اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

السياسة نقاءٌ وطهرٌ في منظور الشريعة الإسلامية


Recommended Posts

شبهات وردود

السياسة نقاءٌ وطهرٌ في منظور الشريعة الإسلامية

أبو البراء الشامي

 

كثيراً ما يُشاع بأن السياسة دجل والدين طاهر، - حتى لترى كثيراً من العلمانيين يرددون مثل هذه العبارة ويقولها بصراحة: " إن المشتغلين بالسياسة اليوم لا يستغنون عن الكذب والدجل والنفاق وهذا يتعارض مع نقاء الدين وصفائه؛ لأن الدين بكل ما يمثله من قيم عالية ومفاهيم صافية لا يجوز أن يختلط بألاعيب الساسة ومكرهم وخداعهم " وهذا نابع من تصور العلمانيين للسياسة - وهو تصور وللأسف شائع لدى معظم الناس اليوم – والصواب أن نتصور السياسة كما تَصَوَّرَها الإسلام.

فالسياسة في الشرع هي: رعاية الشؤون وفق الأحكام الشرعية ، جاء في " العين ": السِّياسة، فعل السَّائس الذي يسوس الدّوابَّ سياسةً، يقوم عليها ويُروِّضُها، والوالي يَسُوس الرَّعيّةَ أَمْرَهم. وفي " القاموس المحيط ": سُسْتُ الرَّعِيَّةَ سِياسَةً، أمرْتُها ونَهَيْتُها.

أما مفهوم الرعاية في الإسلام فهو ما وضَّحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: "كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ " متفق عليه.

فالراعي مهما كان ميدان رعايته مسئولٌ، أي محاسَبٌ من الله على ما اسْتُرعِيَ، والويل له إن لم يُحسن رعاية ما استُؤمِن عليه، قال صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنْ المـُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ " رواه البخاري، وقال أيضاً: " مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ إِلا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ " رواه الطبراني في الكبير، وكونُ الراعي محاسباً حساباً عسيراً معناه أنه يجب عليه التقيد بالأحكام الشرعية التي تنظم علاقة الحاكم بالمحكوم.

لذلك فالتعريف السائد للسياسة الآن بمعنى الدجل والمراوغة هو تعريفٌ مرفوض في الإسلام، ولا يوجد في السياسة الإسلامية كذب ولا دجل ولا تضليل، وإنما نُصحٌ وحِرصٌ ومصارحة وتقيد بالأحكام الشرعية. وعلى هذا، فالسياسة في الإسلام بوصفها القيام على شؤون الرعية بتطبيق أحكام الشرع عليهم، لا يمكن أن تُفصل عن الدين، لأن الدين هو مصدر الأحكام التي تتم بها الرعاية.

أما كون السياسة هي فن المراوغة، وأن الدجل والكذب هما مما يقتضيه العمل السياسي حتماً، فهذا ليس صحيحاً (عند المسلمين)، وهو من بنات أفكار الفاسد المفسد ميكافيللي الذي سمَّم السياسة بنظريته المشؤومة هذه، وجعل الوصول إلى السلطة والمحافظة عليها غاية الغايات، وأَحْدَثَ نظريةَ "الغاية تبرر الوسيلة". - أسأل الله أن يكون عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة -، هذه النظرية التي يتلظّى العالم بِحَرِّها وشرِّها إلى اليوم، والتي أنتجت أجيالاً من السياسيين المنافقين الذين لا يتورعون عن الكذب والدجل والتضليل والنفاق إذا كان ذلك سيحقق لهم مصالحهم.

إن السياسة يا أخي ليست هي الدجل والنفاق والانتهازية، وحاشاها أن تكون كذلك، بل هي أرقى عمل في الوجود، فالسياسة كما نفهمها - نحن معاشر المسلمين - هي خدمة الناس ورعاية شؤونهم والسهر على مصالحهم، وهدايتهم إلى الخير وما ينفعهم، وذبُّهم عما يضرهم ولا ينفعهم، وهي عمل الأنبياء والصالحين والعقلاء على مرِّ الأزمان، قال صلى الله عليه وسلم : " كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ... الحديث " رواه البخاري ومسلم، فالأنبياء كانوا هم من يتوَلَّون شؤون السياسة مباشرةً في بني إسرائيل سابقاً، ولو أن السياسة دجلٌ كما يقولون، ما أوكلها الله لخير عباده، ولو أن الدجل مما لا غنى عنه للمشتغل بالسياسة ما استطاع الأنبياء سياسة رعيتهم وهم المـُنَزَّهون عن المعاصي. ولو أن النفاق مما لا يستغني عنه أهل السياسة، ما استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤسس دولته ويسوس المسلمين ويوصلهم في زمن قياسي لأن يسودوا العالم، ولو أن السياسة نفاقٌ وكذبٌ ما بَشَّرَ اللهُ تعالى الحكام العادلين بالثواب الجزيل، وجعلهم من السبعة الذين يُظِلُّهم يوم القيامة يوم لا ظلَّ إلا ظله، قال صلى الله عليه وسلم : " سبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ... الحديث " رواه مسلم، ولا جعلهم أحد ثلاثة ممن لا تُردُّ دعوتهم، قال صلى الله عليه وسلم : " ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الإِمَامُ العَادل " رواه أحمد وغيره وصححه الألباني.

