اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

مقدمة في إعجاز القرآن


Recommended Posts

مقدمة في إعجاز القرآن

 

وكتابُ اللهِ هوَ الدليلُ السَّاطعُ والبُرهانُ القَاطعُ على صِدقِ رِسالةِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، وبالتالي الدليلُ على صدقِ الإسلام، رسالةِ اللهِ الخاتمةِ للبشرِ كافةً، أنزلها على قلبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ...كتاباً ساطعاً تبيانُهُ، قاطعاً بُرهانُهُ، وَحْياً ناطقًاَ ببيّناتٍ وحُجَجٍ،، قرآناً عربياً غيَر ذي عوجٍ، اختصَّ رسولَ الله بالتدليلِ على صدقِ رسالتهِ باصطفائه سلام الله عليه من بين قوم أولي بلاغةٍ وفصاحةٍ ، من شُعراءَ مُفَلِّقينَ وخُطباءَ مَصَاقِعَ وأُدباءَ مَطْبوعينَ، وكُتّابٍ بارعينَ، عَلَتْ هممهُم في قول الشعرِ، على منهاج الرجزِ والهزجِ والقريضِ والمقبوضِ والمبسوطِ ، يحمِّسون به مقاتليهم، ويفتخرون به، يُعلِي أقوامًا مَدَحَهُم، ويخفض أقوامًا هجاهم، يدوّنون به أيامهم وأمجادهم، ويغازلون به، ويذكرونَ فضائِلَهم، ويتنافسون في أنديتهم وأسواقهم أيُّهم أشْعَرُ، ويعلقون على جدران الكعبة أفضل ما جادت به أنفاس شعرائهم،

وارتفعت عزيمتهم في النثر، يقولونه على منهاج النثر الـمُرسَلِ، أو على منهاج النثر المزدَوَجِ أو النثر المسْجوعِ، يبلّغون فيه السامعَ أرقى المعاني بأقلّ الألفاظ، وأدقّها تعبيرًا عن المعنى، يسبكونها في قوالبَ كأنها الماءُ يترقرقُ عُذُوبَةً يُعتَصَرُ من قلب الغيوم، تجود به قرائحُ الخطباءِ والأدباءِ، فخاطبَهم بكتابِهِ المعجز، فما منهم من واحد إلا أعجَزَهُ وأذله وحيَّرهُ في أمرهِ وأَعَلَّهُ.

أَفْحَمَ بهِ من طُولِبَ بمعارضته من العرب العرباء، وأَبْكَمَ به من تحدى به من مصاقع الخطباء، فلم يَتصدَّ للإتيان بما يوازيه أو يدانيهِ واحدٌ من فُصَحائهم، ولم يَنْهَضْ لمقدار أقصر سورة منه ناهضٌ من بلغائهم،، حتى ولا تقليداً له ومحاكاةً لأسلوبه، علاوة على أن يكون نظمًا ابتداءً على شاكلته، يقارع الحجة بالحجة، والنظام بالنظام، والبيان بالبيان، والهدى بأعلى منه!

على أنهم كانوا أكثر من حصى البطحاء ،، فلم يكن الشعراءُ والأدباءُ فيهم قِلَّة،، وعلى الرغم من أنهم اشتهروا بالافراطِ في فنونِ مخالفة قول الخصم، والرد عليه بأبلغ مما قال، لا ينامون على تحدٍّ قَبْلَ أن يجتهدوا في ردِّه ودفعه،

إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخرَ وإن رماهم بمأثرة رمَوهُ بمآثرَ،، وقد جرّدَ لهمُ الحجةَ أولاً،، والسيفَ آخِراً فلم يُعارِضوا إلا السيفَ وحدَهُ .

على أن السيفَ القاضبَ مِخْراقٌ لاعبٌ إن لم تُمضِ الحُجَّةُ حدَّه ،، فما أعرضوا عن مُعارضةِ الحُجَّةِ إلا لعلمهم أن البحرَ قد زَخَرَ فَطَمَّ على الكواكب وأن الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب .

وقد أودَعَ اللهُ سبحانَهُ ألفاظَ هذا الكتابِ العزيزِ مِنْ ضُروبِ الفَصَاحَةِ وأجْناسِ البلاغةِ وأنواعِ الجزالةِ، وفنونِ البيانِ، وغوامضِ اللسانِ، وحُسْنِ التَرتيبِ والترَكيبِ، وعجيبِ السَّردِ وغَريبِ الأسلوبِ، وعُذوبةِ المسَاغِ، وحُسنِ البَلاغِ، وبهجَةِ الرَّوْنَقِ وطَلاوَةِ المنطقِ، وصحةِ الشريعةِ والمنهاجِ، ودقةِ النظامِ، وصدقِ الاعتقادِ، وقوةِ الحجةِ، وشمولِ الأوامرِ والنواهي، وإحقاقِ الحقِ، وإقامةِ العدل، وإكمالِ محاسنِ الأخلاقِ، ما أذْهَلَ عُقولَ العُقَلاءِ، وأخْرَسَ ألسِنَةَ الخُطَباءِ، وألغَى بَلاغَةَ البُلَغاءِ، فعلمُوا أن مُعَارَضَتَهُ مما ليس في مقدورهِم ولا وُسْعِهم.

قال تعالى ﴿الّر، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِليكَ، لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ، بإِذْنِ رَبِّهمْ، إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة، ولا تكون حجة إن لم تكن معجزة .

هذا الكتاب العظيم، لا تجد فيه إلا الارتفاعَ الشامخَ، والعلوَّ الشاهقَ، بياناً، وتبياناً، اختلطت فيه المعجزةُ (البيانُ) بالهدى (التبيان )، والهدى بالمعجزةِ، فأمَّا بيانًا فبما اتَّصَفَ به أُسْلوبُهُ من الوُضُوحِ والقُوَّةِ والجمَالِ، إذ جاءَ القرآنُ بنَظْمٍ فَنِّيٍّ فَريدٍ، حَمَلَ أرقى المعاني على راحِلَةِ أرقى الألفاظِ، فكانت العربيةُ خيَر وعاءٍ لأدقِّ مفاهيم،

وأما تبياناً، فهو كتابُ هدىً ونور، بَيَّنَ للناس ما به صلاح معاشهم، وآخرتهم، ليُخرجَهُم من جَورِ الأديانِ إلى عَدلِ الإسلام، ومن ضيقِ الدُّنيا إلى سَعَةِ الدُّنيا والآخرةِ، ومن ظُلماتِ الجاهليةِ، إلى نورِ اليقينِ والهدايةِ،

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذي يُرِيكُمْ آياتِهِ﴾ فَأَمَرَ بالنَّظَرِ في آياتِهِ وبراهينِهِ، إلى أن قال: ﴿رَفِيعُ الَّدرَجاتِ، ذُو الْعَرْشِ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أمرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبادِه، ليُنْذِرَ يَومَ التَّلاقِ﴾، فجعل القرآن والوحي به كالروح، يملأ القلوب بِشراً ويبعث القرائح عَبيراً ونَشْراً، يحيي القلوب بأوْرادِه، ولهذا سماه الله روحاً، فسماه روحاً لأنه يؤدي إلى حياة الأبد ولولا الروح لمات الجسد فجعل هذا الروح سَبَبا للاقتدار وعَلَماً للاعتبار وسبباً للانذار، وعَلَماً عليه، وطريقاً إليه .

