اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

بين يدي سورة البقرة


Recommended Posts

في رحاب الآية الثالثة من سورة البقرة (7)

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾

 

دار الإسلام ودار الكفر

"دَارُ الإسلام": التَّعْرِيفُ :1- دَارُ الإسلام هِيَ: كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ فِيهَا أَحْكَامُ الإسلام ظَاهِرَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ كُلُّ أَرْضٍ تَظْهَرُ فِيهَا أَحْكَامُ الإسلام - وَيُرَادُ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الإسلام : كُلُّ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهِ غَيْرِ نَحْوِ الْعِبَادَاتِ ، كَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ.

دَارُ الْحَرْبِ هِيَ: كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ فِيهَا أَحْكَامُ الْكُفْرِ ظَاهِرَةً .

تَحَوُّلُ دَارِ الإسلام إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَعَكْسُهُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ مَتَى ارْتَدَّ أَهْلُ بَلَدٍ وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ صَارَتْ الدَّارُ دَارَ حَرْبٍ، وَعَلَى الْإِمَامِ قِتَالُهُمْ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ.

وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَيَقُولَانِ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ لَا غَيْرُ، وَهُوَ: إظْهَارُ حُكْمِ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ.

وَتَتَحَوَّلُ دَارُ الْحَرْبِ إلَى دَارِ إسْلَامٍ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ أَهْلِ الإسلام فِيهَا كَجُمُعَةٍ وَعِيدٍ، وَإِنْ بَقِيَ فِيهَا كَافِرٌ أَصْلِيٌّ، وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِدَارِ الإسلام .

فالشاهد هنا أن الحاكم إن أظهر الكفر البواح، وجاهر به، فإن على المسلمين أن يردعوه بالقوة والسيف لمنع ظهور الكفر في المجتمع، حتى لا تتحول الدار من دار إسلام إلى دار كفر، فحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان. رواه البخاري، هذا الحديث مفهومه أنهم يرون كفرا بواحا بعد أن لم يكونوا يرونه من قبل، فعند ذلك يُرفع السيف اتقاء لتحول الدار إلى دار كفر، فقوله عليه سلام الله: إلا أن تروا، معناه أنكم لم تكونوا ترونه، ثم أظهره الحاكم فأصبحتم ترونه، عند ذلك عليكم منع ذلك بالسيف.

وحديث مسلم: لا ما أقاموا فيكم الصلاة،

والشاهد من هذا كله على مسألة إقامة الصلاة، أن رسول الله عليه سلام الله تعالى كنّى عن إقامة الدين في المجتمع وعن بقاء الدار دار إسلام بإقامة الصلاة فيها، فتأمل عظيم قدر إقامة الصلاة في الإسلام، وتأمل عظيم أن يحافظ المسلمون على تطبيق الإسلام في المجتمع كي يحيوا حياة طيبة في دار إسلام!

والشاهد أيضا أن من مظاهر ظهور الإسلام في المجتمع إقامة الصلاة، والجمعة والأعياد.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

في رحاب الآية الثالثة من سورة البقرة (8)

 

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾

 

تلمس بعض آثار إقامة الصلاة في الدولة والمجتمع

 

بمعنى آخر، فإن المجتمع الذي يُقام فيه فرض الصلاة، يُعين الفرد على الحق وعلى حسن أداء وإقامة الصلاة، ويهيئ له الأجواء الصحية التي تقطع عنه وساوس الشيطان، ومداخل الباطل، التي تصرفه عن حسن إقامة الصلاة، وتُبعده عن الخشوع فيها، وأقل نظرة إلى مجتمع الصحابة ومجتمع التابعين حيث كان ديدن الناس إقامة الصلوات في الليل والنهار، لا تصرفهم عنها أمور الحياة التي شغلت مجتمعاتنا اليوم عن حسن أدائها، بحيث كنتَ تسمع أيام الصحابة والتابعين عمن يصلي الفجر بوضوء العشاء سنين طويلة، يقوم الليل كله، بينما بالكاد تجد اليوم من يقوم ليلة كل أسبوع أو كل شهر أو كل سنة، فالمجتمع اليوم لا يعين على إقامة الصلاة،

لذلك كان لا بد من التنبيه إلى خطورة إقامة الصلاة في المجتمع كمعنى أعم من إقامة الصلاة على مستوى الفرد، ليكون ذلك المعنى الخطير واضحا في الأذهان، وسنتطرق إلى كيفيته بعد قليل ان شاء الله، فيُعلم أن حسن إقامة الفرد لصلاته ناقص ما لم تُقَم الصلاة في المجتمع، وأن الفرد إذ يُقيم صلاته في نفسه وأهله، فإنه لم يستكمل الفرض الذي أمره الله به بأن يقيم الصلاة في المجتمع، فلا يظنن نفسه قد استوفى أمر الله تعالى بأن أقام الصلاة في نفسه، واقتصر على ذلك، فتذكيره بخطورة إقامة الصلاة في المجتمع مهم جدا لنكون من الذين أقاموا الصلاة في أنفسنا وفي مجتمعاتنا.

كذلك فصلاة الجماعة يجتمع فيها المسلمون، وصلاة الجمعة، ويتباحثون في أمور دينهم ودنياهم، ومعروف للقاصي والداني دور المسجد في الإسلام، منه كانت تعقد الجيوش، وتفد الوفود على رسول الله وعلى الخلائف من بعده، وتعقد فيه حلق الذكر والتعليم، وتبحث خطبة الجمعة أحوال الأمة من الجمعة إلى الجمعة، وهكذا، فالصلاة والمسجد بمثابة القلب من الجسد، يمده بأسباب الحياة، ولكل تلك الأبعاد اثرها على المجتمع، وكذلك تتبين مقدار اقتراب المجتمع أو ابتعاده عن الإسلام بقدر مكانة المسجد والصلاة فيه، لا مجرد أن تقام الصلاة بركوعها وسجودها فيه، ولكن أن يلعب دوره الأساسي في بناء المجتمع، وتصريف الشئون منه .

كذلك لإقامة الصلاة بُعْدٌ أخطر وأوسع من هذين المعنيين: أي من معنى إقامة الصلاة كفرض على مستوى الفرد، وإقامة الصلاة كفرض على مستوى المجتمع، ذلك البعد الثالث لإقامة الصلاة، هو بعد إقامة الصلاة على مستوى الدولة، وقد استنبطنا ذلك المعنى من الأدلة فيما سبق وبقي لنا التنبيه إليه لشدة خطورته، فنقول وبالله تعالى التوفيق:

 

عن صفحة:

تم تعديل بواسطه عبد الله العقابي
رابط هذا التعليق
شارك

في رحاب الآية الثالثة من سورة البقرة (9)

 

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)﴾ النور

﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)﴾ الحج

 

والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق لأن المتبادر إلى الفهم من قوله: ﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ ليس إلا هذا،

وقال الحسن وأبو العالية: هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة. وقال ابن أبي نجِيح: يعني الولاة. وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الملك؛ وهذا حسن. قال سهل بن عبد الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه.

وقال الصباح بن سوادة الكندي: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّـنَّـٰهُمْ فِى الْأَرْضِ﴾ الآية، ثم قال: ألا إنها ليست على الوالي وحده، ولكنها على الوالي والمولى عليه ، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم، وبما للوالي عليكم منه؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكرهة، ولا المخالف سرها علانيتها. وقال عطية العوفي: هذه الآية كقوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾.

فلتسأل نفسك: لم ربط الحق بين التمكين في الأرض وبين إقامة الصلاة، مع أن إقامة الصلاة واجبة على المستضعف وعلى من مكنه الله في الأرض؟ أليس ذلك لأنها كناية عن أن من مكنه الله في الأرض استطاع أن يقيم من فرض إقامة الصلاة ما لا يستطيعه المستضعف؟ وأن فرض إقامة الصلاة لا يكون كاملا وعلى وجهه الصحيح إلا أن يصحبه التمكين في الأرض فيكون الحكم لله تعالى والأمر لله تعالى؟ وأن التمكين في الأرض، يعني إقامة الدولة والمجتمع على أساس الإسلام، وهذا فيه ما بيناه من أمور متعلقة بحسن إقامة الصلاة على الفرد والمجتمع، فتأمل.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾

 

ما زلنا في رحاب هذه الآية العظيمة،

والصلاة سبب للرزق؛ قال الله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَاۖ لَا نَسْـَٔلُكَ رِزْقًاۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَۗ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ الآية؛ على ما يأتي بيانه في «طه» إن شاء الله تعالى. وشفاء من وجع البطن وغيره؛ روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: هَجَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فهجَّرتُ فصليتُ ثم جلستُ؛ فالتفت إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: «أشكمت دَرْدَه» قلت: نعم يا رسول الله؛ قال: «قم فصلّ فإن في الصلاة شفاء». في رواية: «أشكمت درد» يعني تشتكي بطنك بالفارسية؛ وكان عليه الصلاة والسلام إذا حَزَبَه أمرٌ فزع إلى الصلاة .

ومن عجائب النظم في هذه الآية: أن لا يسرف المتصدق فيقعد ملوماً.. وان لايأخذ من هذا ويعطي لذاك؛ بل من مال نفسه.. وان لايمنّ فيستكثر.. وان لايخاف من الفقر.. وان لايقتصر على المال، بل بالعلم والفكر والفعل أيضا.. وان لا يصرف الآخذ في السفاهة، بل في النفقة والحاجة الضرورية.

فلإِحسان هذه النكت، واحساس هذه الشروط تصدَّق القرآن على الأفهام بإيثار ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ على "يتصدقون" او "يزكّون" وغيرهما؛ إذ أشار بـ "من" التبعيض الى رد الاسراف.. وبتقديم (مما) الى كونه من مال نفسه.. وبـ"رزقنا" الى قطع المنة. أي: ان الله هو المعطي وانت واسطة.. وبالاسناد الى "نا" إلى: (لاَتَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ اِقْلاَلاً) ، وإلى الإيمان أن الرازق هو الله. وبالاطلاق (ومما) الى تعميم التصدق للعلم والفكر وغيرهما. وبمادة (ينفقون) الى شرط صرف الآخذ في النفقة والحاجات الضرورية.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾

 

وفي (يؤمنون) بدل "المؤمنين" الدال على الثبوت في زمان، تلويح الى تجدد الإيمان بتواتر النزول وتكرر الظهور مستمرا.

وفي "ما" الابهام، إيماء الى ان الإيمان مجملا قد يكفي، والى تشميل الإيمان للوحي قرآنا وسنة، فما من صيغ العموم.

وفي (انُزل) باعتبار مادته اشارة الى ان الإيمان بالقرآن هو الإيمان بنزوله من عند الله.

وفي (اليك) بدل "عليك" رمز الى ان الرسالة وظيفة كُلِّف بها النبي عليه السلام وتحمَّلها بجزئه الاختياري.. وإيماء الى علّوه بخدمة جبرائيل بالتقديم اليه؛ اذ في "على" شمّ اضطرار وعلوّ واسطة النزول.. وفي خطاب "اليك" بدل "الى نحو محمد" تلويح الى ان محمداً عليه السلام ماهو إلاّ مخاطب والكلام كلام الله.. وايضا معنى الخطاب تأكيد وتصوير لمعنى النزول الذي هو الوحي الذي هو القرآن

(وما اُنزل من قبْلِك)

اعلم! ان امثال هذه التوصيفات تتضمن تشويقاً، يتضمن أحكاما انشائية. كآمنوا كذا وكذا ولا تفرقوا.

ثم ان في هذا النظم والربط اربع لطائف:

إحداها:

عطف المدلول على الدليل. اي: "ياأيها الناس اذا آمنتم بالقرآن فآمنوا بالكتب السابقة ايضا، اذ القرآن مصدِّق لها وشاهد عليها" بدليل (مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ).

والثانية:

عطف الدليل على المدلول، أي: "يا أهل الكتاب اذا آمنتم بالانبياء السابقين والكتب السالفة لزم عليكم ان تؤمنوا بالقرآن وبمحمد عليه السلام، لانهم قد بشّروا به، ولأن مدار صدقهم، ونزولها ومناط نبوتهم يوجد بحقيقته وبروحه في القرآن بوجه اكمل وفي محمد عليه السلام بالوجه الأظهر. فيكون القرآن كلام الله بالقياس الاَوْلَوِي، ومحمَّد عليه الصلاة والسلام رسوله بالطريق الأولى".

والثالثة:

ان فيه اشارة الى ان مآل القرآن - اعني الإسلامية الناشئة في زمان السعادة - كشجرة أصلها ثابت في أعماق الماضي، منتشرة العروق متشربة عن منابع حياتها وقوتها، وفرعها في سماء الاستقبال ناشرة أغصانها مثمرة. أي اخذت الإسلامية بقرني الماضي والاستقبال.

والرابعة:

ان فيه اشارةً الى تشويق اهل الكتاب على الإيمان وتأنيسهم، والتسهيل عليهم. كأنه يقول: "لايشقنّ عليكم الدخول في هذا السلك، اذ لاتخرجون عن قشركم بالمرة بل انما تكملون معتقداتكم، وتصوبونها، وتبنون على ماهو مؤسس لديكم" اذ القرآن معدِّل ومكمِّل في الاصول والعقائد، وجامع لجميع محاسن الكتب السابقة واصول الشرائع السالفة.

وفي (من قبلك) لطائف:

اعلم! انه ما من كلمة في التنزيل يأبى عنها مكانها، أو لم يرض بها، أو كان غيرُها أولى به. بل مامن كلمة من التنزيل إلا وهي كدرٍّ مرصَّعٍ مرصوص متماسك بروابط المناسبات؛ فان شئت مثالا تأمل في: (من قبلك) كيف ترى اللطائف المتطايرة من جوانب هذه الآية توضّعت على هذه الكلمة الفذة.

فان (من قبلك) تشربتْ وتلونت - فتُرشِّح وتُرمز بخمس لطائف - المناسبات المنعكسة من المقاصد الخمسة المندمجة في مسألة النبوة المسوقة لها هذه الآية.

