اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

معـاذ بن جـبل رضي الله عنه


Recommended Posts

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربه إلى يوم الدين، أما بعد،

معـاذ بن جـبل رضي الله عنه

اسمه معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري، وكنيته أبو عبد الرحمن. أسلم وعمره ثماني عشرة سنـة وحضر المشاهـد كلها وروى عن النبـي -صلى الله عليه وسلم- الشيء الكثير من الأحاديث النبوية.

لما أشرَقتْ جزيرة العرَبِ بنور الهُدى والحقِّ، كان الغلامُ اليثربيُّ مُعاذ ابنُ جبلٍ فتىً يافعاً، كان يَمتاز عن أقرانه بحِدَّة الذكاءِ، وقوةِ البديهة وروعةِ البيانِ، وعُلوِّ الهمةِ، وكان إلى ذلك، بهي الطلعة جميلُ الملامحِ أكحلَ العينِ جعدَ الشعرِ براقَ الثنايا، يَملأ عين الناظر إليه ويملكُ عليه فؤاده. أسلمَ على يدي الداعيةِ المكيِّ مصعبِ بن عُميرٍ، وفي ليلة العقبة امتدت يدهُ الفتية فصافحتْ يدَ النبي الكريم وبايعته. فقد كانَ مُعاذ مع الرهط ِالاثنينِ والسبعين الذين قصدوا مكةَ، لِيسعدوا بلقاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَتشرفوا ببيعتهِ، ولِيخطّوا في سِفر التاريخِ أروع صفحةٍ وأزهاها.

وما إن عاد الفتى من مكة إلى المدينةِ حتى كوّنَ هو ونفرٌ صغيرٌ من أصحابه جماعةً لكسرِ الأوثانِ، وانتزاعها من بُيوت المشركين في يثربَ في السرِّ أو في العلنِ. وكان من أثرِ حركةِ هؤلاء الفتيانِ الصّغار أن أسلمَ رجلٌ كبيرٌ من رجالاتِ يثرب، وهو عمرُو بنُ الجموح.

ولما قدِم الرسولُ الكريم على المدينةِ مهاجراً، لزِمَه الفتى معاذ بن جبلٍ مُلازمة الظلِّ لصاحبه، فأخَذ عنه القرآنَ، وتلقى منه شرائِع الإسلام، حتى غدا من أقرأ الصحابة لكتاب الله، وأعلمِهم بشرعِه، فقد حدّثَ "يزيدُ بنُ قطيبٍ" قال: "دخلتُ مسجد حمصَ فإذا أنا بفتىً جعد الشعرِ، قد اجتمعَ حوله الناس، فإذا تكلم كأنما يَخرجُ من فيه (أي فمه) نورٌ ولؤلؤ، فقلت: من هذا؟ فقالوا: معاذ بنُ جبل".

ودخل "عائذ الله بن عبد الله" المسجد يوماً مع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول خلافة عمر فيحدثنا ويقول: "جلست مجلساً فيه بضعٌ وثلاثون كلهم يَذْكرون حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي الحلقة شاب حلو المنطق وضيء، وهو أشَبُّ القوم سِنّا، فإذا اشتبـه عليهم من الحديـث شيء رَدّوه إليه فَأفْتاهم، ولا يحدثهم إلا حين يسألونه، ولما قُضيَ مجلسهم دَنَـوْتُ منه وسَألْتُه: من أنت يا عبد الله ؟ قال: أنا معاذ بن جبل". 

ويقول أبو مسلم الخولاني: "دخلت مسجد حمص فإذا جماعة من الكهول يتوسّطهم شاب برّاق الثنايا صامت لا يتكلم، فإذا امْتَرَى (شك) القوم في شيء تَوَجَّهوا إليه يسألونه، فقلت لجليس لي: من هذا؟ قال: معاذ بن جبل، فوقع في نفسي حُبُّه".

كما قال شهر بن حَوْشَب: "كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل، نظروا إليه هيبة له".

وحسبُ معاذٍ شهادةً أن يقولَ عنه الرسول صلوات الله عليه: «أعلمُ أمّتي بالحلالِ والحرام مُعاذ بن جبلٍ»، وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم ايضاً: «استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل». وحسبُه فضلاً على أمة محمدٍ أنه كان أحَدَ النفر الستةِ الذين جمعُوا القرآن على عهدِ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

وذات مرة قابل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل فقال له: «يا معاذ، إني لأحبك في الله»، قال معاذ: "وأنا والله يا رسول الله، أحبك في الله"، فقال صلى الله عليه وسلم: «أفلا أعلمك كلمات تقولهن دبر كل صلاة: رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».