كلما تأملتَ آية من كتاب الله وَمَضَ بريقُ معنىً جديد، واستطعت أن تنزلها على واقع جديد بنحو فريد، وكلما قرأتَ سُوَرَهُ ازددتَ شوقاً لقراءةِ المزيدِ، على العكسِ مما يكتبُهُ الخلقُ تملُّهُ الأنفُسُ بعدَ حين، لم يَهْبِطِ القرآنُ بَيانًا ولا سَفَّ أُسلوبًا، ولا والله ما انخفض عن شاهق قمته ولا بحرف واحد من حروفه، وإنك لن تستطيع أن تستبدل بكلمة واحدة من كلماته نظائرها من العربية دون أن تنحدر بالمعنى وتنخفض،

﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لّمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لاَّ يَأَتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾. كتابٌ يخلو من أي تناقض، رغم أنه يَتَناوَلُ قَضَايا تَعَلَّقَتْ بكافَّةِ شُئونِ الحَياةِ، تحدَّثَ عن الإنسان والكونِ والحياةِ، وما قبلها وما بعدها، وفَصَّلَ في تشريعاتٍ تخصُّ الإنسان في الاقتصادِ والسياسةِ، والاجتماعِ والحكمِ، والأخلاقِ والعباداتِ، والمعاملاتِ، والعقوباتِ، وتناولَ قَضَايا تتكلمُ عن الطبيعةِ، كالجبالِ، وحتى مراحل تكون الأجنة في أرحام الأمهات، ولم يحصل تناقضٌ واحدٌ، بين ما وَصَفَهُ وما هو عليه في الحقيقة، ويخلو من أي كذب، فيه من تاريخ الأقدمين وسِيَرِهم الأخبار الكثيرة، وهو في هذا كله وغيره: ﴿لاَّ يَأَتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾.

 

صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

أما المعجزة: فلغة: اسم فاعل مأخوذ من العجز: نقيض الحزم، ومقابل القدرة، والعجز: الضعف، وعجَّزَ فلان رأي فلان: إذا نسبه إلى خلاف الحزم، والـمَعْجَزَةُ: مفعلة من العجز: عدم القدرة، وأعجزه الشيء: عجز عنه، ومعنى الإعجاز: الفوتُ والسبق، يقال: أعجزني فلان: أي فاتني، وقال الليث: أعجزني فلان: إذا عجزت عن طلبه وإدراكه .

الإعجاز: إِفعال من العَجْز الَّذى هو زوال القدرة عن الإِتيان بالشيء من عمل أَو رأْي أَو تدبير

وفي القاموس: معجزة النبي ما أعجز به الخصم عند التحدي، والْـهَاءُ للمبالغة .

فمعنى العجز والإعجاز إذن يدور بين: الضعف وعدم القدرة، والفَوت، والقصور عن طلب الشيء أو إدراكه.

أما اصطلاحا: فقد عُرِّفت المعجزة بأنها: "فعلٌ خارق للعادة مقترن بالتحدي، سليم عن المعارضة"

والمعجزة، علاوة على أنها دليل من الله تعالى على صدق مدعي النبوة فيما ادعاه، فيجري الله تعالى على يديه ما يخرق به العادة وسنن الكون، فتكون علامة على صدق المنهج الذي أتى به النبي للبشر ليهديهم إلى ربهم، وإلى دين ربهم الحق، علاوة على ذلك كله، فهي علامة من الله تعالى تدل على أولئك النفر من الخلق الذين استحقوا شرف أن يكونوا رسل الله وأنبياءه، فهم صفوة الخلق، انتخبهم رب العالمين واصطفاهم من بين جميع الخلائق ليحملوا شرف إبلاغ هذه الرسالة للناس، فكانت المعجزة علامة للخلق تدلهم على هؤلاء النفر، ليقدروهم حق قدرهم.

 

صفحة :

إعجاز القرآن الكريم - فأتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثلِهِ Miracles Of The Quran

رابط هذا التعليق
شارك

وقد قال العلامة ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: فصل قمة التدبر:

قرأت من غرائب العلم، وعجائب الحكم، على بعض من يدعي العلم، فرأيته يتلوى من سماع ذلك، ولا يطلع على غوره، ولا يشرئب إلى ما يأتي، فصرفت عن إسماعه شيئاً آخر وقلت: إنما يصلح مثل هذا لذي لب يتلقاه تلقي العطشان الماء. ثم أخذت من هذه إشارة هي إنه لو كان هذا يفهم ما جرى ومدحني لحسن ما صنعت لعظم قدره عندي، ولأريته محاسن مجموعاتي وكلامي. ولكن...ي لما لم أره لها أهلاً صرفتها عنه، وصدفت بنظري إليه. وكانت الإشارة: أن الله عز وجل، قد صنف هذه المخلوقات فأحسن التركيب، وأحكم الترتيب ثم عرضها على الألباب، فأي لب أوغل في النظر مدح على قدر فهمه فأحبه المصنف، وكذلك أنزل القرآن يحتوي على عجائب الحكم، فمن فتشه بيد الفهم، وحادثه في خلوة الفكر، استجلب رضى المتكلم به وحظى بالزلفى لديه، ومن كان للذهن مستغرق الفهم بالحسيات، صرف عن ذلك المقام. قال الله عز وجل: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الذِينَ يَتَكَبَّرونَ في الأرض بِغَيْرِ الْحَقَّ﴾ .

