اذهب الي المحتوي
منتدى العقاب

الفراغ السياسي في الموقف الدولي / الأستاذ أسعد منصور


ابن الصّدّيق

Recommended Posts

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

الفراغ السياسي في الموقف الدولي

 

 

هل يمكن أن يحدث فراغ سياسي في الموقف الدولي؟

 

ونعني بذلك هل يمكن أن يحدث أن تسقط الدولة الأولى في العالم ومن ثم لا توجد دولة تملأ هذا الفراغ فيصبح العالم من دون دولة أولى وتبقى هناك دول كبرى على مستوى متقارب لا تستطيع إحداها أن تملي سياساتها على الآخرين وبذلك لا يمكن أن يتخذ قرار في مجلس الأمن ولا تستطيع أية دولة أن تتصرف منفردة لتملي سياستها على العالم، ولكل دولة كبرى تأثيرها على منطقتها فحسب ولا تخضع للأخرى؟ أي إذا سقطت أمريكا عن مرتبة الدولة الأولى والدول التي تعتبر حاليا كبرى وهي روسيا وبريطانيا وفرنسا بالإضافة إلى ألمانيا المرشحة لأن تصبح دولة كبرى فهل إحدى هذه الدول مؤهلة في الوقت الراهن لأن تصبح الدولة الأولى؟ فإن لم تكن مؤهلة لأن تصبح الدولة الأولى أو تملأ الفراغ الذي أحدثه سقوط أمريكا فكيف سيكون الموقف الدولي؟ وهل ستكون هناك فرصة للأمة الإسلامية لأن تتبوأ هذا المكانة؟

 

ونجيب على هذه التساؤلات على الشكل التالي:

 

إن الدولة الكبرى هي التي تملك التأثير في الموقف الدولي بحيث يكون لها دور في تقرير مصير الدول الأخرى وقضاياها.

 

والدولة الكبرى الأولى هي التي تملك التأثير الرئيس في الموقف الدولي فتخضع دول العالم لقراراتها بما فيها الدول الكبرى الأخرى.

 

مع العلم أن الدول الكبرى تعمل على مزاحمة بعضها بعضا لتتفوق كل واحدة على الأخرى لتبلغ الدرجة الثانية، كما تعمل على مزاحمة الدولة الأولى في محاولة منها لتصل إلى هذه المكانة، وتحسب لها الدولة الأولى حسابا فتحاول أن تقضي عليها لتسقطها أو توجه لها ضربة قوية تمنعها من مزاحمتها، وإذا لم تستطع ذلك تعمل على ترضيتها بالطرق التالية:

 

1) إما بتقاسم العالم معها كما حصل على عهد الاتحاد السوفياتي منذ عام 1961 حيث اضطرت أمريكا لأن تتقاسم النفوذ في العالم معه، وتتبع معه سياسة الوفاق الدولي فلا تسير في عمل دولي دون التنسيق معه، لأنها لم تستطع أن تقضي على الاتحاد السوفياتي ولم تستطع أن توجه له ضربة قاضية تسقطه عن مكانته وتبعد خطر مزاحمته لها حينذاك.

فبقيت تعمل بشتى الأساليب والوسائل على إسقاطه وتتبع أساليب في ذلك مثل سباق التسلح وما أطلق عليه حرب النجوم وكذلك إثارة المشاكل الداخلية ودعم الانفصاليين ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وأخيرا استغلال حرب أفغانستان التي كانت القشة التي كسرت ظهر البعير.

فسقط الاتحاد السوفياتي سقوطا مدويا ولم تقم له قائمة، وسقطت معه الشيوعية التي كان يستند إليها، وليس في الاتحاد السوفياتي فحسب، بل في كل العالم كله بحيث تخلى أصحابها عنها، وإن أبقاها البعض كما في الصين اسما ممثلة بالحزب الشيوعي ليحافظوا على مصالحهم وعلى كيان دولتهم.

 

2) وإما بإشراكها في الأعمال الدولية باعتبارها دولة كبرى كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية، فكانت أمريكا تشرك الدول الكبرى الأخرى مثل بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي كدول كبرى لتسير شؤون السياسة الدولية، فشكلت مع هذه الدول الأمم المتحدة ومجلس الأمن والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وكذلك المنظمات الدولية الأخرى.

 

وعقدت المؤتمرات الدولية للنظر في قضايا العالم. ومثل ذلك فعلت بريطانيا عندما كانت الدولة الأولى في العالم عقب الحرب العالمية الأولى حيث رسمت خارطة العالم الإسلامي بعد سقوط الدولة العثمانية مع فرنسا وبإشراك روسيا في معاهدة لوزان بناء على ما خططت من قبل في اتفاقية سايكس بيكو.

 

وبعد الحرب العالمية الأولى شكلت عصبة الأمم المتحدة وعقدت مؤتمر السلام في فرساي.

 

3) وإما بإشراكها في أعمال جزئية وتعطيها اعتبارا دوليا حتى تتمكن من تنفيذ سياستها أو التغطية على سياستها أو لتحول دون تشويش إحداها عليها كما تفعل حاليا أمريكا مع الدول التي توصف بالكبرى من روسيا إلى بريطانيا وانتهاء بفرنسا.

فلا تلجأ أمريكا إليها إلا للتغطية على سياستها كما تفعل في سوريا فتضع روسيا في الواجهة وتعتبرها معرقلة للتوصل إلى حل لإخفاء حقيقة أن أمريكا هي صاحبة القرار وهي التي تؤخر الحل حتى تجد البديل. وبذلك تعطي روسيا هذا الدور الظاهري الذي يخدع بعض الناس.

ومن جانب روسيا فإنها تطمئن نفسها بهذا الدور لتشبع رغبتها في أن تكون دولة كبرى لها اعتبار عالمي وهي تدرك تلك الحقيقة بدليل أن العالم عندما قال إن روسيا طرحت مبادرة للحيلولة دون الضربة الأمريكية على سوريا بسبب استعمال النظام للسلاح الكيماوي قالت روسيا على لسان وزير خارجيتها لافروف أن هذه المبادرة كانت بالتنسيق مع أمريكا.

بل هي أمريكية وتبنتها روسيا وقبلها النظام السوري فورا لأنه كان على علم بها كما صرح رئيس النظام في مقابلة مع إحدى القنوات التلفزيونية المؤيدة لنظامه.

وكذلك فإنها جذبت فرنسا إلى جانبها وكأنها أعطتها اعتبارا دوليا لتدعمها في توجيه ضربة إلى سوريا بعد استخدام النظام السوري للكيماوي في الغوطة في 21/8/2013 فصدقت فرنسا ذلك وانجرفت انجرافا تاما نحو العمل مع أمريكا للتدخل في سوريا، سيما وأن فرنسا تحب التدخل المباشر دائما لتشبع شهوتها في الظهور وحب العظمة، وعندما أرادت أمريكا أن تلتف على قرارها وتتخلى عن الضربة أو تؤجلها قام وزير خارجية أمريكا جون كيري وأعلن في مؤتمر صحفي بلندن مع وزير خارجية بريطانيا مظهرا أنه يعطي لبريطانيا التي عملت على التشويش على قرار أمريكا بتوجيه ضربة لسوريا عندما جعلت برلمانها يظهر عدم موافقته على الاشتراك مع أمريكا لتوجيه ضربة لسوريا كأنه يعطيها قيمة أكبر مما يعطي لفرنسا وتناسى الأخيرة التي أعلنت تأييدها لأمريكا والاستعداد لمشاركتها في الضربة.

فلم يأت وزير خارجية أمريكا إلى باريس ليعلن من هناك الالتفاف على قرار بلاده وليظهر كأنه تشاور مع فرنسا في ذلك حتى لا يعطي لفرنسا قيمة أكبر من حجمها.

مما يدل على أن أمريكا تستعمل فرنسا لعمل دولي جزئي وسرعان ما تتخلى عنها إذا رأت مصلحتها في مكان آخر ولا تتأسف على تركها، لأنها لا تريد أن تعطيها قيمة واهتماما أكبر مما تستحق، ويدل ذلك على مدى صغر حجم فرنسا الدولي بأنها لم تستطع أن تحتج على أمريكا وتعمل شيئا مؤثرا عليها مقابل ما فعلت أمريكا تجاهها.

فأمريكا لا تعطي أية قيمة دولية لا لروسيا ولا لفرنسا ولا لبريطانيا إلا إذا احتاجت إليها للتغطية على خططها أو لمنع التشويش عليها أو لحشد الرأي العام العالمي إلى جانبها.

ولذلك وقف جون كيري في مؤتمره الصحفي في بريطانيا ليعلن التفاف بلاده على قرارها من هناك وكأن تراجع بلاده عن قرارها سببه الموقف البريطاني.

مع العلم أن تراجع أمريكا عن قرارها لم يكن للموقف البريطاني أي تأثير فيه، ولو أصرت أمريكا على تنفيذ قرارها لرأينا مجلس العموم البريطاني يجتمع مرة أخرى ليقرر مشاركة بريطانيا في الضربة على سوريا، خاصة وأن قرار مجلس العموم تضمن عبارة تشير إلى أنه من الممكن أن يراجع قراره في حال تطور الأحداث، وهذا ما رأيناه في غزو العراق حيث عارض مجلس العموم البريطاني الغزو قبل بدئه، وبعدما اتخذت أمريكا قرارها بتنفيذ الغزو اجتمع هذا المجلس ووافق على اشتراك بريطانيا في الغزو في مدة أقل من يوم.

ويظهر أن تراجع أمريكا عن الضربة كان بسبب ما رأته من أن توجيه مثل هذه الضربة إلى النظام السوري ربما تسقطه قبل الأوان وقبل إيجاد البديل، وخاصة أن رجال النظام ظهر الفزع عليهم وبدأوا بالفرار وخافوا أن يتكرر معهم السيناريو الذي سرى على رفاقهم البعثيين في العراق عند احتلال أمريكا لها وقضائها على حزب البعث وعلى صدام وعلى نظامه.

مع أن صدام وحزب البعث قدموا التنازلات لأمريكا في كل ما طلبته مقابل أن تبقيهم في السلطة فقط.

وهم في سوريا يدركون بأن أمريكا في أية لحظة سوف تتخلى عنهم وتأتي بعملاء بدلاء عنهم.

وهم قد رأوا كيف أنها تخلت عن أخلص عملائها في مصر؛ حيث تخلت عن حسني مبارك وعن أولاده وعن عمر سليمان وعن طنطاوي وسامي عنان، وأتت بمرسي ومن ثم أدارت ظهرها له.

فما يهم أمريكا هو مصالحها لا غير، وهؤلاء العملاء لا قيمة لهم عندها إلا بمقدار ما يستطيعون أن يقدموا لها من خدمات لا تدفع أجرها، بل هم مقابل أن تبقيهم في السلطة يسرقون قوت شعوبهم ويسلمونها ثروات بلادهم، وهم جبناء إلى أبعد الحدود يخافون أية حركة ضدهم إذا لم تقف أمريكا معهم وتسندهم، ويخضعون لأي ضغط يمارس عليهم ويخافون من أي تهديد يوجه إليهم، فهم مسلوبو الإرادة، وبذلك أصبحوا أذلاء وانحدروا إلى درك العبيد، بل أدنى من ذلك، لأنهم لا يملكون حق المكاتبة للخلاص من العبودية فمصيرهم إما القتل أو النفي أو السجن أو الرمي بهم على قارعة الطريق أو الفرار والاختباء في جحر أو مكان آخر إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فيعتقدون أن مصيرهم بيد أسيادهم في الدول الكبرى، وخاصة أمريكا الدولة الأولى في العالم.

وهم لا يتعظون من مصير أقرانهم في كل بلد، بل يتفاخرون بأنهم شطار برغماتيون يسيرون حسب الواقع وحسب ما تمليه الظروف عليهم لتحقيق مصالحهم الآنية، ويستهزئون بالسياسيين العقائديين بأنهم يسبحون في الخيال.

وبذلك لا شأن لدولهم في الموقف الدولي، بل هي خاضعة للدول الكبرى خضوعا تاما وخاصة لأمريكا الدولة الأولى في العالم.

 

فالدولة الكبرى يكون لها نفوذ في مناطق بالعالم حيث يؤهلها ذلك لأن تصبح ذات تأثير دولي، ولا تتوقف عن السعي لتوسيع دائرة نفوذها حتى تزيد من هذا التأثير.

 

فإذا توقفت عن ذلك فإنها سوف تنحسر حتى تضمر إلى أن تخرج من الحلبة الدولية كما حصل مع الدول الأوروبية المستعمرة الأخرى التي كان لها شأن دولي في فترة من الفترات عندما كان لها نفوذ في الدول الأخرى.

 

فرصيد الدولة الكبرى للمنافسة الدولية وللتأثير في السياسة الدولية ولمزاحمة الدولة الأولى في العالم هو ما لديها من نفوذ في مناطق مختلفة من العالم فعندئذ يكون لها عملاء وأتباع ومن يدور في فلكها فينفذون سياستها أو يسهلون تنفيذها أو يظهرون التأييد لها، بالإضافة إلى ما لديها من إمكانيات أخرى للتأثير مثل القوة العسكرية التي ترعب الآخرين، ومن القدرات الاقتصادية التي تؤثر في اقتصاديات العالم.

 

فكلما اتسعت دائرة النفوذ ازدادت قوة التأثير لدى الدولة، فإذا لم يكن لها نفوذ في الدول الأخرى تقل قوة تأثيرها الدولية وتضعف.

 

مع العلم أن الموقف الدولي هو هيكل العلاقات الدولية المؤثرة، أي الحالة التي تكون عليها الدولة الأولى والدول التي تزاحمها.

 

فروسيا على عهد الاتحاد السوفياتي كانت دائرة نفوذها واسعة تشمل منطقة القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان وأوروبا الشرقية وكانت تهدد أوروبا الغربية، فمن حيث الجغرافيا كانت مسيطرة على مساحات واسعة من العالم، وكانت تعمل على توسيع دائرة نفوذها في جنوب آسيا وجنوب شرق أسيا والشرق الأوسط وفي أفريقيا، وكان لديها قوة عسكرية مرعبة، حتى اضطرت أمريكا الدولة الأولى إلى أن تتقاسم معها النفوذ وتتبع معها سياسة الوفاق الدولي.

 

وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي انحسرت دائرة نفوذ روسيا في أوروبا الشرقية وفي البلقان وفي غيرها من المناطق ولم يبق لها سوى نفوذ في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وأصبحت مهددة في هذه المناطق. ولهذا ضعف تأثيرها في الموقف الدولي وضعفت مزاحمتها للدولة الأولى في العالم وبدأت تسعى لدى أمريكا حتى تعطيها اعتبارا دوليا لتشركها في قضايا العالم ولو كان شكليا.