فإن كانت السياسة في عُرف أهل الديمقراطية هي الألاعيب والانتهازية والمكر.

فالحل ليس بفصل الدين عنها، ولكن بإصلاح السياسة وإعادتها إلى نقائها، وإعادة ربطها بالغاية الأصلية التي وُجدت من أجلها وهي خدمة الناس، وليس الحل هو فصل الدين والقيم عنها حتى تسدر في غيها وانحرافها.

إن مراقبة أعمال الحكام في عصرنا، حتى في أكثر الدول ديمقراطية، تؤكد أن الكذب والدجل الذي يلجؤون إليه لرعاية شؤون الناس ليس من لوازم السياسة كما يدّعون، وأنهم لا يقومون به حرصاً على مصالح من يسوسون، وإنما يقومون به حرصاً على تهيئة الظروف التي تكفل لهم تنفيذ مخططاتهم وتحقيق مصالحهم المادية أو الانتخابية، وتبقيهم على كراسيهم، إن القول بأن الكذب هو من مقتضيات السياسة وأن السياسي لا مفر له من الكذب، قد أعطى المبرر وفتح الباب على مصراعيه للسياسيين لكي يحترفوا الكذب ويستسيغوه بل ويجعلوه مِلْحَ عملهم اليومي.

 

أما في الإسلام، فإن السياسي ليس حريصاً على المنصب، ولا على متاع الدنيا الزائل، وهو يستحضر دوماً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه عندما طلب الإمارة: " يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ القِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا ".

وكمثالٍ على السياسة في الإسلام، وكيفية تقيد خلفاء المسلمين بالأحكام الشرعية حين رعايتهم لمصالح المسلمين، أورد لكم شيئاً من سيرة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله:

" أورد السيوطي بسنده أن يحيى الغساني قال: لما ولاني عمر بن عبد العزيز الموصل قَدِمْتُها فوجَدْتُها من أكثر البلاد سرقة ونقباً، فكتبت إليه أُعْلِمه حال البلد وأسأله أآخذ الناس بالظنة وأضربهم على التهمة، أو آخذهم بالبينة وما جَرَت عليه السُّنَّة. فكتب إليَّ أن آخذ الناس بالبينة وما جرت عليه السُّنَّة فإن لم يُصلحهم الحق فلا أصلحهم الله. قال يحيى: ففعلت ذلك فما خرجتُ من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلِّها سرقةً ونقباً " .

" وأورد السيوطي أيضاً وابن منظور عن السائب بن محمد أن الجراح بن عبد الله كتب إلى عمر بن عبد العزيز: "سلام عليك، وبعد، فإن أهل خراسان قومٌ قد ساءت رعيتهم، وإنه لا يُصلحهم إلا السيف والسوط، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في تلك فعلت. قال: فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: "من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى الجراح بن عبد الله: سلام عليك، أما بعد؛ فقد بلغني كتابك تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يُصلحهم إلا السيف والسوط، وتسألني أن آذن لك، فقد كذبتَ، بل يُصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم والسلام " .

 

وختاماً، يقول الشاعر الأفوه الأودي:

 

لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا

تُلفى الأُمورُ بِأَهلِ الرُشدِ ما صَلَحَت فَإِن تَوَلَّوا فَبِالأَشرارِ تَنقادُ

إِذا تَوَلّى سَراةُ القَومِ أَمرَهُمُ نَما عَلى ذاك أَمرُ القَومِ فَاِزدادوا

كَيفَ الرَشادُ إِذا ما كُنتَ في نَفَرٍ لَهُم عَنِ الرُشدِ أَغلالٌ وَأَقيادُ

أَعطَوا غُواتَهَمُ جَهلاً مَقادَتَهُم فَكُلُّهُم في حِبالِ الغَيِّ مُنقادُ

 

من مجلة منهاج النبوة العدد الأول

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...