 

صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

سؤال : كلمة اعجاز كم مرة ذكرت في القرآن حتى نستطلحها ؟

 

جواب 1 :

إعجاز القرآن الكريم - فأتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثلِهِ Miracles Of The Quran هذه الكلمة (إعجاز) لم ترد بنفسها في القرآن الكريم، ورد منها اسم الفاعل بنفي أن يكون الكافرين معجزين لله وليس بمعنى إعجاز القرآن، ولكن الذي ورد هو التحدي بالإتيان بمثل القرآن، وبحديث مثله، وبعشر سور، وبسورة مثله أو من مثله، وأخبر القرآن عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن. أما كلمة (إعجاز) فهي مصدر للفعل المزيد بالهمزة (أعْجَزَ)، والذي يتصف بهذا المصدر (الإعجاز) يكون معجزا، ووصف المعجِزِ منه يوصف بأنه (معجزة). والمعجزة مصطلح عقدي، تطلق على ما يعطيه الله سبحانه للرسول إثباتاً لنبوته، فكان القرآن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة إلى يوم القيامة، والقرآن استخدم كلمة (آية) وآيات للدلالة على الدليل على وجود الله تعالى، وإما لإثبات نبوة أي رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام.

 

جواب 2:

إعجاز القرآن الكريم - فأتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثلِهِ Miracles Of The Quran لفظة "إعجاز" لم ترد في كتاب الله عز وجل

ما ورد تصاريف لفظة "عجز" وهي :

 

مُعْجِزِي اللَّهِ: التوبة/2 /3 (2)

نُعْجِزَ اللَّهَ: الجن/12 (1)

مُعْجِزِينَ فِي: هود/20 النور/57 (2)

بِمُعْجِزِينَ فِي: الشورى/31 العنكبوت/22 (2)

بِمُعْجِزٍ فِي: الأحقاف/32 (1)

عَجُوزًا فِي: الشعراء/171 الصافات/135 (2)

مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ: هود/20 النور/57 (2)

بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ: العنكبوت/22 الشورى/31 (2)

بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ: الأحقاف/32 (1)

مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا: هود/20 (1)

بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا: الشورى/31 (1)

 

من كتاب المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم .

 

---------------

أدمن إبراهيم

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

 

القرآن العظيم تحدى الناس أجمعين أن يأتوا بـ(مثله) والمثلية هنا مطلقة لا في شيء دون شيء ولا في جانب دون جانب..

 

والمقصود أن يأتوا بمثله في التراكيب والأساليب مع صحة المعاني ودقتها في وفائها بالمطلوب وإشباع النفس بما تريد الآيات بيانه بحيث لا تطلب مزيد بيان..

 

فالقرآن العظيم كله حق فهو غاية في دقة التراكيب وسلامة الأساليب بحيث تعبر عما تريد بدقة مطلقة مع المصداقية المطلقة..

 

هذا في الوقت الذي تؤثر فيه في النفس فتتفاعل معها فرحاً وحزناً وحباً وبغضاً..

 

ولم يكن هذا -مع تقصيرنا في بيانه- إلا في القرآن العظيم..

رابط هذا التعليق
شارك

كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة ( بيان بلاغة آية )

 

 

 

منقول من كتاب

وحي القلم

للأستاذ والمفكر الإسلامي الكبير

مصطفى صادق الرافعي

 

 

 

كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة

 

تلقيت كتابًا هذه نسخته:

أكتب إليك متعجلًا بعد أن قرأت "كلمة كافرة" في "كوكب الشرق" الصادر مساء الجمعة 27 من أكتوبر؛ كتبها متصدر من نوع قولهم : حبذا الإمارة ولو على الحجارة ... وسمى نفسه "السيد، فإن صدق فيما كتب صدق في هذه التسمية.طعن القرآن وكفر بفصاحته، وفضل على آية من كلام الله جملة من أوضاع العرب، فعقد فصله بعنوان "العثرات" على ذلك التفضيل، كأنَّ الآية عثرة من عثرات الكتاب يصححها ويقول فيها قوله في غلط الجرائد والناشئين في الكتابة؛ وبرقع وجهه وجبن أن يستعلن، فأعلن بزندقته أنه حديث في الضلالة.

 

غلى الدم في رأسي حين رأيت الكاتب يلج في تفضيل قول العرب: "القتل أنفى للقتل" على قول الله -تعالى- في كتابه الحكيم: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، فذكرت هذه الآية القائلة: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} وهذه الآية: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} ثم هممت بالكتابة فاعترضني ذكرك، فألقيت القلم؛ لأتناوله بعد ذلك وأكتب به إليك.

 

ففي عنقك أمانة المسلمين جميعًا لتكتبن في الرد على هذه الكلمة الكافرة لإظهار وجه الإعجاز في الآية الكريمة، وأين يكون موقع الكلمة الجاهلية منها؛ فإن هذه زندقة إن تركت تأخذ مأخذها في الناس؛ جعلت البر فاجرًا، وزادت الفاجر فجورًا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} .

 

1- البلاغ. نوفمبر سنة 1923، وانظر ص172-174 "حياة الرافعي".

 

واعلم أنه لا عذر لك. أقولها مخلصًا، يمليها على الحق الذي أعلم إيمانك به، وتفانيك في إقراره والمدافعة عنه والذود عن آياته؛ ثم اعلم أنك ملجأ يعتصم به المؤمنون حين تناوشهم ذئاب الزندقة الأدبية التي جعلت همها أن تلغ ولوغها في البيان القرآني.

 

ولست أزيدك، فإن موقفي هذا موقف المطالب بحقه وحق أصحابه من المؤمنين وأذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سئل علمًا فكتمه جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار" أو كما قال..

 

والسلام عليكم ورحمة الله.

 

م.م.ش

 

 

 

قرأت هذا الكتاب فاقشعر جسمي لوعيد النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلت أردد الحديث الشريف أستكثر منه وأملأ نفسي بمعانيه، وإنه ليكثر فيَّ كل مرة، فإذا هو أبلغ تهكم بالعلماء المتجاهلين، والجهلاء المتعالمين؛ وإذا هو يؤخذ من ظاهره أن العالم الذي يكتم علمه النافع عن الناس يجيء يوم القيامة ملجمًا، ويؤخذ من باطنه أن الجاهل الذي يبث جهله الضار في الناس يجيء يوم القيامة ملجمًا مبرذعًا.. أي: فهذا وهذا كلاهما من حمير جهنم!

