Jump to content
منتدى العقاب

واقع سياسات التنافس الدولي في إفريقيا


Recommended Posts

واقع سياسات التنافس الدولي في إفريقيا

5bc0a8352bfee83634dbf0d0cddf511e?s=140&d صخري محمد   17 فبراير، 2017
 090٬256  19 دقائق
 
europian-compitition-700x405.jpg
 
مقدمة:
لا مراء في أن القارة الأفريقية كانت أكثر مناطق العالم تهميشاً واستبعاداً على طول مراحل العولمة المختلفة. ومنذ نهاية الحرب الباردة، وتدشين ما يسمى النظام العالمي الجديد عام 1991م عانت الدول الأفريقية من مزيد من التهميش؛ بحيث أضحت غير مشاركة في الاقتصاد العالمي، وإنما معتمدة عليه بصورة متزايدة، اتضح ذلك بجلاء من النمو الاقتصادي المتدني للقطاعات الإنتاجية، وزيادة عبء الديون الخارجية، وتدهور الظروف الاجتماعية والسياسية، حتى إنه توجد في أفريقيا وحدها (33) دولة من بين (47) دولة وصفتها الأمم المتحدة بأنها الأقل تنمية في العالم.
وعلى الرغم من التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها القارة منذ أواخر القرن الماضي، والتي وصفت في الدوائر الغربية بأنها تسير وفق معايير التحرر السياسي والاقتصادي بالمفهوم الغربي إلا أن هذه التحولات أفضت إلى نمط أفريقي جديد في الحكم هو: «الأفروقراطية» الجديدةNewAfrocracy، وهو نمط جديد للحكم يحافظ على تراث الحكم الفردي الشمولي، وإن كان يسمح في الوقت نفسه ببعض ملامح الديموقراطية الليبرالية. وليس بخافٍ أن الغرب الرأسمالي يغضّ الطرف عن هذه الأشكال السلطوية الجديدة للحكم في أفريقيا، طالما أنها لا تتعارض مع تحقيق مصالحه الاستراتيجية في القارة.

 

ويشير كثير من الباحثين إلى أن تناقص مصالح روسيا في القارة الأفريقية من الناحيتين الاستراتيجية والأيديولوجية صاحبها فقدان الاهتمام الغربي بأفريقيا؛ فالاتحاد الأوروبي بدأ يركز اهتمامه في مناطق الجوار الجغرافي، مثل: دول حوض المتوسط، ودول أوروبا الشرقية، وحتى بعض مناطق النمو في أمريكا اللاتينية. على أن هذا القول وإن بدا صحيحاً في ظاهره إلا أنه لا يخفي حقيقة الأطماع الدولية في القارة الأفريقية، والتي ظلت تمثل دائماً محور سياسات التكالب الاستعماري على القارة. ويكفي أن نشير إلى بعض الأرقام ذات الدلالة الواضحة: فأفريقيا تحتفظ بنحو 3% من إجمالي احتياطي البترول في العالم، وبها 5% من احتياطي الغاز، ونحو ثلث احتياطي اليورانيوم، ونحو (70%) من الفسفور، و(55%) من الذهب، و(87%) من الكروم، و(57%) من المنجنيز، و(42%) من الكوبالت… إلخ. ناهيك عن ثراء القارة في مواردها الطبيعية الأوفر، مثل: المياه، والزراعة.

وعليه سوف نحاول في هذه الدراسة أن نشير إلى تطور سياسات التنافس الدولي في أفريقيا، منذ بداية الاحتكاك الأوروبي وتخاطف أفريقيا، وحتى عصر الهيمنة الأمريكية على العالم، ولا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر، كما أننا سوف نحاول طرح بعض قضايا التنافس الدولي في القارة، مثل: أزمة دارفور، والمشكلة السودانية بوجه عام، وأخيراً نطرح صورة المستقبل الأفريقي في ظل التنافس الدولي، وذلك على النحو التالي:
أولاً: التنافس الأوروبي من أجل السيطرة والنفوذ في أفريقيا (مرحلة تخاطف أفريقيا):
من المعلوم أن الاحتكاك الأوروبي بأفريقيا عن طريق المستكشفين، والتجار، والبعثات التبشيرية قد بدأ منذ القرن الخامس عشر؛ إذ أبحرت السفن البرتغالية الأولى إلى سواحل غرب أفريقيا في عام (1418م)، ووصلت بالفعل إلى منطقة الغابات المطيرة قبل أن يتوفى (هنري الملاح) عام (1460م). وقد أنشأ البرتغاليون عدداً من الحصون الساحلية مارسوا من خلالها تجارة مربحة في الذهب والعاج، وكذلك العبيد، ولا سيما خلال القرن السابع عشر.

وقد ازدهرت حركة تجارة العبيد التي اشترك فيها التجار الهولنديون، والبريطانيون، والفرنسيون إلى جانب البرتغاليين، وقد أطلق على هذه الحركة التجارية اسم (مثلث الأطلنطي للتجارة)؛ إذ كانت تجارة العبيد تشمل نطاقاً ثلاثياً للتبادل:
فأولاً: كان التجار الأوروبيون (وخاصة البريطانيين) يستبدلون السلع التي هي في الغالب الأسلحة الرديئة والملابس بالعبيد الأفارقة، الذين يقدمهم لهم الشيوخ المحليون من البلدان المحيطة بخليج غينيا في غرب أفريقيا بصورة رئيسة.

وثانياً: يتم نقل العبيد كحمولة في السفن عبر المحيط الأطلسي، لكي يباعوا كعبيد للزراعة في جزر البحر الكاريبي، والأراضي الأمريكية.

وأخيراً: يملأ التجار سفنهم بالمحاصيل الزراعية، ويبيعونها لدى عودتهم إلى أوروبا.