 

وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية بدأ يتقلص نفوذها وتغيب شمسها عن كثير من المناطق التي كانت تستعمرها، وبذلك بدأ تأثيرها يضعف، فلو أن أمريكا التي أصبحت الدولة الأولى في العالم قامت وعزلت بريطانيا أو أبعدتها عن الساحة الدولية يومئذ لما بقي لبريطانيا نفوذ، لأن الأخيرة أصبحت محتاجة للأولى وقد احتاجت إليها في الحرب العالمية الثانية ولولا مساعدة أمريكا لها لما تمكنت من هزيمة ألمانيا، بل ربما أصبحت محتلة كفرنسا.

ولكن أمريكا يومئذ لم ترد إنهاء الوجود البريطاني عن الساحة الدولية وإبعاده عن السياسة الدولية لأمور معينة تخصها؛ منها أنها كانت تتبع سياسة العزلة وكانت تعيش مرحلة الخروج من هذه العزلة بعد التردد الذي سادها في الخروج منها أو عدمه، ولم تكن على دراية تامة بالسياسة الدولية وبمكائد بريطانيا عندما خرجت من عزلتها، وكان لبريطانيا تأثير على حكام أمريكا وقتئذ، ولم تكن لديها التجربة والعراقة في السياسة الدولية، ولذلك أعطت لبريطانيا بعد الحرب اعتبارا فأسست معها مجلس الأمن والأمم المتحدة وأشركتها في المؤتمرات الدولية.

ولكن بعدما حصلت لديها التجربة وصار لديها دراية بهذه السياسة وأدركت مكر بريطانيا وخبثها التي كانت تعمل على الإيقاع بها لإضعافها في الموقف الدولي كما حصل في الحرب الكورية وفي المؤتمرات الدولية، فقررت الاتفاق مع الاتحاد السوفياتي عام 1961، وعندئذ لم تعد تشرك بريطانيا في إدارة شؤون العالم بل شنت عليها حملة لتنهي وجودها في العالم. فنتج عن ذلك تقلص نفوذ بريطانيا حتى غدت كأنها تابعة لأمريكا تنافق لها وتعمل في الخفاء ضدها وتشوش عليها بأساليب خبيثة.

فأصبح نفوذ بريطانيا متقلصا جدا، وأصبحت إمكانياتها ضعيفة لأنها جزيرة تعتمد على مناطق نفوذها في مستعمراتها السابقة، ولم تعد لدى سياسييها القدرة على إنتاج وتسويق سياسات جديدة بمقدورهم أن يعيدوا بلادهم إلى سابق عهدها أو حتى إلى مركزها الدولي الذي كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية حتى الاتفاق الأمريكي السوفياتي أو حتى فترة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حيث قررت حينها اتخاذ سياسة عدم مواجهة أمريكا علنا سواء في الساحة الدولية أو مناطق النفوذ الأمريكي.

وبذلك لم يبق لدى السياسيين البريطانيين سوى الخبث والنفاق عاجزين عن المواجهة وعن طرح المبادرات وتنفيذها وفرضها على الآخرين، ففشلت كافة مبادراتهم وخططهم تقريبا سواء في قضية الشرق الأوسط أو في البلقان أو في العراق أو في السودان وفي غيرها من دول أفريقيا أو في أوروبا وفي الاتحاد الأوروبي بالذات.

وإذا قدموا مبادرة أو رسموا خطة فيها قابلية النجاح تقوم أمريكا وتحتويها وتعدلها وتصوغها حسب مشاريعها وتعمل على إبعاد بريطانيا عنها مثلما فعلت في اتفاقية أوسلو ووادي عربة، وكما فعلت في حل مسألة البوسنة حيث أخذت أمريكا خطة بريطانيا وفرضتها على الأطراف الثلاثة المسلمين والصرب والكروات في دايتون على عهد بيل كلينتون، وأبعدت بريطانيا إبعادا تاما عنها.

فأمريكا تدرك خبث بريطانيا ومكرها، ولذلك هي منتبهة لها ولا تجعلها تتمكن من فعل شيء، وإذا أرادت أن تتفلت منها تلاحقها.

وقد لاحقتها في مستعمراتها وفي مناطق نفوذها بل في عقر دارها حتى تمزقها وتقضي عليها كدولة كبرى نهائيا.

وبريطانيا ليست ناجحة في الاتحاد الأوروبي فلم تستطع أن تأخذ قيادته ولم تستطع توجيهه أو تسخيره كما كانت تخطط، وهي خائفة على هويتها القومية وعلى تقاليدها إذا ما قررت الاندماج في أوروبا.

وهي دائما تهدد بالخروج من هذا الاتحاد لابتزازه.

ولهذه الأسباب لا يثق بها الأوروبيون وأظهروا امتعاضهم من تصريحات وزير خارجيتها وليم هيغ التي وصف بها الاتحاد الأوروبي ببيت يشتعل وليس فيه منافذ للخروج.

وروسيا لا تثق ببريطانيا وتدرك مكرها وخبثها فلا تنجر وراءها وهي تهاجم بريطانيا علنا إذا ما رأت منها عملا يستهدفها مثلما حصل في موضوع الشيشان.

وقد فقدت كثيرا من مناطق نفوذها في العالم، وخاصة في البلاد الإسلامية، والأمة الإسلامية أصبحت أكثر وعيا على أساليب بريطانيا وإذا تمكنت من إسقاط الأنظمة المسلطة عليها والعميلة الباقية لبريطانيا بجانب الأنظمة العميلة لأمريكا، عندئذ لن تتمكن بريطانيا من فعل شيء أمام هذا الواقع إلا القيام بأعمال الخبث والنفاق.

فمصيرها كدولة كبرى مهدد بالسقوط بشكل جدي، بل إن وجودها كدولة في حدودها الحالية مهدد بالزوال إذا ما انفصلت أسكتلندا وأيرلندا الشمالية.

وعلى ضوء ذلك فإنه إذا سقطت أمريكا عن مركز الدولة الأولى فمن الصعب أن تملأ بريطانيا الفراغ وهي في هذه الحالة لتحل محلها وخاصة أنها تعتمد على مناطق نفوذها وعلى الاستعانة بالآخرين للقيام بالأعمال الدولية، مثلما كانت تستعين بفرنسا سابقا ومن ثم استعانت بأمريكا في الحربين العالميتين.

 

وأما فرنسا فقد تقلص نفوذها أيضا عندما فقدت كثيرا من مستعمراتها في جنوب شرق آسيا وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأصبحت تطارد من قبل أمريكا حيثما كانت تستعمر وخاصة في غرب ووسط أفريقيا.

 

فاضطرت في بداية الستينات من القرن الماضي إلى أن تعطي كافة البلاد التي كانت تستعمرها مباشرة استقلالها الشكلي وبدأت تفقد نفوذها في كثير منها.

 

وبذلك بدأ تأثيرها الدولي يضعف فلم تعد تشركها الدولة الأولى في إدارة شؤون العالم منذ بداية الستينات من القرن الماضي.

 

وحاولت في تلك الفترة على عهد ديغول أن تقوم بأعمال لتزحزح أمريكا عن موقعها، ولذلك عملت على توحيد أوروبا تحت قيادتها، وانسحبت من القسم العسكري من الناتو عام 1966 حتى لا تسير تحت قيادة أمريكا، وقامت بإجراء التجارب النووية فطورت أسلحتها وقدراتها النووية.

 

وكذلك قامت باستئناف هذه التجارب النووية على عهد شيراك لتذكر الناس بأنها دولة كبرى يجب أن يعطى لها اهتمام دولي بعدما تم تناسيها في الموقف الدولي وخاصة على عهد ميتران الذي سار في خط موافق للسياسية الأمريكية.

 

وحاولت على عهد شيراك أن تقوم بأعمال من شأنها أن تؤثر على الدولة الأولى في العالم عندما شكلت محورا مع ألمانيا وروسيا، وقامت واستغلت الوضع في لبنان الذي نشأ عقب مقتل الحريري فأثرت على النفوذ الأمريكي فيه، وذلك بإجبار النظام السوري العميل لأمريكا على الانسحاب.

 

ومنذ ذهاب شيراك إلى اليوم وهي في حالة تراجع في الموقف الدولي لضعف سياسييها وضعف إمكانياتها، وهي مطاردة من قبل أمريكا في مناطق نفوذها بعدما فقدت الكثير منها، وقد أظهرت خضوعا لأمريكا عندما قررت على عهد ساركوزي عام 2009 العودة للجناح العسكري للناتو، فقد قام جون مارك إيرد رئيس مجموعة الاشتراكيين في الجمعية الوطنية الفرنسية وقيم يومها هذه العودة وموقف فرنسا بقيادة ساركوزي قائلا: "إن ذلك من شأنه أن يفقد فرنسا استقلاليتها وأنها لن تكتسب من خلال هذا الإجراء قوة مشيرا إلى أن الكلمة الأخيرة فيما يتعلق بالقرارات العسكرية والاستراتيجية ستكون للولايات المتحدة".

 

ويظهر أنه لم يعد لديها أمل في تأسيس الجيش الأوروبي.

 

ومن جانب آخر أظهرت خضوعا لألمانيا في الناحية الاقتصادية ووافقت على سياسة التقشف والمراقبة التي دعت لها ألمانيا وفرضتها على منطقة اليورو وعندما جاء رئيسها الجديد أولاند وقد وعد في حملته الانتخابية بالتخلص من ذلك ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئا.

 

ولهذا فإنه من الصعب أن تملأ فرنسا الفراغ وهي في هذه الحالة إذا ما سقطت أمريكا عن مكانتها العالمية في الموقف الدولي.

 

ولم تستطع لا هي ولا غيرها أن يستغل فرصة تفجر الأزمة المالية العالمية في أمريكا عام 2008 والتي هزت وضع الأخيرة الدولي.

 

وقد دعا رئيسها ساركوزي حينما تفجرت هذه الأزمة إلى إيجاد نظام مالي واقتصادي جديد، ولكنه لم يطرح أية فكرة واضحة لذلك، ولم يتمكن من عمل أي شيء سوى هذه التصريحات التي لم توضع موضع التطبيق.

 

ولم تستطع بلاده أيضا أن تستغل اهتزاز الموقف الأمريكي عندما تعرضت لضربات مؤلمة في العراق وأفغانستان وتقوم بحملة عالمية ضدها لتواصل عملها الذي بدأته عام 2003 في محاولة لزحزحة أمريكا عن مركزها الأول في الموقف الدولي.

 

ولهذا فإنه ليس من المتوقع أن تملأ فرنسا الفراغ إذا ما سقطت أمريكا في هذه الفترة عن مركز الدولة الأولى في العالم.

 

وأما ألمانيا فقد ضرب نفوذها كليا عند هزيمتها في الحرب العالمية الثانية ووقعت تحت الاحتلال من قبل القوات الغالبة وقسمت فلم يعد لها أي تأثير في الموقف الدولي.

فوقع القسم الشرقي تحت هيمنة روسيا والقسم الغربي تحت هيمنة أمريكا حتى عام 1990 حيث عادت وحدة ألمانيا بموافقة أمريكا التي جعلت ألمانيا مقابل ذلك توقع على وثيقة تتعهد فيها على عدم تطوير أسلحة استراتيجية سواء أكانت نووية أم كيماوية أم بيولوجية.

وقد بدأ موقفها الإقليمي والدولي يقوى نوعا ما في العقد الأخير.

فغدت في أوروبا دولة مؤثرة إقليميا وخاصة من ناحية اقتصادية حيث تمكنت من فرض سياسة التقشف والرقابة على منطقة اليورو، وهذا ينعكس على التأثير السياسي لها في هذه المنطقة ولكنها ما زالت ضعيفة من ناحية التأثير السياسي عالميا.

وظهرت منها حركة مؤقتة على عهد رئيس وزرائها شرودر حاولت فيها أن تكون مؤثرة دوليا عندما سارت مع فرنسا لتشكلا محورا مع روسيا للوقوف في وجه أمريكا الدولة الأولى مستغلة غزو الأخيرة للعراق.

 

ولكن بعد ذهاب شرودر لم تستمر هذه الحركة، مما يدل على أن الشعور بأن تصبح ألمانيا دولة كبرى عالميا لم ينمُ بعد بالشكل الذي يساعد على الاستمرار، فلو تركز ذلك لقام الذين جاؤوا من بعده وواصلوا العمل على ذلك.

فلم يستمر ذلك في حزب شرودر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي شكل ائتلافا مع الحزب المسيحي الديمقراطي ولم يضغط الحزب الأول على الحزب الثاني ليواصلوا ذاك النهج الذي انتهجه شرودر.

والحزب المسيحي الديمقراطي لم يتبن تلك السياسة، وإنما ركز على الاقتصاد كعادة الحكومات السابقة.

والدولة التي تركز على الاقتصاد فقط من دون أن تتبع ذلك بأعمال سياسية دولية قوية ومن دون العمل على إيجاد قوة عسكرية بغرض تقوية تأثيرها السياسي في الموقف الدولي لا يمكن لها أن تصبح دولة مؤثرة عالميا، وبالتالي لا تصبح دولة كبرى.

وألمانيا منذ سنين طويلة وهي تعتبر قوة اقتصادية كبرى ولكنها لم تصبح دولة كبرى مؤثرة في الموقف الدولي.

فلم تكبر الفكرة بعد لدى الألمان حتى يصبحوا دولة كبرى.

ويظهر أنهم ما زالوا يتحسسون كيفية الصيرورة كدولة كبرى عالميا، وعلى ما يظهر أن البعض من سياسييهم ما زال يظن أن الهيمنة الاقتصادية على أوروبا كافية لأن تجعل ألمانيا دولة كبرى، فقد صرحت رئيسة الوزراء ميركل أثناء حملة الانتخابات الأخيرة بأن ألمانيا أصبحت المحرك الرئيس في أوروبا.

فيكتفون بأن يكونوا قوة اقتصادية كبرى فهذا يشبع غرورهم وتطلعاتهم وأحاسيسهم القومية.

فهم لا يعملون على تهيئة الشعب لخوض الحروب الخارجية وإحياء الروح القتالية فيه حتى يستعدوا لبناء قوة عسكرية مرعبة، سيما وأن ذكريات الحرب العالمية الثانية وما تعرض له الشعب الألماني من جرائها وتداعياتها ما زالت حية في عقولهم، وتقوم جهات معينة بالتذكير بها باستمرار وخاصة في الإعلام وذلك لتنفير الناس من الحروب حتى لا تتجه ألمانيا نحو بناء هذه القوة العسكرية.

ولهذا السبب فإنه من غير المحتمل في هذه الظروف أن تملأ ألمانيا الفراغ في الموقف الدولي إذا ما سقطت أمريكا عن مركزها الدولي.

 

وأما اليابان فقد أصبحت لفترة قصيرة دولة كبرى قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية.

 

وبعد أن هزمت في هذه الحرب وأعلنت استسلامها لأمريكا عندما ضربتها بالقنابل النووية وفرضت عليها قيودا كبلتها وشلت تفكيرها فلا تعرف طريقا لكسرها، وركزت على الاقتصاد فأصبحت قوة اقتصادية كبرى.

 

ولكن لم تستطع أن تصبح دولة كبرى مؤثرة في الموقف الدولي، بل لم تستطع أن تكون دولة كبرى إقليميا.

