اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

عطـاء بن أبي ربـاح


Recommended Posts

عطـاء بن أبي ربـاح

 

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين.. سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

"ما رأيتُ أحدًا يريدُ بالعلمِ وجهَ اللهِ عز وجل غير هؤلاء الثلاثة: عطاءٌ... وطاووسٌ... ومُجاهدٌ." هذا قول لسَلَمةُ بن كُهيل.

 

ها نحن أولاءِ في العَشرِ الأخيرة من شهر ذي الحِجة سنة سبع وتسعين للهجرة ... وهذا البيت العتيق يموج بالوافدين على الله من كل فج، مشاةً ورُكبـانــًا وشيوخـًا وشبانـًا، ورجالًا ونساءً. فيهم الأسود والأبيض، والعربي والعجمي، والسيد والمسود... لقد قدموا جميعًا على ملكِ الناسِ مخبتين مُلبين، راجين مؤملِين. وهذا سليمان بن عبد الملك خليفة المسلمين، وأعظم ملوك الأرض يطوف بالبيت العتيق حاسر الرأسِ حافي القدمين ليس عليه إلا إزارٌ ورداءٌ...شأنه في ذلك كشأن بقية رعاياه من إخوته في الله. وكان من خلفه ولداه. وهما غلامان كطلعة البدرِ بهاءً ورُواءً، وكأكمام الورد نضارةً وطيبًا. وما أنِ انتهى من طوافه حتى مال على رجلٍ من خاصته وقال: أين صاحبكم؟ فقالإنه هناك قائمٌ يصلي... وأشار إلى الناحية الغربية من المسجد الحرام. فاتجه الخليفة ومن ورائه ولداه إلى حيثُ أُشير إليه ...وهَمَّ رجال الحاشية بأن يتبعوا الخليفة ليفسحوا له الطريق، ويدفعوا عنه أذى الزحام، فثَنَاهم عن ذلك وقال: هذا مقامٌ يستوي فيه الملوك والسوقة... ولا يفضلُ فيه أحدٌ أحدًا إلا بالقبول والتقوى .. ورُب أشعث أغبر قدِم على الله فتقبله الله بما لم يتقبل به الملوك، ثم مضى نحو الرجل فوجده ما يزال داخلًا في صلاته، غارقًا في ركوعه وسجوده. والناس جلوسٌ وراءه، وعن يمينه وشماله ... فجلس حيث انتهى به المجلس ... وأجلس معه ولديه ... وطفق الفتيان (القرشيان) يتأملان ذلك الرجل الذي قصده أمير المؤمنين، وجلس مع عامة الناس ينتظر فراغه من صلاته. فإذا هو شيخٌ (حبشيٌ(، أسود البشرة، مفلفل الشعر، أفطس الأنف، إذا جلس بدا كالغراب الأسود. ولما انتهى الرجل من صلاته؛ مال بشقه على الجهة التي فيها الخليفة فحياه سليمان بن عبد الملك فردّ التحية بمثلها. وهنا أقبل عليه الخليفة، وجعل يسأله عن مناسك الحج منسكًا منسكًا وهو يفيض بالإجابة عن كل مسألة... ويفصل القول فيها تفصيلًا لا يدعُ سبيلًا لمستزيد...ويُسند كل قولٍ يقوله إلى رسول الله e. ولما انتهى الخليفة من مساءلته جزاه خيرًا، وقال لولديه: قوما، فقاما... ومضى الثلاثة نحو المسعى. وفيما هم في طريقهم إلى السعي بين الصفا والمروة؛ سمع الفتَيَان المنادين ينادون: يا معشر المسلمين... لا يفتي الناسَ في هذا المقام إلا عطـاء بن أبي ربـاح...فإن لم يوجد فعبد الله بن أبي نَجيح. فالتفت أحد الغلامين لأبيه وقال: كيف يأمر عامل أمير المؤمنين الناس بأن لا يستفتوا أحدًا غير عطاء بن أبي رباح وصاحبه... ثم جئنا نحن نستفتي هذا الرجل الذي لم يأبه للخليفة، ولم يوفه حقه من التعظيم!! فقال سليمان لولده: هذا الذي رأيتَه يا بني ورأيت ذلنا بين يديه هو عطاء بن أبي رباح؛ صاحب الفتيا في المسجد الحرام، ووارث عبد الله بن عباس في هذا المنصب الكبير. ثم أردف يقوليا بني ... تعلموا العلم ... فبالعلم يشرُف الوضيع... وينْبُه الخامل... ويعلو الأرقاء على مراتب الملوك...

