اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

وقفات تأمل في ظلال آية "وظنوا أنهم أحيط بهم"


Recommended Posts

وقفات تأمل في ظلال آية "وظنوا أنهم أحيط بهم"

 

 

فلنحاول أولا أن نتلمس بعض ظلال الظن لنرى ما تتميز به عن اليقين، لنرى مناسبتها للآيات التي وردت فيها في كتاب الله العزيز:

بعد أن يورد الله سبحانه في سورة يونس بعض آياته في الكون، الدالة عليه، يحذر فيها الغافلين عن لقائه: "إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ 7 أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" 8يونس ثم يُذكّر الناس باستعجالهم الخير، وكيف إذا مس الإنسان الضر دعا الله لجنبه أو قاعدًا أو قائماً، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا لضر مسه، ثم قضية التوحيد في أن النفع والضر بيد الله وحده إلى أن يصل إلى قوله "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 22 فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" 23يونس يضعنا النص أمام صورة حية نابضة لهذا الإنسان الغافل عن ربه، المطمئن بالحياة الدنيا، أول ما نلاحظه هو هذا الالتفات في البداية "يسيركم، كنتم" ثم ينتقل للحديث بضمير الغائب "وجرين بهم" فما أن ينساب المرء في سيل الحياة الجارف حتى يوغل في البعد عن ربه (جرياً) وهنا ركب البحر متنعمًا بنعم الله الذي هيأ له البر لسكناه وسخر البحر له، وركوب البحر قد يكون في طلب الصيد أو الرزق، أو السفر إلى ما وراء البحر طلبًا لدعة الحياة ورغد العيش، ثم تلمس معي الظلال التي تلقيها "وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا"، فالفلك تجري بسرعة نحو عالم الدعة والهناء والراحة والريح مواتية والبحر يحتضن الفلك كأم رءوم، ألم تر كيف اقترنت الريح بحرف الباء وكأنه يقول إن البحر يجر الفلك من يدها لفرط خوفه عليها، وذلك يبعث في النفس روح الطمأنينة –وهذا مَثَلُ الحياة الدنيا التي رضوا بها واطمأنوا بها فغفلوا عن لقاء ربهم وعن آياته- أقول: يترك ذلك الحال للخيال عنانه للتيه في عالم الأحلام، وبينا هم كذلك إذ تضرب فلكَهم ريحٌ عاصف، قذفت بهم من عالم الدعة والهناء والاطمئنان إلى دنـيا القلق والخوف والاضطراب، ريح تُزمجر، تجعل الموج جبالا لتصبح الفلك فيه ريشة في مهب الريح الهائجة، تكاد الفلك تنقلب ميمنة فتنخلع قلوبهم ويتشبثوا بميسرة الفلك، وتضربهم الأمواج بقسوة في وجوههم فتقذفهم ليصطدموا بدفة الفلك، يحاط بهم، يأتيهم الموت من كل مكان، حتى الفلك التي من لحظات كانت تحتضنهم أصبحت تكيل لهم الضربة تلو الضربة إنهم ولا شك ينتظرون الموت!!

تختلف هنا لفظة الظن المستعملة في القران عن لفظة اليقين معنى وأداء، فالظن بأنه قد أحيط بهم وبأن الموت يأتيهم من كل مكان يختلف عن اليقين بذلك: فالموت ما زال مندفعاً بأمل تعطيه لفظة الظن وتمنعه لفظة اليقين أو العلم، فالذي يتيقن أن الموت قادم يقنط ويدفعه اليأس إلى استعجال الموت بقذف نفسه في البحر ما دام أن الموت قادم لا محالة وأن فيه الخلاص من هذا البلاء العظيم (الموت البطيء)، أما الظان فلا يزال متشبثاً بأمل بالنجاة مهما ضؤل.