 

ولا توجد مؤشرات قوية تشير إلى أن هناك حركة جادة لأن تعود اليابان دولة كبرى مؤثرة عالميا.

 

وقد استطاعت أن تصبح دولة كبرى في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها واحتلت الصين التي كانت ضعيفة ومتأخرة جدا، والآن وقد أصبحت الصين أقوى من اليابان عسكريا ونمت اقتصاديا وصناعيا على مستوى ينافس اليابان ولديها القدرات العسكرية لأن تواجه اليابان إذا ملكت قوة عسكرية هجومية، ففي هذه الحالة لا يمكن أن تقدر اليابان على أن تفعل كما فعلت قبل الحرب العالمية الثانية حتى لو أتيحت لها الفرصة أن تفلت من قبضة أمريكا لأن الصين ستقف لها بالمرصاد في منطقة بحر الصين الشرقي، وروسيا في شمالها ستتوافق مع الصين عليها إذا أرادت أن تستعيد مناطق نفوذها في تلك المنطقة وهي على خلاف مع روسيا على جزر الكوريل.

 

 

وأما الصين فإن سياستها الخارجية لا تقوم على أساس نشر الشيوعية في العالم، وذلك راجع إلى واقع شعب الصين، الذي كان يكتفي بالنفوذ في الجوار الآسيوي، ولم يكن عبر التاريخ يتطلع إلى أن يكون ذا نفوذ عالمي.

 

وبسبب واقع الشعب الصيني هذا لم تَسْعَ الصين يوماً إلى تأهيل نفسها وطاقاتها لكي تتبوأ موقعاً مؤثراً في السياسة العالمية، ولا زالت كل أعمال الصين منصبةً على إيجاد نفوذ إقليمي لها في الجوار، ويبدو أنها تخلت عن مبدئيتها وأصبحت شيوعية اسما وبالحزب الشيوعي الحاكم الذي يسعى للحفاظ على مصالحه وعلى كيان الدولة، وإذا فقدت التظاهر بالصفة الشيوعية وسقط تفرد الحزب الشيوعي في السلطة فإن مصير الصين من المحتمل أن ينقلب وتتمكن أمريكا من داخلها إذا بقيت أمريكا على ما هي عليه حاليا، فتبدأ باللعب في الداخل عن طريق إيجاد القوى والأحزاب الديمقراطية المختلفة التي ستظهر فجأة وبسرعة، لأن هناك ميولا نحو تأسيس ذلك والتوجه نحو أمريكا مما يقوي النفوذ الأمريكي عالميا.

 

ولكن إذا بقيت الصين على شكلها الحالي وإن كانت تسير في خط موافق لأمريكا في المنظومة الاقتصادية العالمية ولا تعمل على مزاحمة أمريكا، وكل ما تعمله هو محاولات منها لتبسط نفوذها على منطقتها في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، ولم تتمكن من السيطرة على هاتين المنطقتين.

 

وفي المقابل تعمل أمريكا على منع الصين من أن يكون لها نفوذ في هاتين المنطقتين.

 

ولذلك فإن وضع الصين ليس حسنا مهما بلغت قوتها الاقتصادية التي هي مربوطة بأمريكا وبالغرب أكثر مما تكون منفردة وصاحبة قرار في العالم الاقتصادي.

 

وإن كان لديها القوة العسكرية إلا أنها تفتقر للرسالة العالمية وتفتقر للفهم السياسي الذي يمكنها من تصبح دولة كبرى عالميا.

 

وإذا سقطت أمريكا عن مركز الدولة الأولى سوف تجد اليابان تنافسها في تلك المنطقة وسوف تجد روسيا تضيق عليها لتمنعها من أن تتفوق عليها وسوف تجد بريطانيا تعود إلى الهند وغيرها من مناطق نفوذها القديم لتقف في وجه الصين.

 

وأمريكا التي سقطت عن مركز الدولة الأولى فرضيا سوف تبقى دولة كبرى تعمل على منع الصين من أن تسيطر على تلك المنطقة الحيوية والمصيرية بالنسبة لها وذلك بدعم اليابان ضد الصين.

 

ومن هنا لا يوجد احتمال كبير بأن تقوم الصين وتملأ الفراغ في الموقف الدولي إذا ما سقطت أمريكا في الوقت الحالي.

 

وأما روسيا التي تحمل صفة الدولة الكبرى، فإن لديها إمكانيات عسكرية قادرة على أن تخيف الدول الأخرى فيها ولكن ليس لديها القدرة الاقتصادية والمالية على تمويل حملاتها العسكرية إذا ما أرادت التدخل العسكري في كل مكان، فعملتها الروبل عبارة عن عملة محلية فلم تستطع أن تجعلها عملة عالمية، ولم تسيطر على المؤسسات المالية العالمية.

والأهم أنه لم يعد لديها رسالة وأفكار تحملها للعالم.

فقد تخلت عن المبدأ الشيوعي وتبنت المبدأ الرأسمالي لتطبقه على نفسها لتسير شؤون الدولة وتعالج مشاكلها حسبه، ولكنها لا تحمله رسالة للعالم ولا تنادي لتطبيق أفكاره، فهذا لم تقدم عليه، لأن الشعب الروسي لم يتبن الرأسمالية كمبدأ للحياة ورسالة له وإن كان هو متأثرا به وراضيا بتطبيقه عليه، والأحزاب الروسية لم تتبن المبدأ الرأسمالي كرسالة، فلا يوجد أحزاب مبدئية أو على الأقل فكرية سياسية في روسيا، وإنما هي أحزاب أقرب ما تكون إلى الوصولية تقوم على تحقيق مصالح سياسية للفوز بالمقاعد والمناصب والمكاسب المادية.

وإن كان هناك الحزب الشيوعي الذي يتبنى الشيوعية ويعتبر ثاني حزب في روسيا، ولكنه فاقد للتجديد ولا يحمل رسالته الشيوعية وهو أقرب إلى أن يكون حزبا قوميا أو شيوعيا بالاسم على غرار الحزب الشيوعي الصيني، فهو لا يضع حلولا على أساس المبدأ الشيوعي، ويبدو أنه لا يعترض على النظام الرأسمالي المطبق في البلاد، ولا يقوم بالصراع الفكري مع المبدأ الرأسمالي ولا بالكفاح السياسي ضد النظام على أساس المبدأ الشيوعي.

فهو فاقد للحيوية وللقدرة على ذلك وإنما يتغنى بأمجاد الماضي.

والوسط السياسي الروسي وسط يسعى لتحقيق المكاسب المادية والفوز بالمناصب.

فلا ترى فيه سياسيين مبدعين وسياسيين مفكرين.

فمثلا حزب يطلق على نفسه القضية العادلة دعا رئيسه أندريه دوناييف العام الماضي حزبه إلى تغيير جذري فيه فقال في مؤتمر حزبه في موسكو: "يجب علينا أن نوضح رسالتنا ونغير أيديولوجيتنا أو حتى اسم الحزب. ونحن نتخلى عن كلمة الليبرالي ونتحول إلى حزب يميني بكل معاني الكلمة أو حتى إلى حزب قومي وطني".

وأعرب عن قناعته بأن "هذا الاتجاه هو الطريق الوحيد أمام الحزب من أجل البقاء بصفته تنظيما سياسيا".

وقال "إن البلاد تغيرت ويتعين على الحزب أن يتغير أيضا".

وقال "إن حزبه خسر المعركة من أجل أصوات الناخبين".

فهو يتغير حسب ميول الناس فلا يعمل على تغييرهم حسب ميوله.

وكان الملياردير الروسي ميخائيل برخوروف قد أسس هذا الحزب عام 2008 بعد تراجع شعبية حزب يابلوكو (التفاحة) الليبرالي القديم.

فقام ميخائيل برخوروف وتخلى عن منصبه كرئيس للحزب عام 2011 وبدأ بتنفيذ مشروع سياسي خاص به" (روسيا اليوم 3/11/2012) وقد أسس هذا الملياردير حزبا آخر في تموز 2012 أطلق عليه المنبر الحر وانتخب رئيسا له في 27/10/2012.

ومثلا فقد أعرب رئيس الوزراء الروسي دميتري ميدفيديف عن ثقته بأن تغيير نظام الأحزاب سيسمح لعشرات الأحزاب الروسية أن تصبح فاعلة وسيمنحها التأثير في التركيبة السياسية للبلاد.

(وكالة نوفوستي 7/12/2012) فهذه نماذج عن نوعية الأحزاب الروسية وعن عقلية السياسيين.

وحزب روسيا الموحدة وهو حزب بوتين لا يختلف عنها بشيء.

 

فالحزب الحاكم وهو حزب روسيا الموحدة برئاسة رئيس الدولة الروسية بوتين ويأتي في الدرجة الثانية الحزب الشيوعي ولكن بفارق كبير في المقاعد فالأول يحتل 282 والثاني يحتل حوالي 90 مقعدا.

 

فروسيا تتمنى أن تصبح دولة عظمى وبذلك تحافظ على صفتها كدولة كبرى.

فتعمل على تطوير قوتها العسكرية.

فقد أعلنت عام 2009 عن أنها غيرت عقيدتها العسكرية وأن هدفها أن تصبح دولة عظمى كما ذكر رئيسها السابق ورئيس وزرائها الحالي مدفيديف.

ولديها نفوذ في آسيا الوسطى وفي منطقة القوقاز وفي منطقة القرم وفي روسيا البيضاء.

وهي تعمل على تركيز نفوذها في هذه المناطق.

وحاليا لا تعمل على مزاحمة أمريكا وكل ما تعمل له هو أن تقبل أمريكا بمشاركتها إياها وأن تعطيها اعتبار الدولة الكبرى الشريكة أو الدولة الثانية.

وإذا سقطت أمريكا عن مركز الدولة الأولى فإن الاحتمال ليس كبيرا بأن تتبوأ هذا المركز وتملأ الفراغ، لأنه لا يوجد لديها رسالة عالمية وسوف تجد ألمانيا وفرنسا تقف في وجهها معززة بالاتحاد الأوروبي ما عدا بريطانيا التي سوف تعمل على إيجاد توازن دولي بين روسيا وفرنسا وألمانيا.

وأوروبا الشرقية لا ترغب بعودة روسيا إليها وقد انضمت أكثرها إلى الاتحاد الأوروبي.

وكذلك دول البلقان لا ترغب بعودة روسيا سوى صربيا التي فيها إمكانية العودة إلى روسيا لتتقوى بها وتعيد سيطرتها على مناطق يوغسلافيا التي فقدتها.

 

وبما أنه لم تستطع أية دولة أن تستغل الأزمات العالمية التي هزت موقف أمريكا الدولي من الأزمة المالية إلى الضربات الموجعة التي تعرضت لها في العراق وفي أفغانستان.

 

مما يدل على عجز كل الدول الكبرى فعليا والمرشحة لذلك بأن تصبح الدولة الأولى في العالم حسب ظروفها الحالية.

 

ونلاحظ أن أهم شيء هو وجود السياسيين المبدعين والشجعان واستغلال الفرص السانحة مثل الأزمات الكبرى التي تهز موقف الدولة الأولى عالميا ومن ثم استغلال الإمكانيات وزيادتها والعمل على إيجاد تأثير في الدول الأخرى والعمل على قيادتها.

 

فإذا وجدت الإمكانيات ولم يوجد السياسيون فلن يحصل تغيير.

 

وبناء على كل ذلك فإنه من المحتمل إذا سقطت أمريكا حاليا أن يحصل توازن متقارب نوعا ما بين هذه الدول الكبرى، ولا تستطيع أية دولة أن تملأ الفراغ بسرعة وسيبدأ التسابق بينها.

وكل دولة منها سيكون لها مناطق نفوذ لا تسمح لدولة أخرى أن تدخلها بسهولة كما يحصل حاليا حيث تدخل أمريكا مناطق النفوذ التابعة للدول الكبرى الأخرى. وكل واحدة ستبدأ بتقوية نفوذها في مناطقها.

وستعمل الصين على بسط نفوذها على منطقتها في بحر الصين الشرقي والجنوبي لأن أمريكا تكون قد سقطت عن مركز الدولة الأولى فلا تستطيع أن تبقى مسيطرة على هذه المناطق.

وعندئذ ستبرز اليابان لتقف في وجه الصين.

وتعود المنافسة بين بريطانيا وفرنسا في أفريقيا لتزاحم بعضها بعضا.

وتبرز ألمانيا بعدما تخلصت من الهيمنة الأمريكية وقيودها وتبدأ تنافس بريطانيا وفرنسا.

ومن ثم تبدأ روسيا بالتفكير بالعودة إلى أوروبا الشرقية والبلقان.

وسيحتدم الصراع بين هذه الدول التي تتعادل تقريبا إلى أن تتسبب بنشوب حروب في هذه المناطق ولا يستبعد أن يتطور الأمر إلى حروب بين الدول الكبرى.

وأمريكا إذا سقطت عن مركز الدولة الأولى سوف لا تنتهي نهائيا ولكنها ستبقى دولة كبرى تنافس الدول الأخرى إلا إذا عادت إلى عزلتها بعدما أصابها اليأس من جراء سقوطها عن مركز الدولة الأولى فتعود دولة إقليمية كبرى في الأمريكتين.

 

أما الأمة الإسلامية فإن مقومات الدولة الكبرى لا زالت كامنةً فيها، وقد بدأت إرهاصات عنفوانها تتحرك منذ أواخر القرن الماضي، وهي الآن يكاد يبزغ فجرها، وتعود من جديد دولةً كبرى بل الدولة الأولى بإذن الله.

 

وستكون فرصة الخلافة في تبوء مكانة الدولة الأولى في العالم سانحة أكثر بسبب التنافس الدولي المتعادل تقريبا، ويكون نموها وتطورها أسرع مما لو كانت أمريكا هي الدولة الأولى المهيمنة على العالم كما هو حاليا.

 

فسوف تستغل التنافس والصراع بين تلك الدول الكبرى حتى تتمكن من أن تصبح دولة كبرى بل الدولة الأولى في العالم، سيما وقد أصبح لديها حزب سياسي مبدع قادر على أن يقودها ليحقق لها ذلك بإذن الله.

 

 

 

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

أسعد منصور

 

26 من محرم 1435

الموافق 2013/11/29م

 

 

http://www.hizb-ut-tahrir.info/info/index.php/contents/entry_31204

رابط هذا التعليق
شارك

  • 3 months later...