اما المقاصد المندمجة فهي: ان محمداً عليه السلام نبي، وانه اكمل الانبياء، وانه خاتم الانبياء، وانه مرسل لكافة الاقوام، وان شريعته ناسخة لجميع الشرائع، وجامعة لمحاسنها.

اما وجه انعكاس المقصد الاول في تلك الكلمة، فهو:

إن "من قبلك" انما يقال اذا اتحد المسلك وكان الطريق واحداً. فكأن هذه الكلمة تترشح: بأن الحجج على نبوة مَن قبله وصدق كتبهم، حجةٌ بمجموعها بتحقيق المناط بالقياس الأولى على نبوة محمد عليه السلام ونزول كتابه. فكأن جميع معجزاتهم معجزة فذة على صدق محمد عليه السلام .

أما المؤمنون، فيؤمنون بالقرآن، وبالكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه من قبل، بخلاف ما فعله اليهود والنصارى حسب ما أخبر الله عنهم في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)﴾ البقرة، فحذرهم رب العالمين لما لم يؤمنوا بأشد التحذير فقال جل وعلا:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)﴾ النساء.

أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها، ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ أي نخزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت.

فهذا أشد التحذير لأهل الكتاب أن عليهم واجب الإيمان بما أنزل الله على سيد الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فليشحذ الكتابي همته ليدرس هذا الدين العظيم، ويدرك أنه إن لم يفعل، فإن عقوبته في الآخرة ستكون وخيمة.

والإيمان بالكتب السابقة، إنما هو الإيمان بأن جميعها نزل من عند الله؛ فقد نسخ الله تعالى الشرائع التي نزلت في كتبه السابقة، وجعل لكل أمة شرعة ومنهاجا، وقد صدَّق القرآنُ الكريم ما في تلك الكتب من خبر العقيدة، وقام على نفس الأساس العقدي الذي قامت عليه سائر الكتب، إذ أن العقيدة، -وهي أصل الدين- واحدة في كل ما أنزل الله، تقوم على توحيد الله تبارك وتعالى وعلى الإيمان بالأنبياء والكتب والملائكة والآخرة،

وصدَّق ما فيها من خبر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وهيمن القرآن الكريم على تلك الكتب السابقة كلها، فنسخ شرائعها، لقوله تبارك وتعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ 48 المائدة.

وثمرة هذا الإيمان تتمثل بالاحتكام إلى هذا الكتاب في شتى أمور الحياة لقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤا إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤا أَن يَكْفُرُوا بِهِۦ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَـٰالا بَعِيدًا﴾ فقد جعل الاحتكام إليه الفيصل بين أن يتحقق هذا الإيمان في العبد، أو أن يكون مجرد زعم، وارتماءً في أحضان الشيطان يريد أن يضلهم بتحكيم الطاغوت فيهم بدلا من تحاكمهم إلى كتاب الله تبارك وتعالى.

أما عطف الإيمان بالغيب على الإيمان بما أنزل، فبيانه أن هذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى صفة للمتقين بعد صفة، أي أنه وصف المتقين ابتداء بأنهم يؤمنون بالغيب، ثم وصفهم بأنهم يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، مع أن إيمانهم بما أنزل إليك، إيمان بالغيب أيضا، وإيمانهم بما أنزل من قبلك أيضا إيمان بالغيب، إذ أننا بينا أن الإيمان إنما يتعلق بالغيب، وهنا الإيمان بأن هذا القرآن منزل من عند رب العالمين، فهذه الناحية غيب آمنوا به، وكذلك إيمانهم بالكتب السابقة إيمان بالغيب، وأيضا عطف عليها قوله وبالآخرة هم يوقنون.

فكل هذه القضايا إيمان بالغيب، لأن الإيمان إنما يتعلق بقضايا الغيب، وهو أرقى ثمرات استعمال البشر لعقولهم، لقراءة كتاب الله المفتوح (الكون) والاستدلال من خلاله على صدق كتاب الله تعالى المقروء (القرآن)، وارتقاء بالعقل من التفكير السطحي، إلى ربط الأسباب بالمسببات، والإدراك الذكي، وحل العقد الكبرى كلها، وتفسير سبب وجوده في الحياة الدنيا، والبحث عن دوره في هذه الحياة، وعن ضوابط سلوكه، وعن الفكرة الكلية التي تجيبه على كل أسئلته الملحة، والتي بها يرقى على سائر المخلوقات.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

اقتران الإيمان بالكتاب مع الإيمان بالآخرة:

 

لكن الملاحظ أنه سبحانه وتعالى قدم الجار والمجرور على الفعل ﴿وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ لم يقل وهم يوقنون بالآخرة. إذ أن الأصل في اللغة العربية أن يتقدم الفعل ثم تأتي المعمولات: الفاعل والمفعول به والمتعلق من جار ومجرور، والتقديم لا بد أن يكون لسبب وهنا قدم ﴿وبالآخرة﴾ فقال: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾، لأن الإيقان بالآخرة صعب ومقتضاه شاق، وهو علامة خضوع لهذا الدين العظيم، إذ أن كثيرا من الناس لا يمانع أن يصدق بوجود إله، ولا يمانع أن يكون له ملائكة، ولكن أن يخضع لعقيدة وجود الآخرة، والحساب على العمل، يعني أنه خضع لمنهج من عند الله تعالى، وأنه خضع لهدي محمد صلى الله عليه وسلم، ليقر بالحساب على العمل، وبالتالي فسيحاسب على اتباع المنهج الذي نزل من عند الله تعالى، ويؤخذ إن حاد عنه، لذا كانت المزاوجة بين الإيمان بما أنزل إلى الرسول عليه سلام الله، والإيقان بالآخرة، لذلك لا يغني عن المسئول عمن خلق السموات والأرض أن يقول الله، إن لم يؤمن بما أنزل من منهج، وأن يؤمن بأنه سيحاسب على اتباع هذا المنهج، أما الإيمان بالله فإن كثيرا من الناس يوقنون بالله لكن قسما منهم مع يقينه بالله لا يؤمن بالآخرة، ولا بما أنزل الله، مثل كفار قريش ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ (32)﴾ الجاثية؛ وهم مصدقون بالله ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25)﴾ لقمان؛ إذن هم لا مشكلة عندهم في الإقرار بأن الله هو الخالق، لكنهم غير مؤمنين بالآخرة ولذلك هنا قدم الآخرة لأهميتها فقال ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ فهي علامة على التصديق والخضوع للدين كله، مقرونة بالإيمان بما أنزل الله.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

معنى الإيمان باليوم الآخر:

 

إن الإيمان بيـوم القيامة هو الإيمان بالبعث. وهو وقت ينقضي فيه بقـاء الخـلق في الدنيا. فيموت كل من فيها ثم يحيي الله الموتى، يحيي عظـامهم وهي رميم ويعـيد الأجسـام كما كانت ويعـيد إليهـا الأرواح، قــال تعـــالـى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وقـــال: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وقــال: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) وقــال: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50).

ومن الإيمان بيوم القيامة الإيمان بأن الناس يُعطون كتبهم يوم القيامة قال تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ. فالمؤمنون يعطونها بأيمانهم، أما الكفار فيعطونها بأشملهم ووراء ظهورهم. قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) وقال تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32).

ومن الإيمان بيوم القيامة الإيمان بأن الجنة حق وأن النار حق. والجنة دار مخلوقة للمؤمنين ولا يدخلها كافر أبداً قال تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) وقال: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50). وقال: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وأما النار فهي دار مخلوقة لا يخلد فيها مؤمن قال تعالى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17). ويدخل النار من شاء الله تعالى من المسلمين الذين رجحت كبائرهم وسيئاتهم على صغائرهم وعلى حسناتهم، ثم يخرجون منها ويدخلون الجنة، قال الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وقال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11).

ومن الإيمان بالجنة الإيمان بأن نعيمها نعيم محسوس، وأن أهلها يأكـلـون ويشـربون ويطؤون ويلبسون ويتلذذون. قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) وقــال تعــالى: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وقـال: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) وقال: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) وقال: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16). إلى غير ذلك من أنواع النعيم التي ذكرها القرآن صريحة.

ومن الإيمان بالنار الإيمان بأن عذابها عذاب محسوس، وأن أهلها يسـامون أنواع العـذاب في النار والزمهـرير والقيح المغـلي وغير ذلك مما ورد في صريح القرآن مثل التعـذيب بالسـلاسـل والأغـلال والقطران وأطـبـاق النيران وأكلهم الزقوم وشربهم الماء كالمهل والحميم. قال الله تعـالى: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وقال: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) وقال: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) وقال: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وقال: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وقال: وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) وقال: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ وقال: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا. وقال: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55). وقال: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

تحليل صفات المؤمنين في الآيات الأولى من سورة البقرة:

 

نعت رب العالمين سبحانه المؤمنين في أول خمس آيات من سورة البقرة بصفات عظيمة، ينبغي الوقوف على مجموعها وتأمل ذلك الاجتماع، فنقول:

لقد بينا فيما سبق أن استقراء سورة البقرة ينبي عن أن موضوعها الأساس هو تقرير منهج الاستخلاف في الأرض، ولذلك فهي رسمت لنا معالم متباينة لما يكتنفه وجود الإنسان في الأرض على ضوء تفاعله مع مسألة الاستخلاف في الأرض، فرسمت لنا صفات المؤمنين، وصفات الكافرين، وصفات المنافقين، وصفات أهل الكتاب، وبينت لنا معالم الإيمان والكفر، الطاغوت والاستقامة، وأنظمة الحياة،... الخ مما استفضنا في بيانه سابقا انظر نظرة إجمالية إلى موضوعات سورة البقرة:

وعلى ذلك فإننا سنحاول وضع اليد على الرابط بين ما بينه رب العزة سبحانه من صفات للمؤمنين في الآيات الخمس الأولى من هذه السورة، وبين منهج الاستخلاف في الأرض، أي أن نفهم هذه الآيات على ضوء مسألة الاستخلاف في الأرض، فكأنها تقرر معالم من يصلح لأداء هذه المهمة العظيمة، وتقرر الخطوط العريضة اللازمة لزوم الماء للحياة، لضمان نجاح الإنسان وفلاحه في رحلة الاستخلاف هذه، لذا كان طبيعيا أن تختتم بتقرير أن هؤلاء الموصوفين في هذه المقدمة للسورة هم المهتدون المفلحون.

فالخطوط العريضة التي رسمتها الآيات الخمس الأولى هي: الكتاب ونفي الريب عنه، ووصفه بمصدر الهداية للمتقين، ومعنى ذلك أنه منهج حياة لهم، الهداية، التقوى، الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإيمان بالرزق أنه من الله ﴿ومما رزقناهم﴾ والإنفاق، والإيمان بالكتاب، والإيمان بالكتب السابقة، والإيمان بالآخرة، ثم كرر لهم وصف الفلاح والهداية.

وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم وما جاء به من قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والإيقان بالآخرة كما أنّ هذا لا يصح إلا بذاك:

أما أولها: فالكتاب أي القرآن معجزة أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ليثبت لهم صدق رسالته، فمن صدق بها، ونفى عن نفسه أسباب الارتياب بهذا القرآن، كان هذا الكتاب هداية له، ودخل في عداد المؤمنين، أي انتقل من الكفر (وهو موضوع المجموعة التي تلتها من آيات سورة البقرة) إلى الإيمان، فدخل في هداية انشراح الصدر للإيمان، ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)﴾ الأنعام.

كذلك، ففي قوله تعالى: ذلك الكتاب، إبراز لهذا الكتاب على أنه هو منهج الهداية، ومنارة التائهين، والزاد في رحلة الحياة الدنيا، فكأنه يقول: من أراد الهداية والفلاح، فهذا هو الكتاب سبيل هذا كله، ومن أراد الإيمان فمعالمه في هذا الكتاب، ومن أراد التقوى، فزاده من هذا الكتاب، ومن أراد الاحتكام فهذا الكتاب فيه بيان كل شيء، لذا كرر ذكر الكتاب بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾، لأن من أراد الاهتداء بهدى القرآن فسبيله الإيمان، لا مجرد أن يتخذ من القرآن مرجعا يخلطه بغيره، يستنير به في شأن ويأخذ من غيره في شأن آخر، لذا فسبيل الهداية الإيمان، أي التعامل مع القرآن من باب الإيمان، وما يترتب عليه من تصديق جازم أن ما فيه هو الحق، وأن المعالجات التي فيه هي خير معالجات لمشاكل البشر إلى يوم الدين، وأنه يعلو ولا يعلى عليه، وأنه من رب العالمين، نزل شريعة ومنهج حياة للبشر ليخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور اليقين والعدل، فما لم يتعامل المرء مع الكتاب على هذا الأساس فإنه لم يفهم طريق الهداية وما عليه القيام به ليكون على المنهج الحق.

وهنا يرد سؤال: فما علاقة الإيمان بما أنزل من قبلك بمنهج الحياة؟

أما التصور القاصر فيظن المرء فيه أن منهج الحياة هو منهج عمل فقط، ولكن الصواب أنه منهج يضم الاعتقاد إلى العمل، ويضع الإنسان أمام حقيقة أن الله تعالى خلق البشرية ووضع لهم أبدا مناهج الحق كذلك المنهج الذي أنزله على الحبيب المصطفى عليه سلام الله، فليس بدعا من القول والأمر أن يأمرهم بالسير على منهج أنزله على رسوله، لأن هذه سنته في الخلق دائما، والله تعالى أعلم.

﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)﴾، البقرة، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ الحديد.

فوظيفة الكتاب أبدا: أن يقوم الناس بالقسط، وان يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو كتاب حكم ومنهج حياة، لا كتابٌ يُقرأُ على الموتى.