 

لم يكن سليمان بن عبد الملك مبالغًا فيما قاله لابنه في شأن العلم. فقد كان عطاء بن أبي رباح في صغره عبدًا مملوكًا لامرأة من أهل مكة. غير أن الله عز وجل أكرم الغلام الحبشي بأن وضع قدميه منذ نعومة أظفاره في طريق العلم، فقسّم أوقاته أقسامًا ثلاثة: قسم جعله لسيدته؛ يخدمها فيه أحسن ما تكون الخدمة، ويؤدي لها حقوقها عليه أكمل ما تؤدَى الحقوق. وقسم جعله لربه؛ يفرغ فيه لعبادته أصفى ما تكون العبادة وأخلصها لله تعالى. وقسم جعله لطلب العلم؛ حيث أقبل على من بقي حيًا من صحابة رسول الله e، وطفق ينهل من مناهلهم الصافية. فأخذ عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، حتى امتلأ صدره علمًا وفقهًا ورواية عن رسول الله e. ولما رأت السيدة المكية أن غلامها قد باع نفسه لله... ووقف حياته على طلب العلم... تخلت عن حقها فيه وأعتقت رقبته تقربا لله عز وجل؛ لعل الله ينفع به الإسلام والمسلمين.

 

ومنذ ذلك اليوم اتخذ عطاء بن أبي رباح البيت الحرام مقاماً له... فجعله داره التي يأوي إليها ... ومدرسته التي يتعلم فيها... ومصلاه الذي يتقرب فيه لله بالتقوى والطاعة. حتى قال المؤرخونكان المسجد فراش عطاء بن أبي رباح نحوًا من عشرين عامًا. وقد بلغ التابعي الجليل عطاءُ بنُ أبي رباح منزلة في العلم فاقت كل تقدير.. وسما إلى مرتبة لم ينلها إلا نفرٌ قليل من معاصريه... فقد رُوي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أمَّ مكة معتمرًا، فأقبل الناس عليه يسألونه ويستفتونه، فقال: إني لأعجب لكم يا أهل مكة... أتجمعون لي المسائل لتسألوني عنها وفيكم (عطاء بن أبي رباح)؟!

 

وقد وصل عطاء بن أبي رباح إلى ما وصل إليه من درجة في الدين العلم بخصلتين اثنتين، أولاهما: أنه أحكم سلطانَـه على نفسه؛ فلم يدع لها سبيلاً لترتع فيما لا ينفع... وثانيتهما: أن أحكم سلطانه على وقته؛ فلم يهدره في فضول الكلام والعمل...

حدّث محمد بن سُوقة (أحد علماء الكوفة وعبّادها) جماعةً من زُواره، قال: ألا أسمعكم حديثًا لعله ينفعكم كما نفعني؟ قالوا: بلى. قال: نصحني عطاء بن أبي رباح، فقال: يا ابن أخي... إن الذين من قبلنا كانوا يكرهون فضول الكلام. فقلت: وما فضول الكلام عندهم؟ فقال: كانوا يعدون كل كلام فضولاً ما عدا كتاب الله عز وجل أن يُقرأ ويُفهم. وحديث رسول الله e أن يُروى ويُدرى، أو أمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر، أو علمًا يُتقرب به إلى الله تعالى، أو أن تتكلم بحاجتك ومعيشتك التي لا بد لك منها. ثم حدّق إلى وجهي وقال: أتُنكرون﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ، وأن مع كل منكم ملكين: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ثم قال: أما يستحي أحدنا لو نُشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره؛ فوجد أكثر ما فيها ليس من امر دينه، ولا أمر دنياه.

 

ولقد نفع الله عز وجل بعلم عطاء بن أبي رباح طوائف كثيرة من الناس؛ منهم أهل العلم المتخصصون، ومنهم أرباب الصناعات المحترفون، ومنهم غير ذلك...

 

حدّث الإمام أبو حنيفة النعمان عن نفسه قال: أخطأتُ في خمسةِ أبوابٍ من المناسك بـمكة فعلمنيها حجّام (حلاق)... وذلك أني أردتُ أن أحلقَ لأخرج من الإحرام، فأتيت حلاقًا، وقلت: بكم تحلق لي رأسي؟ فقال: هداكَ الله... النُسُك لا يُشارَط فيه، اجلس وأعطِ ما يتيسر لك. فخجِلتُ وجلست. غير أني جلست مُنحرفًا عن القبلة. (فأومأ إليّ بأن أستقبل القبلة)؛ ففعلتُ، وازددت خجلًا على خجلي. ثم أعطيته رأسي من الجانب الأيسر ليحلقه، فقال: أدِر شِقك الأيمن؛ فأدرتُهُ. وجعل يحلق رأسي وأنا ساكت أنظر إليه وأعجب منه، فقال لي: ما لي أراكَ ساكتًا؟... (كَبّر)... فجعلت أكبر حتى قمت لأذهب. فقال: أين تريد؟ فقلت: أريد أن أمضي إلى رحلي. فقال: صلِ ركعتين، ثم امضِ إلى حيث تشاء. فصليت ركعتين، وقلت في نفسي: ما ينبغي أن يقع مثل هذا من حجّام إلا إذا كان ذا علم. فقلت له: من أين لك ما أمرتني به المناسك؟ فقال: لله أنت... لقد رأيت عطاء بن أبي رباح يفعله، فأخذته عنه، ووجهت الناس إليه.