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الفراغ السياسي في الموقف الدولي

"القسم الثاني: سقوط أمريكا"

 

تكلمنا في موضوعنا "الفراغ السياسي في الموقف الدولي" حول احتمال سقوط أمريكا عن موقع الدولة الأولى في العالم، وعدم قدرة الدول الكبرى الأخرى الموجودة حاليا على الساحة وهي بريطانيا وفرنسا وروسيا، وكذلك الدول المحتمل أن تصير دولا كبرى كألمانيا والصين واليابان على أن تملأ الفراغ فتصبح الدولة الأولى التي تتحكم في العالم، وذكرنا أسباب ذلك. فنال هذا المقال تقدير أخ كبير عزيز طلب أن أكمل هذا الموضوع في الوقت المناسب بذكر "عوامل ضعف الدولة الأولى وزوالها". وتقدير أخ عزيز آخر طلب زيادة على الطلب السابق أن أكمله "ببيان أكثر لِمَ يمكن للأمة الإسلامية أن تحل محل الدولة الأولى وما هي مؤهلاتها لذلك ولماذا يمكن أن تسبق دولاً متقدمة كبريطانيا وفرنسا وغيرها". وتقدير أخ كريم طلب على صفحة المكتب الإعلامي المركزي تكملته "ببيان ما ستقوم به دولة الخلافة حينما تسقط أمريكا عن مركز الدولة الأولى".

 

وبناء على ذلك سوف أتناول هذه الموضوعات فأبين عوامل ضعف الدولة الأولى التي تؤدي إلى سقوطها عن هذا المركز وزوالها عن التحكم في العالم، وبعد ذلك أتناول مؤهلات الأمة الإسلامية لأن تصبح الدولة الأولى، ثم أتناول ما ستقوم به دولة الخلافة حينما تسقط أمريكا عن مركز الدولة الأولى. وفي هذا القسم اقتصر على بيان عوامل ضعف أمريكا لأتابع سائر الموضوعات في أقسام لاحقة إن شاء الله.

 

إن تتبع عوامل ضعف دولة كبرى كأمريكا أمر بالغ التعقيد ويحتاج إلى دراسات تفصيلية وتحليلية، ولكني أكتفي بالإشارة إلى أهم تلك العوامل بغية تسليط الضوء عليها علها تجد من يوسعها بحثاً وتقصياً.

 

أهم عوامل سقوط أمريكا عن مركز الدولة الأولى في العالم:

 

1- التراجع الفكري: إن أهم عامل من عوامل سقوط الدول الكبرى وانهيارها وزوالها هو الانحطاط الفكري، ويبدأ الانحطاط بالجمود الفكري الناتج عن العجز الفكري المتمثل في عدم القدرة على إيجاد حلول ناجعة للأزمات والمشاكل من المبدأ الذي تعتنقه الدولة. فالدولة تبقى قوية بقوتها الفكرية وقدرة أبنائها المفكرين والسياسيين على الإبداع الفكري وإيجاد الحلول الناجعة من المبدأ الذي يعتنقونه. فإذا ما حصل فيها نقص أو قحط في الرجال المفكرين المجتهدين والمبدعين، وظهرت إساءات في تطبيق المبدأ وسوء فهم له، ودخلت إليها أفكار وحلول من خارج المبدأ فأخذت تحاول التوفيق بينه وبين هذه الأفكار الدخيلة، وحصل التنازل عن أفكار المبدأ وعن الالتزام به، وتضعضعت الثقة في المبدأ لعدم قدرته على تقديم الحلول الناجعة، فعند ذلك يبدأ الانحدار والسقوط. وفي العادة فإن أهل هذا المبدأ لا يلتفتون إلى المرض الذي أصابهم، وإذنْ لعالجوه، ولكنهم لا يدركون ذلك جيداً إلا بعد نشوء دولة مبدئية أخرى تقوم بتحديهم وتحدي مبدئهم، فلا يصمدون أمامها وتنهار دولتهم، فدولتا فارس والروم لم تحسا بالانحطاط الفكري الذي أصابهما، ولكن عندما نشأت الدولة الإسلامية على أساس مبدأ جديد وبدأت تتحدى هاتين الدولتين فعندئذ أحستا بالخطر الداهم عليهما وسقطتا بسرعة أمام الدولة الإسلامية الناشئة.

 

والدولة الإسلامية في نهاية عهد العثمانيين لم تدرك الواقع الذي آلت إليه، فلم تعالجه عندما أصابها الانحطاط الفكري، لتفاجأ بالدول الأوروبية التي كانت ترهبها لقرون قد أفاقت من سباتها وتفوقت عليها وبدأت تهددها. والاتحاد السوفياتي بدأ بالعد التنازلي يوم بدأ يتنازل عن مبدئه وهو في أوج قوته العسكرية إلى أن تخلى نهائيا عن مبدئه تقريبا بتأويلات مثل الانفتاح وإعادة البناء إلى أن سقط هو ومبدؤه، فلم يبق غير اسم المبدأ واسم الحزب القائم عليه في بعض البلدان. وأمريكا الآن بدأت تتخلى عن مبدئها بشكل علني فقد حملت مشعل الحرية والديمقراطية والقيم العليا وحقوق الإنسان واحترام حق الشعوب في التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار والدفاع عن المظلومين والمضطهدين، فداست على كل ذلك، وانكشف وجهها الحقيقي بأنها دولة استعمارية لا تختلف عن الدول الاستعمارية السابقة ولا تقل عنها وحشية وهمجية، وصارت تضيق على الحريات في الداخل والخارج، وتتجسس على الجميع وتلاحق كل شخص وتجعله متهما يهدد أمنها إذا لم يعلن ولاءه لها بشكل كامل، بل ويتعامل معها أو يعمل لحسابها، وكثير من الناس الذين تقبض عليهم بسبب اتهامها لهم بمعارضتهم لسياستها ولمشاريعها أو لمقاومتهم احتلالها واستعمارها ترمي بهم في معتقلات نائية لسنين طويلة من دون محاكمة وتعذبهم وتهينهم وتدوس كرامتهم ولو كانوا أسرى، فلا تعتبرهم أسرى عندما تأسرهم وهي في حرب معهم، ولا تحترم حقوقهم الإنسانية فتفرج عنهم أو تفاديهم. ووقفت وراء الأنظمة الاستبدادية ودعمت الانقلابات ضد الديمقراطية التي تدّعيها، فتعرت أمام العالم، مثلما فعلت في مصر فدعمت الانقلاب على الديمقراطية التي دعمتها برئاسة مرسي، وبررت ذلك بأن الجيش سيعيد الديمقراطية كما قال وزير خارجيتها جون كيري.

 

وتدخلت بالقوة لإسقاط أنظمة معارضة لها وإقامة أنظمة شبيهة بالساقطة مؤيدة لها؛ فاحتلت العراق وأقامت فيه نظاما لا يقل استبدادا عن سابقه، بل أكثر فسادا من سابقه، ناهيك عن قتلها الناس بلا رحمة وتعذيبها لهم وتدميرها للبلد والعمل على تمزيقه، حيث وضعت دستورا من أجل تحقيق ذلك بإقامة نظام حكم محاصصة طائفية وقومية، وهذا يناقض الديمقراطية التي تقول بحكم الشعب بدون إعطاء حق لطائفة قومية معينة على حساب أخرى، متناقضة مع أفكارها الأساسية في مساواة المواطنين في الحقوق وعدم التمييز بينهم، وكاذبة على أهل العراق من أنها ستخلصهم من استبداد وظلم النظام.

 

وهكذا فعلت في أفغانستان بعدما احتلته، وكذلك فعلت في الصومال فأشاعت القتل والدمار في هذه البلاد، كما فعلت في العديد من دول أمريكا اللاتينية وفي العديد من دول أفريقيا وآسيا. فلم تعرف الرحمة ولا الشفقة ولا حقوق إنسان ولا أخلاق، فهي تقتل من تشاء وتعذب وتسجن من تشاء وتخطف من تشاء، وتدمر البيوت على رؤوس أصحابها وتثير الفوضى والاضطراب والقلاقل في المجتمعات لبسط نفوذها في البلاد.

 

وتستعمل أخبث وأقذر الأساليب في سبيل بسط نفوذها وتحقيق هيمنتها واستعمارها. وتدعم كيان يهود في كل جرائمه وتحميه من كل مساءلة. والعالم كله يشاهد ما تفعله أمريكا وهو كاره لكل ذلك ولاعِنٌ لها ولعملها ونازع ثقته منها ومن حلولها التي تعمق المشاكل ولا تحلها وتجعل المجتمعات تعيش في جحيم وتطلب رحمتها. كما تنازلت أمريكا عن مبدئها وتدخلت في السوق لإنقاذ الشركات والمؤسسات المالية والاقتصادية بشراء أسهمها المتعثرة أو الهالكة ابتداء من عام 2008 عند انفجار الأزمة المالية الأخيرة، وما زالت مستمرة في هذه السياسة حيث قررت ضخ ترليونات من الدولارات، فهي تضخ شهريا 85 مليار دولار، مع العلم أن ذلك يخالف مبدأها الرأسمالي مخالفة أساسية حيث ينص هذا المبدأ على منع الدولة من التدخل في السوق ويوجب تطهير السوق من براثن السلطة، ويقول بأن السوق هو الذي يعالج نفسه بنفسه، وهي التي تنادي بتحرير السوق وبالاقتصاد الحر.

 

فمثلها كمثل الاتحاد السوفياتي الذي عمل على تطبيق الاشتراكية حتى يصل إلى الاشتراكية الشيوعية ثم تراجع فسمح بإشراك بعض الأفراد في وسائل الإنتاج، واستمر في تراجعه وتنازله إلى أن سمح للمؤسسات المالية والاقتصادية الغربية الرأسمالية بالاستثمار في الاتحاد السوفياتي. وهكذا سقط الاتحاد السوفياتي عندما بدأ يتنازل ويتراجع عن مبدئه، وبدأ بتأويله وتحريفه، وسمح بدخول الأفكار الرأسمالية. وأمريكا خالفت مبدأها لأنها لم تستطع أن تلتزم به لأنه لا يعالج المشاكل فتدخلت في السوق ووضعت عليه قيودا وقوانين، وقامت وتدخلت لإنقاذ الشركات التي يجب أن تسقط حسب المبدأ الرأسمالي وتقوم غيرها محلها بصورة أقوى وأفضل، ومع ذلك لم تستطع أن تعالج هذه الأزمة وما زالت تضخ الأموال الطائلة لإنقاذ شركات أصحاب رؤوس الأموال الذين يحكمون البلاد وتحرم عامة الناس منها.

 

 

2- ضعف التماسك الداخلي: لقد بدأ الناس في أمريكا يشعرون بوجود طبقة ثرية ثراءً فاحشا تستحوذ على أكثرية ثروات البلاد وهي التي تتحكم في البلاد وفي العباد، وتمسك بزمام الحكم وتتبادل الأدوار بينها.

 

ولذلك خرجت مسيرات احتجاجية شعبية فريدة من نوعها في أمريكا واتخذت شعارا لافتا للنظر وهو "احتلوا وول ستريت" قائلة أن 1% من الناس، وهم الأثرياء الذين يتمركزون في السوق المالية المعروفة في وول ستريت، تملك 99% من الثروة، وأن هؤلاء لا يدفعون الضرائب بدعوى أنهم يشغّلون العمال فيمنون على الناس أنهم يشغلونهم بأجور زهيدة ويجمعون من وراء جهدهم ثروات طائلة. فقامت الدولة وقمعت هذه الاحتجاجات، مع أنها كانت سلمية. فهذا يدل على أن هناك تململاً من الناس للثورة على النظام القائم، وتميزت هذه التحركات بأنها لم تكن من عنصر أو عرق معين من الناس يحتجون على معاملتهم كاحتجاج السود أو احتجاج الأمريكيين اللاتينيين بل كانت من الشعب بصفة عامة بدون أن تحمل طابعا عنصريا أو عرقيا لفئة خاصة مهمشة في المجتمع. ولكن لم يملك هؤلاء المحتجون نظاما بديلا، فبقوا في أماكنهم، والدولة لم تقدم جوابا على ادعاء المحتجين ولم تحل المشكلة سوى بالوعود الكاذبة، وعملت على إخمادها بقمعها ومحاصرتها واعتقال الناشطين فيها والتضييق على أماكن احتجاجهم، مما يدل على أن المشكلة كامنة في المجتمع وستنفجر في يوم من الأيام، وستتطور عندما تجد فكرا بديلا ويقودها مفكرون أو تتجسد في تكتل أو تكتلات حزبية تعمل على التغيير.

 

وتصرف الدولة القمعي تجاههم أثبت أن الدولة تدوس الحريات التي تتشدق بها عندما يمس أحد الزمرة الحاكمة والمتحكمة والمستأثرة بالسلطة والثروة، وهي طبقة الرأسماليين الأثرياء ثراءً فاحشا. فإدراك الناس لهذا الأمر جدير بأن يحفزهم على التفكير في التغيير الجذري وللتكتل، فقد بدأوا يحسون بالواقع الأليم ويدركون الواقع الذي هم عليه، ويكتشفون سبب المشكلة بأن الذي يحكم أمريكا ويتحكم في الشعب وفي قوت يومه هو هذه الطبقة، وأنه لا يوجد حريات حقيقية، وهذه أول مرة في أمريكا يبدأ الناس بإدراك الواقع الذي عليه بلادهم ويتحركون لتغييره.

 

ولكن ينقصهم الفكر وهذا يأتي فيما بعد، أي أن الفكر يأتي بعد الإحساس بالواقع السيئ وبضرورة تغييره، فكلما تردت الأحوال وساءت الأوضاع في كافة المجالات قوي الإحساس وازدادت الحاجة للفكر لإيجاد الحل؛ فإما أن يكتشفه الناس بواسطة مفكرين سيبرزون بينهم أو في أماكن أخرى فينتقل إليهم، وإما أن يروه مطبقا في دولة أخرى ستنشأ كالدولة الإسلامية التي ستطبق السياسة الإسلامية التي ستوجد التوازن الاقتصادي في المجتمع الذي يوجب توزيع الثروات بين أفراده وإزالة الثراء الفاحش على حساب الآخرين، ويحول دون تكدس الثروات في خزائن طبقة معينة ضئيلة تتداول أغلب المال بين أفرادها، بل سيعم الخير في كافة المجالات. فكلما تفاقمت المشاكل وتأزمت الأمور فإن الانفجارات ستحدث في المجتمع.

 

فالخطوة الأولى هي إحساس الناس بالواقع السيئ والتململ للعمل على تغييره، ثم التفكير في تغييره ووجود مفكرين وأفراد يتكتلون ويتجسد فيهم الفكر، وبعد ذلك تأتي الخطوة الثالثة وهي العمل على التغيير.

 

هذا مع العلم بأن المجتمع الأمريكي مكون من جماعات كانت تنتمي لشعوب عديدة من مختلف أصقاع الأرض، فيرى البعض منها أنه مهمش في داخل المجتمع، وأن فئات من المجتمع تنتمي لعرق معين هي التي تستحوذ على أغلب المناصب والمراكز والثروات، ومنها من لديه أحاسيس قومية، فعند تفاقم المشاكل سوف تقوى هذه الأحاسيس، ثم تتجه نحو الدعوة للانفصال، مثلما حصل عام 1998 عندما قامت مجموعة وطالبت باستقلال تكساس. والولايات الجنوبية لديها شعور كامن بالانفصال، وقد جربته عام 1860 فاندلعت حرب أهلية لمدة خمس سنوات. وكلما تفاقمت المشاكل برز احتمال تفكك أمريكا من الداخل، خاصة وأن الناحية القومية لم تعالج من قبل المبدأ الرأسمالي فلما عجز عن حلها أقر بها، وأوجد النظام الفدرالي كحل لها، أي الاستقلال الداخلي للأقاليم الذي يحمل في أحشائه بذور الانفصال. فالنظام الفدرالي نظام هش فيه قابلية للانهيار ولتفكك الدولة.