أما الدخول في سلك المتقين، فإن للتقوى معاني متعلقة بالاعتقاد، ومعاني متعلقة بالأعمال، فمن معانيها المتعلقة بالاعتقاد أي بالإيمان، الخوف من الله تعالى، والخوف على قدر الإيمان، ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ واستشعار مراقبته، والاستعداد لليوم الآخر، وأما معانيها المتعلقة بالعمل، فأن يكون ذلك الخوف من الله مدعاة لإحسان العمل، واستشعار مراقبته مدعاة للائتمار بما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر، وأما الاستعداد لليوم الآخر، فيدفع لإحسان العمل، وإحسان المعتقد.

ثم بين أساس الإيمان كله، وهو الإيمان بالغيب، شق التقوى الأول، ومن ثم ذكر عمود الدين: إقام الصلاة، وذكر بعده الإيمان بصلة الله تعالى بالمؤمنين كرازق لهم، وأمرهم بالانفاق من هذا الرزق لعمارة الأرض، والانتفاع بما فيها، وذلك لأن الاقتصاد حركة الحياة، فكان اختيار الصلاة، وما تمثله من عمل متعلق بالعبادة، والإنفاق وما يمثله من تسيير لحياة الناس وحركة الاقتصاد فيهم، أي متعلق بالدنيا، ليبين أن دور المؤمن التقي المهتدي في هذه الحياة لا يقتصر على العبادة، بل عليه واجب الخلافة في الأرض وعمارتها، ومن أولى منه وهو التقي المؤمن بحسن تسيير حركة الحياة في الأرض وفق منهج الله تعالى؟

ثم إن للانفاق أوجها كثيرة، فمن إنفاق في سبيل الله أي في الجهاد، إلى إنفاق المرء على معاشه وعلى أهله، إلى إنفاق المرء في أبواب الزكاة، والصدقة، والخير، فكل ذلك نفقة،

كذلك فإننا نلاحظ البُعد الجماعي في الخطاب، أي بصيغة الجماعة، فهو خطاب للمؤمنين أول قيام دولتهم في المدينة، أن يقيموا حركتها وفق منهج الله.

ثم عطف على ذلك أن حركة هذه الحياة يجب أن تسير وفق منهج أنزله الله تعالى، فعلى الناس كلهم الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى من قبله من الرسل عليهم سلام الله جميعا، وربط كل هذا بالإيمان باليوم الآخر، لأن المرء لا يجوز له بحال أن يغفل لحظة عن ربط حياته الدنيا بما فيها من عبادة ومعاش بأمر الآخرة، ليسعى لها سعيها وهو مؤمن، وقلنا أن سبب اختيار الإيمان بالأخرة هنا هو دوران هذا الإيمان واليقين حول المنهج، فهي علامة عليه، وسمة مميزة بين من استيقن بالخالق ولم يذعن لأمره، وبين من استيقن به وسار على منهجه، فكان هذا كله سببا في فلاح هذا الإنسان وسلوكه في سلك المهتدين المبصرين بطريقهم في هذه الحياة الدنيا، رابطين هذا المسلك بالآخرة.

فما هي نتيجة هذا كله؟

﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)﴾

 

عن صفحة:

 

رابط هذا التعليق
شارك

﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)﴾

 

واقتران لفظ الرب مع الهداية اقتران في غاية اللطف والدقة لأن الرب هو المربي والموجه والمرشد والمعلم، هذا الرب في اللغة. لم يقل على هدى من الله وإنما قال على هدى من ربهم وفيها أمران:

يمكن أن يقال هدى من الله لأن الله لفظ الجلالة إسم عَلَمٍ على كل أمر خير ينسب إليه وقد تنسب أمرا إلى صفاته بما يناسب المقام، مثل أرحم الراحمين، الرحمن الرحيم

فهنا قال ﴿أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ والرب في اللغة هو أصلاً المربي والموجه والمرشد فيتناسب اللفظ مع الهداية، واختيار لفظ الرب مع الهداية كثير في القرآن وهو مناسب من حيث الترتيب اللغوي ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)﴾ طه﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)﴾ الشعراء، ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (161)﴾ الأنعام، فكما ترى كثيراً ما تقترن الهداية بالرب وهو اقتران مناسب لوظيفة المربي.

إضافة إلى أن ربهم أمحض لهم بالنصح والتوجيه والإرشاد وإفادته هو. ﴿أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾، لا شك أن ربهم إذ يهديهم، فإن في هذا المعنى إخلاص الهداية وإخلاص التوجيه ورب الإنسان يعني مربيه، فهو أخلص له من غيره، هناك دلالة لطيفة بين الرب والهدى وبين الإضافة في قوله: ﴿ربهم﴾ أي ربهم هم، فلو استعمل إسم العلم (الله) فلن تتحصل الإضافة لغة، وما فيها من معاني الاستئناس والتخصيص، وإنما سيكون معناها عاما، فقد يشاء أن يختصهم بالهداية، وقد لا يختصهم بها، فيخسرون هذا الاختصاص، لكن ﴿على هدى من ربهم﴾ لا شك أن ربهم هو أرحم بهم وأرأف بهم لذا فاختيار كلمة رب مناسبة مع الهداية. ثم إضافته إليهم أمر آخر أنه أرأف بهم وأرحم بهم

كما أن اقتران الهدى بالرب يجلي معاني الحنو والإرشاد والخوف على العباد ثم إضافة الضمير (ربهم) هذا فيه أن الله يحبهم ويقربهم إليه وفيه من الحنو والنصح والإرشاد والتوجيه، ولا شك أن رب الإنسان أحنى عليه.

وهناك أمر إلتفت إليه الأقدمون: قال تعالى ﴿أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾، يستعمل مع الهداية لفظ (على) بعكس الضلال يستعمل لها لفظ (في) ﴿لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)﴾ يوسف، هذا ملاحظ في القرآن الكريم ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4)﴾ يس، ﴿إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)﴾ النمل، ويستعمل في للضلال ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47)﴾ يس، وليس فقط في الضلال وإنما ما يؤدي إلى الضلال ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)﴾ التوبة، ﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)﴾ يونس، كأن المهتدي هو مستعلي يبصر ما حوله ومتمكن مما هو فيه مستعلٍ على الشيء ثابتٌ يعلم ما حوله ويعلم ما أمامه أما الساقط في اللجة أو في الغمرة أو في الضلال لا يتبين ما حوله بصورة صحيحة سليمة لذا يقولون يستعمل ربنا تعالى مع الهداية ﴿على﴾، ومع الضلال ﴿في﴾.

ثم ختم الآية بقوله ﴿وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أولاً جاء بضمير الفصل ﴿هم﴾ وجاء بالتعريف ﴿المفلحون﴾، فلم يقل أولئك مفلحون، ولم يقل هم مفلحون، وإنما حصراً إن هؤلاء هم المفلحون حصراً ليس هنالك مفلح آخر.

أولئك الأصل إسم الإشارة من الناحية الحسية المحسوسة إذا لم نرد المجاز أن أولئك للبعيد وهؤلاء للقريب هذا الأصل مثل هذا وذلك. ثم تأتي أمور أخرى مجازية كأن هؤلاء أصحاب مرتبة عليا فيشار إليهم لعلو مرتبتهم بفلاحهم وعلو مرتبتهم بأولئك إشارة إلى علو منزلتهم وعلو ما هم فيه، فالذي على هدى هو مستعل فيشار إليهم بما هو بعيد وبما هو مرتفع وبما هو عالٍ، ويحبب ببلوغ ذلك المقام السامي، ليقول للمرء: كن من أولئك منزلة، وارتق مما أنت فيه من أوحال الريب، وارتق لتلك المنزلة السامقة العالية.

ثم حصر الفلاح فيهم قال ﴿وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، حصراً فمن أراد الفلاح ولا شك أن كل إنسان يريد الفلاح. والذي يؤمن بالآخرة يؤمن بكل شيء وبكل ما يتعلق بذلك وهي ليست كلمة تقال، فمن أراد الفلاح فعليه أن يفعل ما يبلغه أن يدخل في ذلك المقام العالي.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾

 

الكفر لغةً: السَّتْر والتَّغطية، وجَحْدُ النِّعمة وتناسيها، وحينئذٍ لم يبق التقابل بين الإيمان والكفر لغة إلا باعتبار اللازم، فإنّ جحود النعمةِ والتناسي لا يجتمع مع التَّصديق بأحد، وبمعنى أدق، فإن الجحود يطمس معالم التصديق، أو يحول بينه وبين القلب، ففي الحالة الأولى، اقتنع الكافر بالحق وتبين له الهدى، ولكنه شاقق، وفي الثانية أبى الحق ابتداء، وتصديقه لا يجتمع معه جحود نعمتِهِ، ولولا وجود نقيضٍ سَتَرَهُ نقيضُهُ، أو غطاه وحجبه، ما سُمي كفرا، وقد قلنا: لا يجتمعا، وهذا لا يعني أن المعرفة التي قد ينتج عنها التصديق لم تتواجد قبل أن يسترها ويغطيها ويطمس محاسنها الكفر، فرب كافر عرف وشاقق، وأما ضِدُّ الإيمان الصريح فهو الخيانة، كما أن ضِدّ الكفر هو الشكر.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ وَلَا يَجْتَمِعُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ جَمِيعًا وَلَا تَجْتَمِعُ الْخِيَانَةُ وَالْأَمَانَةُ جَمِيعًا مسند أحمد باقي مسند المكثرين.

وعَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ يُزْهِرُ وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ وَقَلْبٌ مُصْفَحٌ فَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَجْرَدُ فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ سِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ وَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَغْلَفُ فَقَلْبُ الْكَافِرِ وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمَنْكُوسُ فَقَلْبُ الْمُنَافِقِ عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمُصْفَحُ فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا الْمَاءُ الطَّيِّبُ وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يَمُدُّهَا الْقَيْحُ وَالدَّمُ فَأَيُّ الْمَدَّتَيْنِ غَلَبَتْ عَلَى الْأُخْرَى غَلَبَتْ عَلَيْهِ. مسند أحمد باقي مسند المكثرين.

قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: الكاف والفاء والراء: أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على معنىً واحد، وهو السَّتْر والتَّغطية. يقال لمن غطّى دِرعَه بثوبٍ: قد كَفَر دِرعَه. والـمُكَفِّر: الرّجل المتغطِّي بسلاحه.

ويقال للزَّارع كافر، لأنَّه يُغطِّي الحبَّ بتُراب الأرض. قال الله تعالى: ﴿أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ [الحديد 20]. ورَمادٌ مكفور: سَفَت الرِّيحُ الترابَ عليه حتى غطَّتْه. قال: * قد دَرَسَتْ غَيرَ رمادٍ مكفورْ *

والكافر من الأرض: ما بَعُد عن الناس لا يكاد ينزله ولا يمرّ به أحد؛ ومَن حلّ بتلك المواضع فهم أهل الكفور.

والكُفْر: ضِدّ الإيمان، سمِّي لأنَّه تَغْطِيَةُ الحقّ. وكذلك كُفْران النِّعمة: جُحودها وسَترُها.

جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: الْكُفْرُ فِي اللُّغَةِ: السِّتْرُ، يُقَال: كَفَرَ النِّعْمَةَ، أَيْ: غَطَّاهَا، مُسْتَعَارٌ مِنْ كَفَرَ الشَّيْءَ: إِذَا غَطَّاهُ، وَهُوَ أَصْل الْبَابِ.

وَالْكُفْرُ نَقِيضُ الإْيمَانِ، وَالْكُفْرُ: كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشُّكْرِ، وَكَفَرَ النِّعْمَةَ وَبِالنِّعْمَةِ: جَحَدَهَا، وَكَفَرَ بِكَذَا تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَفِي التَّنْزِيل: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي﴾، وَيُقَال: كَفَرَ بِالصَّانِعِ: نَفَاهُ وَعَطَّل، وَهُوَ الدَّهْرِيُّ الْمُلْحِدُ، وَكَفَّرَهُ - بِالتَّشْدِيدِ: نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ: إِذَا فَعَل الْكَفَّارَةَ، وَأَكْفَرْتُهُ إِكْفَارًا: جَعَلْتُهُ كَافِرًا.

وَالْكُفْرُ شَرْعًا: هُوَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَإِنْكَارِ وُجُودِ الصَّانِعِ، وَنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسِّلاَمُ، وَإنكار حُرْمَةِ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾،

 

قال الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى: وهنا نجد التقابل تاما بين صورة المتقين وصورة الكافرين.. فإذا كان الكتاب بذاته هدى للمتقين، فإن الإنذار وعدم الإنذار سواء بالقياس إلى الكافرين. إن النوافذ المفتوحة في أرواح المتقين، والوشائج التي تربطهم بالوجود وبخالق الوجود، وبالظاهر والباطن والغيب والحاضر.. ان هذه النوافذ المفتحة كلها هناك، مغلقة كلها هنا. وإن الوشائج الموصولة كلها هناك، مقطوعة كلها هنا

ومعنى التسوية هنا أنه معتدل عندهم الإنذار وتركه؛ أي سواء عليهم هذا. وجيء بالاستفهام من أجل التسوية؛ ومثله قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ ٱلْوَٰعِظِينَ﴾. وقال الشاعر:

وليلٍ يقول الناسُ من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها

والإنذار الإبلاغ والإعلام، ولا يكاد يكون إلا في تخويفٍ يتّسعُ زمانُهُ للاحترازِ، فإن لم يتسع زمانه للاحتراز كان إشعاراً ولم يكن إنذاراً؛ قال الشاعر أعشى قيس الملقب بالاعشى الأكبر:

أنذرتَ عَمراً وهو في مَهَلٍ قبلَ الصباح فقد عصى عَمْرُو

وتَناذَر بنو فلان هذا الأمر إذا خَوَّفه بعضُهم بعضاً.

وقد سبق وبيَّنَّا الغرض من الإنذار، وأنه إنذار بالقرآن، وإبلاغ بوجود الرسول عليه سلام الله، على نحو يعلم معه الـمُنْذَرُ أنه مخطاب بهذه الرسالة، وأن عليه أن يُعْمِلَ عقله في الأدلة ليتبين الهدى ويتبعه.