 

والتمست عدد "الكوكب" الذي فيه المقال وقرأته، ولم أكن أصدق أن في العالم أديبا مميزًا يضع نفسه هذا الموضع من التصفح على كلام الله وأساء الأدب في وضع آية منه بين عثرات الكتاب، فضلًا عن أن يسمو لتفضيل كلمة من كلام العرب على الآية، فضلًا عن أن يلج في هذا التفضيل، فضلًا عن أن يتهوس في هذه اللجاجة؛ ولكن هذا قد كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

 

ولعمري وعمر أبيك أيها القارئ، لو أن كاتبًا ذهب فأكل فخلط فتضلع فنام فاستثقل فحلم.. أنه يتكلم في تفضيل كلمة العرب على تلك الآية، واجتهد جهده، وهو نائم ذاهب الوعي فلم يأل تخريفًا واستطالة، وأخذ عقله الباطن يكنس دماغه ويخرج منه "الزبالة العقلية" ليلقيها في طريق النسيان أو في طريق الشيطان -لما جاء في شأوه بأسخف ولا أبرد من مقالة "السيد" فسواء أوقع هذا التفضيل من جهة الهذيان والتخريف كما فعل كاتب النوم، أم وقع من جهة الخلط والحبط ما فعل كاتب الكوكب -فهذا من هذا، طباق سخافة بسخافة..

 

نعم إن مقالة الكوكب أفضل من مقالة الكاتب الحالم... ولكن قليل الزيت في الزجاجة التي أهديت لجحا لا يعد زيتًا ما دام هذا القليل يطفو على ملء الزجاجة من.. من البول!

 

ولقد تنبأ القاضي الباقلاني قبل مئات السنين بمقالة الكوكب هذه فأسفلها الرد بقوله: "فإن اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ أو مرمدٍ فصاحة القرآن وموقع بلاغته وعجيب براعته فما عليك منه، إنما يخبر عن نفسه، ويدل على عجزه، ويبين عن جهله، ويصرح بسخافة فهمه وركاكة عقله" ما علينا...

 

يقول كاتب الكوكب بالنص : قالت العرب قديمًا في معنى القصاص: "القتل أنفى للقتل"، ثم أقبل القرآن الكريم على آثار العرب "هكذا" فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وقد مضت سنة العلماء من أساطين البيان أن يعقدوا الموازنة بين مقالة العرب هذه وبين الآية الحكيمة أيتهما أشبه بالفصاحة "هكذا"، ثم يخلصون منها إلى تقديم الآية والبيان القرآني... ثم قال: من رأي كاتب هذه الكلمة تقديم الكلمة العربية على الآية الغراء، "اللهم غفرًا" على ثلج الصدر بإعجاز القرآن "كلمة للوقاية من النيابة... وإلا فماذا بقي من الإعجاز وقد عجزت الآية؟ زِه زِه يا رجل..."

 

ثم قال: إن فيم تقدم به الكلمة العربية على الآية الحكيمة -"اللهم غفرًا"- مزايا ثلاثًا: أولى هذه المزايا الثلاث، هذا الإيجاز الساحر فيها؛ ذلك أن: "ألقتل أنفى للقتل" ثلاث كلمات لا أكثر، أما الآية فإنها سبع كلمات "كذا"، وعلى تلك فهي أقدم عهدًا وأسبق ميلادًا من آية التنزيل "تأمل" حاشا كلام الله القديم، والإيجاز ميزة أية ميزة؛ الميزة الثانية للكلمة الاستقلال الكتابي وقد التعاقد بينها وبين شيء آخر سابق عليها، حتى أن المتمثل بها المستشهد يبتدئ بها حديثًا مستتمًا ويختتمه في غير مزيد ولا فضل، فلا يتوقف ولا يستعين بغيرها، أما الآية فإنها منسوقة مع ما قبلها بالواو، فهي متعاقدة مترابطة معه، لا يتمثل بها المتمثل حتى يستعين بشيء سواها، وليس الذي يعتمد على غيره فلا يستقل كالذي يعتمد على نفسه فيستقل؛ الميزة الثالثة أن الكلمة ليست متصلة في آخرتها بفضل من القول تغني عنه، على حين تتصل بالآية بما تغني عنه من القول. ويعتد كالفضل وهو كلمتا {يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} و{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وإن كان لا زيادة في القرآن ولا فضول.

 

ثم قال: إن مدرسًا جاء بالفصل الذي عقده الإمام السيوطي في كتابه "الإتقان" لتفضيل الآية على الكلمة وفيه قرابة خمسة وعشرين حُجة؛ قال: إنها انحطت بعد أن رماها بنظره العالي إلى أربع: "أما الباقيات فمن نسج الانتحال والتزيد"، قال: وأولاها أن الآية أوجز لفظًا، والكاتب يرى الآية: "سبع كلمات في تحديد ودقة"، قال: إذا لقد بطلت حجة الإيجاز في الآية "اللهم غفرًا"، قال: والثانية: "أن في الكلمة العربية تكرارًا لكلمة القتل سلمت الآية منه، ورد الكاتب أن هذا التكرار: "يتحلل طلاوة ويقطر رقة، "قال": وهذا فمي فيه طعم العسل، "قلنا: وعليه الذباب يا سيدنا..." والثالثة: أن في الآية ذكرًا للقصاص بلفظه على حين لا تذكر الكلمة إلا القتل وحده، وليس كل قتل قصاصًا؛ ودفع الكاتب هذا بأن الكلمة انطوت على قتلين أحدهما ينفي صاحبه، فذاك هو القصاص؛ قال: "إذن فالكلمة والآية في قصد القصاص يلتقيان فرسي رهان"؛ والرابعة: أن القصاص في الآية أعم يشمل القتل وغيره. وأقر الكاتب أن للآية فضلًا على الكلمة من هذه الناحية، ولكن الكلمة حكمة لا شريعة، وهي من قضاء الجاهلية، فليس عليها أن تبين ما لم يعرفه العرب ولم يخلق بعد، قال: "إذن فليست الكلمة مقصرة عن بيان، متبلدة عن إحسان".

 

هذا كل مقاله بحروفه بعد تخليصه من الركاكة والحشو وما لا طائل تحته، ونحن نستغفر الله ونستعينه ونقول قولنا، ولكنا نقدم بين يدي ذلك مسألة، فمن أين للكاتب أن كلمة: "القتل أنفى للقتل" مما صحت نسبته إلى عرب الجاهلية، وكيف له أن يثبت إسنادها إليهم وأن يوثق هذا الإسناد حتى يستقيم قوله: إن القرآن أقبل على آثار العرب؟...