وطبقاً لبعض المصادر فإن عدد الأفارقة الذين نقلوا عبر الأطلسي في الفترة من (1650م) وحتى (1850م) يقدر بحوالي تسعة ملايين نسمة تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والخامسة والثلاثين، ونتيجة سوء المعاملة، وقسوة الرحلة فُقد نحو مليونين منهم في الطريق.

وقد تركت تجارة الرقيق آثاراً بالغة على القارة الأفريقية؛ فإذا كانت قد أسهمت في تنمية العالم الجديد فإنها أضرت بالقارة الأفريقية إضراراً كبيراً؛ حيث إنها أفضت إلى تغيير جذري في توزيع الأجناس البشرية في القارة، وكان الهدف الأسمى وراء هذه العملية غير الأخلاقية: هو تحقيق رفاهية المجتمع الغربي، وخدمة اقتصاده، وعلى صعيد آخر فقد أدت هذه التجارة إلى إشعال الحروب القبلية، وخلق جوّ من التشاحن والبغضاء بين القبائل الأفريقية، وهو ما أفضى في النهاية إلى خلخلة النظم القبلية التي أصيبت بهزات عنيفة.

ومع ذلك فقد ترتب على عملية تهجير الأفارقة، واقتلاعهم من جذورهم، ونقلهم إلى العالم الجديد إلى شعورهم بالاغتراب، والحنين إلى الوطن. ومِنْ ثَمّ نمَتْ لدى هؤلاء العبيد أحاسيس جارفة بالشخصية الأفريقية، واتجاه أكيد نحو الجامعة الأفريقية Pan Africanism، يعني ذلك بعبارة أخرى أن أحد الآثار التي ترتبت على حركة مثلث الأطلنطي لتجارة العبيد: هو نمو الشعور بالوحدة لدى هؤلاء الزنوج في المنفى، وبدء إرهاصات الجامعة الأفريقية في العالم الجديد.

ومن الملاحظ أنه حتى القرن التاسع عشر تعامل التجار البرتغاليون، وغيرهم من الأوروبيين في محطاتهم وحصونهم التجارية الساحلية مع الوسطاء الأفارقة بشكل رئيس؛ أي أن هؤلاء التجار نجحوا في تحويل طريق التجارة الأفريقية بعيداً عن الطريق المعهود عبر الصحراء، والذي كان يربط أفريقيا بالمغرب، أفضى ذلك إلى تدعيم قوة، وثورة الدول الساحلية، وذلك على حساب دول السودان الغربي. بيد أن هذا النمط من التجارة الساحلية بدأ يتغير مع ذلك، حينما ألغيت تجارة الرقيق، وأضحى المستكشفون والإرساليون يزحفون إلى مختلف أصقاع القارة، وهو الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى بناء إمبراطورية أوروبية في أفريقيا؛ فخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر تدافع البريطانيون، والفرنسيون، والهولنديون، والبرتغاليون، وغيرهم من الأوروبيين من أجل بسط هيمنتهم الاقتصادية والتجارية في أفريقيا، وقد قام هؤلاء ببناء الحصون والقلاع، ولا سيما على طول سواحل غرب أفريقيا؛ وذلك بهدف حماية مصالحهم التجارية وتنميتها.

وثمة مجموعة من العوامل التي أسهمت في التعجيل بعملية التكالب الاستعماري على أفريقيا: من بينها طموح الملك (ليوبولد الثاني) ملك بلجيكا في بناء إمبراطورية له تشمل منطقة حوض الكونغو، وقيام ألمانيا بضم الكاميرون، وشرق أفريقيا، وجنوب غرب أفريقيا وتوجولاند؛ وعليه فقد دعا المستشار الألماني بسمارك في عام (1884م) إلى عقد مؤتمر دولي لتخفيف حدة التنافس بين الدول الأوروبية في أفريقيا، وقد انتهى هذا المؤتمر إلى وضع قواعد عامة لتأسيس مناطق الهيمنة التجارية. على أن هذا المؤتمر باعترافه بقيام دولة (الكونغو الحرة) قد أعطى كلاً من فرنسا، وبريطانيا الحافز لتوسيع مجال سيطرتها من خلال إنشاء مستعمرات ومحميات جديدة، وليس بخافٍ أن أساس الحدود بين هذه المستعمرات كان مصطنعاً لا يتفق وحقائق الأوضاع الجغرافية والديموغرافية، والاجتماعية والاقتصادية للشعوب الأفريقية؛ إذ إنه خطط بشكل تعسفي، وبما يخدم المصالح الاستعمارية؛ وعلى ذلك فقد تم تقسيم إقليم (باكونجو) بين الكونغو الفرنسية والكونغو البلجيكية وأنجولا.

وقد اعتقد كثير من الأفارقة في بداية المرحلة الاستعمارية أن توقيع المعاهدات مع الأوروبيين: هو نوع من التحالف، أو تدعيم أواصر الصداقة أكثر من كونه عملاً من أعمال الاحتلال والسيطرة؛ وعليه فإن ممالك أفريقية مثل: (التيف، وبورتو نوفو، ودوالا) دخلت في اتفاقات مع دول أوروبية، وقد اشتكى ملوك هذه الأمم الأفريقية بمرارة، حينما انتهكت هذه الاتفاقات، وربما أثرت الشعارات التي رفعها الأوروبيون لتغطية أهدافهم الاستعمارية الحقيقية على وجود هذا الاعتقاد الزائف، ويطرح (جومو كينياتا) بُعداً آخر لسوء الفهم الذي واكب بدايات عملية تخاطف أفريقيا؛ حيث يؤكد على أن «شعب الكيكويو أعطى الأوروبيين حقوق البناء، والإقامة في مناطق مثل: داجورتي، وفورت سميث، وغيرها، دون أن يكون لديهم أدنى فكرة عن النوايا الحقيقية الكافية خلف قوافل التجارة؛ إذ اعتقد هؤلاء أن الأمر ليس مجرد عمل تجاري وحسب، إنهم لم يدركوا أن هذه الأماكن استخدمت للإعداد من أجل انتزاع هذه الأراضي، لقد أقاموا علاقات ودية مع الأوروبيين، وأمدّوهم بالطعام اللازم لقوافلهم، وكانوا يسلمون بأن هؤلاء المغامرين البيـض عائـدون لا محالة إلى بلادهم؛ إذ لا يعقل أن يستوطنوا بشكل دائم أرضاً أجنبية؛ فسرعان ما يغالبهم الحنين للوطن بعد فراغهم من بيع ما لديهم من سلع، ويدفعهم للعودة إلي العيش بين ظهراني أهليهم، وعشيرتهم».