 

وقد حصل مثل ذلك في الاتحاد السوفياتي الفدرالي الذي كان دولة عظمى وذلك عندما عصفت أزمات بالدولة فانهار الاتحاد وتفككت البلاد. وقد تفككت يوغسلافيا الفدرالية وتشيكوسلوفاكيا أيضا، وهناك العديد من الدول الأوروبية الفدرالية معرضة للتفكك بسبب هذا النظام، منها بريطانيا التي سقطت منها أيرلندا الجنوبية وهي معرضة لأن تسقط منها أيرلندا الشمالية وكذلك اسكتلندا. فالنظام الفدرالي الذي تقوم عليه أمريكا نظام هش ولا يصهر الشعوب في بوتقة واحدة، فإذا أثير الشعور القومي أو شعر الناس في الولايات بالظلم ووجود التمييز فسرعان ما تبدأ حركات الانفصال بالظهور، وإذا عملت دولة خارجية في داخل الدولة الفدرالية فإن ذلك سيسرع من حركة الانفصال والتفكك.

 

إلى جانب ذلك فإن المجتمع الأمريكي من أكثر المجتمعات فسادًا في العالم، فأمريكا تسجل أعلى المعدلات عالميا في كافة أنواع الجرائم من قتل واغتصاب ومن سطو واعتداء وسرقة ممتلكات وتعاطي المخدرات، وفي كافة أنواع الرذيلة والشذوذ. والناس في العالم لم يعودوا يعتبرون المجتمع الأمريكي مثاليا أو مجتمعا يحتذى به، بل أصبحوا يضربون المثل بسوئه وبما ينتشر فيه من مثل هذه الأعمال السيئة التي تسجل أعلى المعدلات عالميا، وهو أبعد المجتمعات عن التسامح والتآخي والتحابب، بل تسوده الأنانية والجشع وحب جمع المال، وتفكك الأسر، وتسوده العنصرية والكراهية والضغائن والأحقاد وحب الانتقام والقتل.

 

فالأمن والأمان مفقودان فيه، والكل يخاف على نفسه وعلى عرضه وعلى ماله وممتلكاته، فلا يأمن أحد أحدا؛ ولو كان جاره أو واحدا من أقاربه أو زملائه أو معارفه. وهي أكثر بلاد ترفع فيها دعاوى وقضايا لأتفه الأسباب، يرفعها بعضهم ضد بعض حيث لا يتفاهم الناس مع بعضهم البعض سواء الأزواج أو الأقارب أو الجيران أو الشركاء أو غيرهم، فلا يعمدون لحل مشاكلهم فيما بينهم بالتصالح والتسامح، بل يلجأون إلى المحاكم لمعاقبة الآخرين ولابتزازهم لتحصيل المال ولو كان بغير وجه حق.

 

 

3- تضعضع الناحية الاقتصادية: قلنا إن أمريكا تدخلت في السوق لإنقاذ الشركات والمؤسسات المالية والاقتصادية بشراء أسهمها المتعثرة أو الهالكة ابتداء من عام 2008 عند انفجار الأزمة المالية الأخيرة، وما زالت مستمرة في هذه السياسة حيث قررت ضخ ترليونات من الدولارات، فهي تضخ شهريا 85 مليار دولار، ومع ذلك لم تستطع أن تعالج هذه الأزمة وما زالت تضخ الأموال الطائلة لإنقاذ شركات أصحاب رؤوس الأموال الذين يحكمون البلاد وتحرم عامة الناس منها، والأزمة مستمرة وكان ضحاياها شظف وضنك من العيش للملايين الذين فقدوا بيوتهم وأعمالهم وبدأوا يقتاتون على المساعدات الاجتماعية، وقد ازدادت نسبة الفقر حيث أشارت إحصائياتهم التي نشرها مكتب التعداد السكاني بالولايات المتحدة في 7/11/2011 إلى أن نسبة الفقر وصلت عام 2010 إلى 16% أي 49 مليون شخص. (صحيفة الرياض 8/11/2011) في الوقت الذي أعلن عن ازدياد ثروات الأغنياء بنسبة 12% حيث أعلن عن إجمالي ثروات 400 شخص في أمريكا وهي تساوي 1,5 ترليون دولار (العربية 22/9/2011).

 

ولهذا قامت حركة وول ستريت التي رفعت شعار "1% من الناس الأثرياء يملكون 99% من ثروات البلاد". ومن جهة ثانية فإن المديونية الأمريكية والعجز في الميزانية وصلت إلى حدود لا يمكن تصورها في دولة، حيث وصلت المديونية إلى أكثر من 16 ترليون دولار. وأقل من هذا المبلغ بكثير من شأنه أن يسقط الدولة. وسبب بقائها رغم ذلك هو كون الدولار عملة عالمية يتحكم في اقتصاد العالم، وسيطرتها على الأسواق المالية العالمية وعلى المنظمات الاقتصادية والمالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية.

 

فإذا تخلت دول العالم أو قسم مهم منها عن التعامل بالدولار، فمن المحتمل أن يسبب ذلك انهيارا للاقتصاد الأمريكي، ثم سقوطاً لها عن مركزها كدولة أولى عالمياً. ومن جراء ذلك فإنه من المحتمل أن تسقط هذه المنظمات المالية العالمية فيختل التوازن الدولي.

 

فإذا تخلت دول العالم عن التعامل بالدولار أو عن كونه عملة عالمية وكونه احتياطياً لها أو رجعت إلى نظام الذهب والفضة فإن الدولار سوف يتحول من كونه عملة عالمية تسيطر على العملات والأسواق وعملة تستخدم كاحتياط نقدي للدول، لأن دول العالم سوف تتعامل بالعملات المستندة إلى الذهب والفضة وتترك التعامل بالدولار كمجرد عملة وثيقة تعتمد على الثقة بأمريكا أو على الهيمنة الأمريكية على اقتصاديات العالم وتتخلى عنه كاحتياطي نقدي.

 

وإذا طالبت دول العالم بالديون التي لها على أمريكا والتي هي على شكل سندات خزينة أمريكية شبه مفلسة، فإن أمريكا لن تستطيع أن تدفع هذه الديون وبذلك ستصبح في مأزق كبير وتنعدم الثقة بها وتعلن إفلاسها، وقد أفلست العشرات من مدنها والمئات من بنوكها والآلاف من شركاتها ومحلاتها التجارية والصناعية. ومديونيتها الهائلة كافية لإسقاطها عن مرتبة الدولة الكبرى الأولى عندما تتفاقم الأمور وتتحرك الدول لمحاسبتها واسترجاع أموالها. ففي 5/10/2013 عشية افتتاح قمة أيبك في جزيرة بالي بإندونيسيا أشار وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري إلى ذلك قائلا: "إذا استمرت الأزمة المالية أو تكررت فقد يبدأ الناس يشككون بإدارة الولايات المتحدة بالحفاظ على مسارها وقدرتها على ذلك".

 

وقبله في 3/10/2013 صرح جاكوب لي وزير الخزانة الأمريكية قائلا: "كما رأينا منذ عامين فإن استمرار الغموض بشأن قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بالتزاماتها المالية بشكل كامل وفي التوقيتات المحددة أضر باقتصادنا".

 

 

4- اهتزاز قوتها السياسية: القوة السياسية للدولة الأولى كثيرا ما تكون مرتبطة بقوتها الاقتصادية والعسكرية وقدرتها على استخدامها وقوة الثقة بها وبسياستها. فإذا ضعفت قوتها الاقتصادية والعسكرية ولم تقدر على استخدامها وإذا فضحت سياستها ولم يعد الناس يثقون بصدقها وبمصداقيتها، وكشفوا القناع عن وجهها الحقيقي فعرفوا كذبها وخداعها، ولم تستطع أن تنفذ خططها السياسية بسبب رفض الناس لها وانفضاح أمرها فإن قوتها السياسية سوف تضعف حتما ويهتز موقفها الدولي ومن بعد ذلك تتجه نحو السقوط كما هو حاصل لأمريكا الآن.

 

 

فهي أي أمريكا من خلال سيطرتها على الاقتصاد العالمي ومن خلال سيطرة الدولار الذي لا يساوي ثمن الحبر الذي طبع به تمول آلتها الحربية التي ترهب العالم بها، فإذا فقدت سيطرتها على المؤسسات المالية العالمية وإذا سقط الدولار عندئذ لن تستطيع أن تمول آلتها الحربية وجيوشها وقواعدها التي تنتشر في العديد من بلدان العالم وأساطيلها التي تجوب المحيطات.

 

فأهم عنصرين لفرض أمريكا هيمنتها السياسية على العالم هما القوة العسكرية والقوة الاقتصادية؛ فهما العنصران اللذان يؤمّنان لها الهيمنة على الأمم المتحدة ومنظماتها وخاصة مجلس الأمن، وكذلك المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية. فعندما تفقد هذه الهيمنة سوف تفقد قوتها السياسية بتأثيرها على دول العالم وبسيطرتها على الأمم المتحدة وخاصة مجلس الأمن وعلى المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية.

 

ثم إن سياستها أصبحت مكشوفة لدى الجميع، وبدأ الناس يدركون أساليبها التي تعتمد على الكذب والخداع وعلى إرهاب الناس أفرادا ودولا وشعوبا ووضعهم في قفص الاتهام بمعلومات كاذبة وتقارير مزورة ثم تبرير قتلهم أو سجنهم أو احتلال بلادهم، فهذا من شأنه أن يعجل بسقوطها، فإذا أضفنا إلى ذلك ما ذكرناه من بدء علامات الجمود الفكري بسبب عدم قدرتها على معالجة الأزمات ومخالفة مبدئها بسبب عقم حلوله، فهي تطبق نفس الحلول لهذه الأزمات منذ سنين طويلة فتتولد نفس النتائج فيتكرر حدوث هذه الأزمات بدون الوصول إلى حل جذري يمنع حدوثها، فإن ذلك يزيد من ضعف الثقة العالمية بها ومن شأنه أن يعجل بسقوطها.

 

ثم إن شعوب العالم باتت تبغضها وتنفر منها وتراها متغطرسة ومتجبرة تدوس كرامة الإنسان وتحتجز الناس لسنيين طويلة بتهم وبلا محاكمات وتنتهك حرماتهم وكرامتهم وتسومهم سوء العذاب، وتتجسس على الجميع حلفاء وأعداء بلا تمييز، وتخالف القوانين والأعراف الدولية وحقوق الإنسان والديمقراطية التي تدّعيها، دون أن تحسب حساباً لأي شيء.

 

وقد أصبحت عند شعوب العالم متهمة بأنها وراء كل عمل سيء وإجرامي في العالم وأنها توقد الحروب وتحوك المؤامرات ضد دول العالم، وتشعل الحروب الداخلية وتثير الفوضى والاضطرابات في بلدان العالم، وتدبر الانقلابات العسكرية وتقف وراء الحكام الاستبداديين إلى حين سقوطهم وتتحايل على الشعوب باستبدال استبداديين بهم، وأصبح ينظر إليها على أنها سبب الفقر والأزمات الاقتصادية في العالم، حتى إن الشعوب الأوروبية باتت تنفر منها ولم تعد تثق بها وبما تقول وتعتبر أنها وراء المشاكل واندلاع الحروب في العالم، فبان كذبها بادعائها أنها تحمل مشعل الحرية لتحرير الشعوب وانكشف زيف قيمها العليا التي كانت تتفاخر بها.

 

وقد أعلنت الحرب على الأمة الإسلامية تحت مسمى محاربة الإرهاب، فأصبحت مكشوفة لدى أبناء الأمة الإسلامية الذين بدأوا يحاربونها، فمنهم من يحاربها بالسلاح فعلا، ومنهم من يحاربها بالفكر وبالسياسة وثارت شعوب المسلمين ضد عملائها وعملاء حلفائها الغربيين وضد الأنظمة التي أقاموها، وصار الرأي العام ضدها، ومع أنها أتت بأوباما لتحسن صورتها القبيحة، لكن لم ينفعها لا أبيضها ولا أسودها.

 

فشعوب العالم كله أدركت واقع أمريكا، وبدأت تعمل للتخلص من هيمنتها ومن شرورها، مما يبشر بسقوط أمريكا عن كونها الدولة الأولى في العالم وبتهيئة العالم لتقبل دولة أولى عالمية أخرى تقود العالم إلى الخير وتحقق العدل وتنصف المظلوم وتعطي الحقوق لأصحابها وتوفر الأمن والأمان والاستقرار وتنشر السلام والرخاء. ولا يوجد غير دولة الخلافة الراشدة القادمة بديلا وقائدا صادقا ليحقق للعالم ذلك كله.

 

 

إن هناك علامات فشل في سياسة أمريكا تشير إلى أن قوتها السياسية تتجه نحو الضعف. ففي قضية الشرق الأوسط لم تستطع حتى الآن أن تنفذ مشروعها في إقامة الدولتين ولو نفذته فشعوب المنطقة ترفضه، فقد استطاعت أن تنفذ خطتها المتعلقة بمصر بواسطة كامب ديفيد ولكن الشعب في مصر ما زال يرفض التطبيع مع كيان يهود وينتظر اليوم الذي يتخلص فيه من هذه الاتفاقية. وقد اهتز نفوذها فأهل العراق وأهل أفغانستان والصومال قاوموا احتلالها ووجهوا إليها ضربات موجعة لم تجعلها في موقع المنتصر بل أظهرتها في وضع المنهزم، وأخذت تتوجس من خوض حرب أخرى.

 

 

وجاءت الثورات المباركة في العالم الإسلامي وبدأت من البلاد العربية فجعلت أمريكا تقلق على نفوذها في هذه البلاد وعلى مصيرها العالمي كدولة أولى في العالم. فقد صرح رئيسها أوباما مؤخرا في خطاب له أمام الجمعية العمومية يوم 24/9/2013 قائلا: "إن التقلبات الجديدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نموذج على التحديات التي تواجه العالم. ولذلك فإن على الأمم المتحدة أن تعالج الاضطرابات الداخلية ومنع الصراع الداخلي بدلا من العمل فقط على منع الحروب بين الدول". وأضاف: "إن التقلبات الكبيرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أظهرت الانقسامات العميقة داخل تلك المجتمعات، والشعوب تتساءل عما سيأتي لاحقا". وقال "إن الأزمة في سوريا وزعزعة استقرار المنطقة تطرح تحديات أوسع للمجتمع الدولي". وأقر بقوة الحركات الإسلامية قائلا: "إن الولايات المتحدة وآخرين عملوا على دعم المعارضة المعتدلة ولكن المجموعات المتطرفة استطاعت أن تنتشر لاستغلال الأزمة".