وذات صباح لقيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسأله: «كيف أصبحت يا معاذ؟»، قال: (أصبحت مؤمنا حقّا يا رسول الله). قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟»، قال معاذ: (ما أصبحت صباحاً قط إلا ظننت أني لا أمْسي، ولا أمْسَيت مساءً إلا ظننت أني لا أُصْبح، ولا خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتْبِعُها غيرها، وكأني أنظر إلى كل أمّة جاثية تُدْعى إلى كتابها، وكأني أرى أهل الجنة في الجنة يُنَعَّمون، وأهل النار في النار يُعَذّبون)، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «عرفتَ فالزم».

فهذا هُو النبيُّ عليه الصلاة والسلام يرى جُموع قريشٍ تدخُل في دين الله أفواجاً، بعد فتح مكة، ويشعرُ بحاجة المُسلمين الجُدد إلى مُعلمٍ كبير يُعلمهمُ الإسلام، ويفقهُهم بشرائعهِ، فيعهدُ بخلافتهِ على مكة لِعتاب بن أسيدٍ، ويستبقي معهُ معاذ بن جبلٍ ليعلم الناس القرآن ويفقههُم في دينِ الله.

كان آخـر لقـاء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبـل لما جاءَت رسلُ ملوك اليمنِ إلى رسول الله صلوات الله عليه، تعلنُ إسلامها وإسلامَ من ورائها، وتسأله أن يبعثَ معها من يُعلمُ الناس دينهم، فانتدَب لهذه المُهمة نفراً من الدُّعاة الهداة من أصحابه وأمّرَ عليهم معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه، وقد خرجَ النبي الكريمُ صلوات الله وسلامه عليه يودعُ بَعثة الهدى والنور هذه، وطفِق يمشي تحتَ راحلةِ معاذٍ، ومُعاذ راكبٌ، وأطالَ الرسول الكريم مشيَه معه؛ حتى لكأنه كان يريدُ أن يتملى من معاذٍ، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم أمة محمد كيف يكون القضاء في الإسلام فسأل معاذاً: «بما تحكم يا معاذ؟». قال معاذ: (بكتاب الله)، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «فإن لم تجد؟»، قال معاذ: (بسنة رسول الله)، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «فإن لم تجد؟»، قال معاذ: (أجتهد رأي ولا آلو)، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله». ثم أوصاه وقال له: «يا مُعاذ إنك عسى ألا تلقاني بعدَ عامي هذا... ولعلكَ أن تمُرَّ بمسجدي وقبري»، فبكى معاذ جزعاً لفراقِ نبيِّه وحبيبه محمدٍ صلوات الله عليه، وبكى معه المسلمون. وصَدقت نُبوءُة الرسولِ الكريم فما اكتحلتْ عينا معاذٍ رضي الله عنه برؤيةِ النبي عليه الصلاة والسلام بعد تلك الساعة...فقد فارقَ الرسولُ الكريمُ الحياة قبل أن يعودَ مُعاذ من اليمن، ولا ريبَ في أن مُعاذاً بكى لمَّا عاد إلى المدينة فوجدها قد أقفرَت من أنْسِ حبيبه رسول الله.

ولقد أجاد ابـن مسعـود وصفه حيـن قال: "إنّ معاذ بن جبل كان أمةً قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين"، فقيل له إنّ إبراهيم كان أمةً قانتًا لله حنيفًا، فقال: "هل تدري ما الأمة وما القانت؟" فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: "الأمة الذي يعلم الخير ويؤتم به، والقانت المطيع لله عز وجل وللرسول، وكان معاذ بن جبل يعلم الناس الخير وكان مطيعًا لله عز وجل ورسوله".

 

ولما وليَ الخلافَة عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه؛ أرسلَ معاذاً إلى بني كِلابٍ ليقسم فيهم أعطياتهم، ويُوزع على فقرائِهم صدَقات أغنيائِهم، فقام بما عُهد إليه من أمرٍ، وعاد إلى زوجِه بحلسِهِ (ما يوضع على ظهر الدابة تحت السرج) الذي خرَج به يَلفه على رقبتهِ، فقالت له امرأته: "أين ما جِئت به مما يأتي به الولاة من هديةٍ لأهليهم؟ّ!" فقال: "لقد كان معي رقيبٌ يقظ يُحصي عليَّ" (يريد بالرقيب الله عز وجل)، فقالت: "قد كنتَ أميناً عند رسول الله، وأبي بكرٍ، ثم جاء عمرُ فبعثَ معك رقيبا يُحصي عليك؟!" وأشاعَت ذلك في نِسوة عُمر، واشتكته لهُنَّ، فبلغَ ذلك عُمر؛ فدعَا معاذاً وقال: "أأنا بَعثتُ معكَ رقيباً يحصي عليك؟" فقال: "لا يا أميرَ المؤمنين، ولكنني لم أجِد شيئاً أعتذرُ به إليها إلا ذلك"، فضحِكَ عمرُ رضوان الله عليه، وأعطاه شيئاَ وقال له: "ارضها به".