وكذلك قلنا أن مجرى التسوية في هذه الآية، وإن كان ظاهره أن النذارة وعدمها يترتب عليه ظاهرا وصفهم بالكفر، إلا أن رحمة الله تعالى اقتضت أن لا يتم وصف الكفر إلا بعد وجود النذير والبلاغ المبين، فمعناها يتضمن تقريع هؤلاء بأنهم يستوي لديهم عدم إعمال العقل في حالة وجود النذير وعدمه، بمعنى أن النذارة لن تدفعهم لتحكيم العقل لشدة ما هم عليه من الغي، حتى أن حالهم هو حال من على قلبه وعلى سمعه ختم فلا يفكر، وعلى بصره غشاوة فلا يرى الحق وهو ماثل أمامه ناصعا واضحا جليا، لا يُحتاج معه ومع ما به من الوضوح إكراه أحد عليه، إلا أن هؤلاء لشدة ما هم فيه من التكذيب، لم يُفدهم وجود سمع وأبصار وأفئدة، لو استعملوها كانت لتوصلهم إلى الحق، ولكن تراكمت عليها طبقات من الرين، ومن الغلظة، والقسوة، وألقت ظلال التكذيب عليها بطبقات من الظلمات يغشى بعضها بعضا حتى أشبه حال هذه القلوب حال من عليه ختم يصعب فكه لينفتح أمام الحق.

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقيل: هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقّت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يُعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعيّن أحدا، قال النحاس: أي إنهم تَبالَهُوا فلم تغن فيهم النذارة شيئاً.

والحق أننا نرى أن الناس يتقلبون بين كافر آمن، ومؤمن قبض على إيمانه بكلتا يديه، ومؤمن ارتد وكفر، فهذا يعني أن من مات على الكفر، فإنه في الحقيقة عاش وكأن على قلبه هذا الختم، الذي منعه من إدراك الحق واتباعه، وأما من اتبع الحق وارتد عنه، فقد حجب كفْرُهُ التصديق والحق في قلبه بساتر أغلق معه قلبه، ثم استمر على ذلك إلى أن علته طبقات وطبقات من الحجب الكثيفة، فاستوى مع الأول في الحال.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

أَقْسَامُ الكُفْر

 

قد علمتَ أنّ الكفرَ بالمعنى اللغوي، لا يقابل الإيمان. نعم، يقابلُهُ بالمعنى الشرعي. قال الوَاحِدِيّ : وهو كفرُ إنكارٍ، وكفر جحودٍ، وكفر معانَدَةٍ، [واستكبار]، وكفر نفاقٍ، فمن لقيه بشيء من ذلك لم يُغفَر له.

أما كفر الإنكار: فهو أن يكفر بقلبه، ولسانه، ولا يعتقد بالحق، ولا يقر به، أي أن لا يقر بالله أصلاً ولا يعترف به، ولا يقر بالنبوة والمعاد، أي أن يخلو قلبه من تصديق الحق والاعتقاد به ، وسنرى بعد قليل ان شاء الله تعالى أن هذا الإنكار له حالات منها: حالة عرف فيها ولم يقتنع، أو لم يحسن التعامل مع الدليل فأنكر وجه دلالته، وحالة عرف إجمالا أن ثمة دين هنالك، وخالق، ونبي وقيامة، وأنكر ذلك دونما دخول في تفاصيل أدلتها، فالأول أنكر بعد الوقوف على أدلة تفصيلية لقضايا الإيمان، والثاني أنكر بعد الوقوف على أدلة مجملة، ولكن في الحالتين، فإن الإنكار يسبقه معرفة، وسنبين ذلك بعد قليل بإذن الله، وحالة ثالثة آمن بنقيض الاعتقاد الحق، وناكر الحق وناصبه العداء، بلسان الحال أو بلسان المقال، بعد وجود النذارة. ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ 83 النحل؛ ويتفرع عن الإنكار: الإعراض عن الآيات البينات ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا﴾ 57 الكهف ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا 99 مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا 100 خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا﴾ 101 طـه والإعراض منه ما يكون كفراً ومنه ما يكون دون ذلك.). والله أعلم.

وأما كفر الجحود: فهو أن يعرف الحقَ بقلبه، ولا يُقر بلسانه، ككفر علماء أهل الكتاب، وهو قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ (البقرة: 89)، وكفر قوم فرعون: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ 14النمل؛، يعني كفرَ الجحود، وهذا حال علماء بني إسرائيل ممن عرف الحق بقلبه، ولم يقر بلسانه به، وترتب على ذلك أنه لم يتبعه، ولم يخضع له، وشاققه. ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ 32 لقمان؛ ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ 47 العنكبوت؛

وأما كفرُ المعاندة، والاستكبار: فهو أن يعرفَ بقلبه، ويقرَّ بلسانِهِ، ولا يقبلُ ولا يتدينُ به، ككفرِ أبي طالب. وككفر إبليس، فَإِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يُكَذِّبْ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِالسُّجُودِ وَإِنَّمَا أَبَى الِانْقِيَادَ كُفْرًا وَاسْتِكْبَارًا، فهذا النوع من الكفر قد يكون نتاج العناد الخالي من الاستكبار كحال أبي طالب، إذ أن اعتباراته في ذلك الكفر خشية مقالة الناس، وخشية ترك دين الآباء، أو قد يكون نتاج الاستكبار على الحق، كتمرد إبليس على أمر الله تعالى، ففي الحالتين كما ترى توجد معرفةُ القلب، ويوجد الإقرار باللسان، ولكن المعاندة حالت بين المرء وبين الانقياد للحق، وبقي في صف المشاققين.

﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ 24 ق ﴿كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ 16 المدثر؛ ﴿بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ 59 الزمر؛

وينضوي أيضا تحت كفر المعاندة: من كره الدين أو ما عُلم منه بالضرورة أو كَرِهَ شيئا من شرائع الإسلام: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ 8 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ الله فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ 9 محمد؛ ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ 25 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَالله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ 26 محمد، فإذا كان حكم الذين قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر أنهم ارتدوا على أدبارهم كافرين؛ فما يكون القول في الذين كرهوا ما نزل الله؟

وأما أنهم يلحقون بكفر المعاندة، فلأنهم ارتدوا على أدبارهم بعد إقرارهم وتصديقهم، أما من كره ما أنزل الله ابتداء ممن ذكروا في الآية التاسعة من سورة محمد صلى الله عليه وسلم، فكفرهم كفر إنكار.

ويلحق بهم كافر الاستحلال: وهو الذي يستحل ما حرم الله وهذا جعل نفسه نداً لله تعالى في التشريع.

ويتفرع عن كفر الاستكبار أيضا: الاستهزاء بما شرع الله من أحكام أو بالرسول عليه سلام الله ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ 65 لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ 66 التوبة؛ ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ 140 النساء؛

وأما كفرُ النِّفاق، فبأن يقرَّ بلسانِهِ، ويكفرَ بقلبه. ، وصاحبه لا يخلو من أن يكون سبب كفره الأصلي إما الإنكار، أو المعاندة، أو الجحود، ولكنه لم يعلن الكفر الصريح كما فعل المنكرُ والجاحدُ والمعاندُ والمستكبرُ، بل إنه تظاهر بالإيمان، فكفْرُ النفاقِ أن ينتَفَي عَمَلُ الْقَلْبِ مِنَ التصديقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْإِذْعَانِ مَعَ وجود انْقِيَادِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: 8-20].

أما مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فإنه بهذا لا يَصيرُ كَافِرًا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ سورة النحل 106،

على أننا يمكن كذلك أن نقسم الكفر إلى كفر شك، وكفر اعتقاد، وكفر فعل، وكفر قول، وسيأتي تفصيل معنى كل منها في فصل الردة في باب يكفر المسلم بأربع، فينطبق على الكافر معناها أيضا من وجه أنه كافر لأنه يشك بصدق الحق دون أن يعتقده، أو كافر لأنه يعتقد نقيض الحق الذي أمر اعتقاده، أو كافر لأنه لم يعتقد ما أمر اعتقاده، أو كافر لأنه يقول قولا مكفرا لا يحتمل التأويل، أو كافر لأنه يفعل فعلا مكفرا لا يحتمل التأويل، على التفصيل الوارد في موضعه فراجعه، ولكن الدقيقة هنا هو أنه في هذا كله كفر بعد وجود النذارة، وقيام الحجة عليه.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾،

 

فهل يعني إسناد فعل الختم على القلوب إلى الله تبارك وتعالى أنه أجبرهم على الكفر؟ أو أنه منعهم من طريق الحق والهدى؟

والحقيقة أننا أجبنا بالتفصيل على هذه المعاني في تفسيرنا لسورة الفاتحة في باب الهدى والضلال، وبينا فيه ما فيه كفاية عن الإعادة، فالله تبارك وتعالى لا يجبر أحدا على الكفر وهو الذي قطع على نفسه أنه تبارك وتعالى لا يعذب حتى يقيم الحجة الدامغة، والبلاغ المبين، ويرسل الرسل، ولا يُبقي للناس من عذر يعتذرون به عن كفرهم، حتى إذا أصروا بعد أن نشر الأدلة في أرجاء الكون، حتى لم تبق زاوية فيه إلا ودلت عليه تبارك وتعالى، وأقام على المرء الحجة بأدلة تملؤ نفسه التي بين جنبيه، وأعطاه وسائل التفكير والإحساس من سمع وبصر وحس، وأقام الحجج الدامغة والأدلة الساطعة، فلما كان من الـمُكذِّبِ ما كان بعد هذا كله، استحق على جهله وعناده وجحوده واستكباره أن يغضب الله عليه، بعد أن منحه كل أسباب الهداية والرشاد فكذب بها وجحدها، وحارب الهدى بكل ما يملك، فاستحق بهذا أن لا يستحق المعونة على الهداية، فكأنما خُتم على قلبه.

فها أنت ترى، أنه استوى لديهم، باختيارهم، وجود النذير وعدمه، في إصرارهم على غلق قلوبهم عن الحق، وذلك قبل الختم على قلوبهم، وترى أنهم كفروا ابتداء باختيارهم، قبل أن يختم على قلوبهم، وترى أنهم أُعطوا السمع والأبصار والأفئدة، قبل أن يختم عليها، ومعنى هذا كله، أنهم أعطوا الفرصة تلو الفرصة، والوسيلة تلو الوسيلة، والآلة تلو الآلة، فلما لم يغن شيءٌ من ذلك عنهم شيئا، استوى حالهم مع حال من أعطى شخصا النعمة العظيمة تلو أختها، فلا يقابله ذلك الشخص بالشكر، ولا بحسن التصرف بالنعمة، بل بأشد السوء في التصرف بها، ولا بإدراك عظمتها، فما ظنك بمن كان هذا حاله؟

إلا أننا رأينا بعض الناس وقد اشتدت عداوته لهذا الدين، يسلم ويحسن إسلامه، مما يعني أن الله لا يختم إلا على قلب من سبق في علمه أنه لن يؤمن، وأن الله تعالى لا يحجب أنوار هدايته عن أحد، فمن عميت بصيرته ختم على قلبه واستحق بعماه ذلك العذاب العظيم، وأن المرء الكافر لا يعلم أيُختم له بالهداية، أم يموت على كفره، فطريق الحق موجودة لا يمنعه أحد من سلوك سبيلها، بمعنى آخر، لا يعلم إلا الله تبارك وتعالى حال البشر من منهم الذي لن يختار بمحض إرادته أن يسلك طريق الهداية، فيموت وعلى قلبه ختم، ومن يختار الهداية والسعادة، فيموت وقلبه مليء بالبشر.

على أننا رأينا حالات من البشر آمنت قبيل وفاتها بوقت يسير، وهذا يعني أنه لم يكن على قلبه قفل ولا ختم حال بينه وبين الحق، رغم أنه عاش جل حياته كافرا، ولكنه آمن، مما يعني أن الختم إنما على قلب من جحد وعاند وأنكر واستكبر إلى آخر رمق في حياته.

قال الرازي في تفسيره: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ صيغة للجمع مع لام التعريف وهي للاستغراق بظاهره ثم إنه لا نزاع في أنه ليس المراد منها هذا الظاهر، لأن كثيراً من الكفار أسلموا فعلمنا أن الله تعالى قد يتكلم بالعام ويكون مراده الخاص،

الختم والكتم أخوان؛ لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية، لئلا يتوصل إليه أو يطلع عليه، والغشاوة الغطاء فِعَالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعُصابة والعمامة.

والختم حقيقته السد على الإناء والغلقُ على الكتاب بطين ونحوه مع وضع علامة مرسومة في خاتَم ليمنع ذلك من فتح المختوم، فإذا فُتح علم صاحبه أنه فتح لفسادٍ يظهر في أثر النقش، وقد كانت العرب تختم على قوارير الخمر ليصلحها انحباس الهواء عنها وتسلم من الأقذار في مدة تعتيقها.

والخاتَم بفتح التاء الطين الموضوع على المكان المختوم، وأطلق على القالَب المنقوش فيه علامة أو كتابة يطبع بها على الطين الذي يختم به.

ثم إن الذي يختم بالختم على شيء، إنما يختمه على شيء مقفل، مغلق، كالشرطي حين يغلق حانوتا يخالف القانون، يختم عليه بالشمع الأحمر بعد إغلاقه، فهؤلاء القوم إنما أقفلوا قلوبهم وأغلقوها في وجه الحق بكل ما لديهم من جحود وإنكار واستكبار، فاستحقوا أن تُختم على تلك الاقفال بأختام الطين.

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)﴾ محمد.

ولذلك نجد القرآن دقيقا ومحكما فقد قال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ فهم هم من كفروا، أي قد اختاروا الكفر بإرادتهم. واختيارهم للكفر كان أولا قبل أن يختم الله على قلوبهم، بل زادوا بأن وصلوا لحال من لا يستمع لنذير، وكأنما ليست لديهم عقول يفكرون بها، فلم يكتفوا بالكفر بل أغلقوا بأنفسهم عقولهم فلم تنفع مع أمثالهم النذر ولا المعجزات ولا البلاغ المبين،

لقد بين الله أنه يختم ويطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم، كما قال تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: 155] وقال: ﴿وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه﴾ [الأنعام: 25].