والأهم هو أنهم ما داموا قد دعوا الله بأن ينجيهم فهذا يعني أنهم لم يتيقنوا الموت، فلا يمكن أن يدعو المرء ربه بالنجاة وقلبه فارغ من أي أمل مهما كان صغيراً بإمكانية حدوثها، وهذا هو ما نسميه "الظن" أي ترجح احتمال الموت مع بقاء أمل مهما كان صغيراً بالنجاة؛ واليائس لا يصلح لأن يتفكر ولا لأن يبحث عن أمل بالنجاة، علاوة على أن إبراز حال يائس ليس هو المراد من جو الآيات العام، فهي تتحدث عن التشبث بالحياة في حال الدعة والاستقرار كما في أشد حالات الخطر والاقتراب من الموت، فلو قلنا وعلموا أنهم أحيط بهم بدلا من وظنوا لقضينا على أي معنى للتشبث بالحياة ولماتت معها الصورة المرسومة؛ والأهم لِما قد نتج عن أملهم بالنجاة، وهو "دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ" إذن فالأمل الذي تعطيه لفظة "وظنوا" والذي منعته لفظة "وعلموا" هذا الأمل هو الذي عرى فطرتهم مما ران عليها، وجعلهم يلتجئون إلى من بيده ملكوت البر والبحر لينجيهم، تذكروه في تلك اللحظة فقدرته أكبر من هذه الجبال المتلاطمة من الأمواج.

هذا الأمل بالنجاة أنشأ لديهم إخلاصًا ما كانوا ليصلوا إليه وهم غافلون، لذلك نرى أن النص يضعنا على حال جديدة برزت في تلك اللحظة، حال من صحا من سكرته ومن عمهه ومن نسيانه خالقه وهو في حال الاطمئنان بالحياة الدنيا ليلجأ إليه بضمير المخاطب لأنه استشعر قربه منه، ورآه أقرب إليه من الماء الذي يكاد يقلب فلكه ومن الريح التي تعصف به ومن الفلك التي تضربه على رأسه وجسده، إنه وحده القادر على إنقاذهم: "لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ"، وفي كلمة "لئن" إقرار بأنهم ليسوا أهلا لهذه النجاة لشدة غفلتهم، هذا الإقرار صدر في لحظة صدق وإخلاص، إن الإنسان الغافل ليوقن بالله أشد اليقين ساعة الشدة عندما يظن أنه قد أحيط به وأن الموت قريب منه لتضافر أسبابه، ولكنه يبقي في نفسه أملا بالنجاة فنراه لا يوقن بالموت بل يظنه قادماً، وهذه النفسية تناسب الأجواء العامة للآيات التي تتحدث عن التشبث بالحياة ونسيان الموت وما كنا لنصل إليها لو كانوا علموا أن الموت قادم بدلا من ظنهم ذلك والذي أبقى احتمالا لإمكانية عدم حصوله لأملهم بقدرة الله.

ونلاحظ أيضاً في هذه الآية أن الظن إذ لا يؤدي معنى اليقين؛ كذلك فإنه لا يؤدي معنى الشك أبداً، فمن كان يحاط به ويأتيه الموت من كل مكان لا معنى لقولنا عنه أنه يستوي لديه إمكانية حدوث الموت وإمكانية النجاة، وهو ما يؤديه معنى الشك؛ كما أبرزت الآية تعلقهم بأمل النجاة أي لم يتيقنوا الموت وهذا ما يؤكد لنا أن الظن ما هو إلا مرحلة متوسطة بين الشك واليقين ليس بشك ولا بيقين، ترفعه القرائن تجاه اليقين أو تهبط به باتجاه الشك والقرائن في هذه الآية توحي بشدة اقترابه من اليقين لكنها إذ تبقيه قريبًا منه فإنها لا توصله إليه وهذا ما سميناه "غلبة الظن"، والله أعلم.

نتذكر هنا تعريف الظن: هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض فيترجح لديهم هنا الموت ويبقى احتمال النقيض ( أي النجاة ) واردًا.

لاحظنا إذن أهمـيّة الجو العام للنص والسياق العام للسورة وكلاهما يُبرز تعلق الناس بالحيـاة واطمئنانهم بها ونسيان الآخرة فالألصق بهذا أنهم حتى والموت يأتيهم من كل جانب ما زالوا متشبثين بالحياة، يرون الموت رأي العين ولا يزالون يرغبون بالبقاء على ظهرها.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...