حاجة قضاها، حتى يجّره إلى مواصلته جراً.

ولقد كان أبو حنيفة قبل ذلك كله وفوق ذلك كله صوامَّ نهار، وقوامَّ ليل، وخديناً للقرآن (أي صديقاً)، مستغفراً بالأسحار. وكان من أسباب توغله في العبادة واندفاعه فيها أنه أقبل ذات يوم على جماعة من الناس فسمعهم يقولون: "إنّ هذا الرجل الذي ترونه لا ينام الليل"، فما إن لامست كلماتُهم هذه مسمعه حتى قال: "إني عند الناس على ما خلاف أنا عليه عند الله، واللهِ لا يتحدث الناسُ عني منذ الساعة بما لا أفعل، ولن أتوسَّد فراشاً (أي أضع وسادة تحت رأسي) بعد اليوم في ليلٍ حتى ألقى الله.

ثمّ دأب منذ ذلك اليوم على قيام الليل كلّه، فكان إذا أرخى الظلام سدوله على الكون (أستار ظلمته)، وأُسلمت الجنوب إلى المضاجع (غرقت في نومها)، قام فلبس أحسن ثيابه، وسرّح لحيته، وتطيب، وتزيّن، ثمّ يصفّ في محرابه، ويقطع ليله قانتاً، أو منحنياً بصلبه (مكباً) على أجزاء القرآن، أو رافعاً يديه بالضراعة. فلربما قرأ القرآن كلّه في ركعة واحدة، ولربّما قام الليل كلّه بآيةٍ واحدة. فلقد روي أنه قام الليل كله وهو يردد قوله عزّ وجلّ: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ وهو يبكي من خشية الله بكاءً يقطّع نياط القلوب (عروق الأفئدة)، وينشج نشيجاً مبحوحاً يفطر الأفئدة (أي يبكي بكاءً يمزّق القلوب).

ولقد عُرف عنه أنه صلى الفجر بوضوء العشاء نحواً من أربعين عاماً، ما ترك ذلك خلالها مرةً واحدة. وأنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف مرة. وكان إذا قرأ سورة الزلزلة اقشعر جلده ووجل فؤاده وأخذ لحيته بيده وطفق يقول: "يا من يجزي بمثقال ذرةِ خيرٍ خيراً، ويا من يجزي بمثقال ذرةِ شرٍ شراً، أجرْ عبدك النعمان من النار وباعد بينه وبين ما يقرّبه منها وأدخله في واسع رحمتك يا أرحم الراحمين".

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...