ولقد أقبلت الدنيا على عطاء بن أبي رباح فأعرض عنها أشد الإعراض، وأباها أعظم الإباء... وعاش عمره كله يلبس قميصًا لا يزيد ثمنه على خمسة دراهم!

ولقد دعاه الخلفاء إلى مصاحبتهم... فلم يُجب دعوتهم؛ لخشيته على دينه من دنياهم، لكنه -مع ذلك- كان يفدُ عليهم إذا وجدَ في ذلكَ فائدةً للمُسلمين، أو خيرًا للإسلام.

 

من ذلك ما حدَّثَ بهِ عثمان بن عطاءٍ الخرساني قال: انطلقتُ مع أبي نريدُ هشام بن عبد الملك، فلما غدونا قريبًا من دمشق؛ إذا نحن بشيخٍ على حمارٍ أسود عليه قميصٌ صفيق وجُبة بالية، وقلنسوة لازقة برأسه، ورِكاباه من خشب. فضحكت منهُ وقلتُ لأبي: من هذا؟! فقال: اسكت، هذا سيد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح... فلما قرُب منا نزل أبي عن بغلته، ونزل هو عن حماره، فاعتنقا وتساءلا، ثم عادا فركبا، وانطلقا حتى وقفا على باب قصر هشام بن عبد الملك. فما أن استقر بهما الجلوس حتى أُذِن لهما، فلما خرج أبي قلت له: حدثني بما كان منكما، فقال: لما علم هشام أن عطاء بن أبي رباح بالباب؛ بادر فأذِن له ووالله ما دخلتُ إلا بسببه، فلما رآه هشام قال: مرحبًا مرحبًا... هَهُنا هَهُنا ... ولا زال يقول له: هَهُنا هَهُنا حتى أجلسه معه على سريره،  ومس بركبته ركبته.. وكان في المجلس أشراف الناس وكانوا يتحدثون فسكتوا. ثم أقبل عليه هشام وقال: ما حاجتك يا أبا محمد؟ قال: يا أمير المؤمنين، أهل الحرمين... أهل الله وجيران رسوله؛ تُقسّم عليهم أرزاقهم وأعطياتهم... فقال: نعم.. يا غلام اكتب لأهل مكة والمدينة بعطاياهم وأرزاقهم لسنة. ثم قال: هل من حاجة غيرها يا أبا مُحمد؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز وأهل نجد أصلُ العربِ وقادةُ الإسلام؛ تُرد فيهم فضول صدقاتهم... فقال: نعم.. يا غلام اكتب بأن تُرد فيهم فضول صدقاتهم. هل من حاجة غير ذلك يا أبا مُحمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين... أهل الثغور يقفون في وجوه عدوكم، ويقتلون من رام المسلمين بِشَرّ؛ تُجرى عليهم أرزاقًا تُدرها عليهم.. فإنهم إن هلكوا ضاعت الثغور... فقال: نعم، يا غلام اكتب بحمل أرزاقهم إليهم... هل من حاجة غيرها يا أبا مُحمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل ذمتكم لا يُكلفون ما لا يطيقون، فإن ما تَجبونه منهم معونة لكم على عدوكم. فقال: يا غلام اكتب لأهل الذمة بألا يُكلفوا ما لا يُطيقون. هل من حاجة غيرها يا أبا مُحمد؟ قال: نعم... اتقِ الله في نفسك يا أمير المؤمنين.. واعلم أنك خُلقت وحدك.. وتموت وحدك.. وتُحشر وحدك.. وتُحاسَب وحدك.. ولا والله ما معك ممن ترى أحد. فأكبَّ هشام ينكت في الأرض وهو يبكي... فقام عطاء، فقمتُ معه. فلما صرنا عند الباب، إذا رجلٌ قد تبعه بكيس  لا أدري ما فيه وقال له: إن أمير المؤمنين بعث لك بهذا... فقالهيهات... وما أسألكم عليه من أجرٍ إنْ أجري إلا على رب العالمين. فوالله إنه دخل على الخليفة وخرج من عنده ولم يشرب قطرة ماء!

 

وبعد، فقد عُمِّر عطاء بن أبي رباح حتى بلغ مائة عام... ملأها بالعلم والعمل... وأترعها بالبر والتقوى... وزكاها بالزهادة بما في أيدي الناس، والرغبة بما عند الله...

فلما أتاه اليقين وجده خفيف الحمل من أثقال الدنيا.. كثير الزاد من عمل الآخرة.. ومعه فوق ذلك سبعون حجة وقف خلالها سبعين مرة على (عرفات) وهو يسأل الله تعالى رضاه والجنة ويستعيذ به من سخطه والنار.

 

 

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...