وليس الختم على القلوب والأسماع ولا الغشاوة على الأبصار هنا حقيقة كما توهمه بعض المفسرين فيما نقله ابن عطية بل ذلك جارٍ على طريقة المجاز بأن جعل قلوبهم أي عقولهم في عدم نفوذ الإيمان والحق والإرشاد إليها، وجعل أسماعهم في استكاكها عن سماع الآيات والنذر، وجعل أعينهم في عدم الانتفاع بما ترى من المعجزات والدلائل الكونية، كأنها مختوم عليها ومغشًّى دونها إما على طريقة الاستعارة بتشبيه عدم حصُول النفع المقصود منها بالختم والغشاوة ثم إطلاق لفظ خَتَم على وجه التبعية ولفظ الغشاوة على وجه الأصلية وكلتاهما استعارة تحقيقية إلا أن الـمُشَبَّه محقق عقلاً لا حساً.

ولك أن تجعل الختم والغشاوة تمثيلاً بتشبيه هيئة وهمية متخيلة في قلوبهم أي إدراكهم من التصميم على الكفر وإمساكهم عن التأمل في الأدلة - كما تقدم - بهيئة الختم، وتشبيه هيئة متخيلة في أبصارهم من عدم التأمل في الوحدانية وصدق الرسول بهيئة الغشاوة وكل ذينك من تشبيه المعقول بالمحسوس، ولك أن تجعل الختم والغشاوة مجازاً مرسلاً بعلاقة اللزوم والمراد اتصافهم بلازم ذلك وهو أن لا تعقل ولا تحس،

هذا وقد قال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرَّين والموت والقساوة والانصراف والحَمِية والإنكار. فقال في الإنكار: ﴿قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل: 22]. وقال في الحمية: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ﴾ [الفتح: 26] وقال في الانصراف: ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 127]. وقال في القساوة: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 22]. وقال: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 74]. وقال في الموت: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: 122]. وقال: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ [الأنعام: 36]. وقال في الرين: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]. وقال في المرض: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [محمد: 29] وقال في الضيق: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً﴾ [الأنعام: 125]. وقال في الطبع: ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 87]. وقال: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: 155]. وقال في الختم: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: 7] .

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

قلوب وسمع وأبصار:

﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾،

 

تلاحظ أن لفظة قلوب، وأبصار أتيتا بصيغة الجمع، فأولها القلوب، وهي جمع كثرة، وثانيها الأبصار وهي جمع قلة، وتوسطهما السمع بصيغة الإفراد، فما النكتة البلاغية في ذلك؟

سنبين بعد قليل ان شاء الله تعالى معنى القلوب، ودلالتها على التفكير، ولكننا الآن سنقول أن الغاية العظيمة من إقامة البراهين القاطعة، ومَلْئِ جنبات الكون بها، أن يتفكر في القلب، ولما كانت وسائل التفكير هي نقل صورة الواقع إلى الدماغ الذي عبر القرآن عنه هنا بالقلب، وهذه الوسائل هي الحواس، من سمع وبصر وشم ولمس وذوق، فإنك تلاحظ ولا شك أن السمع طريق وصول الصوت، بذبذبات ينقلها الجهاز السمعي للدماغ، فأفرد لأنه ينقل الصوت فقط، بينما البصر ينظر فينقل صورا وألوانا، وتقلبات الليل والنهار، وشمسا وقمرا، ونجوما، ووجوها، فكان وسيلة للتفكر بعشرات الأدلة، يوصلها للقلب الذي سيحلل هذا كله ويتفكر فيه، لذا استعار للقلب هنا القلوب، لتشتغل بالتفكير وتنتج الأفكار، فحسن في هذا المقام جمع القلوب، والأبصار وإفراد السمع، والله أعلم.

قال ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير: وإنما أفرد السمع ولم يجمع كما جمع ﴿قلوبهم﴾ و﴿أبصارهم﴾ إما لأنه أريد منه المصدر الدال على الجنس، إذ لا يطلق على الآذان سمع ألا ترى أنه جمع لما ذكر الآذان في قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ [البقرة: 19] وقوله: ﴿وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾ [فصلت: من الآية5] فلما عبر بالسمع أفرد لأنه مصدر بخلاف القلوب والأبصار فإن القلوب متعددة والأبصار جمع بصر الذي هو اسم لا مصدر.

وقد تكون في إفراد السمع لطيفة روعيت من جملة بلاغة القرآن هي أن القلوب كانت متفاوتة واشتغالها بالتفكر في أمر الإيمان والدين مختلف باختلاف وضوح الأدلة، وبالكثرة والقلة وتتلقى أنواعا كثيرة من الآيات فلكل عقل حظه من الإدراك، وكانت الأبصار أيضا متفاوتة التعلق بالمرئيات التي فيها دلائل الوحدانية في الآفاق، وفي الأنفس التي فيها دلالة، فلكل بصر حظه من الالتفات إلى الآيات المعجزات والعبر والمواعظ، فلما اختلفت أنواع ما تتعلقان به جمعت. وأما الأسماع فإنما كانت تتعلق بسماع ما يلقي إليها من القرآن فالجماعات إذا سمعوا القرآن سمعوه سماعا متساويا وإنما يتفاوتون في تدبره والتدبر من عمل العقول فلما اتحد تعلقها بالمسموعات جعلت سمعا واحدا .

 

استخدم القرآن ختم على القلب وختم على السمع وعطفهما، لأنه أراد أن يجمع حال القلوب والسمع بالختم، لأن موضوع التفكر يكون من خلال انتقال صورة الواقع عن طريق وسائل الإحساس من سمع وبصر وشم ولمس وذوق، إلى الدماغ، الذي استعار عنه مسمى القلب، أو لأن القلب هو المكان الذي بعد أن تنعقد الأفكار في العقول وتتوثق، يحس الانسان بأن قلبه معقود عليها، فيطمئن إليها، فكأنها استقرت في قلبه،

ولما كانت أكثر وسائل الإحساس إيصالا للمعلومات إلى الدماغ هي السمع والبصر، اختارهما، لكن لما أغلقوا قلوبهم لم يعد هناك فائدة للسمع فختم على الإثنين: ختم على قلوبهم وعلى سمعهم بختمين وليس بختم واحد لأن القلب شيء والسمع شيء آخر.

﴿وعلى أبصارهم غشاوة﴾ هذه جملة جديدة وليست معطوفة ولو أردنا أن نقفَ حين القراءة، لوقفنا على سمعهم ثم نقول وعلى أبصارهم غشاوة. فالبصر يحتاج لتغطية أما السمع فيحتاج إلى ختم لأنه ليس هناك شيء يغطيه.

وقد قدم الله القلب على السمع والبصر في تلك الآية لأنه يريد أن يعلمنا منافذ الإدراك.. وفي القرآن الكريم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78]

وهكذا يعلمنا الله أن منافذ العلم في الإنسان هي السمع والأبصار والأفئدة.. ولكن في الآية الكريمة التي نحن بصددها قدم الله القلوب على السمع والأبصار.. أن الله يعلم أنهم اختاروا الكفر.. وكان هذا الاختيار قبل أن يختم الله على قلوبهم.. والختم على القلوب.. معناه أنه لا يدخلها إدراك جديد ولا يخرج منها إدراك قديم.. ومهما رأت العين أو سمعت الأذن.. فلا فائدة من ذلك.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

﴿وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾

قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾،

 

فإن ظاهر مفهوم هذه الاية ان الكفر حاصل في حالة عدم الانذار، أي في حالة عدم الدعوة على وجه يلفت النظر.

 

﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾

فالآيات موجودة، فمن طمس الباطلُ معالمَ فِكرِه، لم تغن عنه الآيات مع أنها تملأ جنبات الكون، بل جنبات نفسه التي بين جنبيه، فحال هذا لا تغني عنه النذر، ولكن هذا لا يعني أن الله تعالى تركه هاملا، بل إنه أرسل إليه الرسل بالبلاغ المبين، ليقيم عليه الحجة فتأمل!

لأننا يجب أن نفهم هذه الآيات على ضوء الآيات الأخرى لنخرج بالفهم الصحيح الدقيق!

فإذا وعيت هذا، قلنا أن البلاغ يجب أن يكون مبينا، وقد بين رب العزة سبحانه أن الرسل يبلغون رسالات ربهم على نحو مبين يستقيم معه أن يقيم الله تعالى الحجة على الخلق، فيأخذ مسيئهم بالحق أخذا، لكن هذا البلاغ المبين يشمل كل قضية من قضايا الايمان، عليها أدلة مبينة واضحة جلية، ولكن ليس المطلوب حتى نقول أن الحجة قد قامت أن تدرس كل تلك القضايا، وتنجلي دلائل الحق عليها كلها ثم يكون المرء وقتها مطالبا باتخاذ إجراء الإيمان، لا يقال هذا، بل إن النذارة تحصل على نحو مبين بأقل من هذا كله، وسنفصل بعد قليل في الحد الأدنى المطلوب منها، وملخصه أن يستعمل العقل ابتداء لإثبات وجود الله، وهذا لا حاجة للرسل ولا للمعجزات لبلوغه، ومن ثم تتحقق النذارة التي تقام فيها الحجة بوصول مقدار آية من القرآن يفهمها، ويدرك أنها معجزة عجز الخلق كلهم على الاتيان بها، فيثبت له بذلك صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا إن لم يكن من أهل الكتاب، أما إن كان من أهل الكتاب، فيكفي أن يسمع بالاسلام، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم لتقوم عليه الحجة، لوجود خبره في الكتب، والله أعلم.

بعد سماعه بخبر الاسلام، ووصول القرآن إليه، وتمكنه من الوصول للأدلة بِلُغَته، يجب عليه النظر، والتمعن والتفحص ليتبع الحق، ولا نقول هنا يؤمن لمجرد سماع آية إن لم يكن ممن يحسن البلاغة وتحسس موضع الإعجاز فيها، بل نقول أن الحجة قامت عليه بوجوب النظر واستعمال العقل، فإن توفرت الحجج القاطعة بلغته، فسواء وعاها وأدرك وجه الدلالة فيها، أو لم يعيها فقد أقيمت عليه الحجة وإن لم يؤمن بها كان كافرا، وأما إن لم تتوفر بلغته، أو بلغة يفهمها، فلا تكون الحجة قد قامت عليه. والله أعلم.

قال الإمام النبهاني: (الواجب على الدولة ان تبلغ الدعوة على وجه يلفت النظر، لان الله يقول ﴿و ما على الرسول الا البلاغ المبين﴾ و كلمة المبين وصفٌ مفهمٌ، و لذلك تكون قيدا للتبليغ...) انتهى

لقد كان من رحمة الله تعالى بالخلق أن جعل الحق واضحا جليا، سهلا، بَيِّناً، فقال عز من قائل: ﴿قد تبين الرشد من الغي﴾: ومعنى ﴿تَّبَيَّنَ﴾ انفصل وامتاز، فكأن المراد أنه حصلت البينونة بين الرشد والغي بسبب قوة الدلائل وتأكيد البراهين، أي تميز الحق من الباطل؛ والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة، إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يُقْسَرَ على الإيمان ويُجْبَرَ عليه، فكأن الآية تقول: بعد كل هذا الوضوح والبيان في الدين، لم يبق على صاحب اللب إلا أن يدخله، إذ لا يتصور قهره على الدخول فيه ولا يحتاج لذلك لشدة ما فيه من الوضوح، فطبيعته إذن أنه مبين، وقد أُقيم على قواعد من الوضوح يسهل الوصول إليها، لذا فالحجة قائمة، وقد سهّل الله على الخلق استبانة الحق من الغي،

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

العذاب العظيم:

أما العذاب، فهو مشتق من الحبس والمنع، يقال في اللغة: أعْذِبه عن كذا أي أحبسه وأمنعه، ومنه سمي عذوبة الماء، لأنها قد أعذبت. واستعذب بالحبس في الوعاء ليصفو ويفارقه ما خالطه، فسمي العذاب عذابا لأن صاحبه يُحبس ويمنع عنه جميع ما يلائم الجسد من الخير ويهال عليه أضدادها.

وصف الرب سبحانه وتعالى أصناف العذاب التي يعذب بها الكفار والمنافقين، ومن وجب عليه العذاب بأوصاف مختلفة، فمرة سمى العذاب بالعظيم، ومرة وصفه بالأليم، ومرة وصفه بالشديد:

﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾ البقرة، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (10)﴾ البقرة، ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)﴾ البقرة، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (4)﴾ آل عمران،، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)﴾ المائدة، ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ (165)﴾ الأعراف، ﴿وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)﴾ هود،

فلكل مقام ما يستحقه صاحبه من صنوف العذاب، فالمتكبر يستحق نوعا من العذاب يمرغ فيه أنفه في التراب، ويذله ويهينه، ولقد وصف الله سبحانه وتعالى العذاب بأنه أليم، وبأنه مهين، وبأنه عظيم، والعذاب الأليم هو الذي يسبب ألما شديدا، والعذاب المهين هو الذي يأتي لأولئك الذين رفعهم الله في الدنيا، فتكبروا عليه وعلى خلقه بغير حق، وأحيانا تكون الإهانة أشد إيلاما للنفس من ألم العذاب نفسه، أولئك الذين كانوا أئمة الكفر في الدنيا، يأتي بهم الله تبارك وتعالى يوم القيامة أمام من اتبعوهم فيهينهم، أما العذاب العظيم فإنه منسوب إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، لأنه بقدرات البشر تكون القوة محدودة، أما بقدرات الله جل جلاله تكون القوة بلا حدود، لأن كل فعل يتناسب مع فاعله، وقدرة الله سبحانه وتعالى عظيمة في كل فعل، وبما أن العذاب من الله جل جلاله فإنه يكون عذابا عظيما .