وأيّاً كان الأمر فإن القوى الأوروبية المختلفة التي تدافعت على أفريقيا (خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر لتأسيس مستعمراتها) قد نظرت إلى نفسها على أنها تحمل مشعل الحضارة والمدنية إلى كافة مناطق العالم المتخلف. على أن (والتر رودني) يكشف عن حقيقة استعمار أفريقيا، ويرى أنه السبب الرئيس لتخلفها؛ إذ يرى أن «الاستعمار لم يكن مجرد نظام للاستغلال، ولكنه نظام هدفه الرئيس أن يعيد الأرباح إلى ما يسمى البلد الأم، ويعتبر ذلك من وجهة نظر أفريقيا بمثابة نزح مستمر للفائض الناتج عن عمل أفريقي بموارد أفريقية، ويعني في الوقت نفسه تطور أوروبا كجزء من العملية الجدلية نفسها التي أحدثت التخلف بأفريقيا».

ويمكن القول بصفة عامة: إن القوى الاستعمارية الأوروبية جميعها تدافعت على أفريقيا؛ بهدف تأسيس إمبراطوريات استعمارية، وهي العملية التي أطلق عليها في نهاية القرن التاسع عشر اسم «التكالب الاستعماري على أفريقيا» The Scramble for Africa، ومع اختلاف النظم والسياسات الاستعمارية فإن ثمة مجموعة من الملامح العامة مثلت قاسماً مشتركاً للحركة الاستعمارية في أفريقيا، لعل من أبرزها:
1 – أن جميع الدول الاستعمارية رفعت شعار الأبوية السياسية Political Paternalism؛ أي أنها جاءت إلى أفريقيا من أجل مهمة عالمية حضارية، وهي نشر المدنية بين الأفارقة، ويبدو أن البعثات التبشيرية أسهمت بشكل بارز في تعضيد هذا الاعتقاد، لقد نشرت إحدى البعثات التبشيرية بياناً حماسياً لأعضائها في إحدى جرائد ساحل الذهب جاء فيه: «إلى الأمام يا جنود المسيح حيث بلاد الكفر والوثنية، كُتُب الصلوات في جيوبكم ما هي إلا بنادق في أيديكم، خذوا البشرى السعيدة حيث أماكن التجارة، انشروا الإنجيل مع البندقية!».

وحينما تحولت المحميات الأفريقية إلى مستعمرات فإن الدول الأوروبية لم تأخذ هذا الشعار بمحمل الجد؛ حيث أفصحت عن وجهها الحقيقي في استغلال ثروات وخيرات القارة الأفريقية، ويبدو أن فرنسا كانت أكثر الدول الأوروبية جدية في رفع هذا الشعار؛ ففي وقت مبكر من عام (1884م) تمّ تأسيس الأليانس فرانسيز أو (التحالف الفرنسي) كأداة للهيمنة التعليمية الثقافية، وقد دعمته الحكومة الفرنسية على أن الفرنسيين ركّزوا في الواقع على انتقاء أقلية صغيرة من الأفارقة يمكن إخضاعها بالكامل لعملية الاستيعاب الثقافي؛ كي تصبح مؤهلة لمساعدة فرنسا في إدارة المستعمرات الشاسعة التي تمتلكها في أفريقيا.

2 – إن الحركة الاستعمارية في أفريقيا واجهت – بعد انكشاف أهدافها الحقيقية – مقاومة عنيفة من الأفارقة؛ ففي غرب أفريقيا لم يتمكن الاحتلال الفرنسي من التوسع عبر غامبيا، وكازامانس بعد القضاء على مقاومة مامادو لامين (1885م -1887م) كما أن (شعب آبي) في شرقي ساحل العاج عبّر عن مقاومته للاحتلال بشكل بطولي استمر نحو (27) عاماً خلال الفترة (1891- 1918م)، وفي شرق أفريقيا اندلعت ثورة الماجي ماجي عام (1890م)، وقد شاركت في هذه الحركة الشعبية جماعات شتى من بينها العرب، والسواحيلي، أضف إلى ذلك أن السوزو، والزولو (بزعامة شاكا) قاومت بشكل عنيف كافة مظاهر الهيمنة الاستعمارية في الجنوب الأفريقي خلال أعوام الثمانينيات من القرن التاسع عشر.