 

وقد أعلن أوباما تنازل أمريكا عن الديمقراطية في سبيل تحقيق مصالحها فقال: "إن دعم الديمقراطية ليس من المصالح الأساسية التي ستعمل على حمايتها". وأكد أوباما مرة أخرى على مصالح أمريكا مدللا على تهاوي بلاده وانحدارها فقال: "على الرغم من أن الولايات المتحدة بدأت تقلل تدريجيا من اعتمادها على النفط المستورد إلا أن العالم ما زال يعتمد على مصادر المنطقة للطاقة وأي اضطراب قوي قد يزعزع اقتصاد العالم بأجمعه".

 

 

ومن هنا يتبين لنا أن أمريكا على وشك السقوط وأنها إلى زوال بإذن الله مع أن عمرها كدولة أولى في العالم لم يتجاوز ستين سنة مع وجود منافس لها، وهذا لا يعد شيئا في تاريخ الأمم، وبدأت تهتز في العقد الأخير. فالظلم والتسلط والغطرسة والعنجهية لن تجعل صاحبها يسود إلا قليلا، ومن ثم يزول ويزول معه كل ما يحمله. وليس من المحتمل أن تملأ ذلك الفراغ الدول الكبرى الأخرى مثل روسيا وبريطانيا وفرنسا ولا الدول المرشحة لتكون دولة كبرى كألمانيا أو التي ينظر إليها أنه من الممكن أن تصبح دولة كبرى كالصين أو اليابان كما بينا في مقالنا الأول تحت عنوان الفراغ السياسي في الموقف الدولي. ولم يبق إلا احتمال نهضة الأمة الإسلامية وإقامة دولتها دولة الخلافة. وسنبحث إن شاء الله في القسم الثالث مؤهلات الأمة الإسلامية لأن تسبق الدول الكبرى الأخرى وتملأ الفراغ وتصبح الدولة الأولى عالميا.

 

 

 

القسم الأول

 

 

 

 

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

أسعد منصور

 

 

 

maqalat.jpg

 

 

 

 

 

لقراءة الجزء الأول

اضغط هنــــا

رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم

بارك الله لنا في الاخ اسعد منصور

في الحقيقة هي استنارة في تشخيص و ادراك الواقع على حقيقته

قدرة الاخ اسعد منصور على تجاوز و نسف كل ما بامكانه ان يشوش على تشخيصه و تحليله الدقيق للواقع

في النقطة الاولى المتعلقة بالتراجع الفكري الا يمكن اضافة عامل اخر و هو مصدر المبدا نفسه لان كل ما ذكر في المقال ينطبق على كل الدول و هو حاصل لا محالة لكل دولة قائمة اوستقوم الى ان يرث الله الارض و من عليها الا ان الدولة الاسلامية التي قامت في السابق و ستقوم في القريب العاجل انشاء الله تختلف من حيث اسباب التراجع الفكري فهو بالنسبة للدولة الاسلامية عامل بشري حصرا اما باقي الدول فيضاف اليه عجز و نقص المبدا نفسه لانه مبدا مصدره عاجز و ناقص و هو عقل البشر فحتى لو ان امريكا تجاوزت كل عقبات التراجع الفكري المدكورة في المقال ستبقى امامها عقبة المبدا نفسه انه غير قادر على مسايرة الاحدات و المستجدات التي لا تنتهي

رابط هذا التعليق
شارك

لا أعتقد أن سقوط الولايات المتحدة سيكون مدويا..ذلك لأن كل الدول الكبرى اليوم تقطن في نفس المعسكر و هو المعسكر الرأسمالي ، و النظام الدولي برمته اليوم مبني على الأساس الرأسمالي. قد تتراجع الولايات المتحدة لتحل محلها دولة عظمى أخرى في مدى التأثير في السياسات الدولية ، غير أنها تبقى دولة كبرى مرهوبة الجانب..و قد نجحت بربط الاقتصاد العالمي باقتصادها..فإن هي سقطت ستتأثر بقية الدول الكبرى بشكل كبير.

 

المواطنون في الغرب بشكل عام و في الولايات المتحدة بشكل خاص أرهقهم النظام الرأسمالي و ضرائبه الباهظة..كما أن الأزمات الاقتصادية التي حدثت فتحت عيونهم على مدى ظلم النظام و هشاشته بنفس الوقت...غير أن هناك قناعة أن هذا النظام مع كل مصائبه هو أفضل ما توصلت إليه البشرية...فليس هناك أي محاولات جدية لتغييره اليوم.

 

قد تحتاج إعادة رسم خريطة القوى في العالم إلى حدث جلل...فالحرب العالمية الأولى غيرت خريطة العالم ، و الحرب العالمية الثانية فصلت في التغيير...هل يحتاج العالم اليوم لحرب عالمية ثالثة حتى تعاد الأمور إلى نصابها؟

رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم

بارك الله لنا في الاخ اسعد منصور

في الحقيقة هي استنارة في تشخيص و ادراك الواقع على حقيقته

قدرة الاخ اسعد منصور على تجاوز و نسف كل ما بامكانه ان يشوش على تشخيصه و تحليله الدقيق للواقع

في النقطة الاولى المتعلقة بالتراجع الفكري الا يمكن اضافة عامل اخر و هو مصدر المبدا نفسه لان كل ما ذكر في المقال ينطبق على كل الدول و هو حاصل لا محالة لكل دولة قائمة اوستقوم الى ان يرث الله الارض و من عليها الا ان الدولة الاسلامية التي قامت في السابق و ستقوم في القريب العاجل انشاء الله تختلف من حيث اسباب التراجع الفكري فهو بالنسبة للدولة الاسلامية عامل بشري حصرا اما باقي الدول فيضاف اليه عجز و نقص المبدا نفسه لانه مبدا مصدره عاجز و ناقص و هو عقل البشر فحتى لو ان امريكا تجاوزت كل عقبات التراجع الفكري المدكورة في المقال ستبقى امامها عقبة المبدا نفسه انه غير قادر على مسايرة الاحدات و المستجدات التي لا تنتهي

 

إن شاء

رابط هذا التعليق
شارك

  • 3 weeks later...

عناصر تبين ضعف اميركا:

 

عن البي بي سي

 

 في صحيفة الفاينانشالتايمز مقالاً لإدوارد لوس عن تراجع النفوذ الأمريكي على الساحة الدولية. وقال لوس إن هذا "الواقع" الأمريكي يترجم في الفترة الأخيرة مع قرب فشل المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية الأسبوع الماضي بعد جهود مضنية بذلها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في المنطقة بلغت 12 زيارة خلال الـ 13 شهراً الماضية.

 

"تضاؤل النفوذ"

 

وأضاف كاتب المقال أن كيري لم يلفت نظر الإدراة الأمريكية إلى تضاؤل نفوذها في المنطقة إلا منذ أسبوع تقريباً، وذلك عندما عرض على الاسرائيلين إطلاق سراح الجاسوس الاسرائيلي جوناثان بولارد، في محاولة لتحريك عجلة المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية ودفع اسرائيل إلى إطلاق الدفعة الأخيرة من الأسرى التي كانت مقررة، إلأ أن أياً من ذلك لم يتحقق.

 

وأوضح لوس أن السعودية بدأت تدريجياً بالابتعاد عن امريكا لأنها شعرت بأن واشنطن فقدت دورها القيادي في الشرق الأوسط.

 

وأضاف كاتب المقال أن أقرب حلفاء واشنطن أضحوا اليوم ضعفاء وهي تجد صعوبة كبيرة في استبدالهم بآخرين جدد، موضحاً أن الرئيس الامريكي باراك أوباما الذي بدأ حياته السياسية بفورة من المثالية، ترجمها واستبدلها بالبراغماتية.

 

وأشار إلى أنه من المتوقع أن يعود أوباما خالي الوفاض من رحلته إلى اليابان، كما حدث بعد زيارته الأولى لبروكسل، بعيد ضم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم إلى بلاده

 

ويختم بالقول إن العالم يتوجه اليوم نحو تشكيل قوى اقليمية حازمة، ومن الصعب القول إن الرئيس الذي سيخلف أوباما سيكون أكثر حظاً بوقف مد هذه القوى الاقليمية.

 

 

رابط هذا التعليق
شارك

  • 1 month later...

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الفراغ السياسي في الموقف الدولي (3)

 

"القسم الثالث: مؤهلات الأمة الإسلامية لأن تصبح الدولة الأولى في العالم"

 

بعدما تحدثنا في الجزء الأول عن احتمال حدوث فراغ سياسي في الموقف الدولي، أي عدم قدرة أية دولة على ملء هذا الفراغ في حال سقوط أمريكا عن مركز الدولة الأولى في العالم، وتحدثنا عن عوامل سقوطها في الجزء الثاني من هذا الموضوع، وذكرنا أن هناك احتمالا كبيرا بأن تقوم الأمة الإسلامية بملء هذا الفراغ عن طريق إقامة دولتها دولة الخلافة، بل إن ذلك أكيد بإذن الله، نريد أن نتحدث في هذا القسم الثالث عن مؤهلات هذه الأمة لتصبح الدولة الأولى في العالم وهي التي تجعلها تسبق الدول الكبرى الأخرى كبريطانيا وفرنسا وروسيا. فمن هذه المؤهلات:

 

1- المبدأ والرسالة العالمية: إن أهم عامل يؤهل أية أمة لأن تكون دولة كبرى أو عظمى هو المبدأ الذي تعتنقه فتطبقه دولتها في الداخل وتحمله رسالة إلى العالم. والأمة الإسلامية صاحبة مبدأ عظيم راسخ في أعماقها، وهو يستند إلى أساس روحي، ويمزج المادة بالروح، ويحقق القيم الأربع في المجتمع وهي القيمة الروحية والقيمة الأخلاقية والقيمة الإنسانية والقيمة المادية بانسجام تام، وهذا لا يتوفر في أي مبدأ غير مبدأ الإسلام. ومقياس الأعمال في هذا المبدأ هو ما يرضي الله وما يغضبه من حلال وحرام، وهو بذلك يجعل المرء المعتنق له يلتزم بالحكم الشرعي الذي تتبناه الدولة فيصبح قانونا طوعا ورغبة برضاء الله واجتنابا لغضبه. وهذا لا يتوفر لدى الدول الكبرى الأخرى حيث تطبق قوانينها على شعوبها بكل صرامة وقوة وقهر، وإلا فإن الناس في هذه الدول يتفلتون من الالتزام بالقوانين عندما يشعرون بتراخ في التطبيق أو غياب القوة أو عندما يجدون فرصة للتحايل على القوانين أو إمكانية لمخالفتها والتهرب منها بعيدا عن أنظار الدولة. ومعنى السعادة في الإسلام هي نوال رضوان الله وهي غاية الغايات، وهذا يجعل الإنسان سليما يعيش في طمأنينة وراحة بال بعيدا عن التعقيدات والأزمات والاضطرابات النفسية التي تسود شعوب الدول الكبرى الأخرى.

 

وكل هذه الخواص التي يتمتع بها المجتمع الإسلامي الذي يطبق فيه نظام الإسلام والصفات التي تتصف بها الأمة الإسلامية بالتزامها بمبدئها، لا توجد في أي مجتمع ولا في أية أمة غير المجتمع الإسلامي وغير الأمة الإسلامية، ولهذا فإن الأمة الإسلامية مؤهلة لأن تقيم أكبر دولة في العالم فتكون دولتها القادمة دولة الخلافة الإسلامية من أرقى الدول وأعظمها. بينما المبدأ الرأسمالي الذي تتبناه الدول الكبرى الأخرى خالٍ من كل تلك الخواص، بل أساسه المادية والانتفاع المادي ومقياسه النفعية ولا يعطي أي اهتمام ولا قيمة إلا للقيمة المادية. وأما النواحي الروحية والأخلاقية والإنسانية فهي منفصلة عن الدولة وعن المجتمع ولا تكاد تحس بها ولا قيمة لها في هذا المبدأ، بل هي عنده عبارة عن نوازع فردية تترك للأفراد إذا أرادوا أن يشبعوها، ولكن الأساس هو فصلها عن الدولة وعن الحياة وعن المجتمع. وقد ركز المبدأ الرأسمالي عند أتباعه وفي مجتمعاته نظرته للسعادة بأنها الحصول على أكبر قدر من المتع الجسدية والملذات المادية وكسب المال. ولذلك فإن خواص المبدأ الرأسمالي طبعت شعوب الدول الغربية وخاصة الدول الكبرى التي تتبناه وتطبقه، فطغت عليها الناحية المادية بشكل لا يتصور، حتى إن الدين عندهم لم يعد له أي تأثير عليهم ولا يُعطى أي اهتمام ولا قيمة، ويكاد يكون مفرغا من الناحية الروحانية والأخلاقية والإنسانية التي من المفروض أن تكون فيه باعتباره دينا. وفوق ذلك طغت الناحية المادية على الكنائس الغربية. فالكنيسة عندهم أصبح أكبر همها جمع المال، ولذلك هجرها أكثر أتباعها. وهي آلة سياسية في يد الدول الرأسمالية ووسيلة استعمارية، ورجال الدين يطغى عليهم الفساد الخلقي والشذوذ الجنسي، ولا يفكرون إلا في الناحية المادية من جمع المال والمتع الجسدية واتباع الشهوات مثلهم مثل الملحدين الذين أصبحت نسبهم عالية في المجتمعات الغربية، وأخذوا يبيحون للناس ما يبغون حسب رغباتهم وأهوائهم، حتى إنهم أباحوا علاقات الرجال الشاذة مع بعضهم وقاموا بتزويجهم.