هذا ولو اقتصر على قوله عذاب ولم يقل عظيم لاحتمل القليل والكثير، فلما وصفه بالعظيم تمم المعنى وعلم أن العذاب الذي وعدوا به عظيم، إما في المقدار وإما في الإيلام والدوام.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

المنافقون:

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)

 

النفاق في اللغة والاصطلاح

قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن (بتصرف): النَّفَقُ: الطريقُ النَّافِذُ، والسَّرَبُ في الأَرْض النَّافِذُ فيه، قال: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنعام / 35] ومنه: نَافِقَاءُ اليَرْبُوعِ ، وقد نَافَقَ اليَرْبُوعُ، ونَفَقَ، ومنه: النِّفَاقُ، وهو الدّخولُ في الشَّرْعِ من بابٍ والخروجُ عنه من بابٍ، وعلى ذلك نبَّه بقوله: ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ [التوبة / 67] أي: الخارجون من الشَّرْعِ، إذ أن فَسَقَ فلان: خرج عن حجر الشّرع، وذلك من قولهم: فَسَقَ الرُّطَبُ، إذا خرج عن قشره، وجعل اللَّهُ المنافقين شرّاً من الكافرين. فقال: ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء / 145]

وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: (نفق) النون والفاء والقاف أصلانِ صحيحان، يدلُّ أحدُهما على انقطاعِ شيءٍ وذَهابه، والآخر على إخفاءِ شيءٍ وإغماضِه. ومَتَى حُصِّل الكلامُ فيهما تقارَبا.

فالأوَّل: نَفَقَت الدّابةُ نُفوقاً: ماتت، ونَفَق السِّعر نَفَاقاً، وذلك أنَّه يمضي فلا يَكْسُد ولا يَقِف...

والأصل الآخر النَّفَق: سَرَبٌ في الأرض لـه مَخْلَصٌ إلى مكان. والنَّافقاء: موضِعٌ يرقِّقه اليَربوعُ من جُحْرِه فإذا أُتِيَ من قِبَل القاصعاء ضَرَب النَّافقاءَ برأسه فانتفَقَ، أي خرج. ومنه اشتقاق النِّفاق، لأن صاحبَه يكتُم خلافَ ما يُظهِر، فكأن الإيمان يَخرُج منه، أو يخرج هو من الإيمانِ في خفاء. ويمكن أنَّ الأصلَ في الباب واحد، وهو الخُرُوجُ. والنَّفَق: الـمَسلك النَّافذ الذي يُمكن الخروجُ منه .

قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: وَالنِّفَاقُ اسْمٌ مِنَ الأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّرْعُ، لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِمَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيِّ هَذَا قَبْل الإسْلاَمِ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتُرُ كُفْرَهُ وَيُظْهِرُ إِسْلاَمَهُ

النافِقاءُ: إحدى جِحَرَةِ اليربوع، يكتُمها ويُظهر غيرها، وهو موضعٌ يرقِّقه، فإذا أُتِيَ من قِبَلِ القاصِعاءِ ضربَ النافِقاءَ برأسه فانْتَفَقَ، أي خرج. والجمع النَوافِقُ.

والقاصعاء: جحر يحفره اليربوع فإذا دخل فيه سد فمه لئلا يدخل عليه حية أو دابة، فلليربوع إذن جحران، يخفي أحدهما بكومة تراب، فإن أُتِي من قبل جحر القاصعاء ضرب برأسه التراب المفضي إلى النافقاء، فخرج من جحر إلى جحر، وهذا حال المنافق على وجه الدقة! وتأمل هذه اللغة العربية الغنية التي تجد فيها لجحر اليربوع اسمين مختلفين كل يؤدي غرضا في الوصف!

اليربوع (باللاتينية: Gerbillus) جنس من أسرة اليرابيع في رتبة القوارض، يشمل نحو ستين نوعاً تنتشر في المناطق الجافة.

 

رابط هذا التعليق
شارك

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾

 

أما اختيار الإيمان بالله وباليوم الآخر دون غيرهما بالذكر في هذه الآية، فلأن الايمان بالله أصل الاعتقاد كله، والإيمان باليوم الآخر علامة على الخضوع لمنهج الله تعالى، والاستعداد للحساب على أساسه يوم القيامة، فكانت التوأمة بين هذين الأصلين علامة على فساد اعتقادهم، وإن توهم من توهم أنه مؤمن بالله، لمجرد اعتقاده أنه هو الخالق، دون أن يؤمن باليوم الآخر، فيخضع لمنهج الله، فإنه لا يتحقق فيه الإيمان المطلوب.

وقال ابن عطية: وسمى الله تعالى يوم القيامة ﴿اليوم الآخر﴾ لأنه لا ليل بعده، ولا يقال يوم إلا لما تقدمه ليل،

وسأل سائل: ما معنى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾؟ ومعلوم أن الذي يقول هو من الناس، فكيف يصلح لهذا الجار والمجرور وقوعه خبرا للمبتدأ بعده؟ فأجيب بأن هذا تفصيل معنوي لأنه تقدم ذكر المؤمنين، ثم ذكر الكافرين، ثم أعقب بذكر المنافقين، فصار نظير التفصيل اللفظي في قوله: ﴿ومن الناس من يعجبك﴾، ﴿ومن الناس من يشري نفسه﴾، فهو في قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق، كما فُصلوا إلى ﴿من يعجبك قوله﴾، و﴿من يشري نفسه﴾، وقد أسلفنا أن الموضوع بيان أحوال الناس وسلوكهم إزاء منهج إعمار الله في الأرض، فنبه على هذه الأنواع، منهم مؤمن، ومنهم كافر، ومنهم منافق، وذلك كي يتخذ قارئ هذا القرآن موقفه بأن ينضوي تحت خيرهم، ويتقي أن يكون من ضمن شر الفئات.

والناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومرادفه: أناسي، جمع: إنسان أو إنسي.

واختلف النحاة في لفظ الناس؛ فقيل: هو اسم من أسماء الجموع، جمع إنسان وإنسانة؛ على غير اللفظ، وتصغيره نُوَيس. فالناس من النَّوْس وهو الحركة؛ يقال: ناس ينوس أي تحرّك؛ ومنه حديث أم زَرْع: «أَنَاسَ من حُلِيٍّ أُذُنَيّ».

وقيل: أصله من نسى؛ فأصل ناس نسي، قُلِبَ فصارَ نَيَسَ تحركت الياء فانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً، ثم دخلت الألف واللام فقيل: الناس. قال ابن عباس: نسي آدم عهد الله فسُمِّيَ إنساناً. وقال عليه السلام: «نسي آدم فنسِيَتْ ذريّتُه». وفي التنزيل: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰۤ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُۥ عَزْمًا﴾ وعلى هذا فالهمزة زائدة؛ قال الشاعر:

لا تَنْسَيْن تلك العُهودَ فإنَّما سُمِّيتَ إنساناً لأنّك ناسِي

وقال آخر:

فإنْ نَسِيتَ عهودا منك سالفةً فاغفرْ فأوّلُ ناسٍ أوّلُ الناس

وقيل: سمي إنساناً لأنْسه بحواء. وقيل: لأنْسه بربه، فالهمزة أصلية؛ قال الشاعر:

وما سُمِّيَ الإنسانُ إلاّ لأنْسِهِ ولا الْقلبُ إلاّ أَنَّه يَتَقَلَّبُ

والتعريف في الناس للجنس لأن ما علمت من استعماله في كلامهم يؤيد إرادة الجنس.

وقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ جيء في نفي قولهم بالجملة الاسمية ولم يجيء على وزن قولهم: ﴿آمَنَّا﴾ بأن يُقال وما آمنوا، لأنهم لما أثبتوا الإيمان لأنفسهم فقالوا: ﴿آمَنَّا﴾، كان الإتيان بالماضي أشمل حالا لاقتضائه تحقق الإيمان فيما مضى بالصراحة ودوامه بالالتزام؛ لأن الأصل ألا يتغير الاعتقاد بلا موجب كيف والدين هو هو،

ولما أريد نفي الإيمان عنهم كان نفيه في الماضي لا يستلزم عدم تحققه في الحال بَلْهَ الاستقبال فكان قوله: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ دالا على انتفائه عنهم في الحال؛ لأن اسم الفاعل حقيقة في زمن الحال وذلك النفي يستلزم انتفاءه في الماضي بالأولى، ولأن الجملة الفعلية تدل على الاهتمام بشأن الفعل دون الفاعل فلذلك حكى بها كلامهم لأنهم لما رأوا المسلمين يتطلبون معرفة حصول إيمانهم قالوا: ﴿آمَنَّا﴾ والجملة الاسمية تدل على الاهتمام بشأن الفاعل أي أن القائلين: ﴿آمَنَّا﴾ لم يقع منهم إيمان فالاهتمام بهم في الفعل المنفي تسجيلٌ لكذبهم وهذا من مواطن الفروق بين الجملتين الفعلية والاسمية وهو مُصَدّقٌ بقاعدة إفادة التقديم الاهتمام مطلقا وإن أهملوا التنبيه على جريان تلك القاعدة عندما ذكروا الفروق بين الجملة الفعلية والاسمية في كتب المعاني وأشار إليه صاحب الكشاف هنا بكلام دقيق الدلالة .

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾

﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)﴾

 

جملة ﴿يُخَادِعُونَ﴾ بدل اشتمال من جملة ﴿يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: من الآية8] وما معها لأن قولهم ذلك يشتمل على المخادعة.

والخداع: قيل إظهار غير ما في النفس، وأصله الإخفاء، ومنه سمي البيت المفرد في المنزل مخدعاً لتستر أهل صاحب المنزل فيه، والمخادعة، مفاعلة، الأصل أن تكون من طرفين، كقولك: مصافحة، يشترك فيها طرفان، وقد تأتي فاعَلَ والمفاعلة من واحد كعاقبت اللص وعالجت المريض ومثل عافاه الله، وكذلك هي هنا المخادعة من طرف واحد وهو طرف المنافقين.

قال أبو حيان في تفسير البحر المحيط: وفاعل يأتي لخمسة معان: لاقتسام الفاعلية، والمفعولية في اللفظ، والاشتراك فيهما من حيث المعنى، ولموافقة أفعل المتعدي، وموافقة المجرد للإغناء عن أفعل وعن المجرد. ومثل ذلك: ضارب زيدا عمر، وباعدته، وواريت الشيء، وقاسيت.

وخادع هنا إما لموافقة الفعل المجرد فيكون بمعنى خدع، وكأنه قال: يخدعون اللّه،

ويحتمل أن يكون خادع من باب المفاعلة،

وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾ النساء،،

وفي اللغة العربية كما أسلفنا، من ضروب التعبير عن الكلام، باب المجاز المرسل، وهو إذا كانت العلاقة بين المعنى المستعمل فيه والمعنى الأصلي غير المشابهة، وله أنواع، منها المجاز المفرد المرسل، وهو اللفظ المستعمل –بقرينة - في خلاف معناه اللغوي لعلاقة غير المشابهة،

وعلاقات المرسل متعددة، منها السببية: أي تسمية الشيء باسم سببه: ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾، سمى رد أو جزاء الاعتداء بالاعتداء، من قبيل تسمية الشيء باسم سببه، والأصل أن رد الاعتداء ليس باعتداء، لكن حسُن تسميته باسم سببه، ومن ذلك: ﴿إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم﴾ سمى مجازاة الاستهزاء والرد عليه بالاستهزاء، مع أن الله تعالى عن أن يستهزئ بحسب الحقيقة اللغوية للفظ، إلا أن التسمية كانت من باب تسمية الشيء باسم سببه، ومن فوائدها البلاغية أثر هذا المعنى في النفس، فلئن كان العاجز الكافر يستهزئ بالله، أو بأوليائه، أو بدينه، وهو العاجز المحتاج الناقص، الفقير البائس الخالي من أي قدرة، فكيف سيكون جزاؤه إذا علم أن من سيتولى الرد عليه بسوء فعلته هو رب العالمين سبحانه؟ ﴿ومكروا ومكر الله﴾، ﴿فيسخرون منهم سخر الله منهم﴾، و﴿نسوا الله فنسيهم﴾، ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾.

تسمى هذه العلاقة أحيانا الجزائية: أنبتت الأرض مطرا.

ومن هذا الباب تسمية مجازاة الله لهم على مكرهم، وعلى مخادعتهم بالمكر والخداع، وهو استدراجهم في الدنيا، وعقوبتهم الأليمة في الآخرة.

﴿وما يشعرون﴾ أن ضرر تلك المخادعة راجع عليهم لخلودهم في النار، ومن شعر بدأ التفكير بعد إحساسه بموجبٍ للتفكير، فإن المجتمع إذا أحس بالانحطاط، بدأ التفكير في موجبات النهضة وطريقها، وأكثر الناس حسا مرهفا، هم أول من يتحرك للتغيير، ويتحرك كلٌّ بحسب مقدار شعوره بالانحطاط، أو بالظلم، فالشاهد أن بداية التفكير بالأمور العظام يأتي نتاج الشعور، فلما كان المنافقون بليدين، لا إحساس لديهم، يتيهون في بحر لجي من العمه، ويتاجرون بالضلالة، فناسب أن يظهر لنا أنهم لا يشعرون.

أما أنهم ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، فإنهم لانعدام الشعور لديهم، لم يتفكروا بعاقبة أمرهم هذا، وأنهم يخادعون رب العالمين، جبار السموات والأرض، ويكذبون بهذا الحديث الذي أنزله على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه منهج إقامة الأرض بالعدل والحق، لتستقيم مع منهج الحق والعدل الذي قامت عليه السموات وما بينهن، ولنتأمل عاقبة من كذب بهذا الحديث: ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾!!! جبار السماوات والأرض الرب العظيم القوي المنتقم يواجه هذا المخلوق الضعيف الذي لا يقوى على ترويض ذبابة ﴿ذرني﴾ خل بيني وبينه!! أي إنذار رهيب وأي وعيـد شديد اللهجة ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ 44 وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾!! فالله يستدرج هؤلاء المنافقين، يمد لهم في طغيانهم يعمهون، ثم يحل عليهم العذاب الأليم، من حيث لا يعلمون، فهل من كان هذا الحال مآله، يخدع أحدًا أكثر مما يخدع نفسه؟

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في هذا الشأن كلاما حريا أن يكتب بماء الذهب:

"وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة، وأمام تفضل من اللّه كريم.. تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها، وهي حقيقة الصلة بين اللّه والمؤمنين. إنه يجعل صفهم صفه، وأمرهم أمره. وشأنهم شأنه. يضمهم سبحانه إليه، ويأخذهم في كنفه، ويجعل عدوهم عدوه، وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه - سبحانه - وهذا هو التفضل العلوي الكريم.. التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوي السامق والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها، وهو يرى اللّه - جل شأنه - يجعل قضيته هي قضيته، ومعركته هي معركته، وعدوه هو عدوه، ويأخذه في صفه، ويرفعه إلى جواره الكريم.. فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير؟!

وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم، وإيصال الأذى إليهم.

تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع اللّه القوي الجبار القهار. وأنهم إنما يحاربون اللّه حين يحاربون أولياءه، وإنما يتصدون لنقمة اللّه حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة."

قال الإمام عطا أبو الرشتة: وننبه هنا إلى نقطة وهي أن ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، قد جاءت في الآية تعقيبا على أمرين: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾، ويخادعون الذين آمنوا، ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا﴾ أما عدم تمكن المنافقين من أن يخدعوا الله سبحانه، وأنهم يخدعون أنفسهم فهذا مقطوع به، وبالتالي فإن: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، تعقيبا على قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾، واضحة المعنى.

لكن كيف نفهم: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، تعقيبا على ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا﴾ يخادعون المؤمنين؟ علما بأن نجاح المنافقين في خداع المؤمنين ممكن؟ وهذا ظاهره خلاف منطوق الخبر الوارد عن الله سبحانه: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾؟

والجواب هو أن هناك في لغة العرب دلالة للكلام تسمى دلالة الاقتضاء، وهي تعني أن يُفهم الخبر الوارد في منطوق الكلام، يُفهم في صيغة الطلب إذا اقتضت ذلك ضرورة صدق المتكلم، وهي هنا كذلك، فإن الخبر الوارد في الآية ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، تعقيبا على مخادعة المنافقين للمؤمنين هو في معنى الطلب، أي لا تمكنوا المنافقين من أن يخدعوكم أيها المؤمنون، بل كونوا على درجة من الوعي والفطنة بحيث ترتد مخادعتهم على أنفسهم، ودلالة الاقتضاء لضرورة صدق المتكلم معروفة ومشهورة في علم الأصول .

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾

ومثلها قوله تعالى: ﴿وأمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾.

 

إن المرض الذي في قلوبهم هو مرض في عقيدتهم، في قلوبهم شك، وريبة، وتكذيب، جعلها مريضة.

المرض: مصدر مرض، ويطلق في اللغة على الضعف والفتور، ومنه قيل: فلان يمرضُ الحديثَ أي يُفْسِدُهُ ويُضعفُهُ. وقال ابن عرفة: المرض في القلب: الفتور عن الحق، وفي البدن: فتور الأعضاء، وفي العين: فتور النظر، وقيل: المرض: الفساد، ويطلق ويراد به الظلمة، قال:

في ليلة مرضت من كل ناحية فما يحس به نجم ولا قمر

والكذب في هذه الآية الكريمة، صفة تتقزز منها النفوس الأبية، فقد روى مالك رضي الله عنه في موطأه: حدّثني مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ الله: أَيَكُونُ الـمُؤْمِنُ جَبَاناً؟ فَقَالَ: «نَعَمْ» فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الـمُؤْمِنُ بَخِيلاً؟ فَقَالَ: «نَعَمْ» فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الـمؤمن كَذَّاباً؟ فَقَالَ: «لاَ».

وروى الإمام أحمد رضي الله عنه في مسنده: عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يُطْبَعُ المؤمنُ عَلى الخِلالِ كُلِّها إلاَّ الخِيَانَةَ وَالكَذِبَ.

وأما قوله تعالى ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾، فكما أسلفنا من باب المجازاة على سوء فعلهم، وقيل: هو دعاء عليهم. ويكون معنى الكلام: زادهم الله شكًّا ونفاقاً جزاء على كفرهم وضعفا عن الانتصار وعجزا عن القدرة؛ كما قال الشاعر:

يا مُرْسِلَ الرِّيح جَنوباً وصَبَا إذْ غَضِبَتْ زيدٌ فزِدْها غضباً

أي لا تهدها على الانتصار فيما غضبت منه. وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز الدعاء على المنافقين والطرد لهم؛ لأنهم شَرّ خلق الله. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم؛ أي فزادهم الله مرضاً إلى مرضهم؛ كما قال في آية أخرى: ﴿وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَـٰفِرُونَ﴾. وقال أرباب المعاني: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًاۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمُۘ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ أي بسكونهم إلى الدنيا وحبّهم لها وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها. أي وكَلَهم إلى أنفسهم، وجمع عليهم هموم الدنيا فلم يتفرّغوا من ذلك إلى اهتمامٍ بالدين.

وكَذِبُهُمْ هنا هو ادعاؤهم مقامَ الإيمان، وهم أحط من أن يبلغوه، فقد جمعوا إلى التكذيب بالحق الذي هو سمة الكفار الأساسية، جمعوا إليه صفات المكر والمخادعة، والاستهزاء والإفساد، فمن كان هذا حاله، فاستحق بمجرد كذبه وادعائه أنه سَما لمرتبة الإيمان كل هذا العذاب الأليم والعظيم، تطهيرا لمرتبة الإيمان السامية من أن يدنسها أمثال هؤلاء.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)﴾

 

والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به، وضده الصلاح وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، وكان فساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم وذلك مما يؤدي إلى هيج الفتن بينهم.

وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ قال يعني لا تعصوا في الأرض وكان فسادهم ذلك معصية الله، لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة، وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وقال ابن جريج عن مجاهد: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ قال: إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم لا تفعلوا كذا وكذا قالوا إنما نحن على الهدى مصلحون.

والمعنى في الآية: لا تُفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم والقرآن.

﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، مرة أخرى يأتي بأصل الداء، وهو انتفاء الشعور والإحساس، فمن أين لهم أن يميزوا أنهم على الباطل، وأنهم مادة الفساد والإفساد في الأرض، لأنهم يصدون الناس عن الحق، بأساليبهم الخبيثة ومكائدهم ودسائسهم، فلن يتحصل لهم التفكير السليم لانعدام حتى مجرد الإحساس والشعور، لذلك يظنون أنفسهم أنهم هم المصلحون،

والذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدا في كل زمان. يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم. ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم.

والذين لا يخلصون سريرتهم للّه يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية..

وإنما تأتي للتوكيد، وتأتي للحصر، من ذلك مثلا، قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه مسلم رضي الله عنه عن ابْنَ عَبَّاسٍ كان يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ».

فإنما في هذا الحديث للتوكيد لا للحصر، وهؤلاء المنافقون يدعون أنهم هم المصلحون ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾، توكيدا للسامع، لدفع شبهة رغبتهم في الإفساد، وهي ظاهرة عند سامعهم المجادل لهم، فيقول لهم بعد سماعهم: هذا إفساد في الأرض، فيحاولون إغراءه بما لديهم من الباطل بتوكيدهم أنهم إنما هم المصلحون، ليزينوا سوء دعوتهم في ناظريه إن لم يكن من أهل النظر.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)﴾

 

محور هذه الآيات، يمكن اختزاله بشنيع حال من يتاجر بائعا الهدى، ومشتريا الضلالة، ولك أن تتخيل أن المرء إذ يبيع، ويشتري عوضا عما يبيعه، إنما يحرص على تحصيل أكبر قدر من المنفعة المادية، فحرصه هذا على العناية التامة بما يشتريه، لا يعادله إلا حرصه الشديد على بيع ما يريد التخلص منه للحصول على مبتغاه!

وقد جرت الآيات على نسق اسلوب التمثيل وهو هذا: ان تاجراً مغبونا مخذولاً أُعطي له رأسُ مالٍ غالٍ فاشترى به السموم وما يضره، فتصرف فيه، فلم يربح ولم يفد؛ بل ألقاه في خسارة على خسارة، فأضاع رأس ماله، ثم أضل الطريق؛ بحيث لا يستطيع ان يرجع.

ولفظ ﴿اشتروا﴾ اشارة الى رد اعتذارهم بـ "ان فطرتنا هكذا". فكأن القرآن الكريم يقول لهم: لا!. ولقد أعطاكم الله أنفاسَ العمر رأسَ مالٍ، وأودع في روحكم استعداد الكمال، وغرس في وجدانكم نواة الحقيقة وهي الهداية الفطرية لتشتروا السعادة فاشتريتم بدلها - بل بتركها - اللذائذ العاجلة والمنافع الدنيوية فاخترتم بسوء اختياركم مسلك الضلالة على منهج الهداية، فافسدتم الهداية الفطرية، وضيعتم رأس مالكم.

ولفظ ﴿الضلالة بالهدى﴾ فيه اشارة الى انهم خسروا خسارة على خسارة. اذ كما خسروا بالضلالة؛ كذلك خسروا بترك النعمة العظيمة التي هي الهداية.

أما جملة ﴿فما ربحت تجارتهم﴾ فاعلم! ان في تخصيص نفي الربح - مع انهم كما قد خسروا فقد أضاعوا رأس المال أيضاً - اشارة الى من شأن العاقل ان لا يقدم على تجارة لاربح فيها، فضلاً عما فيها خسارة واضاعة رأس المال.. ثم في اسناد الفعل الى التجارة مع ان الأصل "فما ربحوا في تجارتهم" اشارة الى ان تجارتهم هذه بجميع أجزائها وكل أحوالها وقاطبة وسائطها لا فائدة فيها لا جزئياً ولا كليا؛ لا كبعض التجارات التي لايكون في محصلها وفذلكتها ربح، ولكن في أجزائها فوائد، ولوسائط خدمتها استفادات.. أما هذه فشرّ محض وضرر بحت. ونظير هذا الاسناد "نامَ لَيْلُهُ"بدل "نام في الليل"؛ اذ الأول يفيد ان ليله أيضا ساكن وساكت كالنائم لا يحرِّك ليلته شئ ولا يموِّجه طارق.

وأما جملة ﴿وما كانوا مهتدين﴾ أي كما خسروا وأضاعوا المال؛ كذلك قد اضلوا الطريق، فترشيح وتزيين كسابقتها لأسلوب ﴿اشتروا﴾.. وأيضاً فيها رمز خفيّ الى ﴿هدى للمتقين﴾ في رأس السورة. كأنه يقول: اعطى القرآن الكريم الهداية فما قبل هؤلاء .

والطبائع السليمة تنفر من الضلالة، وتطمح إلى الهداية، فما حال من لم يكتف باستبدال الضلالة بالهدى، بل يزيد عليها بأن يصل به الحال ليجعل هذا الاستبدال تجارة!

ومن بلغ به العمى هذا المبلغ، فهو ولا شك سفيه، قال ابن فارس (بتصرف): (سفه) السين والفاء والهاء أصلٌ واحدٌ، يدلُّ على خفّة وسخافة. وهو قياس مطَّرد. فالسَّفَه: ضدّ الحِلْم. والحلم: ترك العَجَلة، وتثقُّب الشيء، والحِلْم خلافُ الطَّيش، فالسفه ضد الحلم، يقال ثوب سفيه، أي رديء النسج. ويقال تَسَفَّهَت الريحُ، إذا مالت. قال ذو الرمة:

مَشَيْن كما اهتَزَّت رياحٌ تسفَّهت *** أعالِيَها مَرُّ الرِّياحِ الرواسِمِ

فالسفيه يميل عن الحق، لسخفٍ وخِفَّةٍ في عقله، لم يقدرِ الحقَّ حق قدره، فمال عنه، ومتى علم السفيه أنه سفيه؟ ومتى استشعر المنحرف أنه بعيد عن المسلك القويم؟!

وهؤلاء المنافقون لا يقفون عند حد الكذب والخداع، والسفه والادعاء، إنما يضيفون إليها الضعف واللؤم والتآمر في الظلام:

﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ﴾..

وبعض الناس يحسب اللؤم قوة، والمكر السيئ براعة. وهو في حقيقته ضعف وخسة. فالقوي ليس لئيما ولا خبيثا، ولا خادعا ولا متآمرا ولا غمازا في الخفاء لمازا. وهؤلاء المنافقون الذين كانوا يجبنون عن المواجهة، ويتظاهرون بالإيمان عند لقاء المؤمنين، ليتقوا الأذى، وليتخذوا هذا الستار وسيلة للأذى.. هؤلاء كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم - وهم غالبا - اليهود الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته، كما أن هؤلاء كانوا يجدون في اليهود سندا وملاذا، وهذه الآية أيضا تشير إلى خفايا العلاقة بين هؤلاء الشياطين، وبين هؤلاء المنافقين: تشير إلى قلة ثقة أصحابهم فيهم، فيحتاجون مع كل قبيح فعالهم إلى طمأنة هؤلاء الشياطين أنهم معهم، وأنهم إن تظاهروا بشيء من مقتضيات الايمان، فإنما من باب الاستهزاء، حتى لا يظن شياطينهم فيهم الظنون!

ويشير هذا أيضا إلى أن شخصياتهم مهزوزة غير مستقرة، مريضة، استمرأت التبعية لشياطين الباطل، ورضيت بأن تكون اليد الضاربة في الخفاء بالخديعة والتلون، وما تأنفه حتى نفوس تلك الشياطين، إذ أنها لا تمارسه بنفسها، فتترك لهم القيام بهذا الدور.