3 – لقد أفضت عملية التدافع الأوروبي على احتلال أفريقيا إلى خلق ظاهرة الدولة الحديثة؛ إذ سعت الدولة الأوروبية إلى وضع أسس السلطة الاستعمارية فأنشأت الهياكل الإدارية، والبنى الأساسية اللازمة لتحقيق هذا الغرض، ومِنْ ثَمّ فإن الدولة الأفريقية المعاصرة في معظم الحالات: هي نتاج استعماري؛ إي أن أساسها مصطنع، ولا تعبّر عن واقع اجتماعي، واقتصادي، وسياسي وفقاً لمفهوم الدولة القومية؛ فالإقليم وهو وعاء الدولة ليس إلا نتاج تحديد تعسفي من السلطة الاستعمارية في إطار منظومة توازن القوى التي حكمت عملية تخاطف أفريقيا، ومجتمع الدولة يموج بالعديد من الجماعات المتمايزة في ثقافتها ولغاتها وأديانها، ومِنْ ثَمّ انتفت إرادة التعايش الجماعي في سياق هذه الدولة المصطنعة؛ ولذلك فإن ظاهرة الدولة الأفريقية التي أنشأها الاستعمار: هي تعبير قانوني أكثر من كونها حقيقة واقعية واجتماعية.

4 – ارتبط بمحاولات الدولة الأوروبية الاستعمارية خلق الهياكل الإدارية والبنى الأساسية السابقة الإشارة إليها ظهور دولة مصطنعة Artificial State، وبحدود مصطنعة، لقد رسمت حدود المستعمرات على خرائط في أوروبا بما يتمشى مع المصالح الاستعمارية، ومِنْ ثَمّ فإنها لم تراع الظروف الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات الأفريقية؛ ولذلك فإن مشكلات الحدود الأفريقية تعتبر من مواريث الحكم الاستعماري.

5 – أدى الغزو الاستعماري لأفريقيا إلى تنامي الروح الوطنية الأفريقية؛ فمنذ المراحل الأولى لغزو القارة عبّرت روح المقاومة الوطنية الأفريقية عن نفسها دائماً، ودون انقطاع تحت أشكال مختلفة، جانبها التوفيق أحياناً، ولفّها غموض الرؤية أحياناً أخرى، ولكنها بقيت متأججة، حتى عاد لأفريقيا الاستقلال الذي فقدته، ومِنْ ثَمّ ليس صحيحاً ما رددته الأدبيات الاستعمارية من انعدام الشعور الوطني لدى الأفارقة.

أيّاً كان الأمر فإن الحكم الاستعماري في أفريقيا كانت له جوانب سلبية عديدة، كما أن المآسي المترتبة عليه أكثر من أن تحصى، يكفي أن نذكر على سبيل المثال أنه في عام (1905م) قام اثنان من رجال الإدارة الاستعمارية الفرنسية بنسف عامل أفريقي بالديناميت في مدينة برازافيل لمجرد اللهو والتسلية، ومع ذلك يذكر بعضهم أن ثَمّة جوانب إيجابية للاستعمار في أفريقيا، ومن ذلك على سبيل المثال: ضبط الصراعات القبلية، وتأسيس إطار للوحدة الأفريقية، وبناء شبكات الطرق الممهدة، وخطوط السكك الحديدية، والموانئ، وغيرها من أركان البنية الأساسية، مثل: إقامة المدارس، والمستشفيات، والكنائس، والسيطرة على أمراض الماشية من خلال استخدام التحصينات البيطرية اللازمة.

ثانياً: التنافس الدولي في أفريقيا بعد الحرب الباردة (جدلية الهيمنة والتهميش):
بعد حصول الدول الأفريقية على استقلالها، وتحقيق المملكة السياسية على حد تعبير (كوامي نكروما) اتخذ التكالب الأوروبي على موارد القارة الطبيعية شكلاً آخر يتفق مع طبيعة النظام الدولي السائد: ففي إطار سياسات الحرب الباردة، والمواجهة الأيديولوجية بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي كانت القارة الأفريقية هي الضحية. وقد عبّر عن ذلك الموقف المثل الأفريقي القائل: «إذا تصارع فيلان فإن الذي يُعاني هي الحشائش من تحت أقدامهما»، ويعكس ذلك المعاناة الأفريقية في إطار مرحلة الحرب الباردة.

وبعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، وظهرت العولمة الجديدة في ثياب أمريكية تكالبت القوى الكبرى مرة أخرى على مناطق الثروة والنفوذ في القارة الأفريقية. وعندما وقعت أحدث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة باتت أفريقيا تُشكّل أهمية محورية في التفكير الاستراتيجي الأمريكي الجديد.

وسوف نحاول في هذا الجزء إبراز سياسات التنافس الأمريكي الأوروبي في أفريقيا؛ وذلك على النحو التالي:
التنافس الأمريكي الأوروبي:
على الرغم من التغير الذي يبدو لأول وهلة في توجهات السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا منذ عام 1989م فإن الأهداف الأمريكية الاستراتيجية في أفريقيا ظلت ثابتة لم تتزحزح؛ إذ إنها تسعى إلى:
• حماية خطوط التجارة البحرية.
• الوصول إلى مناطق التعدين والمواد الخام.
• فتح الأسواق أمام حركة التجارة، والاستثمارات الأمريكية.
• دعم ونشر قيم الليبرالية، ولا سيما تلك الخاصة بالديمقراطية، وحقوق الإنسان، ولو من الناحية البلاغية.

ومع ذلك؛ فإن المتغيرات الدولية التي سارت باتجاه العولمة الأمريكية أدت إلى إعادة توجيه السياسة الأمريكية نحو أفريقيا عبر التركيز على دبلوماسية التجارة كأداة للاختراق، بالإضافة إلى دعم قادة أفارقة جُدد.

مرتكزات السياسية الأمريكية تجاه أفريقيا:
وقد اتضحت ملامح هذه السياسة منذ بداية عام 1998م؛ إذ سعت إدارة كلينتون إلى تأسيس شراكة أمريكية أفريقية جديدة. على أن رفع شعار اندماج أفريقيا في الاقتصاد العالمي لن يكفي وحده لإنهاء عمليات تهميش القارة الأفريقية؛ ولذلك فإن السياسة الأفريقية للولايات المتحدة تعتمد على المرتكزات الأساسية التالية:
1- التركيز على مناطق إقليمية معينة، واختيار دولة أو أكثر تمارس دور القيادة مثل: جنوب أفريقيا في الجنوب، ونيجيريا والسنغال في الغرب، وإثيوبيا في الشرق.

