اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

العلمانية تناقض نفسها!


أبو مالك

Recommended Posts

العلمانية تناقض نفسها!

 

ثم إن العلمانية، قامت على أساس فصل الدين عن الدولة، ثم تطورت لتصبح فصل الدين والقيم والأخلاق عن الحياة، فلا بد للمشرع مثلا، أو للفكر الذي يراد له أن يسود العلاقات المجتمعية، أن يكون مبنيا على أساس أن يزيل من فكره و...هو يحكم على قضية ما أي تأثر بقيم مصدرها الدين أو الأخلاق أو العادات، أو ما شابه، ليصل إلى ما يسمى الخلو من القيم، value free، فهذا الخلو من القيم ضمانة لأن تكون العلمانية محايدة، فالتشريعات محايدة، والعلم محايد، والعلاقات التي تسود المجتمع قائمة على أساس محايد، وذلك لأن نظرتهم إلى الدين أنه هو السبب في التأخر وفي لجم العقل وكبح جماحه، فلا بد من تنحيته حال الحكم على الشيء، حتى ينطلق العقل ويسمو ولا يتأثر بما يكبحه، وكذلك أي قيمة لها مصدر من أخلاق أو عادات أو إنسانية، أو ما شابه.

والواقع أن هذا في حد ذاته مما يستحيل وجوده في الواقع، فخذ مثلا مسألة الحكم على الزنا أي العلاقة خارج إطار الأسرة والزواج، لو أراد متشرع أن يحكم عليها ليسن قانونا يحرمها أو يبيحها، فإنه سينظر إلى أنها مشكلة معينة بحاجة لرأي، فإذا نحى جانبا نظرة الدين إليها على أساس أنها محرمة، ونحى جانبا الأخلاق على أساس أن هذه العلاقة لا أخلاقية، ونحى جانبا القيم الإنسانية، على أساس أن القيم الإنسانية قد تعتبر أن هذه العلاقة فيها هدر لكرامة الاسرة، أو كرامة المرأة، أو كرامة الرجل، أو من جانب آخر القيم التحررية الليبرالية التي ترى أن هذه العلاقة تكرس الحرية والحق في ممارسة ما يحقق الحرية، ... الخ، فهو عليه أن ينحي كل هذه القيم سواء تعارضت أو تشاركت في النتيجة، وإن اختلفت في المنطلقات، أقول، حين ينحي كل هذه القيم جانبا، فإنه لن يستطيع إصدار أي حكم على المسألة، لأن أساس الحكم على مسألة ما هو تحقيقها لقيم معينة، أو منعها لأنها تعارض تحقيق قيم معينة، فكيف به وهو ينحي كل القيم جانبا؟

هذه الإشكالية تجعل إصدار الحكم على أي قضية أمرا مستحيلا، فإن هو منع القيم التي أساسها الدين، وسمح بالقيم التي أساسها الليبرالية، فإنه ولا شك سيقع في التناقض، كما قال الشاعر: حرام على بلابله الدوح، حلال على الطير من كل جنس؟

أما موضوع هذا الحكم، أي الشيء الذي يصدر حكماً على الأفعال والأشياء، فهو الحسن والقبح؛ لأن المقصود من إصدار الحكم هو تعيين موقف الإنسان تجاه الفعل، هل يفعله، أو يتركه، أو يخير بين فعله وتركه؟ وتعيين موقفه تجاه الأشياء المتعلقة بها أفعاله، هل يأخذها، أو يتركها، أو يخير بين الأخذ والترك؟ وتعيين موقفه هذا متوقف على نظرته للشيء، هل هو حسن، أو قبيح، أو ليس بالحسن، ولا بالقبيح؟

فالحكم على الأفعال والأشياء، إما أن يكون من ناحية واقعها ما هو، ومن ناحية ملاءمتها لطبع الإنسان وميوله الفطرية، ومنافرتها لها، وإما من ناحية المدح على فعلها والذم على تركها، أو عدم المدح وعدم الذم، أي من ناحية الثواب والعقاب عليها، أو عدم الثواب وعدم العقاب. فهذه ثلاث جهات للحكم على الأشياء: أحدها من حيث واقعها ما هو، والثاني من حيث ملاءمتها لطبع الإنسان أو منافرتها له، والثالث من حيث الثواب والعقاب أو المدح أو الذم.

