اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

بديع النظم القرآني في سورة العصر


Recommended Posts

بديع النظم القرآني في سورة العصر

 

ما خصائصُ النظمِ التي امتازتْ بها سورةٌ قصيرةٌ متكونةُ من أربع عشرة كلمة، سورة العصر، فجعلتْها معجزةً للبشرِ جميعِهم، منفردينَ ومجتمعينَ؟

 

فمن حيثُ المعنى تتحدّثُ السورةُ عن فكرةٍ واحدةٍ كبرى، هي خسارةُ الإنسانِ ما لم يلتزم ما يريدُه الله سبحانه وتعالى، وهذا الذي يريدُه الله سبحانه وتعالى فُصِّلَ بإجمالٍ أولاً: الإيمانِ والعملِ الصالحِ، ثم خُصَّ من العملِ الصالحِ ...التواصيْ بالحقِّ، ثم خُصَّ الصبرُ بالتواصي مع أنه من الحقّ، فنجدُ السورةَ مجملةً في أولها مفصلةً في آخرها، كل هذا المعنى بهذا الشرح الموجز متضمَّنٌ في أربع عشرة كلمة.

 

ولكنَّ هذه الكلمات الأربعَ عشْرَةَ رسماً، تضمنَّت خمساً وعشرينَ وحدةً نحوية، منها سبعةُ أسماء، جمعت هذه الأسماءُ بين المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث، والنكرة والمعرفة، والجامد والمشتق، والمبنيّ والمعرب، وهي (العصر، الإنسان، خسر، الذين، الصالحات، الحقّ، الصبر).

وتضمنّت هذه الكلماتُ الأربع عشرةَ ضميرينِ متصلين لجماعة الغائبين: (آمنوا، عملوا).

 

وتضمنّت هذه الكلماتُ الأربع عشرةَ أربعةَ أفعال، منها الصحيح (عملوا)، والمعتل (تواصوا) مرتين، والمهموز (آمنوا)، ومنها المجرد (عملوا)، والمزيد بالهمزة (آمنوا)، والمزيد بالتاء والألف ليصبح الفعل على وزن (تفاعل) وهو (تواصوا).

 

وتضمنّت هذه الكلماتُ الأربع عشْرةَ عشَرةَ حروف من حروف المعاني مع تكرار المكررِ منها، وبدون تكرار تضمنّت سبعةَ حروف، فمنها ثلاثة حروف جر، الباء مرتين (بالحق، بالصبر)، وواو القسم (والعصرِ)، ومنها حرفُ العطفِ الواو ثلاثَ مرات (وعملوا، وتواصوا، وتواصوا)، وحرف استثناء (إلاّ)، وحرف توكيدٍ (إنّ)، واللام المزحلقة للتوكيد (لَفي).

 

والسورةُ ذاتُ الأربع عشرة كلمة نحوياً جملةٌ واحدة، جملةُ قسمٍ وجوابِه والاستثناءِ منه، أقسمَ اللهُ سبحانَه وتعالى بالعصر وجوابُ القسمِ كونُ الإنسانِ في خسر باستثناء من آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر، بهذا الترتيب بين المستثنيات: الإيمانُ الذي هو أساسٌ للعملِ الصالحِ، ثم العملُ الصالحُ الذي يكونُ التواصيْ بالحق جزءاً منه، ثم التواصي بالحقِّ الذي يكونُ التواصي بالصبر جزءاً منه.

 

ومما يلفتُ النظرَ في الأسماءِ المستخدمةِ في السورةِ أنها أكثرَها مطلقةٌ دالةٌ على العموم، فكلمة العصرِ دالةٌ على الزمن بإطلاقه، أو على وقت العصر، وكلمة (الإنسان) اسمٌ يشملُ جنس الإنسان، وكلمة (خسر) مطلقةٌ، وجاء التعبير (لفي خسر) ولم يعبر باسم الفاعل (خاسر) مثلاً، للدلالة على عظمةِ الخسران الذي يقعُ فيه الإنسان، وكلمة (الذين) اسم موصولٌ من ألفاظِ العموم، أي كل من اتصف بما بعدها، وكلمة (الصالحات) وصف يشملُ كل عمل صالح، وكلمة (الحق) تشملُ كل ما ينطبقُ عليه وصف الحق، وكذلك الصبر، ليشملَ أنواع الصبر.