وما يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم، حتى يصب عليهم من التهديد ما يهد الجبال الرواسي: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾،

وما أبأس من يستهزىء به جبار السماوات والأرض وما أشقاه!! يستدرجه وهو في قمة غيه، وعمهه، وضلالته، وتخبطه بغير هدى، بائعا آخرته ودنياه بدنيا غيره، تابعا ذليلا، يستدرجه وهو في ذلك البحر اللجي من الظلمات والضلال، لا نجم يهتدي به، ولا منارة تضيء له نهاية الطريق ترشده إلى أين النجاة، وهو لا يشعر ببؤس حاله، ولا يستصرخ طالبا النجاة والهداية، بل يستهزئ، ويخادع، فيستدرجه رب العزة سبحانه عاضدا المؤمنين في الدفاع عنهم من مكر هؤلاء، فيوقعه في أشد العقوبة: ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء / 145]!! وكفى به مصيرا يعلمون به الفرق بين سخافة استهزائهم بالمؤمنين إزاء ما ينتظرهم من مقابلة ذلك باستهزاء رب العزة بهم في ذلك الدرك الأسفل المنسي من دركات جهنم، جزاء وفاقا!

﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)﴾

 

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

  • 3 weeks later...

﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)﴾

الطغيان ضد الاستقامة:

ولتحديد مفهوم الطغيان، ولكي نضع اليد عليه لتظهر شناعته، لا بد من مقارنته بضده، والضد يظهر سوءه الضد، نجد أن رب العزة سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ومن تبعه بأمر عظيم شاب من هوله رأس الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل أوان شيبه، بقوله تعالى مخاطبا نبيه: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)﴾، وبين عظيم أجر من استقام ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾الأحقاف (13)

وحين ننظر في معنى لا خوف عليهم، نجد أنها طمأنة لهم من أن يمسهم شيء يخشونه في قابل أيامهم، والذي يطمئنهم على ذلك النعيم العاجل والآجل، هو رب العالمين، من بيده مقاليد السموات والأرض، ويضيف إلى تلك الطمأنينة، طمأنتهم إلى أن ما كان من أمرهم فيما مضى لا حزن يحزنونه عليه، فهي سكينة تامة كاملة، تعم ما مضى من أعمال، وما هو مستقبِلُهُم مما سيأتيهم في قابل الايام، يتكفل بذلك رب العالمين سبحانه.

عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ قَالَ قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ. رواه مسلم.

وشرحه النووي رحمه الله قال: قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا مِنْ جَوَامِع كَلِمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُطَابِق لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا﴾ أَيْ وَحَّدُوا اللَّه، وَآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ اِسْتَقَامُوا فَلَمْ يَحِيدُوا عَنْ التَّوْحِيد، وَالْتَزَمُوا طَاعَته سُبْحَانه وَتَعَالَى إِلَى أَنْ تُوُفُّوا عَلَى ذَلِكَ.

وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ مِنْ الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيث إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. هَذَا آخَر كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه.

وَقَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ مَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيع الْقُرْآن آيَة أَشَدّ وَلَا أَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَة وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ حِين قَالُوا: قَدْ أَسْرَعَ إِلَيْك الشَّيْبُ فَقَالَ: " شَيَّبَتْنِي هُود وَأَخَوَاتهَا "

قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم الْقُشَيْرِيُّ فِي رِسَالَته: الِاسْتِقَامَة دَرَجَة بِهَا كَمَالُ الْأُمُور وَتَمَامهَا، وَبِوُجُودِهَا حُصُول الْخَيْرَات وَنِظَامهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِيمًا فِي حَالَته ضَاعَ سَعْيه وَخَابَ جَهْده.

قَالَ: وَقِيلَ: الِاسْتِقَامَة لَا يُطِيقهَا إِلَّا الْأَكَابِر لِأَنَّهَا الْخُرُوج عَنْ الْمَعْهُودَات وَمُفَارَقَة الرُّسُوم وَالْعَادَات، وَالْقِيَام بَيْن يَدِي اللَّه تَعَالَى عَلَى حَقِيقَة الصِّدْق.

وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اِسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا".وَاَللَّه أَعْلَم إ.هـ.

فالطغيان ضد الاستقامة،، والخروج عن الفكرة أو الطريقة التي أنزلها رب العزة سبحانه،، لذا قال: ﴿فاستقم كما أمرت ومن تاب معك،،﴾ وأي خروج على هذه الكيفية يدخل المرء في الطغيان!! فإن اشتد في الطغيان وأسرف فيه دخل في وصف الطاغوت!

رابط هذا التعليق
شارك

المثل الناري والمثل المائي

 

من هنا، فهؤلاء المنافقون ابتدأ الأمر معهم بالطغيان: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ﴾، بدأ بالخروج عن طريق الاستقامة، لكنه ليس مجرد خروج بسيط، بل إنه استمراء لهذا الطغيان لدرجة العَمَه!

ولئن حسن أن نصف واقعهم بمن غرق في ظلمات بحر لجي، فتراكمت عليهم طبقات من الظلمات بعضها فوق بعض، فنجد أننا بعد ظلمة الطغيان نجد لدى المنافق ظلمة العمه،

وصفهم بالعمه، والعمه أن يركب رأسه ولا يبصر ما يأتي. وقيل: العمه: العمى عن الرشد، وبرِّيَّة عمهاء إذا لم يكن بها عَلَمٌ يستدل به، فهم في ضلالة ما بعدها ضلالة، كراكب بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج، ولا منارة تهدي سبيله، ولا نجم في السماء يدله على طريقه!

ومن ظلمة العمه انتقل لظلمة أخرى، فوصف حرصهم على الباطل كحال التاجر الحريص على أن يربح من تجارته أكبر الربح، فتاجروا مع الباطل، ومع الضلالة، ومع العمه، فخسروا أشد الخسارة في ميزان الحق والعقل، وهذه ظلمات متراكبة.

ثم لم يكف أنهم على غير هدى، بل يضاف إلى ذلك ظلمة فشلهم الذريع، يستوقدون النار، وما في فعل الاستيقاد من دلالة على العناء في تحصيل المطلوب، فإذا ما أضاءت لهم بعد جهدهم، أذهب الله نورهم، فلا يتعظون، لغفلتهم، ويعودوا يستوقدون النار، وهذا حال المنافقين كلما خمدت فتنة حاولوا إشعال أخرى، ولكن الله تعالى يسلم من شرهم وكيدهم.

ثم هم في ظلمات، ليست ظلمة واحدة، ولا يبصرون، من تيههم، فهذه ظلمة العمى، عن سبيل الحق، ولم يقتصر العمى عن احتجاب النور عن الأبصار، بل ظلمات في السمع، وفي النطق، وفي الرؤية، حالهم كحال الصم البكم العمي، الذين أقفلت كل مداخل الحياة لديهم، فعاشوا في ظلام دامس،

ثم ظلمة العيش في رعب من الموت، تحوم حولهم الصواعق والبرق والرعد، يكاد يخطف أبصارهم، ويحيط بهم من كل جانب، لأنهم يتآمرون على مجتمعهم، وأمتهم، وجرمهم هذا العظيم عاقبته وخيمة، ولذلك تراهم يحيط بهم الموت من كل جانب، ولا يتعظون.

فهذا إجمالٌ يظهر مقدار ما هم فيه من الضلالة والظلمات والرعب النفسي، والسفه والعمه، ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)﴾ النور،

فمن يرضى لنفسه أن يكون منهم؟

ومن يعلم أن هذا حال من نافق على الحقيقة، فلا يستفز كل ملكاته للنفور من ذلك الحال؟، يخشاه على نفسه، عالما أن الخط بين الاستقامة، والطغيان، يحتاج لعزمات الرجال لكي لا يجوزه، وإن جازه احتاج لعزمات الرجال أن لا يستمرأه، ولا يتيه في ركامه غافلا ناسيا، وهذا حال من يخشى على نفسه النفاق،

ومن الحسن أن يخشى المرء على نفسه النفاق وهو لا يشعر، مدركا خطورة أن ينساق وراء لذاته وأهوائه، وطريق الجنة محفوف بالأشواك، وطريق النار محفوفة بالورود.

وقد بينا أن النفاق منه ما يكون نفاقا عمليا لا يخرج من الملة،

وفوق ذلك، فالمرء الكيِّسُ الحصيف لا يزكي نفسه، ويدرك مقدار قصوره وتقصيره، فيخشى على نفسه أن لا يُقبَل عملُه، ولا يبلغ مبالغ الصالحين الناجين، فيخشى أن يكون من المنافقين من حيث لا يدري، فركوب مركب التهاون في العمل، والنفاق فيه، يُخشى معه الانجرار لما هو فوقه:

قال ابن رجب في فتح الباري (1/ 178، 179): (قال ابن سيرين: ما في القرآن آية أخوف عندي من هذه ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين﴾.وقال أيوب (أي: السختياني): كل آية في القرآن فيها ذكر النفاق أخافها على نفسي، وقال معاوية بن قرة: كان عمر يخشاه وآمنه أنا؟) وهؤلاء جميعا من أئمة التابعين، فاللهم إنا نسألك أن تعيذنا من النفاق والمنافقين.

 

عن صفحة:

رابط هذا التعليق
شارك

المثل المائي والمثل الناري 2

 

﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ﴾

ولقد أتى القرآن بمثلين يمثلان حال هؤلاء الطاغين الذين بلغت درجة طغيانهم حد العمه: المثل الناري، والمثل المائي.

﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)﴾ إبراهيم.

قلنا أن العرب تعبر عن المسميات باستخدام الحقيقة: بأقسامها الثلاثة اللغوية والعرفية والشرعية، أو المجاز للتعبير عن المتخيلات والتشبيهات، أو التعريب للتعبير عن أسماء الأشياء وأسماء الأعلام، أو الاشتقاق للتعبير عن المعاني،

والذي انكشف لي بالنظر الصحيح أن المجاز ينقسم قسمين: توسع في الكلام وتشبيه، والتشبيه ضربان: تشبيه تام وتشبيه محذوف:

فالتشبيه التام: أن يذكر المشبه والمشبه به

والتشبيه المحذوف: أن يذكر المشبه به ويسمى استعارة وهذا الاسم وضع للفرق بينه وبين التشبيه التام وإلا فكلاهما يجوز أن يطلق عليه اسم التشبيه ويجوز أن يطلق عليه اسم الاستعارة لاشتراكهما في المعنى وأما التوسع فإنه يذكر للتصرف في اللغة لا لفائدة أخرى

وإن شئت قلت: إن المجاز ينقسم إلى: توسع في الكلام وتشبيه واستعارة ولا يخرج عن أحد هذه الأقسام الثلاثة فأيها وجد كان مجازاً.

فإن قيل: إن التوسع شامل لهذه الأقسام الثلاثة لأن الخروج من الحقيقة إلى المجاز اتساع في الاستعمال. قلت في الجواب: إن التوسع في التشبيه والاستعارة جاء ضمناً وتبعاً، وإن لم يكن هو السبب الموجب لاستعالهما وأما القسم الآخر الذي هو لا تشبيه ولا استعارة فإن النسب في استعماله هو طلب التوسع لا غير.

والمجاز قسمان: لغوي وعقلي.

فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان بما يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأولي إلى معنى ثانوي جديد.

والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل، وسبيل الفطرة من خلال أحكام طارئة، وقضايا يحكم بها العقل لدى إسناد الجملة.

اما تعريف التشبيه: لغة: فهو التمثيل، يقال: هذا مثل هذا وشبهه.

واصطلاحاً: هو عقد مماثلة بين شيئين أو أكثر وإرادة اشتراكهما في صفة أو أكثر بإحدى أدوات التشبيه، نحو: خالد كالأسد في الإقدام.

على هذا فأركان التشبيه أربعة: عند تأمل المثال السابق نرى أنّها:

المشبّه: خالد؛ والمشبّه به: الأسد؛ ووجه الشبه: الإقدام؛ وأداة التشبيه الكاف.

والركنان الأوّلان ـ وهما المشبّه والمشبّه به ـ يسميّان طرفي التشبيه.

ثم اعلم أن أساس إعجاز القرآن في بلاغة نظمه.

وبلاغة النظم على قسمين: قسم كالـحِلْيَة وقسمٍ كالـحُلَّة.

فالأول كاللآليء المنثورة والزينة المنشورة والنقش المرصّع، ومعدنه الذي يتحصّل منه: هو توخّي المعاني النحوية الحرفية فيما بين الكلم، كإذابة الذهب بين أحجار فضّة، وثمرات هذا النوع هي اللطائف التي تَعَهَّد بيانُها فنُّ المعاني.

والقسم الثاني هو كلباسٍ عالٍ وحلّة فاخرة قُدّت من أسلوبٍ على مقدار قامات المعاني، وخيطت من قطاعاتٍ خيطاً منتظماً، فيُلبس على قامة المعنى أو القصّة أو الغرض دفعه، وصناع هذا القسم والمتكفّل به فنّ البيان.

ومن أهمّ مسائل هذا القسم التمثيل.

ولقد أكثر القرآن الكريم من التمثيلات إلى أن بلغت الألف..

ثم ان ممّا يحوِّج الى التمثيل عمق المعنى ودقته ليتظاهر بالتمثيل، أو تفرّق المقصد وانتشارُهُ ليرتبطَ به. ومن الأوّل متشابهات القرآن الكريم؛ اذ هي عند أهل التحقيق نوع من التمثيلات العالية وأساليب لحقائق محضة ومعقولات صرفة؛ ولأن العوام لايتلقون الحقائق في الأغلب الاّ بصورة متخيلة، ولا يفهمون المعقولات الصرفة الاّ بأساليب تمثيلية لم يكن بدّ من المتشابهات كـ ﴿اِسْتوى عَلَى الْعَرْشِ﴾ لتأنيس اذهانهم ومراعاة أفهامهم.

وان شئت التفصيل فاستمع معي لما يترنم به صاحب دلائل الاعجاز في أسرار بلاغته ؛ حيث قال: فصل في مواقع التمثيل وتأثيره: اعلم! ان مما اتفق العقلاء عليه: ان التمثيل اذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية الى صورته،كساها ابهةً، وكسبها منقبةً، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب اليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفاً، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفاً

 

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل

×
×
  • اضف...