ثم إن الحاكم إذ يحكم على قضية ما، ولنضرب مثالا مسألة القتل، لإصدار حكم على هذه المسألة يعطي حكما فيها، فإن هذا الحاكم سيجد أن فعل القتل بذاته يمكن الحكم عليه أي إصدار حكم أنه "صواب" أو "خطأ"، أو "حسن" أو "قبيح"، من خلال واقع الشيء أو الفعل، ومن خلال الملاءمة للطبع أو العقل أو الفطرة أو أي قيم معينة يتخذها أساسا للمحاكمة، أو منافرته لهذه القيم، ومن خلال الثواب والعقاب عليه، ولا زاوية رابعة لهذه الزوايا الثلاث للحكم على أي قضية أو أي فعل.

فلا بد إذن من "مقياس" يرجع إليه لوصف الفعل بأنه حسن أو قبيح، ولاتخاذ موقف إزاءه، هذا المقياس تمنع العلمانية أن يكون دينيا، أو أخلاقيا، أو إنسانيا، بل لا بد أن يكون عقليا صرفا، فالعقل المجرد من "القيم" هو الذي سيصدر حكمه، فالأخلاق قد تصِمُ فعلا معينا بأنه خسيس، كأن يتسكع سابح ماهر في الطريق وهو يرى غريقا يوشك على الهلاك، فلا يسعى لإنقاذه، وقد تصم القيم الدينية فعل قتل النفس البريئة بأنه حرام، والكذب على الأعداء في الحرب بأنه فرض، فلا بد من ناحية علمانية أن يتبرأ المتشرع أو المفكر أو العلماني من كل هذه القيم حين نظرته إلى الفعل وتحديده للموقف إزاءه،

إن المرء العاقل إذ يقوم بفعل ما، فلا بد له من "قصد" من وراء قيامه بهذا الفعل، وهذا القصد هو "القيمة" التي يريد تحقيقها حين قيامه بهذا الفعل، ولذلك كان حتماً أن تكون لكل عمل قيمة يراعي الإنسان تحقيقها حين القيام بالعمل ، وإلا كان مجرد عبث . ولا ينبغي للإنسان أن يقوم بأعماله عبثاً من غير قصد ، بل لا بد أن يراعي تحقيق قيم الأعمال التي قصد القيام بالعمل من اجلها .

وقيمة العمل إما أن تكون قيمة مادية ، كالأعمال التجارية والزراعية والصناعية ونحوها ، فإن المقصود من القيام بهذه الأعمال هو إيجاد فوائد مادية منها ، وهي الربح ، وهي قيمة لها شأنها في الحياة ، وإما أن تكون قيمة العمل إنسانية كإنقاذ الغرقى وإغاثة الملهوفين ، فإن المقصود منها إنقاذ الإنسان بغض النظر عن لونه وجنسه ودينه أو أي اعتبار آخر غير الإنسانية ، وإما أن تكون قيمة العمل أخلاقية ، كالصدق والأمانة والرحمة ، فإن المقصود منها الناحية الخلقية بغض النظر عن الفوائد وبغض النظر عن الإنسانية ، إذ قد يكون الخلق مع غير الإنسان ، كالرفق بالحيوان والطير ، وقد تحصل من العمل الخلقي خسارة مادية ، ولكن تحقيق قيمته واجبة ، ألا وهي الناحية الخلقية . وإما أن تكون قيمة العمل روحية كالعبادات ، فإنه ليس المقصود منها الفوائد المادية ، ولا النواحي الإنسانية ولا المسائل الخلقية ، بل المقصود منها مجرد العبادة ، ولذلك يجب أن يراعى تحقيق قيمتها الروحية فحسب بغض النظر عن سائر القيم .

هذه هي القيم للأعمال جميعها، وهي التي يعمل لتحقيقها الإنسان عند القيام بكل عمل من أعماله .

وقياس المجتمعات الإنسانية في حياتها الدنيوية إنّما يكون حسب هذه القيم ، ويكون بقدر ما يتحقق منها في المجتمع ، وما يضمن تحقيقها من رفاهية وطمأنينة .

فالعقل حين حكمه على الفعل لا بد له من أن يربطه بالقصد الذي يراد حين القيام به، ومن أن يرى أثره في المجتمع والعلاقات، حتى يحقق نهوضا وحضارة للإنسان لا ارتكاسا وإسفافا وعبثية تنعكس على الفرد والمجتمع.

