صراعات سياسية من العصور العباسية

[الرضا]

د. محمد عبد الستار البدري

الصراعات السياسة جزء لا يتجزأ من التنظيم الإنساني، فلا يخلو مجتمع من الصراعات السياسية، وهناك أنواع لمثل هذه الصراعات في التاريخ الإسلامي شأنه في ذلك شأن الأمم والشعوب الأخرى، فقد واجهت الخلافات الإسلامية على مدار تاريخها مثل هذه الخلافات سواء على مستوى الشيعة أو الخوارج أو الحركات الانفصالية.. إلخ، ولكن من أخطر هذه الصراعات التي يمكن أن تصيب الدولة - حتى القوية منها - الصراعات التي تقع في الدائرة الأولى لصانع القرار على مستوى الدولة، أي بين حاشيته أو مستشاريه، ومثل هذه الصراعات قد يكون لها أسوأ الأثر على مستقبل الدول.. ولعل تاريخ الخلفاء العباسيين يشمل في طياته عددا غير قليل لمثل هذه الصراعات التي لا تختلف عن الخلافات التي نراها حتى في أعتى الديمقراطيات على مستوى العالم، فهناك نموذج للزوجة أو الأم المتدخلة في شؤون الحكم مثل نانسي ريجان زوجة الرئيس الأميركي رونالد ريجان، كما أن هناك مؤامرات القصر مثلما أطاح هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي بوزير الخارجية ويليام روجر ليأخذ مكانه، كما أن هناك نموذجا لمستشار قوى سيطر على القيادة السياسية للدولة فإذا به يتهاوى إلى القاع.. وكل هذه النماذج كانت موجودة بقوة في التاريخ العباسي، ونقتبس منها أمثلة عديدة على النحو التالي:

أولا: لعل نموذج أبي عبيد الله معاوية بن يسار الذي كان اليد اليمنى للخليفة المهدي، المثال الحي للمستشار الوفي الذي فقد سلطانه بسبب صراعات الحاشية، فلقد كان الرجل نموذجا للورع والتقوى والحكمة والتعقل، وكان مع المهدي منذ أن كان وليا للعهد، فلم يكن المهدي يرفض له الطلب أو يرد له المشورة، وبمجرد أن اعتلى المهدي سدة الحكم، تبوأ أبو عبيد الله منصبا يميل لكونه رئيس الوزراء، ولم يكن ينافسه في ذلك سوى شخصية الربيع بن يونس، أحد الرجال الأشداء للخليفة أبي جعفر المنصور، ولكن بعد تولية المهدي صار الأمر لأبي عبيد الله، ولكن الربيع كان له بالمرصاد فسعى تدريجيا لتقليم أظافر سلطانه بكل هدوء ولم يغفل الإبقاء على ساتر الود والصداقة معه. ولم يكن الربيع وحده الذي يسعى لهذا الهدف، فلقد كان هناك فريق من الكارهين لهيمنته على الخليفة، وقد رأى الربيع أن يبدأ حربه بأضعف الحلقات التي يمكن أن يؤتى منها أبو عبيد الله وهو ابنه، فبدأ الرجل يوعز للخليفة بأن الابن من الزنادقة، وهي حركة قاربت الإلحاد وبدأت تنتشر في ربوع الدولة العباسية ووقف لها الخليفة بالمرصاد، فسأل الخليفة أبا عبيد الله عن ابنه، فقال الرجل إنه يحفظ القرآن الكريم وليست له علاقة بالزندقة، فأتي به الخليفة، وعندما فشل الابن في تلاوة القرآن الكريم بالشكل المرضي، أمر الخليفة أبا عبيد الله بقوله: «قم فتقرب إلى الله بدمه»، ثم أمر آخرين بضرب عنق الابن.

ومع ذلك، استمر الخليفة في تقريب أبي عبيد إليه، ولكن مكائد الربيع استمرت، فاستمال الأخير حرس الخليفة مطالبا بأن يجهزوا على أبي عبيد الله عندما يقترب من الخليفة، فإذا ما نهرهم الخليفة قالوا له: «قتلت ابنه بالأمس، فكيف نأمنه عليك أن يخلو بك ومعه سيفه اليوم». وهكذا بدأ الربيع يخلخل ثقة الخليفة في الرجل تدريجيا دون أن يقترف أية فاحشة أو خيانة أو سوء مشورة ولكن كفاءته لم تؤهله لمواجهة دسائس غريمه في البلاط. وقد استمر الربيع يلعب على هذا الوتر حتى بدأ الرجل يرفض الخروج ليترك الخليفة مع أبي عبيد الله، وهكذا استطاع الربيع أن يحاصر نفوذ أبي عبيد الله، فأمر الخليفة بتقليص سلطاته ومنحها للربيع تدريجيا، وحتى يمكن القضاء على كل وجوده، فقد أقنع المهدي بضرورة الاستحياء منه لأنه قتل ابنه، وحتى لا يكون ذلك عبئا على نفس الخليفة، فقد نصحه الربيع بعزله تماما عن مجلسه، وهو ما تم.. وهكذا استطاع الرجل أن يقضي على شخصية كانت من أقوى الشخصيات بحيلة قلما تتكرر في التاريخ البشري.