2- طرح قضايا معينة ووضعها على قائمة السياسة الأفريقية للولايات المتحدة، مثل: الإرهاب والتطرف، وتدفق المخدرات، والجريمة الدولية، وحماية البيئة، وحقوق المرأة الأفريقية، و… وهلم جرّاً.

3- المحافظة على الأمن والاستقرار عن طريق إنشاء قوة أفريقية لمواجهة الأزمات، وهنا يقتصر الدور الأمريكي على التمويل والتدريب.

4- العمل على محاصرة النظم غير الموالية، والتي تدعم التطرف والإرهاب من وجهة النظر الأمريكية، مثلما كان عليه الحال مع السودان وليبيا.

5- تأمين وتعزيز فرص الاستثمار والتجارة في المنطقة، وهو ما يؤكد عليه مبدأ التجارة بدلاً من المساعدات.

ومن الملاحظ أن الولايات المتحدة قد تركت لفرنسا ولعقود طويلة إبّان الحرب الباردة المجال في أفريقيا للقيام بمهمة الشرطي. وتحاول فرنسا اليوم إيجاد صيغة جديدة للشراكة مع أفريقيا؛ لكي تخرج من الموقف المعقّد الذي وصفه وزير التعاون الدولي الفرنسي (شارل جوسلين) بأن: «فرنسا توفر معظم المساعدات، وتحصل أمريكا على معظم الفوائد الاقتصادية».

وفي أول جولة أفريقية له عام 1996م أكد وزير الخارجية الأمريكية آنذاك (وارن كريستوفر) بأن الحقبة التي كانت تقسم فيها أفريقيا إلى مناطق للنفوذ قد ولّت، وفات أوانها.

أفريقيا والحرب على الإرهاب:
احتلت أفريقيا مكانة مهمة في التفكير الاستراتيجي الأمريكي الخاص بمحاربة الإرهاب، وربما يُعزى ذلك إلى عدة أسباب، لعل من أبرزها:
1- تنامي المشاعر المعادية للولايات المتحدة في كثير من المناطق الأفريقية، ولا سيما منطقة القرن الأفريقي. وطبقاً لبعض المعلومات الاستخبارية الغربية؛ فإن الصومال بعد انهيار الدولة فيها في أعقاب الإطاحة بالرئيس سياد بري أضحت ملاذاً آمناً لبعض الجماعات والتنظيمات التي تضعها الولايات المتحدة على لائحة الإرهاب. وعليه فإنه لا يمكن التغاضي عن أهمية الصومال ومنطقة القرن الأفريقي في إطار الحملة الأمريكية على الإرهاب.

2- أهمية بعض الدول، مثل: السودان في إطار بناء التحالف الدولي الموالي للولايات المتحدة؛ بهدف محاربة الإرهاب. ومن المعلوم أن أسامة بن لادن قد أقام في السودان، كما أن هناك ارتباطات ثقافية بالتجمعات الإسلامية في دول الجوار الجغرافي للسودان.

3- تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في القارة الأفريقية يجعلها بيئة خصبة لنمو المشاعر المعادية للغرب. وطبقاً لبعض الباحثين: «تعد أفريقيا الحلقة الأضعف في سلسلة الإرهاب الدولي؛ فالحدود يسهل اختراقها ومؤسسات فرض النظام والقانون ضعيفة، والموارد الطبيعية وفيرة، ومناطق الصراع متعددة، والدولة الوطنية إما هشّة أو ضعيفة أو تحتضر.. كل ذلك يجعل من بعض الدول الأفريقية ملاذاً آمناً لبعض الجماعات والتنظيمات (الإرهابية)».

4- أضف إلى ذلك التجارة غير المشروعة في الألماس في مناطق حوض نهر مانو، ومنطقة البحيرات العظمى.

وعليه فقد اهتمت الإدارة الأمريكية بدعم العلاقات الأمنية والعسكرية مع الدول الأفريقية في إطار ما يسمى (الحرب على الإرهاب). ففي يونيو عام 2003م أعلن الرئيس بوش عن مبادرة أمريكية قيمتها (100) مليون دولار لزيادة قدرة دول شرق أفريقيا على محاربة الارهاب.

تأمين الواردات الأمريكية من النفط الأفريقي:
في السنوات الأخيرة بدت الولايات المتحدة أكثر اهتماماً بمصادر البترول الأفريقي كبديل عن بترول الشرق الأوسط. وعليه فإن الإدارة الأمريكية تنظر الآن إلى النفط في أفريقيا باعتباره مصلحة قومية استراتيجية، وعليه تصبح بعض الدول مثل: نيجيريا، وأنجولا، والجابون مصادر مهمه لتوفير النفط.

في الوقت الراهن توفر أفريقيا جنوب الصحراء خُمْس واردات الولايات المتحدة من النفط. وتتوقع بعض المصادر أن تزيد واردات أمريكا من نفط غرب أفريقا بنسبة 25% بحلول عام 2015م.

يعني ذلك أن واردات أمريكا من البترول الأفريقي سوف تفوق وارداتها النفطية من الخليج العربي. وعليه فإن الولايات المتحدة ستبذل أقصى ما في وسعها لتأمين مصادر البترول في غرب أفريقيا.