 

وقد تأثرت بهم شعوب الدول الصغرى التي يطبق عليها النظام الرأسمالي، فمن جراء ذلك وصلت هذه الأمم والشعوب إلى أدنى مستوى من الانحطاط الروحي والخلقي والإنساني وسادها الجشع والأنانية والصراع على تحصيل المال بأية وسيلة والتسابق على جمعه بأرقام خيالية، فوجد في الدول الرأسمالية أصحاب المليارات الذين يفتخرون بضخامة أموالهم وتفتخر دولهم بأن لديها أصحاب مليارات بلغ عددهم كذا وكذا، بينما أغلبية أفراد الشعب يعانون من ضنك العيش والفاقة والفقر والحرمان بنسب عالية، وأصحاب المليارات ودولهم الداعمة لهم لا يعرفون أية شفقة أو رحمة تجاه مجتمعاتهم ولا همّ لهم إلا زيادة ثرواتهم، وبات كل فرد في هذه المجتمعات يتمنى أن يكون مثلهم أو أن يكون لديه المال الوفير ليشبع رغباته المادية وملذاته الجسدية وشهواته. ولا يلتزم أحدهم بالقانون إلا خوفا من العقوبة المترتبة على مخالفته، في الوقت الذي يعمل فيه على التحايل على القانون، وفضائح ذلك طالت الحكام والمسؤولين وكبار الموظفين في بلاد الغرب وهي منتشرة وليس نادرة، مما يدل على أن الجميع يعمل على مخالفة القانون لأنه يعتبره قانونا من وضع البشر وليس فيه أي جانب علوي. وقد أصبح الشذوذ وكل عمل يتعلق بالرذيلة مستحبا والعفة منبوذة والفضيلة مرفوضة، وتفسخت العلاقات الاجتماعية إلى أبعد الحدود، ولم يعد هناك معنى للعائلة ولا قيمة للزواج حيث إن إقامة العلاقات خارج إطار الزواج أصبحت هي المقبولة والطبيعية، وإحصائياتهم تشير إلى أن أكثر المواليد نتيجة العلاقات خارج الزواج. ووضعت التشريعات التي تتعلق بذلك وتقره كما تقر الشذوذ وأعمال الرذيلة، وبات الناس في هذه المجتمعات يعانون من أزمات نفسية يصعب علاجها وتعقيدات يصعب حلها وخواء روحي، فأصبحوا أشقياء مضطربين وقلقين ومعقدين. وهم لا يختلفون كثيرا في هذه النواحي عن أصحاب المبدأ الإشتراكي الشيوعي الذي فشل فشلا ذريعا وسقط سقوطا مدويا، وفشله ينذر بفشل المبدأ الرأسمالي بسبب التشابه بينهما في هذه الناحية وفي نواح عدة. والمبدآن هما من إفرازات الغرب أصحاب الفكر المادي. بينما نجح المبدأ الإسلامي في صنع أمة عظيمة وصهر كل الشعوب التي لامسها نوره في بوتقة واحدة على مساحة واسعة شملت أغلب بقاع الأرض المعروفة يومئذ، وهذا لم ينجح فيه المبدآن الرأسمالي والشيوعي الإشتراكي. وكانت الأمة الإسلامية مثالا للأمم وقدوة للشعوب، تحتضن كل شعب يدخل في الإسلام، بل كل شعب يدخل تحت حكم دولة الإسلام، وتسويه بها وتزيل كل تمييز بينها وبينه.

 

بينما نرى المجتمعات الغربية لا تستطيع أن تحتضن الآخرين ولا تساويهم بها، بل تبقى تنفر منهم وتنظر إليهم نظرة احتقار. وهذا ظاهر محسوس وملموس في بلاد الغرب كلها ومنها أمريكا. ومن هنا تأتي نظرة التعالي والغطرسة الأمريكية تجاه الآخرين، بل وصل بهم الأمر بأن يحتقروا شركاءهم في الحضارة الغربية على الضفة الشرقية من الأطلسي. فاحتقرت أمريكا أوروربا ووصفتها بإنها قديمة وعليها أن تتنحى عن قيادة العالم والتدخل في شؤونه، وأن تترك قيادتها وقيادة العالم لها أي لأمريكا. والحروب العظيمة كالحربين العالميتين اشتعلت بينهم ودمرت بلادهم وقتلت عشرات الملايين من أبنائهم وهم أصحاب المبدأ الواحد. وكل ذلك بسبب هذا المبدأ وخواصه التي تؤدي إلى الكوارث العظيمة. فهو مبدأ خطر على أهله وعلى البشرية جمعاء، يجب أن يسقط كما سقط صنوه الشيوعي الإشتراكي وأن تتنحى الدول الكبرى القائمة عليه عن محاولتها قيادة العالم وتتركها لأصحاب المبدأ الصحيح وهو الإسلام ليقيموا أعظم دولة تقود العالم نحو الخير وتحقيق الأمن والأمان وإقامة العدل وإحقاق الحق وإعطاء الحقوق لأصحابها.

 

فالمبدأ الإسلامي تحتاجه البشرية جمعاء وهذا أمر ينبغي أن يحفز المسلمين كي يعملوا من أجل سيادته ويندفعوا لإقامة أعظم وأرقى دولة. هذا فوق كون الإسلام نفسه محفزاً حيوياً للحركة، ومعتنقوه يتميزون بالتضحية والفداء وحب المسؤولية عن الغير، لأن أفكاره تدعوهم لأن يكونوا كذلك، وهم يتمتعون بصفات راقية طبعها بهم المبدأ، فهم قدوة حسنة بتصرفاتهم وسلوكهم وأهل لقيادة الناس. ولهذا سوف تندفع الأمة بقوة المبدأ الذي تحمله عما قريب، وسوف تزمجر وتنطلق بقوة كما انطلقت في السابق. فقد حمّلها المبدأ المسؤولية عن العالم وأوجب عليها أن تحمل المبدأ للناس كافة، وأن تضحي من أجل سيادته ومن أجل سعادتهم، وأوجب عليها أن تُفرد سيادة المبدأ الإسلامي في العالم كله مهما كلفها من ثمن. وقد أصبحت التضحية سجية من سجايا معتنقيه، لا يمكن قتلها رغم ما تعرضوا له من تجهيل بحقيقة مبدئهم ومن إذلال واضطهاد وحرمان وقتل وسجن وتعذيب على يد الأنظمة العميلة للغرب. فلم تستسلم هذه الأمة الأصيلة ولم تيأس ولم تقنط وهي تقاوم، وتعمل على النهوض والعودة مرة أخرى كأعظم أمة لتقيم أعظم دولة وتحمل أعظم رسالة. وقد ظهرت في الأمة الإسلامية حركات عديدة مختلفة بغض النظر عن أخطائها ونواقصها، وكلما فشلت واحدة تظهر أخرى وهي مستمرة في محاولات نهضة الأمة منذ فترة طويلة، وكذلك اندلعت ثوراتها الأخيرة، فهذا خير دليل على قولنا بأن الأمة الإسلامية مؤهلة لأن تملأ الفراغ حتى تصبح الدولة الأولى في العالم.

 

2- وجود الحزب السياسي العقائدي في الأمة: وهذا الأمر أيضا من أهم العوامل لإقامة الدولة الكبرى الأولى في العالم. فإذا كان المبدأ بمثابة الوقود للمحرك في الأمة، فإن الحزب السياسي العقائدي بمثابة القائد لها، فبدونه لا يمكن أن تتحرك الأمة في الاتجاه الصحيح، ولا أن تسير نحو هدفها المنشود، وتبقى تتخبط يمنة ويسرة أثناء تحركها للتحرر والنهوض، وتبقى عرضة للسارقين لأموال الأمة والغاصبين لسلطانها والمحتالين على الناس من هواة السياسة وعشاق المناصب وهم العملاء وأولياء الغرب المستعمر كما هي عليه الحال الآن، وهؤلاء يعملون على توجيه شعوب الأمة حسب رغباتهم وأهوائهم وارتباطاتهم بالدول الاستعمارية. ولكن هذا لن يدوم؛ فقد نشأ في الأمة الحزب السياسي العقائدي الرائد الذي يقوم على المبدأ الذي تعتنقه هذه الأمة، ويعمل على إيجاد هذا المبدأ في المجتمع بتغيير أفكاره ومشاعره وأنظمته وعلى تنشئة رجال دولة سياسيين عقائدين مبدعين. وذلك من أهم مؤهلات هذه الأمة لأن تقيم دولة كبرى، بل أكبر دولة في العالم.

 

والدولة الإسلامية التي دامت ثلاثة عشر قرنا أقامها حزب سياسي عقائدي، حيث أقامها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والذين معه من أصحابه، وكانوا بمثابة حزب سياسي عقائدي أنبت شخصيات سياسية عقائدية مبدعة من الصحابة الكرام، وهم جعلوا هذه الدولة في فترة قصيرة أعظم دولة في العالم، فدامت مدة طويلة وهي الدولة الأولى. واليوم وقد نشأ في الأمة الإسلامية كذلك حزب سياسي عقائدي أنبت سياسيين عقائدين ومبدعين فهو دليل على حيوية وخيرية الأمة، وذلك من مؤهلات الأمة لأن تصبح دولة كبرى، ثم أعظم دولة في العالم في فترة ليست طويلة لتملأ الفراغ السياسي الدولي. والشيء المبشر والمفرح في هؤلاء الذين ولدتهم أعظم أمة ونشّأهم حزبها الذي ولد من رحمها من مائها الصافي أنهم لا يتساوون مع سياسيّي العالم العظام فقط، بل يتفوقون عليهم، بل هم يجمعون صفات لا يجمعها أي سياسي في العالم، فيجمعون بفضل من الله ورحمة منه مع السياسة الفقه والفكر، ومع الناحية النظرية الناحية العملية، ومع الوعي السياسي التقى والزهد. لقد بدأت الأمة تستجيب لدعوة حزبها هذا الذي كان المستعمرون وعملاؤهم يفترون عليه أمام الأمة إذ يصورون لها أن هذا الحزب ليس وليدها وابنها، ولكن الأمة اكتشفت كذب المستعمرين، فبدأت تتقبل قيادته وأظهرت استعدادها لنصرته.

 

ومن الأدلة على نجاح هذا الحزب أيضا أنه استطاع أن يجمع في صفوفه من كافة أبناء الأمة متخطيا الحدود الوهمية التي رسمها الاستعمار والتي حاول أن يؤبدها، فانتسب إليه أبناء الأمة من كافة أعراقها وأقوامها ومذاهبها من دون تمييز، وكلهم تبنوا نفس الأفكار وأظهروا نفس الإبداع الفكري والسياسي وبذلوا نفس التضحيات، فهم يحللون ويفكرون ويبدعون ويضعون الحلول والخطط ويرسمون الاستراتيجيات ويضعون آليات التنفيذ والإخراج، فهم قادرون على إدارة أعظم دولة، فهم وأمتهم أحق بها وأهلها بإذن الله.

 

3- العراقة التاريخية: الأمة الإسلامية كانت لها دولة كبرى مؤثرة عالميا لمدة ثلاثة عشر قرنا، وتبوأت مركز الدولة الأولى في العالم أكثر من عشرة قرون. وهذا وحده يكفي لجعلها تتبوأ هذا المركز مرة ثانية ويجعل الأمم والشعوب الأخرى تقبل قيادة هذه الأمة من جديد لأنها تعرفها تاريخيا بأنها كانت أمة خير جلبت لهم الخير ولم تكن مستعمرة ولا ظالمة ولم تكن متغطرسة ولا متجبرة كأمريكا وغيرها من الدول الكبرى. وكانت متقدمة في كافة المجالات، ولها يدين العالم في التقدم العلمي والتكنولوجي الذي حصل، وبدأ العالم يعترف بهذه الحقيقة ومنه العالم الغربي الذي كان يعمل على إخفائها. والتاريخ المشرق لأية أمة من الأمم هو عنصر مهم جدا لإثارة مشاعرها للعمل على إعادة أمجادها المشرقة، وعنصر مشجع ومحفز لأبنائها لأن يعملوا على أن يقيموا أعظم دولة كما أقامها أجدادهم. ولهذا نرى هذا التوجه العام في الأمة الإسلامية، وإن اختلفت أشكاله بسبب تفاوت الفهم لكيفية إقامة هذه الدولة. ولكن مجرد وجود هذا التوجه ومجرد وجود العاملين وتحركهم وحركاتهم ومحاولاتهم لإقامتها لخير دليل على وجود هذه العراقة التاريخية لدى الأمة. مع العلم أنه كما ذكرنا في النقطة السابقة قد نشأ في الأمة حزب سياسي عقائدي أبصر الطريق وأخذ يدعو على بصيرة ويسير نحو الهدف المنشود برؤية واضحة.

 

ومن الجدير بالذكر أن الغرب بأدواته ووسائله الضخمة وبعد أن فرض سيطرته على العالم الإسلامي أقام فيه أنظمة فاسدة تروج لسياسته ولأفكاره ووضع مناهج تعليم منحرفة لتنشئة أبناء الأمة على أساس ثقافته الزائفة ووجهة نظره الباطلة، وعمد إلى تشويه التاريخ الإسلامي وتسويد صفحاته البيضاء المشرقة والتشكيك في عظمة الدولة الإسلامية، وأوجد وسائل إعلام مضللة تروج لآرائه، واشترى ذمما وعملاء ليعملوا لحسابه، وأسس أحزابا قومية ووطنية وعلمانية وديمقراطية واشتراكية لتروج لبضاعته الفاسدة والزائفة المصنوعة من مجموع أفكاره وثقافته وآرائه وتحقق له مصالحه وتديم له نفوذه، وأنشأ معاهد الاستشراق وخرّج المستشرقين ليقوموا ببث سمومهم في عقول أبناء الأمة وينشروا كتاباتهم السامة والمضللة والمشوهة للتاريخ الإسلامي بينهم. وكذلك أقام هذا المستعمر المدارس والمعاهد والجامعات التي يشرف عليها مباشرة في بلاد المسلمين وأنفق الأموال الطائلة على ذلك في محاولة منه لتخريج أجيال تنتمي لثقافته وتستقي من أفكاره وتروج لسياساته وترحب بهيمنته على الأمة. كل هذا الجهد الهائل من الغرب المستعمر الذي لم يبذله تجاه أية أمة أخرى ليدل على مدى إدراكه لخطورة العراقة التاريخية لدى الأمة الإسلامية بجانب إدراكه لخطورة المبدأ الإسلامي المتجسد فيها عليه.

 

ولذلك عمل بكل تلك الأساليب والوسائل والأدوات على تشويه تاريخ الأمة المشرق والعريق، وعمل على الحط من قدرها وقدر عظمائها وبطولاتهم وإبداعاتهم المجيدة ومن قيمها الراقية، وعمل على تضليلها عن هدفها النبيل، وحارب مبدأها العظيم محاربة لا هوادة فيها بخبث ودهاء، وعمل على أن ينسخ رسالتها الخالدة الموجهة للإنسانية جمعاء وأن يجعل الأمة تنساها، وهي رسالة الهدى والعدل وإحقاق الحق وإنصاف المظلومين. وطرح الغرب نفسه بديلا وأنموذجا، فعمل على نشر ثقافته العفنة معتبرا إياها الثقافة الإنسانية الراقية، وأفكاره الفاسدة هي الأفكار الصحيحة، وعمل على تمجيد تاريخه الدموي بأنه هو تاريخ الإنسانية المتطور، وعمل على تخليد عظمائه وتقديمهم على أنهم عظماء العالم كله ومنتجو الحضارة والمدنية العالمية.