 

أنا أقرر أن هذه الكلمة مولدة وضعت بعد نزول القرآن الكريم وأخذت من الآية، والتوليد بيِّن فيها، وأثر الصنعة ظاهر عليها؛ فعلى الكاتب أن يدفع هذا بما يثبت أنها مما صح نقله عن الجاهلية؛ ولقد جاء أبو تمام بأبدع وأبلغ من هذه الكلمة في قوله:

 

وأخافكم كي تغمدوا أسياف كمإن الدم المغبر يحرسه الدم

 

"الدم يحرسه الدم" هذه هي الصناعة وهذه هي البلاغة لا تلك، ومع هذا فكلمة الشاعر مولدة من الآية، يدل عليها البيت كله؛ وكأن أبا تمام لم يكن سمع

 

 

قولهم: "القتل أنفى للقتل"، وأنا مستيقن أن الكلمة لم تكن وضعت إلى يومئذ*.

 

ولو أن متمثلًا أراد أن يتمثل بقول أبي تمام فانتزع منه هذا المثل الدم يحرسه الدم"، أيكون حتمًا من الحتم أن يقال له: كلا يا هذا فإن البيت سبع كلمات فلا يصح انتزاع المثل منه ولا بد من قراءة البيت بمصراعيه كما يقول كاتب الكوكب في الآية الكريمة ليزعم أنها لا تقابل الكلمة العربية في الإيجاز؟

 

إن الذي في معاني الآية القرآنية مما ينظر إلى معنى قولهم القتل أنفى للقتل كلمتان ليس غير، وهما "القصاص، حياة"؛ والمقابلة في المعاني المتمثلة إنما تكون بالألفاظ التي تؤدي هذه المعاني دون ما تعلقت به أو تعلق بها مما يصل المعنى بغيره أو يصل غيره به؛ إذ الموازنة بين معنيين لا تكون إلا في صناعة تركيبهما، ويخيل إلي أن الكاتب يريد أن يقول إن في باقي الآية الكريمة لغو وحشو، فهو حميلة على الكلمتين: القصاص حياة، يريد أن يقولها، ولكنه غص بها، وإلا فلماذا يلج في أنه لا بد في التمثل، أي لا بد في المقابلة، من رد الآية بألفاظها جميعًا؟

 

فإذا قيل: إنه لا يجوز أن يتغير الإعراب في الآية، ويجب أن يكون المثل منتزعًا منها على التلاوة، قلنا: فإن ما يقابل الكلمة منها حينئذ هو هذا، "في القصاص حياة"، وجملتها اثنا عشر حرفًا، مع أن الكلمة أربعة عشر، فالإيجاز عند المقابلة هو في الآية دون الكلمة.

 

وأما قوله تعالى: {أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، لو كان الكاتب من أولي الألباب لفهمها وعرف موقعها وحكمتها، وأن إعجاز الآية لا يتم إلا بها، إذ أريد أن تكون معجزة زمنية كما سنشير إليه، ولكن أني له وهو من الفن البياني على هذا البعد السحيق، لا يعلم أن آيات القرآن الكريم كالزمن في نسقها: ما فيه من شيء يظهره إلا ومن ورائه سر يحققه.

 

ثم إن الإيجاز في الكلمة العربية ليس من "الإيجاز الساحر" كما يصفه الكاتب، بل هو عندنا من الإيجاز الساقط؛ وليس من قبيل إيجاز الآية الكريمة ولا يتعلق به فضلًا عن أن يشبهه؛ إذ لا بد في فهم صيغة التفضيل من تقدير المفضل عليه، فيكون المعنى "القتل أكثر نفيًا للقتل من كذا"، فما هو هذا "الكذا" أيها الكاتب المتعثر؟

 

أليس تصور معنى العبارة وإحضاره في الذهن قد أسقطها ونزل بها إلى الكلام السوقي المبتذل وأوقع فيها الاختلال؟ وهل كانت إلا صناعة شعرية خيالية ملفقة كما أومأنا إلى ذلك آنفًا، حتى إذا أجريتها على منهجها من العربية رأيتها في طريقة هذا الكلام العربي الأمريكاني كقول القائل: "الفرح أعظم من الترح"، "الحياة هي التي تعطى للحياة"...؟

 

بهذا الرد الموجز بطلت الميزات الثلاث التي زعمها الكاتب لتلك الكلمة، وإن الكلمة نفسها لتبرأ إلى الله من أن تكون لها على الآية ميزة واحدة فضلًا عن ثلاثة.

 

ولنفرض "فرضًا" أن الكلمة وثيقة الإسناد إلى عرب الجاهلية وأنها من بيانهم، فما الذي فيها؟

 

1- إنها تشبه قول من يقول لك: إن قتلت خصمك لم يقتلك. وهل هذا إلا هذا؟

 

وهل هو إلا بلاغة من الهذيان؟

 

2- إنها تشبه أن تكون لغة قاطع طريق عارم يتوثب على الحلال والحرام لا يخرج لشأنه إلا مقررًا في نفسه أنه إما قاتل أو مقتول، ولذلك تكرر فيها القتل على طرفيها، فهو من أشنع التكرار وأفظعه.

 

3- إن فيها الجهل والظلم والهمجية، إذ كان من شأن العرب ألا تسلم القبيلة العزيزة قاتلًا منها، بل تحميه وتمنعه، فتنقلب القبيلة كلها قاتلة بهذه العصبية؛ فمن ثم لا ينفي عار القتل عن قبيلة المقتول إلا الحرب والاستئصال قتلًا قتلًا وأكل الحياة للحياة، فهذا من معاني الكلمة: أي القتل أنفى لعار القتل، فلا قصاص ولا قضاء كما يزعم الكاتب.

 

4- إن القتل في هذه الكلمة لا يمكن أن يخصص بمعنى القصاص إلا إذا خصصته الآية فيجيء مقترنًا بها، فهو مفتقر إليها في هذا المعنى، وهي تلبسه الإنسانية كما ترى، ولن يدخله العقل إلا من معانيها؛ وهذا وحده إعجاز في الآية وعجز من الكلمة.

 

وقبل أن نبين وجوه الإعجاز في الآية الكريمة ونستخرج أسرارها، نقول لهذا الطفيلي: إنه ليس كل من استطاع أن يطيِّر في الجو ورقةً في قصبة في خيط جاز له أن يقول في تفضيل ورقته على منطاد زبلين، وأن فيما تتقدم به على المنطاد الكريم ميزات ثلاثًا: الذيل، والورق الملون، والخيط...