فحين تقول العلمانية بأن الحكم على الفعل ينبغي أن لا يتأثر بالقيم، فإنها بهذا تفصل بين العمل وبين القيم التي يراد تحقيقها على صعيد الفرد، فتلغي مثلا أشواقه الروحية، وحاجاته الغرائزية، وتلغي القيمة الإنسانية في إنقاذ الغرقى، فلا تجعلها أساسا للنظرة إلى فعل إنقاذ الغريق، وهكذا، فماذا يتبقى بعض فصل العمل عن قيمته وقصده وغايته؟

ثم إن الانسان حين يقوم بكثير من الأعمال، فإنه يجد نفسه "مفطورا" على القيم التي تحققها هذه الأفعال، فمثلا قد لا يخطر في باله أنه يحقق قيمة إنسانية حين ينقذ الغريق، لكنها ولا شك جزء من غريزة حفظ النوع المغروسة فيه، فكيف تريد العلمانية فصل الانسان عن غرائزه وما فطر في أعماق نفسه مما جعله إنسانا!

والعقل حتى يحكم على أمر بأنه حسن أو قبيح، وبالتالي يحكم بصوابية القيام به أو بخطأ ذلك، فإما أن الحسن والقبح ذاتيان في الفعل، كالعلم والجهل، والصدق والكذب، وإما أن هذه القيمة خارجية عن الفعل، فيحكم على قتل القاتل بأنه حسن بتسليط قيم أخلاقية أو دينية معينة على الفعل، ويحكم على قتل النفس البريئة بالقبح بتسليط قيم أخلاقية أو دينية على نفس الفعل وهو فعل القتل.

فالعلمانية تريد منع تسليط القيم على الفعل حين الحكم عليه، فهل الحسن والقبح ذاتيان في الأفعال ظاهران يستوي حكم العقل عليهما في كل حان وفي كل زمان ومكان؟ فليس ثمة إلا "أبيض" و "أسود"؟

فلو كانت الأفعال في ذاتها فيها قابلية أن تشي عن الحكم الواجب إزاءها منعزلا عن القيم التي تدفع المتشرع ليحكم فيه باتجاه أحد حدود المنع أو الإيجاب أو الإباحة، لكانت نظرة العالم العلماني واحدة لكل الأفعال ولاستوت التشريعات، ولكن اختلافها يشي بأن مصدر هذا الاختلاف تحكُّمُ قيمٍ ما في عقلية المتشرعين، فبطل إمكان أن ينعزل الحكم عن القيمة، واستحال أن يكون العقل حياديا حين إصداره للحكم على الأفعال.

قد يختلف العقل في نظرته إلى الفعل نفسه، فيحكم عقل إنسان على القتل بأنه أمر حسن، فيرى هتلر مثلا إستحسان قتل من يعارض تفوق الجنس الآري على باقي الأجناس، ويقف في وجه الزحف النازي، ويستسيغ عقل آخر قتل هتلر نفسه، ويحكم عقل ثالث بأن قتل القاتل نفسه غير مستحسن، لذلك تجد القوانين الغربية تتفاوت في نظرتها إلى عقوبة القاتل من مبيح لعقوبة الإعدام إلى مانع لها.

فالعقل إذن لا يمكنه أن يطلق حكما مطلقا على الفعل يتفق فيه مع باقي العقول، فيشترك البشر في حكمهم على فعل ما بأنه حسن أو قبيح، لذلك تجد من ينكر الشذوذ وتجد من يتظاهر نصرة له، ومن يجرم الاتجار بالرقيق الأبيض ومن ينتفع من ورائه ويبذل عمره فيه، وهكذا لا تجتمع البشرية أو العقل البشري على قيمة ما تصف الأفعال بأنها حسنة أو قبيحة، وقد تصف بعض التشريعات أمورا بأنها قبيحة ثم تعدل عن هذا وتجعلها من المباحات بل من المفروضات، كنظرة بعض الأمم الغربية للشذوذ.

إذن فحتى وإن كان الفعل نفسه في نظر "الفطرة" حسنا، فقد تقبحه بعض العقول، وقد لا تستطيع العقول في أغلب الأحيان أن تتخلى عن الأهواء وهي تنظر إلى القيم التي ترتجى من تحريم فعل ما، فلا تتخلى عن شهواتها حين نظرتها إلى الزنا، فتميل إلى إباحته، وإن حرمته القوانين، أو العكس، وقد لا تتخلى عن نظرتها للمنافع المادية التي يحققها الفعل لها، أي القيم المادية، فتجدها تبيح الربا لأنه ينفع الرأسماليين والبنوك، مع أنه يضر ضررا فادحا بالعامة والفقراء، وبهذا فإننا نجد أن مسألة طرح القيم جانبا حين الحكم على الفعل مسألة مستحيلة، إذ لا بد من أن يتأثر الانسان بقيم ما للحكم على الفعل، وبهذا يستحيل أن يكون المرء محايدا حين حكمه على فعل ما.

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...