 

توجهات السياسية الفرنسية إزاء أفريقيا:
أيّاً كان الأمر فإن السياسة الأفريقية لفرنسا شأنها شأن السياسة الأفريقية للولايات المتحدة قد شهدت تغيرات وتحولات راديكالية، وهو ما أكده الرئيس جاك شيراك يوم 27/8/1997م، حينما أشار إلى عزم بلاده على عدم التدخل عسكرياً أو سياسياً في الدول الفرنكفونية الأربع عشرة المتعاملة بالفرنك في أفريقيا. وقد اشتمل التغير في توجهات السياسة الفرنسية تجاه أفريقيا على ما يلي:
1- تسعى فرنسا إلى توسيع دائرة علاقاتها السياسية والتجارية لتشمل باقي دول القارة؛ أي أن جل مساعداتها المالية لن يقتصر على مستعمراتها السابقة إنما تستهدف باقي دول القارة.

2- تعتزم فرنسا التخلي عن دورها العسكري من منطقة الفرنك، وهو ما أكدته عملية إغلاق قاعدتين عسكريتين في جمهورية أفريقيا الوسطى، والتي انطلقت فرنسا عن طريقهما للتدخل في العديد من المواقف، والأزمات التي شهدتها مستعمراتها السابقة، كما أن حوالي 1800 جندي فرنسي تقررت عودتهم من قواعدهم الأفريقية.

ويبدو أن السياسة الفرنسية بتركيزها على المحور الأوروبي، ولا سيما قضية الانضمام للاتحاد المالي والاقتصادي الأوروبي لا تغفل في الوقت نفسه مصالحها التجارية مع أفريقيا، ولا سيما مع دول معينة مثل: نيجيريا، وجنوب أفريقيا.

التنافس الخفي بين فرنسا والولايات المتحدة:
ويبدو أن التوجهات الجديدة لكل من الولايات المتحدة، وفرنسا إزاء أفريقيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة قد أبرزت – ولو من طرف خفي – تنافساً حقيقياً بين البلدين. ويمكن للمرء أن يدرك ذلك في الحرب الأهلية الرواندية؛ حيث كانت القوات الفرنسية هي الأسبق والأكثر عدداً، وهو الأمر الذي دفع بالإعلام الأمريكي إلى التركيز على المشكلة وعلى الدور الفرنسي في تزويد نظام هابياريمانا السابق بالأسلحة والمعدات.

كما أن الدور الأمريكي في إعادة رسم خريطة التوازن الإقليمي بمنطقة البحيرات العظمى لا يتفق مع المصالح الفرنسية، ومع ذلك فإن ثمة قدراً من التعاون والتنسيق بين الأطراف الأوروبية والأمريكية في مواقفها تجاه قضايا أفريقيا.

ففي أعقاب التورط الأمريكي في الصومال، والتورط الفرنسي في الأزمة الرواندية اقتنع الطرفان بضرورة ترك مهام حفظ السلام للأفارقة أنفسهم. وبناء على ذلك تم الاتفاق في مايو/أيار 1997م بين كل من فرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة على تقديم مشروع إلى الأمم المتحدة، ومنظمة الوحدة الأفريقية بشأن تنسيق الجهود الدولية المتعلقة بحفظ السلام في أفريقيا.

أثر التنافس الفرنسي الأمريكي في العلاقات العربية الأفريقية:
أيّاً كانت الأهداف والمصالح وراء التنافس الأوروبي الأمريكي في القارة الأفريقية فإنه يقف حجر عثرة أمام تطوير العلاقات العربية الأفريقية؛ وذلك لأكثر من متغير واحد:
فأولاً: تركز هذه الدول على مناطق إقليمية معينة، وتدعم قادة موالين لها؛ فالسلوك الأنغلو – أمريكي يدعم الأقليات الحاكمة في كل من رواندا، وبوروندي، وأوغندا، والحرص على خلق مناطق نفوذ في منطقة القرن الأفريقي الكبير يعرض المصالح العربية للخطر. وينبغي أن نشير في هذا السياق إلى قضية المياه واستخدامها كورقة ضغط في مواجهة كل من مصر والسودان.

وثانياً: أن الوجود الأمريكي يرتبط دوماً بالوجود الإسرائيلي؛ حيث تسعى الدولة العبرية من جراء خططها المتعلقة بالبحيرات العظمى، ومنابع النيل عموماً إلى فتح ثغرة في خطوط الأمن القومي والمائي العربيين، وكذلك جعل أبواب المنطقة مشرعة أمام المصالح الأمريكية.

وثالثاً: أن هذه القوة الأجنبية تثير قضايا الفرقة والنزاع بين العرب والأفارقة، ويتضح ذلك جليّاً في الموقف الأمريكي والأوروبي من قضية الإسلام السياسي التي يتم وصفها بالإرهاب، ومن هنا كان التبرير الأمريكي لقصف مصنع الشفاء للأدوية بالخرطوم بأنه عمل مشروع لمكافحة الإرهاب، وعزل الدولة الراعية له. ونظراً لأن هذه الحركات الإسلامية تنتشر في العديد من الدول الأفريقية غير العربية مثل: كينيا، ونيجيريا، وجنوب أفريقيا فإن ثمة محاولات حثيثة لترويع هذه الدول من محاولات الاختراق، وزعزعة أمنها من جانب بعض الحكومات والجماعات الأصولية في العالم العربي.

ولعل موقف الولايات المتحدة من الصراع الدائر في جنوب السودان، ودعمها مبادرة إيغاد (IGAD) الأفريقية، وليس المبادرة المصرية الليبية لتسوية الأزمة السودانية لهو من قبيل بث روح الانقسام بين العرب والأفارقة.

التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا:
لقد أسهمت مجموعة من المتغيرات الدولية والإقليمية في توجيه الأنظار الإسرائيلية صوب أفريقيا، ومن ذلك انعقاد مؤتمر باندونغ عام 1955م بغياب إسرائيل، ثم حصول عدد كبير من الدول الأفريقية على استقلالها في الستينيات، وزيادة قدرتها التصويتية في الأمم المتحدة، إضافة إلى إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963م، وتمتع الدول العربية الأفريقية بعضويتها، كل ذلك أفضى إلى هجمة دبلوماسية إسرائيلية على أفريقيا، حتى إنه بحلول عام 1966م كانت إسرائيل تحظى بتمثيل دبلوماسي في كافة الدول الأفريقية جنوب الصحراء، باستثناء كل من الصومال، وموريتانيا.

ومع التغيرات التي شهدها النظام الدولي في أعوام التسعينيات، وسقوط النظم الشعبوية والماركسية اللينينية، والدخول في عملية التسوية السلمية في الشرق الأوسط تسارعت عودة العلاقات الإسرائيلية الأفريقية، حتى إنه في عام 1992م وحده قامت ثماني دول أفريقية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل؛ لتعزيز سياستها الأفريقية بدرجة تفوق طموحاتها خلال عقد الستينيات وأوائل السبعينيات، وبالفعل توجد إسرائيل اليوم في نحو 48 دولة أفريقية.

وأيّاً كان الأمر فإن إسرائيل تسعى في مرحلة ما بعد الحرب الباردة إلى تحقيق أهدافها التوسعية بحسبانها قوة إقليمية، وذلك على حساب النظام الإقليمي العربي.

ثالثاً: التنافس الدولي حول دارفور:
يتألف إقليم دارفور الذي يقع في أقصى غرب السودان من عرقيات وإثنيات عربية وأفريقية متعددة، لعل من أِشهرها: الفور، والزغاوة، والمساليت، والرزيقات. وتمتد جذور بعض هذه الجماعات العرقية إلى دول الجوار، ولا سيما تشاد وأفريقيا الوسطى، وهو ما يضفي على النزاع في الإقليم بُعداً إقليمياً مهماً. وقد تأثر الإقليم الدارفوري بالثقافة الإسلامية منذ زمن بعيد؛ حيث أقيمت المدارس، وتم إرسال الوفود الدراسية للتعلم في الأزهر الشريف، وهو ما يتضح من وجود رواق خاص بهم. وعليه فقد أضفت هذه الثقافة الإسلامية المشتركة بالإضافة إلى عمليات التزاوج بين الجماعات العرقية المختلفة روحاً من التعايش السلمي بين جميع سكان دارفور.

ونظراً لوجود اختلافات في أنماط الحياة بين القبائل البدوية الرُّحل، والتي تنتمي معظمها للأصل العربي، والقبائل الزراعية المستقرة، والتي تنتمي في معظمها للأصل الأفريقي؛ فقد حدثت مناوشات ونزاعات بسبب محاولات السيطرة على مصادر المياه والكلأ. ولعل أشهر هذه المناوشات ما حدث عام 1967م بين عرب الرزيقات وقبائل المعاليه، ولكن تم الاتفاق على تسوية هذه النزاعات وفقاً للآليات التقليدية والأعراف السائدة. على أن موجات التصحر والجفاف كانت تضفي على هذه النزاعات بُعداً خطيراً. غير أن هذه الأوضاع بدأت في التغير إلى الأسوأ نتيجة لانعكاسات الحرب الأهلية في تشاد خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، والتي تربطها مع دارفور علاقات واسعة عبر الحدود المشتركة. ونظراً لمساحة الإقليم الشاسع (يعادل مساحة فرنسا نفسها)، وضعف الحكومات المركزية في الوقت نفسه الذي اشتدت فيه أوزار الحرب في الجنوب، أصبح إقليم دارفور ساحة خلفية لتهريب الأسلحة، والتي استخدمتها القبائل فيما بعد لحسم خلافاتها القبلية. أضف إلى ذلك فإن ميليشيات الجنجويد المسلحة، والتي زعم أن الحكومة السودانية تساندها قد لعبت دوراً رئيساً في مأساة إقليم دارفور.

وأيّاً كان الأمر فإن الإدارة الأمريكية سارعت إلى إدانة ما يحدث في دارفور، باعتبارها كارثة إنسانية. وفي يونيو 2004م أصدر الكونجرس قراراً يصف فيه أزمة دارفور بأنها إبادة جماعية. كما أن وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول) قام بزيارة الإقليم، وأدان حكومة الخرطوم لعدم وفائها بتعهداتها الخاصة بنزع سلاح ميليشيات الجنجويد، ومحاكمة قادتها. وتحركت الإدارة الأمريكية كذلك باتجاه استصدار قرار من مجلس الأمن؛ بغرض فرض عقوبات اقتصادية على السودان.

وبالفعل أصدر مجلس الأمن قراراً في يوليو 2004م أنذر فيه الحكومة السودانية باتخاذ تدابير معينة بموجب المادة (41) من الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة؛ إذا لم تسارع الخرطوم في غضون ثلاثين يوماً بنزع سلاح الجنجويد، وتحسين أوضاع اللاجئين والمشردين.

لكن ماهي دوافع توقيت الحملة الأمريكية تجاه أزمة دارفور؟ نستطيع أن نشير إلى أكثر من اعتبار واحد:
الاعتبار الأول: الخروج من المستنقع الآسيوي (الأفغاني والعراقي)، ومحاولة تضخيم جانب «التدخل الإنساني» في دارفور، وفي هذه الحالة لمصلحة المسلمين؛ حيث أن طرفي الصراع هناك من المسلمين يعني ذلك محاولة «تجميل» السياسة الخارجية الأمريكية، ودرء التهم عنها بأنها في حالة حرب ضد الإرهاب، تستهدف المسلمين في المقام الأول.