 

 

يقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} .

 

1- بدأ الآية بقوله {وَلَكُمْ} ، وهذا قيد يجعل هذه الآية خاصة بالإنسانية المؤمنة التي تطلب كمالها في الإيمان، وتلتمس في كمالها نظام النفس، وتقرر نظام النفس بنظام الحياة؛ فإذا لم يكن هذا متحققًا في الناس فلا حياة في القصاص، بل تصلح حينئذ كلمة الهمجية: القتل أنفى للقتل، أي اقتلوا أعداءكم ولا تدعوا منهم أحدًا، فهذا هو الذي يبقيكم أحياء وينفي عنكم القتل؛ فالآية الكريمة بدلالة كلمتها الأولى موجهة إلى الإنسانية العالية، لتوجه هذه الإنسانية في بعض معانيها إلى حقيقة من حقائق الحياة.

 

2- قال: {فِي الْقِصَاصِ} ولم يقل في القتل، فقيده بهذه الصيغة التي تدل على أنه جزاء ومؤاخذة، فلا يمكن أن يكون منه المبادأة بالعدوان، ولا أن يكون منه ما يخرج عن قدر المجازاة قل أو كثر.

 

3- تفيد هذه الكلمة "القصاص" بصيغتها "صيغة المفاعلة" ما يشعر بوجوب التحقيق وتمكين القاتل من المنازعة والدفاع، وألا يكون قصاص إلا باستحقاق وعدل؛ ولذا لم يأت بالكلمة من اقتص مع أنها أكثر استعمالًا؛ لأن الاقتصاص شريعة الفرد، والقصاص شريعة المجتمع.

 

4- من إعجاز لفظة القصاص هذه أن الله -تعالى- سمى بها قتل القاتل، فلم يسمه قتلًا كما فعلت الكلمة العربية؛ لأن أحد القتلين هو جريمة واعتداء، فنزه -سبحانه- العدل الشرعي حتى عن شبهه بلفظ الجريمة؛ وهذا منتهى السمو الأدبي في التعبير.

 

5- ومن إعجاز هذه اللفظة أنها باختيارها دون كلمة القتل تشير إلى أنه سيأتي في عصور الإنسانية العالمة المتحضرة عصر لا يرى فيه قتل القاتل بجنايته إلا شرًّا من قتل المقتول؛ لأن المقتول يهلك بأسباب كثيرة مختلفة، على حين أن أخذ القاتل لقتله ليس فيه إلا نية قتله؛ فعبرت الآية باللغة التي تلائم هذا العصر القانوني الفلسفي، وجاءت بالكلمة التي لن تجد في هذه اللغة ما يجزئ عنها في الاتساع لكل ما يراد بها من فلسفة العقوبة.

 

6- ومن إعجاز اللفظة أنها كذلك تحمل كل ضروب القصاص من القتل فما دونه، وعجيب أن تكون بهذا الإطلاق مع تقييدها بالقيود التي مرت بك؛ فهي بذلك لغة شريعة إلهية على الحقيقة، في حين أن كلمة القتل في المثل العربي تنطق في صراحة أنها لغة الغريزة البشرية بأقبح معانيها؛ وبذلك كان تكرارها في المثل كتكرار الغلطة؛ فالآية بلفظة القصاص تضعك أمام الألوهية بعدلها وكمالها، والمثل بلفظة القتل يضعك أمام البشرية بنقصها وظلمها.

 

7- ولا تنس أن التعبير بالقصاص تعبير يدع الإنسانية محلها إذا هي تخلصت من وحشيتها الأولى وجاهليتها القديمة، فيشمل القصاص أخذ الدية والعفو وغيرهما؛ أما المثل فليس فيه إلا حالة واحدة بعينها كأنه وحش ليس من طبعه إلا أن يفترس.

 

8- جاءت لفظة القصاص معرفة بأداة التعريف، لتدل على أنه مقيد بقيوده الكثيرة؛ إذ هو في الحقيقة قوة من قوى التدمير الإنسانية فلا تصلح الإنسانية بغير تقييدها.

 

9- جاءت كلمة "حياة" منونة، لتدل على أن ههنا ليست بعينها مقيدة باصطلاح معين؛ فقد يكون في القصاص حياة اجتماعية، وقد يكون فيه حياة سياسية، وقد تكون الحياة أدبية، وقد تعظم في بعض الأحوال عن أن تكون حياة.

 

10- إن لفظ "حياة" هو في حقيقته الفلسفية أعم من التعبير "بنفي القتل"؛ لأن نفي القتل إنما هو حياة واحدة، أي ترك الروح في الجسم، فلا يحتمل شيئًا من المعاني السامية، وليس فيه غير هذا المعنى الطبيعي الساذج؛ وتعبير الكلمة العربية عن الحياة "بنفي القتل" تعبير غليظ عامي يدل على جهل مطبق لا محل فيه لعلم ولا تفكير، كالذي يقول لك: إن الحرارة هي نفي البرودة.

 

11- جعل نتيجة القتل حياة تعبير من أعجب ما في الشعر يسمو إلى الغاية من الخيال، ولكن أعجب ما فيه أنه ليس خيالًا، بل يتحول إلى تعبير علمي يسمو إلى الغاية من الدقة، كأنه يقول بلسان العلم: في نوع من سلب الحياة نوع من إيجاب الحياة.

 

12- فإذا تأملت ما تقدم وأنعمت فيه تحققت أن الآية الكريمة لا يتم إعجازها إلا بما تمت به من قوله: {يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} فهذا نداء عجيب يسجد له من يفهمه؛ إذ هو موجه للعرب في ظاهره على قدر ما بلغوا من معاني اللب، ولكنه في حقيقته موجه لإقامة البرهان على طائفة من فلاسفة القانون والاجتماع، هم هؤلاء الذين يرون إجرام المجرم شذوذًا في التركيب العصبي، أو وراثة محتومة، أو حالة نفسية قاهرة، إلى ما يجري هذا المجرى؛ فمن ثم يرون أن لا عقاب على جريمة؛ لأن المجرم عندهم مريض له حكم المرضى؛ وهذه

 

فلسفة تحملها الأدمغة والكتب، وهي تحول القلب إلى مصلحة الفرد وتصرفه عن مصلحة المجتمع، فنبههم الله إلى ألبابهم دون عقولهم، كأنه يقرر لهم أن حقيقة العلم ليست بالعقل والرأي، بل هي قبل ذلك باللب والبصيرة، وفلسفة اللب هذه هي آخر ما انتهت إليه فلسفة الدنيا.