 

ومع كل ذلك لم يتمكن الغرب من طمس معالم تاريخ الأمة العريق المشرق، لأنه حقيقة يمكن تغطيتها إلى حين ولكن لا يمكن طمسها، ولم يستطع أن يستمر في التشكيك في عظمتها وعظمة عظمائها من القادة والأبطال والعلماء والمبدعين في كافة المجالات، وتشويه صورتهم، فعاد الوعي للأمة وبدأت الحياة تدب في جسمها، وازداد الوعي عند أبنائها، ولم يعودوا يثقون بما يقوله الغرب وأدواته عن أجدادهم العظماء وعن تاريخهم المجيد. والعالم كله بدأت تتكشف له تلك الحقيقة وبدأ يلتفت إليها وصارت لديه رغبة في أن يتعلم تفصيلاتها ليدرسها ويستفيد منها، وخاصة أنه رأى أن شعوب هذه الأمة تنتفض وأنها غير راضية عن أوضاعها وعن سيطرة الغرب عليها وترفض هيمنة المبدأ الرأسمالي وتريد أن تعود إلى أصلها وأصالتها، فكل ذلك لفت أنظار العالم إليها. وهي أي الأمة الإسلامية قد بدأت تنبت المفكرين السياسيين من نطفتها الخالصة وتسقيهم من مائها الصافي النابع من عقيدتها الموافقة للفطرة والعقل. فبدأ هؤلاء المخلصون من أبنائها يراجعون تاريخهم ويزيلون الغشاوة عنه وينشرون صفحاته البيضاء ويعملون على إحيائه بصورة أفضل ليعيدوا الثقة للأمة بنفسها ولينبهوها بأنها قادرة على أن تقيم أعظم دولة في العالم كما أقامتها سابقا، وهم لا يكتفون بالتنبيه والتذكير بل يقومون بالعمل السياسي العقائدي لبناء صرح هذه الدولة العظمى.

 

4- أصالة الأمة الإسلامية: مع أن الأمة الإسلامية مزقت واحتلت أراضيها وهدمت دولتها وأقصي مبدؤها بالقوة عن الحكم من قبل الدول الاستعمارية وعملائها، وسيطرت هذه الدول عليها وعلى ثرواتها ومقدراتها وإمكانياتها وفرضت عليها أنظمة جبروتية قهرية واستبدادية مجرمة تتمثل في كيانات على شكل دول بلغ تعدادها 57، إلا أن الأمة لم تستسلم ولم تقبل بهذا الواقع السيئ، وقد قاومت الاحتلال الاستعماري وطردت قواه العسكرية، وما زالت تقاومه لتطرده نهائيا وتزيل كل مخلفاته وإفرازاته العفنة من كل زاوية من زوايا المجتمع، ومن كل ناحية من نواحي الحياة، وتعمل على إسقاط الأنظمة التي أقامها المستعمر والتي تؤمن له استمراره في بسط نفوذه. وقد تعرضت الأمة في السابق لضربات مماثلة موجعة من أجدادهم الصليبيين المتوحشين ثم المغول الذين هم على شاكلتهم، ولكنها لم تستسلم لهم وقاومتهم حتى تمكنت من طردهم والقضاء على بؤرهم وعلى عملائهم، ومن ثم عادت أعظم دولة في العالم وعادت تغزوهم في عقر دارهم لتنشر الهدى في ربوع بلادهم. واليوم وقد تعرضت لمثل ذلك فلم تستسلم وقاومت وطردت قوى المستعمر، وإننا نراها تعمل على إزالة بقاياه وقطع أذرعه بإسقاط الأنظمة التي أقامها وتطهر البلاد من براثنه، وهي تعمل على أن تقيم دولتها مرة أخرى. فهي إذن أمة أصيلة، فمهما أصابها من ظلم وقهر وتشتت وتمزق ومهما تعرضت له من غزو واحتلال ودمار فإنها لا تستسلم لذلك، فتقاومه وتعمل على دفعه وإزالته وإزالة آثاره والعودة من جديد بجسم سليم معافى وتمتطي صهوة جوادها لتنطلق بسرعة البرق ممتشقة سلاحها حاملة رايتها راية رسولها الكريم لتجعلها خفاقة فوق ربوع العالم كله.

 

فهذه الصفة وهي صفة الأصالة لدى الأمة الإسلامية تؤهلها لأن تعود مرة أخرى الدولة الأولى في العالم. وهذا ما تدركه الدول الكبرى ومفكروها وسياسيوها وقادتها وقد زلت ألسنتهم مرارا بذكره قاصدين التحذير منه. وهم يعملون على قتل هذه الأصالة وعلى إجهاض الولادة المنتظرة لدولة عظيمة بشتى أنواع المكر والدهاء، مستعملين أخبث الوسائل ولا ينأون بأنفسهم عن القيام بأقبح الأعمال وارتكاب أفظع الجرائم بحق هذه الأمة في سبيل قتلها وقتل أصالتها وتركيعها ومنع نهضتها وبناء دولتها. ولكن لم يتمكنوا من قتل هذه الأصالة ولذلك لن يتمكنوا من إجهاض ولادة أعظم دولة من رحم هذه الأمة الأصيلة، وكل ما يقدرون عليه هو محاولة تأخير هذه الولادة حتى يأذن الله بولادتها رغم أنفهم ورغم ما يفعلونه ويصنعونه بخبث ومكر ودهاء.

 

5- الإمكانيات المادية: إنه من المعروف أن الأمة الإسلامية تمتلك من الإمكانيات المادية أكثر من أية أمة من الأمم ومن الدول الكبرى الأخرى. فبلادها من أغنى البلاد في كافة أنواع الثروات وفي مصادر الطاقة من نفط وغاز وغير ذلك حيث تشير الدراسات إلى أن هذه البلاد تملك حوالي 73% من الاحتياطي النفطي العالمي، وتنتج 38,5% من الإنتاج العالمي من النفط، وتملك 40% من الاحتياطي العالمي من الغاز الطبيعي. بجانب ذلك فإنها تملك أعلى الاحتياطات العالمية من المواد الخام من مختلف المعادن والتي تلزم للصناعة، ورقعتها واسعة حيث تبلغ ربع مساحة الأرض في ثلاث قارات وهي متواصلة مع بعضها بعضا وتضاريسها مختلفة وأقاليمها متنوعة وملائمة لأمور متعددة سواء من ناحية الزراعة حيث فيها وفرة مياه وأراض خصبة شاسعة ومناخاتها متنوعة بحيث تنتج على مدار السنة أنواعا مختلفة من الغذاء، ولذلك يمكن أن يكون لديها ثروة حيوانية تكفي احتياجاتها وتزيد، أو من ناحية إقامة المصانع فهي تشرف على كثير من البحار والمحيطات المفتوحة على العالم إذ يحسن في العادة إقامة المصانع قريبا من الموانئ للسرعة في عملية التصدير ولتنشيط عملية التجارة الدولية، ويمكن إقامتها قريبا من أماكن المواد الخام لأن لديها أراضيَ شاسعة بعيدة عن المناطق السكنية لإقامة هذه المشاريع الصناعية حتى لا تلوث البيئة وتضرر السكان. فهذه الإمكانيات تجعلها تعتمد على نفسها وتكتفي ذاتيا ولو تعرضت لحصار، فتبني الصناعات العظيمة وتنتج كل ما تحتاجه وتكفي نفسها وزيادة، وتتمكن من بناء الصناعات العسكرية لإنتاج أحدث الأسلحة وأشدها فتكا فتملك مقومات الدولة الأولى في العالم مادياً، وترهب العالم بقوتها وعدتها وعتادها وإمكانياتها الكبيرة، وتبهر العالم بتقدمها الصناعي والتكنولوجي، فتصبح مرهوبة الجانب مطاعة من الجميع، فتملي على العالم ما تريد من غير تجبر ولا غطرسة، بل بما أمرها به ربها الذي أعزها وأذل عدوها.

 

6- الإمكانيات البشرية: إن عدد أبناء الأمة الإسلامية حوالي مليار وستمائة مليون نسمة حسب إحصائيات أمريكية في عام 2011 أي ما يقارب ربع سكان العالم البالغ عددهم سبعة مليارات، مع العلم أن الإحصائيات الغربية تعمل على التقليل من عدد المسلمين في كثير من المناطق، فربما يكون العدد أكثر من ذلك. ومهما يكن من أمر فإن هذا العدد ليس ببسيط، بل هو عدد هائل يغطي كافة الاحتياجات للناحية العسكرية وللناحية المدنية بمختلف أشكالها ومتطلباتها وهذا ما تفتقر إليه الدول الكبرى الأخرى. والأمة الإسلامية هي من أكثر الأمم تكاثرا وحيوية، فأكثر أبنائها من الشباب، بينما المجتمعات الغربية وخاصة الدول الكبرى منها تشيخ ويتناقص عدد المواليد فيها رغم تشجيعها لأبنائها على الإنجاب وتقديم كل المساعدات لهم إلا أن ذلك لم ينفعهم، ولولا الهجرات إليها من خارجها وخاصة من آسيا وأفريقيا لتعينها لبعض الوقت على البقاء وعلى خدمة شيوخها وتشغيل آلتها الإنتاجية لحلت بتلك المجتمعات كارثة. وهذه الهجرات وإن كانت تفيد العالم الغربي من ناحية، إلا أنه يرى فيها خطورة، لأن من شأنها أن تغير من طبيعة مجتمعاتهم، فتضمر أعراقهم الغربية. وما يؤرقهم ويقلقهم هو أن أغلب المهاجرين إليها هم من المسلمين وهم الذين يتكاثرون أكثر من غيرهم.

 

وهذا من شأنه أن يوسع امتداد الأمة الإسلامية، حيث يحذر الغربيون من صعود الإسلام كدين حي في العالم الغربي، بينما نصرانيته ميتة ليس لها أي تأثير يذكر، وقد تنازل أصحاب هذه الديانة لصالح العلمانيين. ووجود أبناء الأمة في بلاد الغرب أصبح عاملا مساعدا للأمة الإسلامية من نواح عدة. بالإضافة إلى ذلك فإنه توجد أعداد كبيرة من أبناء الأمة سواء الذين يعيشون في بلادهم أو بلاد الغرب من أصحاب الخبرات ومن ذوي الشهادات والتحصيل العلمي العالي في كافة المجالات. ولا ينقصهم إلا الإرادة السياسية لتشغل خبراتهم في هذه المجالات، فتمنحهم الفرص، وتهيئ لهم الإمكانيات وأماكن العمل، وترسم لهم خارطة الطريق للعمل ليقوموا بالتنفيذ على أحسن وجه، وخاصة في مجالات الصناعة والتكنولوجيا والتي بتطورها يتطور كل شيء في الحياة. وفي الوقت نفسه تشجع الناس على تداول أموالهم بينهم واستثمارها خاصة في إقامة المشاريع الصناعية حسب خطة الدولة وتحت إشرافها ليكون ذلك موازيا لعمل الدولة ويصب في الخطة التي رسمتها في ايجاد الثورة الصناعية وإحداث التقدم والتطور. والعدد الوفير من السكان فيها يجعلها تعتمد على نفسها في ناحية تسويق المنتجات الصناعية أيضا، فلا تحتاج إلى أسواق خارجية إذا ما أقفلت في وجهها الأبواب، فلديها سوق استهلاكية كبيرة، وذلك يجعلها تكتفي ذاتيا من حيث الإنتاج ومن حيث تصريف هذا الإنتاج، عندئذ لا تعتمد الدولة على الخارج في التصدير والاستيراد. فهي قادرة على أن تنتج ما تحتاجه وأكثر وقادرة على تصريف الجزء الأكبر منه في داخلها. وهي لا تحتاج إلى العمالة الخارجية لوفرة شبابها العاملين، ولا تحتاج لتصدير هذه العمالة لكثرة الأعمال والمشاريع فيها بسبب حيوية الأمة ونشاطها. فهي من أنشط الأمم في العمل بسبب أن ذلك ينبثق من عقيدتها التي تدعوها إلى التفكير والبحث والكشف والإبداع والجد والاجتهاد والإتقان، وإلى الإخلاص والتفاني في العمل حتى يتم إنجازه على أحسن صورة، وتحارب الكسل والخمول والقعود والانزواء، وتدعوها لعمارة الأرض وللعمل والإنتاج وتوفير الأرزاق. فعقيدتها تجعل كسب الدنيا والتمتع بزينتها حسب أفكارها وأحكامها المنبثقة منها طريقاً لكسب الآخرة. وهذا الأمر لا يتوفر في أية أمة أخرى، مما يجعل الأمة الإسلامية أرقى الأمم. وهذا لا يجعل الأمة مؤهلة لأن تكون الدولة الأولى في العالم فحسب، بل يجعلها كأمة عظيمة راقية في مستواها لتكون قدوة حسنة للأمم الأخرى.

 

7- الموقع الإستراتيجي: البلاد الإسلامية تتوسط العالم وتصل حدودها إلى روسيا والصين شمالا وشرقا، وإلى أستراليا جنوب شرق، وإلى أوروبا غربا. وهي مفتوحة على جميع المحيطات سواء الهادئ أو الهندي أو الأطلسي، وفي داخلها أهم البحار مثل البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وبحر العرب والبحر الأسود وبحر قزوين، وتشرف على أهم الخلجان والقنوات والمضائق مثل الخليج العربي وقناة السويس وخليج ملقة ومضيق البسفور والدردنيل ومضيق جبل طارق. فهي ملتقى المواصلات بين الشرق والغرب سواء البحرية أو البرية أو الجوية. فهي صاحبة موقع إستراتيجي مهم في العالم يمكنها أن تصل إلى كل مكان وأن تتحكم في طرق المواصلات وطرق النقل والتبادل التجاري، فتجعل العالم كله ينشد رضا دولتها القادمة ولا يعمل على إغضابها، ويمكنها أن تحمل رسالتها إلى كافة بلاد العالم وتتوسع في كل الاتجاهات لتنشر رسالة الهدى والحق والعدل، وتضيئها بنور الإسلام، وإذا حصل قتال بينها وبين أي من الدول المجاورة في أية جهة، فإنها قادرة على إيصال الإمدادات من الأماكن الأخرى، ويساعدها ذلك في اتساع مجال الحركة وفي الكر والفر من جهة إلى جهة والهجوم من مواقع مختلفة. وفيها من المواقع الإستراتيجية ما يؤهلها لأن تدافع عن نفسها وتتمكن من حماية رقعتها وتتمكن من الانقضاض على العدو إذا داهمها من جهة، فهناك جهات عدة يمكنها أن تتحرك منها، فلا يستطيع العدو أن يسيطر عليها عسكرياً. وتضاريسها وأجواؤها متنوعة وهذا يعطيها قدرة على القتال في كل بقاع الأرض من حارة وباردة ومن جبلية وساحلية وصحراوية ومن برية وبحرية، فجيشها يكون قد تدرب على خوض الحروب في كل الأماكن والظروف. فهذا من العوامل المساعدة على جعل الأمة مؤهلة لأن تكون الدولة الأولى في العالم وهذا لا يتوفر لدى كثير من الدول الكبرى الأخرى.

 

هذه أهم النقاط التي تجعل الأمة مؤهلة لأن تكون صاحبة أعظم دولة في العالم بدون منافس إلى قيام الساعة بإذن الله وتتفوق على الدول الكبرى الأخرى التي هي أقل منها بكثير في هذه المؤهلات والإمكانيات. فتكون هي خاتمة تاريخ البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

 

في المقال القادم سننتقل إلى القسم الأخير من موضوعنا لملء الفراغ السياسي في الموقف الدولي كدولة أولى في العالم ألا وهو بيان ما ستقوم به دولة الخلافة حينما تسقط أمريكا عن مركز الدولة الأولى.

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

أسعد منصور

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...