الاعتبار الثاني: التدخل في الحالة السودانية عمل مأمون الجانب؛ لأنه سوف يتم من خلال قوات أفريقية وتحت مظلة الاتحاد الأفريقي؛ حيث إن مجلس الأمن والسِلْم الأفريقي التابع له يسمح بالتدخل لحفظ السلم، وإيقاف جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة قد أقرت منذ عام 1997م بالتزاماتها اللوجستية لدعم وتدريب قوات حفظ سلام أفريقية، وهو مايمكن تطبيقه في الحالة السودانية.

الاعتبار الثالث: يرتبط بالصراع على النفوذ بين الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية الكبرى، ولا سيما فرنسا. إذ تبدو رائحة البترول في غرب السودان قوية، ومواجهة النفوذ الفرنسي التقليدي في تشاد ومنطقة الفرنكفون المجاورة. فهل يشهد سيناريو التدويل للأزمة في دارفور توقيع اتفاق فاشودة آخر على غرار الاتفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا عام 1904م لتقسيم المصالح، والنفوذ في الشمال الأفريقي؟ لكن هذه المرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.

الصراع من أجل السيطرة على النفط في السودان:
في عام 1980م حصلت فرنسا على حق التنقيب على النفط، وإنتاجه في مساحة تبلغ (120.000) كم2 بين ملكال وبور. وقد أظهرت تقديرات المهندسين الفرنسيين أن المنطقة المستهدفة تمتلك مخزوناً ضخماً من النفط. ويعتقد أن السودان تملك أكبر احتياطات غير مستغلة من النفط في أفريقيا وأوروبا تفوق تلك الموجودة في خليج غينيا. ويُشكّل النفط نحو (70%) من إجمالي الناتج المحلي في السودان. ومع ذلك فقد اضطرت فرنسا في عام 1985م إلى تعليق عملياتها في التنقيب عن النفط في السودان؛ وذلك تحت وطأة الحرب في جنوب السودان. وقد احتفظت فرنسا بعلاقات وثيقة مع نظام الحكم في الخرطوم؛ حيث وفّرت له الدعم اللوجستي والعسكري.

وبالمقابل فإن الولايات المتحدة وفي إطار سياستها الرامية إلى عزل نظام الإنقاذ قدمت العون والدعم لجماعات التمرد السودانية في كل من أوغندا، وإريتريا، وإثيوبيا. وحاولت الإدارة الأمريكية جاهدة منع الشركات غير الأمريكية من استغلال النفط السوداني، فمارست ضغوطاً على شركة تاكسمان الكندية، حتى إنها تواجه تُهماً جنائية بالمشاركة في أعمال التطهير العراقي أمام أحد المحاكم الأمريكية.

وإزاء العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على السودان عام 1997م، أصبح المجال واسعاً أمام الصين، وبعض القوى الآسيوية الأخرى للاستثمار في مجال النفط السوداني. لقد أضحت الصين تستورد نحو (6%) من إجمالي احتياجاتها النفطية من السودان. وتمتلك شركة البترول الوطنية الصينية نحو (40%) من أسهم شركة بترول أعالي النيل، والتي تسيطر على اثنين من أهم حقول البترول في ولاية أعالي النيل.

رابعاً: ما العمل؟ (مستقبل أفريقيا في عصر الهيمنة الأمريكية):
يرى المفكر الافريقي الأبرز (علي مزروعي) أن تاريخ العولمة مرتبط بنهب واستغلال ثروات أفريقية. وعليه فإن الأفارقة مطالبون باتخاذ الإجراءات التالية لمواجهة ظاهرة تغوّل العولمة، ومقاومة تهميش القارة الأفريقية:
• إقامة ودعم المؤسسات الأفريقية بما يعزز من عملية التكامل الإقليمي؛ وذلك بهدف تحقيق الاعتماد الجماعي على الذات.

• تشجيع التوجهات الوطنية نحو تحقيق الديموقراطية بما تعنيه من سيادة قيم الشفافية والمساءلة.

• إقامة تحالف دولي جديد؛ بهدف دعم جهود التنمية الأفريقية؛ بحيث يضم دولاً مانحة، مثل: اليابان وتايوان، والصين وكوريا الجنوبية. ويمكن للمجتمع الدولي أن يساهم في توفير الدعم اللازم لتحقيق النهضة الأفريقية. وغني عن البيان في هذا السياق أن (النيباد) تمثّل خطوة مهمة في إمكانية بناء هذا التحالف الدولي.

خلاصة القول:
فإنه يتضح مما سبق أنه مع انتهاء الحرب الباردة ساد منطق التنافس الدولي على القارة الأفريقية مرة أخرى بين الأقطاب الرئيسة للنظام الدولي (الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان، والصين)؛ وذلك بهدف استغلال ثروات وموارد القارة الطبيعية. وإذا كانت الدراسة تشير إلى حقيقة التنافس بين الولايات المتحدة وبعض القوى الأوروبية، ولا سيما فرنسا على اكتساب مناطق النفوذ، والسيطرة في أفريقيا؛ فإن واقع الأمر يشير إلى حدوث نوع من التفاهم بين هذه القوى، كما يتضح من التعاون الفرنسي الأمريكي في مجال محاربة الإرهاب في أفريقيا.

وعليه فإنه لا سبيل أمام أفريقيا لمواجهة عمليات التهميش، والهيمنة التي تمارس ضدها من جانب قوى العولمة الجديدة سوى تكريس سياسات الاعتماد الجماعي على الذات، ودعم مؤسسات الاتحاد الأفريقي بما يحقق في نهاية المطاف شروط النهضة الأفريقية. عندئذ يتحول الوهن الأفريقي إلى قوة فاعلة في النظام الدولي!

Link to comment
Share on other sites

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

Guest
Reply to this topic...

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

Loading...
 Share

×
×
  • Create New...