 

13- وانتهت الآية بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وهي كلمة من لغة كل زمن، ومعناها في زمننا نحن: يا أولي الألباب، إنه برهان الحياة في حكمة القصاص تسوقه لكم، لعلكم تتقون على الحياة الاجتماعية عاقبة خلافه فاجعلوا وجهتكم إلى وقاية المجتمع لا إلى وقاية الفرد.

 

وبعد فإذا كان في الآية الكريمة -على ما رأيت- ثلاث عشرة وجهًا من وجوه البيان المعجز، فمعنى ذلك من ناحية أخرى أنها أسقطت الكلمة العربية ثلاث عشرة مرة.

تم تعديل بواسطه الصابر
رابط هذا التعليق
شارك

الأستاذ الجليل محمد شعبان الموجي: شكرا جزيلا على الموضوع اللطيف الذي أتحفتنا به في هذا القسم الجميل . فقد قرأته بتأمل ، و أدركت الخصائص المميزة للآية الكريمة : ولكم في القصاص حياة ....كما تفهمت طرح الشيخ مصطفى صادق الرافعي .

لكنني في الآن نفسه أتحفظ على أسلوب المقارنة الذي اتبعه للاعتبارات الآتية:

ـ أولا، لا مجال للمقارنة بين المثل والآية ، ولا تصح مقارنة كلام الله عز وجل بكلام عربي قبل الإسلام . دون أن يعني ذلك التنقيص من المثل العربي أو الطعن فيه أو الحكم عليه بعدم الفصاحة أوالبلاغة . فالمثل العربي أيضا : القتل أنفي للقتل" كلام عربي فصيح له حظه من البلاغة والإيجاز ، ولا يمكن الحكم عليه إلا بذلك . كما للآية الكريمة قيمتها البلاغية والإعجازية، ـ دون أن يعني ذلك أيضا التساوي بين القيمتين . فالمقارنة البلاغية والإعجازية غير واردة عقديا على الأقل .

أما أوجه الاختلاف ، فواضحة ، فهما أولا يعالجان الموضوع نفسه، لكن كل من رؤياه الخاصة . فللمثل العربي رؤيا عربية قبلية مجتمعية عرفية تضع القتل مقابل القتل ليرتدع المجتمع وتحقن الدماء الفردية والجماعية . أما الآية الكريمة فتحمل رؤيا إسلامية ، فهي لا تسمي القتل الثاني قتلا ، لأنها لو سمته كذلك ، لكانت أشبه بالرؤيا الجاهلية ، في حين ليست كذلك ، فالفعل الأول قتل وإجرام ، والفعل الثاني عدل وجزاء ، وشتان بينهما ، الأول ثأر و انتقام، والثاني حق وجزاء وعدل . فقتل النفس بغير حق في الإسلام محرم قطعا . يضاف إلى ذلك : جاء في الآية الكريمة : ولكم في القصاص حياة.... ، و الحياة لا تعني أبدا المفهوم البيولوجي للكلمة ، بل المفهوم الإنساني أيضا ، أي الاستقرار والأمن و الطمأنينة والمجتمع المستقر . وهذا لا يتحدث عنه المثل العربي . من هنا إذا أردنا أن نحلل بلاغة هذه الآية ، فليتم التركيز على ما يلي :

ـ ما أضافته الآية إلى المثل العربي من قيم لم تكن معروفة قبل نزولها ، وما أدخلته من تعديل عليه رؤياوِياً .

ـ انسجامها مع الرؤيا الإسلامية الكلية التي ترمي إلى بناء مجتمع إسلامي مستقر وعادل .

وبهذا التحليل البلاغي الذي يمكن القيام به مستقبلا إن شاء الله، نبرز بلاغة الآية القرآنية وإعجازها دون التنقيص من بلاغة المثل العربي التي شذبه الإسلامي وعدله وتركه ساريا في الناس . والله أعلم

ملاحظة : لا يعني هذا التحفظ التنقيص من قيمة التحليل الممتع الذي ورد في المقال

 

http://www.almolltaq...��-�����-(-����-�����-���-)

تم تعديل بواسطه الصابر
رابط هذا التعليق
شارك

أشرنا في التدخل الأول إلى أن مقاربة بلاغة و إعجاز الآية الكريمة ( ولكم في القصاص حياة ) يقتضي معرفة التعديل الذي أدخلته على القيم الجاهلية وفق الرؤيا الإسلامية الشاملة . وهذا يقتضي معرفة ما كان سائدا في العصر الجاهلي قبل نزول الآية .

بالعودة إلى كتب التفسير نجد ما يلي :

 

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }{ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

 

 

قال الرازي رحمه الله في مفاتيح الغيب:

 

قبل الشروع في التفسير لا بد من ذكر سبب النزول وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن سبب نزوله إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل مبعث محمد عليه السلام، وذلك لأن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط، والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط، وأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل، وأخرى يوجبون الدية لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من هذين الحكمين. أما في القتل، فلأنه إذا وقع القتل بين قبيلتين إحداهما أشرف من الأخرى، فالأشراف كانوا يقولون: لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم، وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن واحداً قتل إنساناً من الأشراف، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول، وقالوا: ماذا تريد؟ فقال إحدى ثلاث قالوا: وما هي؟ قال: إما تحيون ولدي، أو تملأون داري من نجوم السماء، أو تدفعوا إلى جملة قومكم حتى أقتلهم، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً.

 

وأما الظلم في أمر الدية فهو أنهم ربما جعلوا دية الشريف أضعاف دية الرجل الخسيس، فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم أوجب رعاية العدل وسوى بين عباده في حكم القصاص وأنزل هذه الآية.

 

والرواية الثانية: في هذا المعنى وهو قول السدي: إن قريظة والنضير كانوا مع تدينهم بالكتاب سلكوا طريقة العرب في التعدي.

 

والرواية الثالثة: أنها نزلت في واقعة قتل حمزة رضي الله عنه.