 

أما حروف السورةِ الستةُ والستون المنطوقة، فنجدُ أكثرَها من الحروف سهلةِ المخارجِ، فمنها أربعةٌ وثلاثون حرفاً لسانياً، وأربعةَ عشَرَ حرفاً شفوياً، وتسعة حروفٍ مدّية، فيكون مجموعها سبعةً وخمسينَ حرفاً، ومنها تسعةٌ حلقيةٌ وهي الأكثر صعوبةً في النطق.

 

ومن حيثُ تكراراتِ الحروف، فالسورة ثمانيةَ عشرَ حرفاً من حروفِ الهجاء، تكررت ستاً وستينَ مرةً، حيثُ نجد اللام والواو هما الأكثرَ تكراراً، إذ تكرر كلٌ منهما عشر مرات، وهما مجهوران يعطيان الصوتَ جمالاً، واستمراريان يجريان مع النطق بيسر. ونجدُ حرفَ الصاد المهموس الاستمراري المستعلي المطبق مكررا سبعَ مرات عوّضَ همسُه واستمرارُه استعلاءَه وإطباقَه، فجمع بين الفخامة والسهولة، ونجدُ حرفَ النونِ مكرراً ست مرات، وهو الحرف السهلُ في النطقِ، الجميلُ في السمع، حرفُ غنةٍ، مجهورٌ استمراريٌ مرقق. ونجدُ حرفَ الألفِ مكرراً خمسَ مرات، وهو الحرف السهلُ الجميل، فهو استمراريٌ يجري معه الهواءُ حين النطق، وهو المجهورُ الجميلُ، أدى مهمةَ تخفيف نطق الصادِ المشددة في كلمة (الصالحات)، ومهمةَ الانتقال بينَ الواو الشفوية والصاد في الفعلين (تواصوا).

 

ومن حيث صفات الحروف فنجدها حروفاً قويةً سهلةً، فنجد منها أربعينَ حرفاً جمعت بين صفتي الجهر والاستمرار، الجهرُ يعطي النطق جمالاً، والاستمرارُ يعطيه سهولةً في النطق بجريانِ الهواء أثناءَ نطق الحرف، ومنها ثلاثةَ عشرَ حرفاً مهموساً استمرارياً، وهي التي توفّر الجهدَ العضليّ لأعضاء النطقِ حين النطقِ بها، مع أن أكثرَ من نصفها مستعلٍ مطبَقٌ، وهو حرفُ الصادِ المتكررُ سبعَ مرات، يعطي الصوتَ تفخيماً، ومنها سبعةُ أحرفٍ مجهورةٌ انفجارية، وهما حرفا الهمزةِ والباء، بما فيهما من قوة وجمال، وخمسةٌ مهموسةٌ انفجارية وهي القاف والتاء.

 

ومن حيثُ الحركاتُ في السورةِ، فنجدُ السكونَ والفتحَ هما الحركتين الغالبتين على السورة، حيث تكررَ السكونُ فيها سبعةً وثلاثينَ مرةً باعتماد أواخرِ الآياتِ ساكنةً، والسكونُ يعني عدمَ الحركة، وتكرر الفتحُ فيها خمساً وعشرينَ مرةً، وهو أخفُّ الحركاتِ، أما الضمةُ التي هي أثقل قليلاً من الفتح فلم يتكرر إلا ثلاثَ مرات لكنها كلها متلوةٌ بساكن تخفيفاً من ثقلها (خُسْر)، (آمنُوا، عملُوا)، أما الكسرةُ التي هي أثقلُ الحركات فقد تكررت إحدى عشْرَةَ مرةً، كانت محطاتِ انتقالٍ بينَ الحركاتِ السهلةِ.

 

هذه السورةُ ذاتُ الأربع عشرة كلمة، جمعت محاسنَ التعبيرِ عن المعنى، وجمعت محاسنَ اللفظ والنطق من جهات السهولةِ والجريانِ على اللسان، والقوةِ، والجمالِ والتأثير.

 

(هذا النص ينشر لأول مرة، نشر صوتاً في إذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير).

أبو محمد خليفة.

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...