ثانيا: لعل نموذج الإطاحة بيعقوب بن داود يكون المثال لما يمكن أن يحدث لو تمكن أهل السوء من أُذن الحاكم، فيعقوب كان من الأتقياء الملتزمين ومن ذوي الخبرة والكرم والنقاء الروحي، وتأتي قصته في إطار الكيد لأبي عبيد الله معاوية بن يسار، حيث دفع به الربيع ليكون موازنا لنفوذ الرجل لدى الخليفة، مقنعا إياه بأن الرجل ذو ميول شيعية، وأنه يستطيع أن يوظف ميوله هذه لتحسين علاقة المهدي بالعلويين، فاستمر نجم الرجل يسطع حتى برز بوصفه واحدا من أقوى مستشاري الخليفة، حتى بدأت الحيل تنهك نفوذه، فكانت بداية حصار نفوذه بسبب بيت شعر خرج بإيعاز من أعدائه قيل فيه:

بني أمية هبوا طال نومكم إن الخليفة يعقوب بن داود وهكذا بدأ الفتك بالرجل يأخذ مساره، فكادوا له عند الخليفة، فعمد الأخير إلى اختباره، فوعده بالمال الوفير والجارية الجميلة لو أنه كفى أمير المؤمنين شر رجل يخشى أن يخرج عليه، فعاهد الرجل بذلك وأخذ الجارية، فأتى بالرجل الذي سرعان ما أدرك أن الهدف هو الفتك به، ولكن قلب يعقوب مال إليه فمنحه المال وطلب منه الهروب، ولما عاد يعقوب إلى الخليفة سأله الأخير عن الرجل، فقال له إنه مات، فما كان من الخليفة إلا أن أخرج الرجل الذي كان قد قبض عليه، فأمر بحبس الرجل لسنوات خرج بعدها في عهد الرشيد وقد أصيب بالعمى، وسبحان مغير الأحوال.

ثالثا: لعل نموذج الزوجة أو الأم المتسلطة يتمثل في شخصية مهمة في التاريخ العباسي عرفت باسم «الخيزران»، وهي زوجة الخليفة المهدي ووالدة كل من الهادي وهارون الرشيد، وكانت امرأة قوية الشكيمة وكان زوجها يترك لها هامشا من المناورة والنفوذ السياسي، ولكن بموت المهدي بدأت «الخيزران» تفقد بعض سلطانها خاصة بعد خلافة الهادي الذي لم يكن يروق له هذا النفوذ خاصة أنه أصبح لها ديوان مواز لذوى الحاجات والمطالب والشعراء.. إلخ، فبدأ الرجل يقلص هذا النفوذ الضخم لأمه ويبقيها بعيدة عن السلطة وعملية اتخاذ القرار، فبدأ الصراع بين الابن وأمه، فقرر الخليفة أن يضرب عنق كل من يقرع باب أمه من رجال دولته فبَعُد عنها كثيرون.

بدأت الخيزران تقلق من محاولات محاصرة نفوذها السياسي خاصة بعدما نما إلى علمها أن الخليفة ابنها يسعى لخلع أخيه هارون الرشيد من ولاية العهد ليضع ابنه القاصر بدلا منه مخالفا بذلك وصية والده، وقد كان الرشيد على استعداد لترك الأمر لابن أخيه، ولكن أمه ونفوذ أسرة البرامكة كانا وراء إثنائه عن قراره هذا، وهو ما عظم الهوة بين الخيزران والهادي. وتختلف بعض المصادر التاريخية حول ما آلت إليه العلاقة بين الأم وابنها، ففي حين يصر البعض على أن كليهما سعى لوضع السم للآخر، فإن البعض يرفضون هذا الأمر، ويشير بعض المصادر إلى أن نهاية الهادي كانت على يد أمه بعدما أوعزت لبعض الجواري بأن يكتمن أنفاسه وهو نائم، لتفتح بموته الفرصة أمام الرشيد لتولي الحكم طمعا في النفوذ والبر من قبل ابنها، وهو ما تحقق لها، ولكن القدر لم يمهلها إلا ثلاث سنوات بعد تولي ابنها الرشيد سدة الحكم.

حقيقة الأمر أن هذه النماذج الثلاثة ترسخ لنا أمثلة حية نسمع عنها في كل العالم، فالسياسة محاطة بالمؤامرات والدسائس الداخلية، سواء كانت على مستوى الفرد، كما رأينا، أم على مستوى العائلة كما سنرى في نكبة البرامكة، ولا توجد استثناءات لها؛ فهذه طبيعة إنسانية ارتبطت بالسلطة والسلطان، فالنفس البشرية واحدة حتى مع اختلاف العصور.

http://www.aawsat.com/details.asp?section=45&article=733011&feature=1&issueno=12622#.UcRxHudg-So