وفي أيام الفاروق أيضاً أرسلَ إليه والِيه على الشامِ يزيدُ بن أبي سُفيان يقول: "يا أميرَ المؤمنين، إن أهلَ الشام قد كثرُوا وملؤوا المدائنَ، واحتاجُوا إلى من يُعلمهُم القرآن ويفقههُم بالدّين فأعنّي يا أميرَ المُؤمنين برجالٍ يُعلمونهم"؛ فدعا النفرَ الخمسَة الذين جَمعوا القرآن الكريم في زمنِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام. وهم: معاذ بنُ جبلٍ وعُبادة بنُ الصّامتِ وأبو أيوبَ الأنصاريُّ وأبيُّ بنُ كعبٍ وأبو الدَّرداء، وقال لهم: "إنّ إخوانكم من أهل الشامِ قد استعانوني بِمن يُعلمُهم القرآن ويفقهُهم في الدين فأعينوني رحمكم الله بثلاثةٍ منكم؛ فإن أحببتم فاقترعوا وإلا انتدبتُ ثلاثة منكم"، فقالوا: "ولم نقترعُ؟ فأبو أيوبَ شيخ كبيرٌ، وأبيٌّ بنُ كعبٍ رجلٌ مريضٌ، وبقينا نحنُ الثلاثة"، فقال عمر: "ابدؤوا بحِمص فإذا رضيتم حال أهلِها؛ فخلفوا أحدكم فيها وليخرُج واحدٌ منكم إلى دمشق، والآخرُ إلى فلسطين". فقام أصحابُ رسول الله الثلاثة بما أمَرهم به الفاروقُ في حمصَ، ثم تركوا فيها عُبادة بن الصامتِ، وذهبَ أبو الدرداء إلى دمشقَ، ومضى معاذ بنُ جبلٍ إلى فلسطينَ.

ولما مات أمير الشام "أبو عبيدة" استخلفه أمير المؤمنين على الشام، وكان عمر بن الخطاب يقول: "لو اسْتَخْلفْت معاذ بن جبل فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعت نبيك يقول: إنّ العلماء إذا حضروا ربهم عزَّ وجل كان معاذ بين أيديهم". وقد كان عمـر بن الخطـاب -رضي اللـه عنه- يستشيـره كثيراً وكان يقول في بعـض المواطـن التي يستعيـن فيها برأي مُعاذ وفقهـه: "عجزت النساء أن يلدن مثله،  لولا معاذ بن جبـل لهلك عمـر، ومن أراد الفقه؛ فليأت معاذ بن جبل".

 

وهناك أصيبَ معاذ بالوباء.فلما حضرَته الوفاة استقبلَ القبلة وجعلَ يردّدُ هذا النشيد: "مرحباً بالموت مرحباً، زائرٌ جاءَ بعد غياب، وحبيب وَفدَ على شوْق"، ثم جعل ينظر إلى السماء ويقول: "اللهُم إنك كنت تعلمُ أني لم أكن أحبُّ الدنيا وطولَ البقاءِ فيها لغرسِ الأشجار، وجريِ الأنهارِ، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدةِ الساعات، ومزاحمة العلماءِ بالرُّكب عند حِلق الذكر، اللهمَّ فتقبل نفسِي بخير ما تتقبلُ به نفساً مؤمنة"، ثم فاضت روحُه الطاهرة بعيداً عن الأهل والعشيرِ داعياً إلى الله، مهاجراً في سبيله. وكانت وفاته في السنة السابعة عشرة من الهجرة النبوية في طاعون عمواس وعمره ثلاث وثلاثون سنة.

 

 حُبّ العلم

كان معاذاً -رضي الله عنه- دائب الدعوة إلى العلم وإلى ذكر الله، فقد كان يقول: "احذروا زيْغ الحكيم، واعرفوا الحق بالحق، فإنّ للحق نوراً". وكان يرى العبادة قصداُ وعدلاً، قال له يوماً أحد المسلمين: "علّمني"، فسأله معاذ: "وهل أنت مطيعي إذا علمتك؟" قال الرجل: "إني على طاعتك لحريص"، فقال له معاذ: "صُمْ وأفْطِر، وصَلِّ ونَمْ، واكْتَسِب ولا تأثَمْ، ولا تموتنَّ إلا مُسْلِماً، وإياك ودَعْوَة المظلوم".

وكان يرى العلم معرفة وعملاً فيقول: "تعلموا ما شئتـم أن تتعلموا، فلن ينفعـكم الله بالعلم حتى تعْمَلوا". وكان يرى الإيمان بالله وذكره استحضاراً دائماً لعظمته ومراجعة دائمة لسلوك النفس، يقول الأسود بن هلال: "كُنّا نمشي مع مُعاذ، فقال لنا: اجلسوا بنا نُؤْمِنْ ساعة".

 

اللهم اجعلنا من الحريصين على العلم والعمل، اللهم أعنا على حمل هذا الخير للناس، اللهم عجل لنا بالفرج والتمكين، خلافة على منهاج النبوة، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...