 

و الرواية الرابعة : نقلها محمد بن جرير الطبري عن بعض الناس ورواها عن علي بن أبـي طالب وعن الحسن البصري أن المقصود من هذه الآية بيان أن بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين يقع القصاص ويكفي ذلك فقط، فأما إذا كان القاتل للعبد حراً، أو للحر عبداً فإنه يجب مع القصاص التراجع، وأما حر قتل عبداً فهو قوده، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر، ويردوا إلى أولياء الحر بقية ديته، وإن قتل عبداً حراً فهو به قود، فإن شاء أولياء الحر قتلوا العبد وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر، وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته، وإن شاؤا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد، وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا نصف الدية، وإن قتلت المرأة رجلاً فهي به قود، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإن شاؤا أعطوا كل الدية وتركوها، قالوا فالله تعالى أنزل هذه الآية لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والانثيين والذكرين ،فأما عند إخلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص غير مشروع فيه إذا عرفنا سبب النزول فلنرجع إلى التفسير.

في الآية مسائل:

 

المسألة الأولى: في الآية وجوه الأول: أنه ليس المراد من هذه الآية أن نفس القصاص حياة لأن القصاص إزالة للحياة وإزالة الشيء يمتنع أن تكون نفس ذلك الشيء، بل المراد أن شرع القصاص يفضي إلى الحياة في حق من يريد أن يكون قاتلاً، وفي حق من يراد جعله مقتولاً وفي حق غيرهما أيضاً، أما في حق من يريد أن يكون قاتلاً فلأنه إذا علم أنه لو قتل قتل ترك القتل فلا يقتل فيبقى حياً، وأما في حق من يراد جعله مقتولاً فلأن من أراد قتله إذا خاف من القصاص ترك قتله فيبقى غير مقتول، وأما في حق غيرهما فلأن في شرع القصاص بقاء من هم بالقتل، أو من يهم به وفي بقائهما بقاء من يتعصب لهما، لأن الفتنة تعظم بسبب القتل فتؤدي إلى المحاربة التي تنتهي إلى قتل عالم من الناس وفي تصور كون القصاص مشروعاً زوال كل ذلك وفي زواله حياة الكل.

 

الوجه الثاني: في تفسير الآية أن المراد منها أن نفس القصاص سبب الحياة وذلك لأن سافك الدم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل، فكان القصاص نفسه سبباً للحياة من هذا الوجه، واعلم أن الوجه الذي ذكرناه غير مخص بالقصاص الذي هو القتل، يدخل فيه القصاص في الجوارح والشجاج وذلك لأنه إذا علم أنه إن جرح عدوه اقتص منه زجره ذلك عن الإقدام فيصير سبباً لبقائهما لأن المجروح لا يؤمن فيه الموت وكذلك الجارح إذا اقتص منه وأيضاً فالشجة والجراحة التي لا قود فيها داخلة تحت الآية لأن الجارح لا يأمن أن تؤدى جراحته إلى زهوق النفس فيلزم القود، فخوف القصاص حاصل في النفس.

 

الوجه الثالث: أن المراد من القصاص إيجاب التسوية فيكون المراد أن في إيجاب التسوية حياة لغير القاتل، لأنه لا يقتل غير القاتل بخلاف ما يفعله أهل الجاهلية وهو قول السدي.

 

والوجه الرابع: قرأ أبو الجوزاء { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ } أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص وقيل: { ٱلْقِصَاصِ } القرآن، أي لكم في القرآن حياة للقلوب كقوله:

{ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا }

[الشورى:52]

{ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ }

[الأنفال:42] والله أعلم.

 

المسألة الثانية: اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني باللغة بالغة إلى أعلى الدرجات، وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثير، كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقول آخرين: أكثروا القتل ليقل القتل، وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل، (...) وبيان التفاوت من وجوه: أحدها: أن قوله: {وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ } أخصر من الكل، لأن قوله: { وَلَكُمْ } لا يدخل في هذا الباب، إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك، لأن قول القائل: قتل البعض إحياء للجميع لا بد فيه من تقدير مثله، وكذلك في قولهم: القتل أنفى للقتل فإذا تأملت علمت أن قوله: { فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ } أشد اختصاراً من قولهم: القتل أنفى للقتل وثانيها: أن قولهم: القتل أنفى للقتل ظاهرة يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال، وقوله: { فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ } ليس كذلك، لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص، ثم ما جعله سبباً لمطلق الحياة لأنه ذكر الحياة منكرة، بل جعله سبباً لنوع من أنواع الحياة وثالثها: أن قولهم القتل أنفى للقتل، فيه تكرار للفظ القتل وليس قوله: { فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ } كذلك ورابعها: أن قول القائل: القتل أنفى للقتل لا يفيد إلا الردع عن القتل، وقوله: { فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ } يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد وخامسها: أن نفي القتل مطلوب تبعاً من حيث إنه يتضمن حصول الحياة، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي، فكان هذا أولى وسادسها: أن القتل ظلماً قتل، مع أنه لا يكون نافياً للقتل بل هو سبب لزيادة القتل، إنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص، فظاهر قولهم باطل، أما الآية فهي صحيحة ظاهراً وتقديراً، فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب.(...)

 

أما قوله تعالى: { يأُوْلِي ٱلأَلْبَـٰبِ } فالمراد به العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف، فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعداءهم، وعلموا أنهم يطالبون بالقود صار ذلك رادعاً لهم لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه فإذا خاف ذلك كان خوفه سبباً للكف والامتناع، إلا أن هذا الخوف إنما يتولد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف، فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب.

 

وأما قوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ففيه مسائل:

 

المسألة الأولى: لفظة { لَعَلَّ } للترجي، وذلك إنما يصح في حق من لم يكن عالماً بجميع المعلومات، وجوابه ما سبق في قوله تعالى:

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

[البقرة: 21].

 

المسألة الثانية: قال الجبائي: هذا يدل على أنه تعالى أراد من الكل التقوى، سواء كان في المعلوم أنهم يتقون أو لا يتقون بخلاف قول المجبرة، وقد سبق جوابه أيضاً في تلك الآية.

 

المسألة الثالثة: في تفسير الآية قولان أحدهما: قول الحسن والأصم أن المراد لعلكم تتقون نفس القتل بخوف القصاص والثاني: أن المراد هو التقوى من كل الوجوه وليس في الآية تخصيص للتقوى، فحمله على الكل أولى: ومعلوم أن الله تعالى إنما كتب على العباد الأمور الشاقة من القصاص وغيره لأجل أن يتقوا النار باجتناب المعاصي ويكفوا عنها، فإذا كان هذا هو المقصود الأصلي وجب حمل الكلام عليه.

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...